باب الصبر من كتاب رياض الصالحين للعلامة الشيخ بن العثيمين رحمه الله

مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
باب الصبر من كتاب رياض الصالحين للعلامة الشيخ بن العثيمين رحمه الله

الصالحين العثيمين 13878079141.gif

الصالحين العثيمين 13878114503.gif

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا[آل عمران:200]،وقال تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[البقرة:155]، وقال تعالى:﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]،وقال تعالى:﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[الشورى:43]،وقال تعالى:﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153]،وقال تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين[محمد:31]، والآيات في الأمر بالصبر وبيان فضله كثيرة معروفة.
الشرح

الصبر في اللغة: الحبس .
والمراد به في الشرع: حبس النفس على أمور ثلاثة:
الأول: على طاعة الله.
الثاني: عن محارم الله.
الثالث: على أقدار الله المؤلمة.هذه أنواع الصبر التي ذكرها أهل العلم.
الأمر الأول: أن يصبر الإنسان على طاعة الله لأن الطاعة ثقيلة على النفس، وتصعب على الإنسان، وكذلك ربما تكون ثقيلة على البدن بحيث يكون مع الإنسان شيء من العجز والتعب، وكذلك أيضا يكون فيها مشقة من الناحية المالية؛ كمسألة الزكاة ومسألة الحج، فالطاعات فيها شيء من المشقة على النفس والبدن، فتحتاج إلى صبر، وإلى معاناة قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:200] .
الأمر الثاني: الصبر عن محارم الله بحيث يكف الإنسان نفسه عما حرم الله عليه، لأن النفس الأمارة بالسوء تدعو إلى السوء، فيُصَبِّر الإنسان نفسه,مثل الكذب، والغش في المعاملات، وأكل المال بالباطل بالربا أو غيره، والزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وما أشبه ذلك من المعاصي الكثيرة.
فيحبس الإنسان نفسه عنها حتى لا يفعلها، وهذا يحتاج أيضاً إلى معاناة، ويحتاج إلى كف النفس والهوى.
أما الأمر الثالث: فهو الصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأن أقدار الله- عز وجل- على الإنسان ملائمة ومؤلمة.
الملاءمة: تحتاج إلى الشكر، والشكر من الطاعات؛ فالصبر عليه من النوع الأول.
ومؤلمة: بحيث لا تلائم الإنسان تكون مؤلمة؛ فيُبتلى الإنسان في بدنه،ويُبتلى في ماله بفقده. ويُبتلى في أهله، ويُبتلى في مجتمعه ، وأنواع البلايا كثيرة تحتاج إلى صبر ومعاناة فيُصَبِّرُ الإنسان نفسه عما يحرُمُ عليه من إظهار الجزع باللسان، أو بالقلب، أو بالجوارح لأن الإنسان عند حلول المصيبة له أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يتسخَّط.
والحالة الثانية: أن يصبر.
والحالة الثالثة: أن يرضى.
والحالة الرابعة: أن يشكر.
هذه أربع حالات تكون للإنسان عندما يصاب بالمصيبة.
أما الحال الأولى: أن يتسخط إما بقلبه، أو بلسانه، أو بجوارحه.
التسخط بالقلب: أن يكون في قلبه- والعياذ بالله- شيء على ربه من السخط والشرَه على الله- والعياذ بالله- وما أشبهه. ويشعر وكأن الله قد ظلمه بهذه المصيبة.
وأما السخط باللسان: فأن يدعو بالويل والثبور، يا ويلاه ويا ثبوراه، وأن يسب الدهر فيؤذي الله- عز وجل- وما أشبه ذلك.
وأما التسخط بالجوارح: مثل أن يلطِمَ خده، أو يصفَع رأسه، أو ينتف شعره، أو
يشقَّ ثوبه وما أشبه هذا.
هذا حال السخط، حال الهلِعِينَ الذين حُرموا الثواب، ولم ينجوا من المصيبة، بل الذين اكتسبوا الإثم فصار عندهم مصيبتان، مصيبة في الدين بالسخط، ومصيبة في الدنيا بما أتاهم مما يؤلمهم.
أما الحال الثانية: فالصبر على المصيبة بأن يحبس نفسه، هو يكره المصيبة ، ولا يحبها، ولا يحب أن وقعت ، لكن يُصَبِّرُ نفسه؛ لا يتحدث باللسان بما يُسخط الله، ولا يفعل بجوارحه ما يُغضب الله، ولا يكون في قلبه شيء على الله أبدا، فهو صابر لكنه كاره لها.
والحال الثالثة: الرضا؛ بأن يكون الإنسان منشرحا صدره بهذه المصيبة، ويرضى بها رضاء تاماً وكأنه لم يصب بها.
والحالة الرابعة: الشكر؛ فيشكر الله عليها، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى ما يكرهُ قال: ((الحمد لله على كل حال))(101).
فيشكر الله من أجل أن الله يرتب له من الثواب على هذه المصيبة أكثر مما أصابه.
ولهذا يذكر عن بعض العابدات أنها أُصيبت في أصبعها، فحمدت الله على ذلك، فقالوا لها: كيف تحمدين الله والأصبع قد أصابه ما أصابه، قالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها. والله الموفق.
ثم ساق المؤلف- رحمه الله تعالى- الآيات التي فيها الحثُّ على الصبر والثناء على فاعليه، فقال: وقول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:200]، فأمر الله المؤمنين بمقتضى إيمانهم، وبشرف إيمانهم بهذه الأوامر الأربعة: ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[آل عمران:200].
فالصبر عن المعصية، والمصابرة على الطاعة، والمرابطة كثرة الخير وتتابع الخير، والتقوى تعم ذلك كله.﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فاصبروا عن محارم الله: لا تفعلوها ، تجنبوها ولا تقربوها.
ومن المعلوم أن الصبر عن المعصية لا يكون إلا حيث دعت إليه النفس، أما الإنسان الذي لم تطرأ على باله المعصية فلا يقال إنه صبر عنها، ولكن إذا دعتك نفسك إلى المعصية فاصبر، واحبس النفس.
وأما المصابرة فهي على الطاعة؛ لأن الطاعة فيها أمران:
الأمر الأول: فعل يتكلف به الإنسان ويُلزمُ نفسه به.
والأمر الثاني: ثقلٌ على النفس، لأن فعل الطاعة كترك المعصية ثقيل على النفوس الأمارة بالسوء.
فلهذا كان الصبر على الطاعة أفضل من الصبر عن المعصية؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَصَابِرُوا﴾ كأن أحدًا يُصابرك كما يصابر الإنسان عدوه في القتال والجهاد.
وأما المرابطة فهي كثرة الخير والاستمرار عليه، ولهذا جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) (102). لأن فيه استمرار في الطاعة وكثرة لفعلها.
وأما التقوى فإنها تشمل ذلك كله، لأن التقوى اتخاذ ما يقي من عقاب الله، وهذا يكون بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
وعلى هذا فعطفها على ما سَبَقَ من باب عطف العام على الخاص، ثم بيَّن الله- سبحانه وتعالى- أن القيام بهذه الأوامر الأربعة سبب للفلاح فقال : ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
والفلاح كلمة جامعة تدور على شيئين: على حصول المطلوب، وعلى النجاة من المرهوب. فمن اتقى الله- عز وجل- حصل له مطلوبه ونجا من مرهوبه.
وأما الآية الثانية فقال- رحمه الله- وقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[البقرة:155] ، هذه الآية فيها قسم من الله- عز وجل - أن يختبر العباد بهذه الأمور.
فقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ أي: لنختبرنكم.
﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ﴾ لا الخوف كله بل شيء منه؛ لأن الخوف كله مهلك ومدمر. لكن بشيء منه.
((الخوف)) هو فقدُ الأمن، وهو أعظم من الجوع، ولهذا قدّمه الله عليه، لكن الخائف- والعياذ بالله- لا يستقر لا في بيته ولا في سوقه، والخائف أعظم من الجائع؛ ولهذا بدأ الله به فقال: ﴿بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ﴾ وأخوف ما نخاف منه ذنوبنا؛ لأن الذنوب سبب لكل الويلات، وسبب للمخاطر، والمخاوف، والعقوبات الدينية، والعقوبات الدنيوية.
(وَالْجُوعِ) يُبتلى بالجوع.
والجوع يحمل معنيين:
المعنى الأول: أن يحدث الله- سبحانه- في العباد وباء؛ هو وباء الجوع، بحيث يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا يمر على الناس، وقد مر بهذه البلاد سنة معروفة عند العامة تسمى سنة الجوع.يأكل الإنسان الشيء الكثير ولكنه لا يشبع- والعياذ بالله- نُحدَّث أن الإنسان يأكل من التمر محفراً كاملاً في آن واحد ولا يشبع-والعياذ بالله- ويأكل الخبز الكثير ولا يشبع لمرضٍ فيه. هذا نوع من الجوع.
النوع الثاني من الجوع: الجدب والسنون الممحلة لا يدر فيها ضرع ولا ينمو فيها زرع، هذا من الجوع.
وقوله ِ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ﴾ يعني: نقص الاقتصاد ، بحيث تُصاب الأمة بقلة المادة والفقر، ويتأخر اقتصادها، وتُرهق حكومتها بالديون التي تأتي نتيجة لأسباب يقدرها الله -عز وجل- ابتلاء وامتحاناً.
وقوله:﴿وَالأَنْفُسِ﴾ أي : الموت ؛ بحيث يحل في الناس أوبئة تهلكهم وتقضي عليهم. وهذا أيضاً يحدث كثيراً ولقد حُدثنا أنه حدث في هذه البلاد- أي البلاد النجدية- حدث فيها وباء عظيم تسمى سنته عند العامة (سنة الرحمة) إذا دخل الوباء في البيت لم يبق منهم أحد إلا دُفن- والعياذ بالله-، يدخل في البيت فيه عشرة أنفس أو أكثر، فيصاب هذا بمرض، ومن غدٍ الثاني والثالث والرابع، حتى يموتوا عن آخرهم وحُدثنا أنه قدم هذا المسجد، مسجد الجامع الكبير بعنيزة- وكان الناس بالأول في قرية صغيرة، ليس فيها ناس كثير كما هو الحال اليوم، يقدَّم أحياناً في فرض الصلاة الواحد سبع إلى ثمان جنائز ، نعوذ بالله من الأوبئة. هذا أيضاً نقص من الأنفس.
وقوله: ﴿وَالثَّمَرَاتِ﴾ أي أن لا يكون هناك جوع، ولكن تنقص الثمرات، تنزع بركتها في الزروع والنخيل وفي الأشجار الأخرى، والله - عز وجل- يبتلي العباد بهذه الأمور ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون.
فيقابل الناس هذه المصائب بدرجات متنوعة، بالتسخط، أو بالصبر أو بالرضا، أو بالشكر كما قلناه فيما سبق. والله الموفق.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر: 10].﴿يُوَفَّى الصَّابِرُون﴾ أي يعطي الصابرون ﴿أَجْرَهُمْ﴾ أي ثوابهم.
وقوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وذلك أن الأعمال الصالحة مضاعفة ؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
أما الصبر فإن مضاعفته تأتي بغير حساب من عند الله- عز وجل- وهذا يدل على أن أجره عظيم , وأن الإنسان لا يمكن أن يتصور هذا الأجر؛ لأنه لم يقابل بعدد، بل هو أمر معلوم عند الله ولا حساب فيه، لا يقال مثلاً الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع مائة ضعف، بل يقال إنه يُوفى أجره بغير حساب. وفي هذه الآية من الترغيب في الصبر ما هو ظاهر. ثم قال المؤلف:
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ[الشورى:43]، أي: أن الذي يصبر على أذى الناس ويحتملهم ويغفر لهم سيئاتهم التي يسيئون بها إليه؛ فإن ذلك ﴿لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور﴾ أي: من معزوماتها وشدائدها التي تحتاج إلى مقابلة ومصابرة.ولاسيما إذا كان الأذى الذي ينال الإنسان بسبب جهاده في الله- عز وجل- وبسبب طاعته؛ لأن أذية الناس لك لها أسباب متعددة متنوعة. فإذا كان سببها طاعة الله- عز وجل -، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن الإنسان يثاب على ذلك من وجهين:
الوجه الأول: من الأذية التي تحصل له.
والوجه الثاني: صبره على هذه الطاعة التي أُوذي في الله من أجلها.
وفي هذه الآية حث على صبر الإنسان على أذية الناس، ومغفرته لهم ما أساؤوا إليه فيه. ولكن ينبغي أن يعلم أن المغفرة لمن أساء إليك ليست محمودة على الإطلاق؛ فإن الله تعالى قيد هذا بأن يكون العفو مقروناً بالإصلاح فقال: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه[الشورى:40]، أما إذا لم يكن في العفو والمغفرة إصلاح فلا تعف ولا تغفر.
مثال ذلك: لو كان الذي أساء إليك شخصاً معروفاً بالشر والفساد، وأنك لو عفوت عنه لكان في ذلك زيادة في شرِّه.
ففي هذه الحال الأفضل أن لا تعفو عنه، بل تأخذ بحقك من أجل الإصلاح، أما إذا كان الشخص إذا عفوت عنه لم يترتب على العفو عنه مفسدة؛ فإن العفو أفضل وأحسن لأن الله يقول: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه[الشورى:40]، وإذا كان أجرك على الله لكان خيراً لك من أن يكون ذلك بمعاوضةٍ تأخذ من أعمال صاحبك الصالحة.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[البقرة:153]، أمر الله - سبحانه وتعالى- أن نستعين على الأمور بالصبر عليها، لأن الإنسان إذا صبر وانتظر الفرج من الله سهلت عليه الأمور.
فأنت إذا أصبت بشيء يحتاج إلى الصبر فاصبر وتحمَّل ((واعْلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا))(103).
وأما الصلاة فإنها تعين على الأمور الدينية والدنيوية، حتى إن الرسول- عليه الصلاة والسلام- ذكر عنه: ((أنه إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة))(104).
وبيَّن الله في كتابه أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا استعان الإنسان بالصلاة على أموره يسر الله له ذلك، لأن الصلاة صلة بين العبد وبين ربه، فيقف الإنسان فيها بين يدي الله، ويُناجيه، ويدعوه، ويتقرب إليه بأنواع القُرُبات التي تكون في هذه الصلاة؛ فكانت سبباً للمعونة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ يعني ذلك المعيَّة الخاصة، لأن معية الله- سبحانه وتعالى- تنقسم إلى قسمين:
1- معيَّة عامة شاملة لكل أحد، وهي المذكورة في قوله تعالى:﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ[الحديد:4]، وفي قوله تعالى:﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ[المجادلة:7].
وهذه المعية العامة شاملة لجميع الخلق، فما من مخلوق إلا والله - تعالى- معه يعلمه، ويحيط به سلطاناً وقدرة وسمعًا وبصرًا وغير ذلك.
2- أما المعيَّة الخاصة فهي المعية التي تقتضي النصر والتأييد ؛وهذه خاصة بالرسل
وأتباعهم، ليست لكل أحد، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[النحل:128]، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على هذه المعيَّة الخاصة.
ولكن المعيتين كلتيهما لا تدلان على أن الله - سبحانه- مع الناس في أمكنتهم، بل هو مع الناس ،وهو- عز وجل - فوق سماواته على عرشه، ولا مانع من ذلك ؛ فإن الشيء يكون فوق وهو معك . والعرب يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا. وكلٌّ يعلم أن القمر في السماء. ويقولون مازلنا نسير وسُهَيل معنا-وهو نجم معروف-وهو في السماء.فما بالك بالخالق - عز وجل- هو فوق كل شيء استوى على عرشه، ومع ذلك هو محيط بكل شيء مع كل أحد. مهما انفردت فإن الله- تعالى- محيط بك؛ علما وقدرة وسلطانا وسمعا وبصرا وغير ذلك.
وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ دليل على أن الله يُعين الصابر ويؤيِّده ويكلأه حتى يتم له الصبر على ما يحبه الله - عز وجل-.
الآية السادسة: قوله تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[محمد:31].
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ : لنختبرنَّكم : فالابتلاء بمعني الاختبار، أو البلوى بمعني الاختبار.
يعني: أن الله اختبر العباد في فرض الجهاد عليهم؛ ليعلَمَ من يصبر ومن لا يصبر؛ ولهذا قال الله- تعالى- في آية أخرى:﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4- 6].
وقوله عز وجل: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾ قد يتوهَّم بعض من قصر علمه أن الله - سبحانه - لا يعلم الشيء حتى يقع؛ وهذا غير صحيح؛ فالله - تعالى- يعلم الأشياء قبل وقوعها، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[الحج:70].
ومن ادعى أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه؛ فإنه مكذب لهذه الآية وأمثالها من الآيات الدالة على أن الله- تعالى- قد علم الأشياء قبل أن تقع !!
لكن العلم الذي في هذه الآية ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾ هو العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب؛ وذلك لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون لا يترتب عليه شيء من جهة فعل العبد؛لأن العبد لم يُبلَ به حتى يتبين الأمر.فإذا بُلي به العبد واختبر به؛ حينئذٍ يتبين أنه استحق الثواب أو العقاب، فيكون المراد بقوله: ﴿حتى نعلم المجاهدين﴾ أي: علما يترتب عليه الجزاء. وقال بعض أهل العلم: المراد بقوله:﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾ أي: علم ظهور، يعني حتى يظهر الشيء؛ لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون ، وعلمه بعد كونه علم بأنه كان. وفرق بين العلمين.
فالعلم الأول علم بأنه سيكون ، والثاني علم بأنه كان.
ويظهر لك الفرق لو أن شخصاً قال لك: سوف أفعل كذا وكذا غداً فالآن حصل عندك علم بما أخبر به، ولكن إذا فعله غدا صار عندك علم آخر؛ أي: علم بأن الشيء الذي حدثك أنه سيفعله قد فعله فعلاً. فهذان وجهان في تخريج قوله تعالى ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾.
الوجه الأول: أن المراد به العلم الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب، وهذا لا يكون إلا بعد البلوى، بعد أن يبتلي الله العبد ويختبره.
الوجه الثاني: أن المراد به علم الظهور؛ لأن علم الله بالشيء قبل أن يكون علم بأنه سيكون، فإذا كان ، صار علمه تعالى به علماً بما كان.
وقوله: ﴿الْمُجَاهِدِينَ﴾ المجاهد: هو الذي بذل جهده لإعلاء كلمة الله، فيشمل المجاهد بعلمه،والمجاهد بالسلاح ، فكلاهما مجاهد في سبيل الله. فالمجاهد بعلمه: الذي يتعلم العلم ويعلمه وينشره بين الناس، ويجعل هذا وسيلة لتحكيم شريعة الله، هذا مجاهد. والذي يحمل السلاح لقتال الأعداء هو أيضاً مجاهد في سبيل الله، إذا كان المقصود في الجهادين أن تكون كلمة الله هي العليا.
وقوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ أي: الذين يصبرون على ما كُلِّفوا فيه من الجهاد ويتحملونه ويقومون به.
وقوله:﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ أي: نختبرها وتتبين لنا وتظهر لنا ظهوراً يترتب عليه الثواب والعقاب.
لما ذكر الله هذا الابتلاء قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولكل من يبلغه هذا الخطاب، يعني: بشِّر يا محمد ، وبشر يا من يبلغه هذا الكلام الصابرين الذين يصبرون على هذه البلوى فلا يقابلونها بالتسخط وإنما يقابلونها بالصبر. وأكمل من ذلك أن يقابلونها بالرضا، وأكمل من ذلك أن يقابلونها بالشكر. كما مر علينا أن المصاب بالمصائب من أقدار الله المؤلمة له أربع حالات: تسخُّط، وصبر، ورضاً، وشكر، وهنا قال:﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[البقرة:155،156].
وقوله: ﴿قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ﴾ إذا أصابتهم مصيبة اعترفوا لله - عز وجل- بعموم ملكه، وأنهم ملك لله، ولله أن يفعل في ملكه ما شاء؛ ولهذا قال النبي- عليه الصلاة والسلام- لإحدى بناته، قال لها: (( إن الله ما أخذ وله ما أعطى)) (105)، فأنت مُلكٌ لربك- عز وجل- يفعل بك ما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته تبارك وتعالى.
ثم قال: ﴿وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ يعترفون بأنهم لابد أن يرجعوا إلى الله فيجازيهم. إن تسخطوا جازاهم على سخطهم، وإن صبروا - كما هو شأن هؤلاء القوم- فإن الله تعالى يجازيهم على صبرهم على هذه المصائب. فيبتلي - عز وجل- بالبلاء ويثيب الصابر عليه.
قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ[البقرة: 157] ، أولئك يعني الصابرين ﴿عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ والصلوات جمع صلاة وهي ثناء الله عليهم في الملأ الأعلى ، يثني الله عليهم عند ملائكته.
وقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ الذين هداهم الله- عز وجل- عند حلول المصائب فلم يتسخطوا وإنما صبروا على ما أصابهم . وفي هذه الآية دليل على أن صلاة الله- عز وجل- ليست هي رحمته، بل هي أخصُّ وأكمل وأفضل، ومن فسَّرها من العلماء بأن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، ومن الآدميين الاستغفار ؛ فإن هذا لا وجه له، بل الصلاة غير الرحمة؛ لأن الله تعالى عطف الرحمة على الصلوات ، والعطف يقتضي المغايرة. ولأن العلماء مُجمِعون على أنك يجوز لك أن تقول لأي شخص من المؤمنين : اللهم ارحم فلاناً.
واختلفوا؛ هل يجوز أن تقول : اللهم صلِّ عليه. أو لا يجوز؛ على أقوالٍ ثلاثةٍ:
-فمنهم من أجازها مطلقاًً، ومنهم من مَنَعَها مطلقاً، ومنهم من أجازها إذا كانت تبعاً.
والصحيح أنها تجوز إذا كانت تبعاً، كما في قوله (( اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد))، أو لم تكن تبعا ولكن لها سبب؛ كما قال الله ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ[التوبة:103]، فإذا كان لها سبب، ولم تُتَّخذُ شعارًا، فإن ذلك لا بأس به. فلا بأس أن تقول: اللهم صلِّ على فلان، فلو جاءك رجل بزكاته وقال لك خذ زكاتي وفرقها على الفقراء، فلك أن تقول: صلى الله عليك، تدعو له بأن يصلي الله عليه كما أمر الله نبيه بذلك.
* * *

25- وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو، فبايعٌ نفسه فمعتِقُها أو موبِقُها))(106) [ رواه مسلم] .
الصالحين العثيمين 13878115582.gif
الشرح

سبق لنا الكلام على الآيات التي ساقها المؤلف- رحمه الله تعالى- في الصبر وثوابه والحثِّ عليه، وبيان محلِّه، ثم شرع رحمه الله في بيان الأحاديث الواردة في ذلك.
فذكر حديث أبي مالك الشعري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الطهور شطر الإيمان)) الحديث، إلى قوله: ((والصبر ضياء)) فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الصبر ضياء؛ يعني أن يضيء للإنسان، عندما تحْتَلِكُ الظلمات وتشتدُّ الكُرُبات، فإذا صبر؛ فإن هذا الصبر يكون له ضياء يهديه إلى الحق.
ولهذا ذكر الله- عز وجل- أنه من جملة الأشياء التي يُستعان بها، فهو ضياء للإنسان في قلبه، وضياء له في طريقه ومنهاجه وعلمه؛ لأنه كلما سار إلى الله - عز وجل- على طريق الصبر؛ فإن الله تعالى- يزيده هدىً وضياءً في قلبه ويبصره؛ فلهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((الصبر ضياء)).
أما بقية الحديث؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((الطهور شطر الإيمان)).
الطُّهُور: يعني بذلك طهارة الإنسان.
شطر الإيمان: أي نصف الإيمان.
وذلك لأن الإيمان تخْلِيَةٌ وتحْلِيَة.
أي: تبرُّؤٌ من الشرك والفسوق، تبرؤٌ من المشركين والفُسَّاق بحسب ما معهم من الفسق، فهو تخلٍّ.
وهذا هو الطهور ؛ أن يتطهر الإنسان طهارة حسيه ومعنوية من كل ما فيه أذى . فلهذا جعله النبي عليه الصلاة والسلام شطر الإيمان، ((وسبحان الله)) معناها: تنزيه الله عز وجل عما لا يليق به من العيوب ومماثلة المخلوقات.
فالله- عز وجل- منزَّه عن كل عيب في أسمائه ، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، لا تجد في أسمائه اسما يشتمل على نقص أو على عيب ؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى[الأعراف:180]، ولا تجد في صفاته صفة تشتمل على عيب أو نقص؛ ولهذا قال الله ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ بعد قوله: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ[النحل:60 ]، فالله عز وجل له الوصف الأكمل الأعلى من جميع الوجوه، وله أيضاً الكمال المنزه عن كل عيب في أفعاله، كما قال الله تعالى:﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ[الدخان:38]، فليس في خلق الله لعبٌ ولهوٌ وإنما هو خلق مبني على الحكمة.
كذلك أحكامه لا تجد فيها عيباً ولا نقصاً كما قال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ[التين:8]، وقال عز وجل:﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[المائدة:50] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((سبحان الله والحمد لله تملآن- أو قال تملأ- ما بين السموات والأرض)) شك من الرواي: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم : تملآن ما بين السموات والأرض، أو قال تملأ ما بين السموات والأرض.
والمعنى لا يختلف.يعني أن سبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماوات والأرض، وذلك لأن هاتين الكلمتين مشتملتان على تنزيه الله عن كل نقص في قوله: ((سبحان الله)) وعلى وصف الله بكلِّ كمال في قوله: ((والحمد لله)).
فقد جمعت هاتان الكلمتان بين التَّخْليةِ والتَّحْليةِ كما يقولون؛ أي بين نفي كل عيب ونقص، وإثبات كل كمال، فسبحان الله فيها نفي النقائص، والحمد لله فيها إثبات الكمالات.
فالتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به في أسمائه ، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه .
والله - عز وجل- يُحمد على كل حال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أصابه ما يُسرُّ به قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ) وإذا أصابه سوى ذلك قال ((الحمد لله على كل حال))(107) ثم إن ها هنا كلمة شاعت أخيرا عند كثير من الناس؛ وهي قولهم (( الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه)).
هذا الحمد ناقص ‍‍!!
لأن قولك على مكروه سواه تعبير على قلَّة الصبر ، أو - على الأقل- عدم كمال الصبر، وأنك كارهٌ لهذا الشيء، ولا ينبغي للإنسان أن يُعبر هذا التعبير، بل الذي ينبغي له أن يعبر بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعبِّر به؛ فيقول (( الحمد لله على كل حال))، أو يقول : (( الحمد لله الذي لا يحمد على كل حال سواه)).
أما أن يقول: على مكروه سواه، فهذا تعبير واضح على مضادة ما أصابه من الله- عز وجل- وأنه كارهٌ له.
وأنا لا أقول: إن الإنسان لا يكره ما أصابه من البلاء ، فالإنسان بطبيعته يكره ذلك، لكن لا تُعلن هذا بلسانك في مقام الثناء على الله، بل عبِّر كما عبَّر النبي صلى الله عليه وسلم (( الحمد لله على كل حال)).
قوله صلى الله عليه وسلم : ((والصلاة نور)).
فالصلاة نور: نور للعبد في قلبه، وفي وجهه، وفي قبْره، وفي حشره، ولهذا تجد أكثر الناس نوراً في الوجوه أكثرهم صلاة، وأخشعهم فيها لله عز وجل.
وكذلك تكون نوراً للإنسان في قلبه؛ تفتح عليه باب المعرفة لله- عز وجل-، وباب المعرفة في أحكام الله، وأفعاله، وأسمائه، وصفاته، وهي نور في قبر الإنسان؛ لأن الصلاة هي عمود الإسلام، إذا قام العمود قام البناء، وإذا لم يقُم العمود فلا بناء.
كذلك نور في حشرة يوم القيامة؛ كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أن من حافظ عليه كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة يوم القيامة، وحُشِرَ مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف))(108).
فهي نور للإنسان في جميع أحواله، وهذا يقتضي أن يحافظ الإنسان عليها، وأن يحرص عليها، وأن يُكثر منها حتى يكثر نوره وعلمه وإيمانه.
وأما الصبر فقال: ((إنه ضياء)) فيه نور؛ لكن نور مع حرارة، كما قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً[يونس: 5].
فالضوء لابد فيه من حرارة، وهكذا الصبر، لابد فيه من حرارة وتعب، لأن فيه مشقة كبيرة، ولهذا كان أجره بغير حساب.
فالفرق بين النور في الصلاة والضياء في الصبر، أن الضياء في الصبر مصحوب بحرارة؛ لما في ذلك من التعب القلبيِّ والبدنيِّ في بعض الأحيان.
وقوله: ((الصدق برهان)).
الصدقة: بذل المال تقرُّباً إلى الله- عز وجل- فيبذل المال على هذا الوجه للأهل، والفقراء، والمصالح العامة، كبناء المساجد وغيرها؛ برهاناً على إيمان العبد، وذلك أن المال محبوب إلى النفوس، والنفوس شحيحةٌ به، فإذا بذله الإنسان لله، فإن الإنسان لا يبذل ما يحب إلا لما هو أحب إليه منه. فيكون في بذل المال لله- عز وجل- دليل على صدق الإيمان وصحته.
ولهذا تجد أكثر الناس إيماناً بالله- عز وجل- وبإخلافه؛ تجدهم أكثرهم صدقة.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((والقرآن حجة لك أو عليك)) لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصَّلتَ به إلى الله، وقمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه.ففي هذه الحال يكون حجة لك.
أما إن كان الأمر بالعكس، أهنتَ القرآن، وهَجرته لفظاً ومعنى وعملاً، ولم تقُم بواجبه؛ فإنه يكون شاهداً عليك يوم القيامة.
ولم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مرتبةً بين هاتين المرتبتين!
يعني: لم يذكر أن القرآن لا لك، ولا عليك ؛ لأنه لابد أن يكون إما لك وإما عليك على كل حال . فنسأل الله أن يجعله لنا جميعاً حجة نهتدي به في الدنيا وفي الآخرة؛ إنه جواد كريم.
قوله: ((كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)).
أي: كل الناس يبدأ يومه من الغدوة بالعمل، وهذا شيء مشاهد. فإن الله - تعالى- جعل الليل سكناً وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ[الأنعام:60]، فهذا النوم الذي يكون في الليل هو وفاة صُغرى، تهدأ فيه الأعصاب، ويستريح فيه البدن، ويستجدُّ نشاطه للعمل المقبل، ويستريح من العمل الماضي.
فإذا كان الصباح- وهو الغُدوةُ - سار الناس واتجهوا كلٌّ لعمله.
فمنهم من يتجه إلى الخير، وهم المسلمون، ومنهم من يتجه إلى الشر، وهم الكفار والعياذ بالله.
المسلم أول ما يغدو يتوضأ ويتطهر ((والطهور شطر الإيمان)) كما في هذا الحديث، ثم يذهب فيصلي، فيبدأ يومه بعبادة الله- عز وجل-؛ بالطهارة، والنقاء، والصلاة، التي هي صلة بين العبد وبين ربه، فيفتتح يومه بهذا العمل الصالح، بل يفتتحه بالتوحيد؛ لأنه يشرع للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يذكر الله- عز وجل- وأن يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران وهي قوله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ إلى آخر السورة: 190-200، هذا المسلم. هذا الذي يغدو في الحقيقة وهو بائع نفسه، لكن هل باعها بيعاً يعتقها فيه؟!
نقول: المسلم باعها بيعا يعتقها فيه؛ ولهذا قال: (( فبائع نفسه فمعتقها)) هذا قسم.
((أو موبقها)) معناها: بائع نفسه فموبقها.الكافر يغدو إلى العمل الذي فيه الهلاك؛ لأن معني (أوبقها) أهلكها. وذلك أن الكافر يبدأ يومه بمعصية الله، حتى لو بدأ بالأكل والشرب؛ فإن أكله وشربه يعاقب عليه يوم القيامة، ويحاسب عليه.
كل لقمة يرفعها الكافر إلى فمه فإنه يعاقب عليها ، وكل شربة يبتلعها من الماء فإنه يعاقب عليها، وكل لباس يلبسه فإنه يعاقب عليه.
والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[ الأعراف:32] ، للذين آمنوا لا غيرهم.
﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ يعني: ليس عليهم من شوائبها شيء يوم القيامة. فمفهوم الآية الكريمة ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾أنها لغير المؤمنين حرام، وأنها ليست خالصة لهم يوم القيامة، وأنهم سيعاقبون عليها.
وقال الله في سورة المائدة؛ وهي من آخر ما نزل: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا[المائدة:93] ، فمفهوم الآية الكريمة : أن على غير المؤمنين جناح فيما طعموه.
فالكافر من حين ما يصبح- والعياذ بالله- وهو بائع نفسه فيما يُهلكها، أما المؤمن فبائع نفسه فيما يعتقها وينجيها من النار. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
في آخر هذا الحديث بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس ينقسمون إلي قسمين:
قسم يكون القرآن حجة لهم؛ كما قال : ((والقرآن حجة لك)).
وقسم يعتِقون أنفسَهم بأعمالهم الصالحة.
وقسم يُهلكونها بأعمالهم السيئة .
والله الموفق.

كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

26- وعن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدرى رضي الله عنهما : أن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ، حتى نَفِدَ ما عنده ، فقال لهم حين نفد كل شيء أنفق بيديه: ((ما يكن عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله. وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر))(109).[متفق عليه].

الشرح
كان من خُلق الرسول الكريم- عليه الصلاة والسلام- أنه لا يُسأل شيئاً يجده إلا أعطاه ، وما عهد عنه أنه صلى الله عليه وسلم منع سائلاً، بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويعيش في بيته عيش الفقراء، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع .
فهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأشجع الناس.
فلما نفد ما في يده أخبرهم أنه ما من خير يكون عنده فلن يدخره عنهم؛ أي: لا يمكن أن يدَّخر شيئا عنهم فيمنعهم، ولكن ليس عنده شيء.
ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم على الاستعفاف والاستغناء والصبر، فقال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن الله، ومن يتصبر يصبره الله- عز وجل)).
هذه ثلاثة أمور:
أولا: من يستغن يغنه الله، أي: من يستغن بما عند الله عما في أيدي الناس؛ يغنه الله عز وجل. وأما من يسأل الناس ويحتاج لما عندهم ؛ فإنه سيبقى قلبه فقيراً - والعياذ بالله- ولا يستغني.
والغِنى غنى القلب، فإذا استغنى الإنسان بما عند الله عما في أيدي الناس؛ أغناه الله عن الناس، وجعله عزيز النفس بعيداً عن السؤال.
ثانياً: من يستعفف يعفه الله، فمن يستعف عما حرم الله عليه من النساء يعفه الله عز وجل.
والإنسان الذي يتبع نفسه هواها فيما يتعلق بالعفة فإنه يهلك والعياذ بالله؛ لأنه إذا أتبع نفسه هواها وصار يتتبع النساء؛ فإنه يهلك، تزني العين، تزني الأذن، تزني اليد، تزني الرِّجل ثم يزني الفرج؛ وهو الفاحشة والعياذ بالله.
فإذا استعف الإنسان عن هذا المحرم أعفه الله- عز وجل- وحماه وحمى أهله أيضاً.
ثالثاً: من يتصبَّر يصبره الله، أي يعطيه الله الصبر.
فإذا تصبرت، وحبست نفسك عما حرم الله عليك، وصبرت على ما عندك من الحاجة والفقر ولم تلح على الناس بالسؤال فإن الله- تعالى- يصبرك ويُعينُك على الصبر. وهذا هو الشاهد من الحديث؛ لأنه في باب الصبر.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم ((وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر)) أي: ما مَنَّ الله على أحد بعطاء من رزق، أو غيره؛ خيراً وأوسع من الصبر؛ لأن الإنسان إذا كان صبورًا تحمَّل كل شيء. إن أصابته الضراء صبر، وإن عرض له الشيطان بفعل المحرم صبر، وإن خذله الشيطان عن ما أمر الله صبر.
فإذا كان الإنسان قد مَنَّ الله عليه بالصبر؛ فهذا خير ما يعطاه الإنسان ، وأوسع ما يعطاه، ولذلك تجد الإنسان الصبور لو أوذي من قبل الناس، لو سمع منهم ما يكره، لو حصل منهم اعتداء عليه، تجده هاديء البال، لا يتصلب ، ولا يغضب، لأنه صابر على ما ابتلاه الله به؛ فلذلك تجد قلبه دائماً مطمئناً ونفسه مستريحة.
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما أعطي أحد عطاء خيرا واوسع من الصبر)) والله الموفق.

* * *
27- وعن أبي يحيي صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له))(110).[ رواه مسلم].

الشرح قال المؤلف- رحمه الله- فيما نقله عن صهيب الرومي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمْرَهُ كلَّه له خير)) أي: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أظهر العجب على وجه الاستحسان ((لأمر المؤمن)) أي: لشأنه.فإن شأنه كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.
ثم فصَّل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر الخير، فقال: ((إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له)) هذه حال المؤمن. وكل إنسان ؛ فإنه في قضاء الله وقدره بين أمرين:إما سرَّاء،وإما ضرَّاء،والناس في هذه الإصابة - السراء أو الضراء - ينقسمون إلى قسمين:
مؤمن وغير مؤمن، فالمؤمن على كل حال ما قدر الله له فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيراً له، فنال بهذا أجر الصائمين.
وإن أصابته سراء من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل شكر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله. لأن الشكر ليس مجرد قول الإنسان: أشكُرُ الله،بل هو قيام بطاعة الله - عز وجل.
فيشكر اللهَ فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا.
نعمة الدنيا بالسراء، ونعمة الدين بالشكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أصيب بسراء، أو أصيب بضراء.
وأما الكافر فهو على شر- والعياذ بالله- إن أصابته الضراء لم يصبر، بل تضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسب الدهر، وسب الزمن، بل وسب الله- عز وجل- ونعوذ بالله.
وإن أصابته سراء لم يشكر الله، فكانت هذه السراء عقاباً عليه في الآخرة، لأن الكافر لا يأكله أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم، وإن كان ليس فيها إثم بالنسبة للمؤمن، لكن على الكافر إثم، كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ[(الأعراف: 32] ، هي للذين آمنوا خاصَّة، وهي خالصة لهم يوم القيامة، أما الذين لا يؤمنون فليست لهم، ويأكلونها حراماً عليهم، ويُعاقبون عليها يوم القيامة.
فالكافر شر، سواء أصابته الضراء أم السراء، بخلاف المؤمن فإنه على خير.
وفي هذا الحديث: الحث على الإيمان وأن المؤمن دائما في خير ونعمة .
وفيه أيضاً: الحث على الصبر على الضراء، وأن ذلك من خصال المؤمنين . فإذا رأيت نفسك عند إصابة الضراء صابراً محتسباً، تنتظر الفرج من الله - سبحانه وتعالى- وتحتسب الأجر على الله؛ فذلك عنوان الإيمان، وإن رأيت العكس فلُمْ نفسك، وعدِّل مسيرك، وتُبْ إلى الله.
وفي الحديث أيضاً: الحث على الشكر عند السراء، لأنه إذا شكر الإنسان ربه على نعمة فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم: 7]، وإذا وفَّق الله الإنسان للشكر؛ فهذه نعمة تحتاج إلى شكرها مرة ثالثة وهكذا، لأن الشكر قلَّ من يقوم به، فإذا منَّ الله عليك وأعانك عليه فهذه نعمة.
ولهذا قال بعضهم:

إذا كان شُكري نعمةَ الله نعمة عليَّ له في مثلها يَجِبُ الشُّـكرُ
فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفضله وإن طالت الأيامُ واتَّصَلَ العمرُ


وصدق - رحمه الله- فإن الله إذا وفقك للشكر فهذه نعمة تحتاج إلى شكر جديد، فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثانٍ، فإن شكرت فهي نعمة تحتاج إلي شكر ثالث. وهلم جرّا.
ولكننا- في الحقيقة- في غفلة عن هذا . نسأل الله أن يُوقظ قلوبنا وقلوبكم، ويصلح أعمالنا وأعمالكم؛ إنه جواد كريم.

* * * 28- وعن أنس رضي الله عنه قال: لما ثَقُل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشَّاه، فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كَرْبَ أباه. فقال: ((ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم)). فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب رباه دعاه، يا أبتاه مَن جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دُفن قالت فاطمة عليها السلام: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحْثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟(111)[رواه البخاري].

الشرح قال المؤلف- رحمه الله تعالى- فيما رواه عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه((جعل يتغشاه الكرب)) أي: من شدة ما يصيبه جعل يُغشى عليه من الكرب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يُشدَّد عليه الوعك والمرض، كان يوعك كما يوعك الرَّجُلان من الناس.
والحكمة في هذا ، من أجل أن ينال صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الصبر.فإن الصبر منزلة عالية، لا ينال إلا بامتحان واختبار من الله- عز وجل- لأنه لا صبر إلا على مكروه.
فإذا لم يُصب الإنسان بشيء يكره فكيف يعرف صبره، ولهذا قال الله تعالى:﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِين[محمد:31]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوعك كما يوعك الرَّجُلان من الناس.
فجعل يتغشاه الكرب، فتقول فاطمة- رضي الله عنها- ((وا كرب أباه)) تتوجع له من كربه، لأنها امرأة ، والمرأة لا تطيق الصبر.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( لا كرب على أبيك بعد اليوم)) لأنه صلى الله عليه وسلم لما انتقل من الدنيا انتقل إلى الرفيق الأعلى، كما كان صلى الله عليه وسلم - وهو يغشاه الموت- يقول ((اللهم في الرفيق الأعلى، اللهم في الرفيق الأعلى )) (112) وينظر إلى سقف البيت صلى الله عليه وسلم .
توفي الرسول عليه الصلاة والسلام، فجعلت، رضي الله عنها- تندبه، لكنه ندب خفيف، لا يدل على التسخط من قضاء الله وقدره.
وقولها((أجاب ربا دعاه)) لأن الله - سبحانه وتعالى- هو الذي بيده ملكوت كل شيء، آجال الخلق بيده، تصريف الخلق بيده، كل شيء إلى الله، إلى الله المنتهى وإليه الرجعى.
فأجاب داعي الله، وهو أنه صلى الله عليه وسلم إذا توفي صار كغيره من المؤمنين، يصعد بروحه حتى توقف بين يدي الله- عز وجل- فوق السماء السابعة. فقالت : وا أبتاه، أجابَ ربَّا دعاه.
وقولها: (( وا أبتاه جنة الفردوس مأواه)) صلى الله عليه وسلم لأنه عليه الصلاة والسلام أعلى الخلق منزلة في الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (( اسألوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو))(113). ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم مأواه جنة الفردوس، وجنة الفردوس هي أعلى درجات الجنة، وسقفها الذي فوقها عرش الرب جل جلاله، والنبي عليه الصلاة والسلام في أعلى درجة منها.
قولها : ((يا أبتاه إلى جبريل ننعاه)) النعي: هو الإخبار بموت الميت، وقالت : إننا ننعاه إلى جبريل لأن جبريل هو الذي كان يأتيه بالوحي صباحاً ومساء.
فإذا فقد النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فُقد نزول جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الأرض بالوحي؛ لأن الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم لما حمل ودفن رضي الله عنها: ((أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب؟)) يعني من شدة وجْدها عليه، وحزنها ، ومعرفتها بأن الصحابة- رضي الله عنهم- قد ملأ قلوبهم محبة الرسول عليه الصلاة والسلام فهل طابت؟
والجواب: أنها طابت؛ لن هذه ما أراد الله- عز وجل- وهو شرع الله، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام يُفدى بكل الأرض لفداه الصحابة رضي الله عنهم.
لكن الله - سبحانه- هو الذي له الحكم، وإليه المرجع، وكما قال الله تعالى في كتابه: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ[الزمر:30،31] .
الفوائد:
في هذا الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيرة من البشر، يمرض ويجوع، ويعطش،ويبرد ، ويحتر وجميع الأمور البشرية تعتري النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال صلى الله عليه وسلم (( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون))(114).
وفيه: رد على هؤلاء القوم الذين يُشركون بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ يدعون الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويستغيثون به وهو في قبره، بل إن بعضهم- والعياذ بالله- لا يسأل الله تعالى ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كأن الذي يجيب هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولقد ضلوا في دينهم وسفهوا في عقولهم.فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعا فكيف يملك لغيره؟!
قال الله تعال آمراً نبيه ﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ بل هو عبد من عباد الله؛ ولهذا قال: ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ[الأنعام: 50 ] .
وقال الله- سبحانه- له أيضا ﴿قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا﴾أي: هذه وظيفتي﴿مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ[الجـن21ـ23]، ولما أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ[الشعراء:214]، دعا قرابته صلى الله عليه وسلم وجعل ينادي إلى أن قال: ((يا فاطمة بنت محمد ، سَليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً))(115) إلى هذا الحد‍!! ابنته؛ التي هي بضعة منه والتي يُريبه ما رابه يقول لها: لا أغني عنك من الله شيئاً.
فهذا دليل على أن من سواها من باب أولى.
ففيه ضلال هؤلاء الذين يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم تجدهم في المسجد النبوي عند الدعاء يتجهون إلى القبر، ويصمدون أمام القبر كصمودهم أمام الله في الصلاة أو أشد.
وفي هذا الحديث : دليل على أنه لا باس بالندب اليسير إذا لم يكن مؤذنا بالتسخط على الله عز وجل، لأن فاطمة ندبت النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه ندب يسير ، وليس يَنِمُّ عن اعتراض على قدر الله عز وجل.
وفيه دليل: على أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها بقيت بعد موته ولم يبق من أولاده بعده إلا فاطمة،كل أولاده من بنين وبنات ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم. بقيت فاطمة ، ولكن ليس لها ميراث، لا هيَ، ولا زوجاته، ولا عمه العباس، ولا أحد من عصبته؛ لأن الأنبياء لا يُورثون،كما قال النبي عليه الصلاة والسلام : (( إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة))(116).
وهذا من حكمة الله - عز وجل- لأنهم لو ورَّثوا لقال من يقول : إن هؤلاء جاءوا بالرسالة يطلبون ملْكا يورث من بعدهم؛ ولكن الله - عز وجل- منع ذلك.
فالأنبياء لا يورثون ، بل ما يتركونه يكون صدقة يصرف للمستحقين له والله الموفق.

* * * 29- وعن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحِبِّه وابن حبه، رضي الله عنهما ، قال: أرسلت بنت النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني قد احتُضر فاشْهَدنا، فأرسل يقريء السلام ويقول: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب)) فأرسلت إليه تُقسٍم عليه ليأتينها فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال رضي الله عنهم، فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي فأقعده في حجره ونفسُه تَقَعْقَعُ، ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: «هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده» وفي رواية: «في قلوب من شاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء»(117) [ متفق عليه].
ومعنى: (( تَقَعْقَعُ)) تتحرك وتضطرب.

الشرح قال المؤلف - رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي زيد أسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما-، وزيد بن حارثة كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عبداً، فأهدته إليه خديجة- رضي الله عنها- فأعتقه ، فصار مولى له، وكان يُلَقَّب بِحِبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي حبيبه، وابنه أيضاً حِبّ، فأسامة حبه وابن حبه رضي الله عنهما، ذكر أن إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه رسولا، تقول له إن ابنها قد احتضر، أي: حضره الموت. وأنها تطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحضر، فَبَلَّغَ الرسولُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ((مُرْها فَلْتَصْبِر وِلْتَحْتَسِبْ ،فإنَّ لله ما أخَذَ ولَهُ ما أَعْطى، وكُلُّ شيءٍ عندَهُ بأجلٍ مُسَمَّى)).
أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي أرسلته ابنتُهُ أن يأمر ابنتَهُ- أم هذا الصبي- بهذه الكلمات:
قال: ((فَلْتَصْبِر))أي: تحتسب الأجر على الله بصبرها؛ لأن من الناس من يصبر ولا يحتسب، يصبر على المعصية ولا يتضجَّر، لكنه ما يؤمل أجرها على الله فيفوته بذلك خير كثير ، لكن إذا صبر واحتسب الأجر على الله، يعني: أراد بصبره أن يثيبه الله ويأجره، فهذا هو الاحتساب ((مُرْها فَلْتَصْبِرْ)) يعني على هذه المصيبة ((وَلْتَحْتَسِبْ)) أجرها على الله عز وجل. قوله: ((فإنَّ لله ما أخَذَ وَلَهُ ما أَعْطَى)) هذه الجملة عظيمة؛ إذا كان الشيء كله لله، إن أخذ منك شيئاً فهو ملكه، وإن أعطاك شيئاً فهو ملكه ، فكيف تسخط إذا أخذ منك ما يملكه هو؟
عليك إذا أخذ الله منك شيئا محبوباً لك؛ أن تقول : هذا لله، له أن يأخذ ما شاء، وله أن يعطي ما شاء.
ولهذا يُسَنُّ للإنسان إذا أُصيب بمصيبة أن يقول (( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) يعني: نحنُ ملكٌ لله يفعلُ بِنا ما يَشاء ، كذلك ما نحبه إذا أخذه من بين أيدينا فهو له- عز وجل- له ما أخذ وله ما أعطى ، حتى الذي يعطيك أنت لا تملكه، هو لله، ولهذا لا يمكن أن تتصرف فيما أعطاك الله إلا على الوجه الذي أذن لك فيه؛ وهذا دليل على أن ملكنا لما يعطينا الله ملك قاصر، ما نتصرف فيه تصرفا مطلقاً، فلو أراد الإنسان أن يتصرف في ماله تصرفاً مطلقا على وجه لم يأذن به الشرع قلنا له أمسك، لا يمكن ؛ لأن المال مال الله، كما قال سبحانه ﴿وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم [النور:33 ]، المال مال الله،فلا تتصرف فيه إلا على الوجه الذي أُذِن لك فيه.
ولهذا قال: ((ولله ما أخذ وله ما أعطى)) فإذا كان لله ما أخذ، فكيف نجزع؟ كيف نتسخط أن يأخذ المالك ما ملك سبحانه وتعالى؟ هذا خلاف المعقول وخلاف المنقول!
قال: ((وكل شيء عنده بأجل مسمى)) كل شيء عنده بمقدار ، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ[الرعد: 8]، بمقدار في زمانه ، ومكانه، وذاته، وصفاته، وكل ما يتعلق به فهو عند الله مُقدَّر.
((بأجل مسمى)) أي: معين ، فإذا أيقنت بهذا؛ إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ اقتنعت . وهذه الجملة الأخيرة تعني أن الإنسان لا يمكن أن يغيِّر المكتوب المؤجل لا بتقديم ولا بتأخير ، كما قال الله ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ[يونس:49]، فإذا كان الشيء مقدراً لا يتقدم ولا يتأخر ؛ فلا فائدة من الجزع والتسخط؛ لأنه وإن جزعت أو تسخطت لن تغيِّر شيئاً من المقدور.
ثم إن الرسول أبلغ بنت النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره أن يُبَلِّغَه إياها، ولكنها أرسلت إليه تطلب أن يحضر، فقام عليه الصلاة والسلام هو وجماعة من أصحابه ، فوصل إليها ، فرُفِعَ إليه الصبي ونفسه تتقعقع؛ أي تضطرب، تصعدُ وتنزل، فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام ودمَعَت عيناه. فقال سعد بن عباده وكان معه- هو سيد الخزرج- ما هذا ؟ ظنَّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم بكى جزعاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هذه رحمة)) أي بكيت رحمة بالصبي لا جزعاً بالمقدور.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ففي هذا دليل على جواز البكاء رحمة بالمصاب.
إذا رأيت مصاباً في عقله أو بدنه، فبكيت رحمة به، فهذا دليل على أن الله تعالى جعل في قلبك رحمة، وإذا جعل الله في قلب الإنسان رحمة كان من الرحماء الذين يرحمهم الله عز وجل.نسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الصبر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((مرها فلتصبر ولتحتسب)).
وفيه دليل أيضاً على أن هذه الصيغة من العزاء أفضل صيغة، أفضل من قوله بعض الناس: ((أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك ، وغفر لميتك)) هذه صيغة اختارها بعض العلماء، لكن الصيغة التي اختارها الرسول عليه الصلاة والسلام ((اصبر واحتسب ، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)) أفضل؛ لأن المصاب إذا سمعها اقتنع أكثر.
والتعزية في الحقيقة ليست تهنئه كما ظنها بعض العوام، يحتفل بها، وتوضع لها الكراسي، وتُوقد لها الشموع، ويحضر لها القراء والأطعمة، بل هي تسلية وتقوية للمصاب أن يصبر، ولهذا لو أن أحداً لم يُصَب بالمصيبة، كما لو مات له ابن عم ولم يهتمَّ به؛ فإنه لا يُعزى، ولهذا قال العلماء رحمهم الله (( تُسَنُّ تعزية المصاب)) ولم يقولوا تسن تعزية القريب، لأن القريب ربما لا يُصاب بموت قريبه، والبعيد يصاب لقوة صداقة بينهما مثلاً.
فالتعزية للمصاب لا للقريب. أما الآن- مع الأسف- انقلبت الموازين وصارت التعزية للقريب، حتى وإن كان قد فرح وضرب الطبول لموت قريبه فإنه يُعزَّى ،ربما يكون بعض الناس فقيراً، وبينه وبين ابن عمه مشاكل كثيرة , ومات ابن عمه وله ملايين الدراهم , هل يفرح إذا مات ابن عمه في هذه الحال أو يصاب؟
غالبا يفرح، ويقول: الحمد لله الذي خلصني من مشاكله وورَّثني ماله! فهذا لا يُعزَّى، هذا يُهنَّأ لو أردنا أن نقول شيئاً.

والمهم أنه يجب أن نعلم أن التعازي إنما هي لتقوية المصاب على الصبر وتسليته، فيختار لها من الكلمات أفضل ما يكون وأقرب ما يكون للتعزية، ولا أحسن من الكلمات التي صاغها نبينا صلى الله عليه وسلم .
والله الموفق.


كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

30- وعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إليَّ غلاما أُعلمه السحر؛ فبعث إليه غلاما يعلمه ، وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، وكان إذا أتى الساحر مر بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب فقال: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر.
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟
فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب : أي بُنَيَّ أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستُبْتَلَى فإن ابتليت فلا تدل عليَّ؛ وكان الغلام يبرئ الأكمة والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء . فسمع جليس للملك كان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله تعالى فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟
قال: ربي قال: أَوَ لكَ ربٌ غيري؟!
قال ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمة والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله تعالى، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب؛ فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوُضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذِرْوَتَهُ فإن رجع عن دينه وإلا فاطرَحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فُعل بأصحابك؟ فقال: كفانيهم الله تعالى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقور وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فُعل بأصحابك؟
فقال: كفانيهم الله تعالى، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو ؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغِهِ، فوضع يده في صدغه فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام، فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تَحْذَرُ؟
قد والله نزل بك حذرك. قد آمن الناس. فأمر بالأخدود بأفواه السِّكَكِ فخُدَّت، وأُضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ، ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري فإنك على الحق))
(118) [ رواه مسلم].

((ذِرْوة الجبل)) : أعلاه، وهي بكسر الذال المعجمة وضمها، و(( القُرْقُور)) بضم القافين: نوع من السفن، و(( الصعيد)) هنا: الأرض البارزة، و (( الأخدود)) الشقوق في الأرض كال الصغير، و((أضرم)) أوقد، و(( انكفأت)) أي: انقلبت، و(( تقاعست )): توقفت وجبنت)).

الشرح
هذا الحديث الذي ذكره المؤلف - رحمه الله تعالى- في باب الصبر فيه قصة عجيبة: وهي أن رجلاً من الملوك فيمن سبق كان عنده ساحر اتخذه الملك بطانة؛ من أجل أن يستخدمه في مصالحه ولو على حساب الدين، لأن هذا الملك لا يهتم إلا بما فيه مصلحته، وهو ملك مُستبِد قد عبَّد الناس لنفسه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الحديث.
هذا الساحر لما كبر قال للملِك: إني قد كبرت فابعث إلي غُلاما أعلمه السحر.
واختار الغلام لأن الغلام أقبل للتعليم، ولأن التعليم للغلام الشاب هو الذي يبقى، ولا ينسى، ولهذا كان التعلم في الصغر خيرا بكثير من التعلم في الكبر، وفي كل خير، لكن التعلم في الصغر فيه فائدتان عظيمتان بل أكثر:
الفائدة الأولى: أن الشاب في الغالب أسرع حفظاً من الكبير، لأن الشاب فارغ البال ليست عنده مشاكل توجب انشغاله.
وثانياً: أن ما يحفظه الشاب يبقى، وما يحفظه الكبير ينسى، ولهذا كان من الحكمة الشائعة بين الناس: (( إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر)) لا يزول.
وفيه فائدة ثالثة: وهي أن الشاب إذا ثُقِّفَ العلم من أول الأمر صار العلم كالسجية له والطبيعة له، وصار كأنه غريزة قد شبَّ عليه فيشيبُ عليه.
فهذا الساحر ساحر كبير قد تقدمت به السن وجرب الحياة وعرف الأشياء . فطلب من الملك أن يختار له شاباً غلاماً يعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً، فعلَّمه ما علَّمه، ولكن الله تعالى قد أراد بهذا الغلام خيراً‍ !
مرَّ هذا الغلام يوماً من الأيام براهب، فسمع منه فأعجبه كلامه، لأن هذا الراهب- يعني العابد- عابد لله عز وجل، لا يتكلم إلا بالخير، وقد يكون راهباً عالماً لكن تغلب عليه العبادة فسُمِّي بما يغلب عليه من الرهبانية، فصار هذا الغلام إذا خرج من أهله جلس عند الراهب فتأخر على الساحر، فجعل الساحر يضربه، لماذا تتأخر؟ فشكا الغلام إلى الراهب ما يجده من الساحر من الضرب إذا تأخر , فلقَّنَه الراهب أمر يتخلص به، قال: إذا ذهبت إلى الساحر وخشيت أن يعاقبك فقل:إن أهلي حبسوني , يعني : تأخر عند أهله , وإذا أتيت إلى أهلك فقل : إن الساحر أخرني ؛ حتى تنجو من هذا ومن هذا.
وكأن الراهب- والله أعلم- أمره بذلك- مع أنه كذب - لعله رأى أن المصلحة في هذا تَرْبو على مفسدة الكذب، مع أنه يمكن أن يتأوَّل !!
ففعل، فصار الغلام يأتي إلى الراهب ويسمع منه، ثم يذهب إلى الساحر، فإذا أراد أن يعاقبه على تأخره قال: إن أهلي أخَّروني، وإذا رجع إلى أهله وتأخر عند الراهب قال: إن الساحر أخرني. فمرَّ ذات يوم بدابَّةٍ عظيمة، ولم يعيِّن في الحديث ما هذه الدابة، قد حبست الناس عن التجاوز، فلا يستطيعون أن يتجاوزها ، فأراد هذا الغلام أن يختبر: هل الراهب خير له أم الساحر ، فأخذ حجراً، ودعا الله سبحانه وتعالى إن كان أمر الراهب خير أن يقتل هذا الحجر الدابة، فرمى بالحجر ، فقتل الدابة، فمشى الناس.
فعرف الغلام أن أمر الراهب خير من أمر الساحر، وهذا أمر لا شك فيه؛ لأن الساحر إما معتدٍ ظالم، وإما كافر مشرك، فإن كان يستعين على سحره بالشياطين يتقرَّب إليهم ويعبدهم ويدعوهم ويستغيث بهم فهو كافر مشرك. وإن كان لا يفعل هذا لكن يعتدي على الناس بأدْوية فيها سحر فهذا ظالم معتد.
أما الراهب، فإن كان يعبد الله على بصيرة فهو مهتد ، وإن كان عنده شيء من الجهل والضلال فنيته طيِّبه، وإن كان عمله سيِّئاً.
المهم أن الغلام أخبر الراهب بما جرى فقال له الراهب: أنت اليوم خير مني، وذلك لأن الغلام دعا الله فاستجاب الله له.
وهذا من نعمة الله على العبد، أن الإنسان إذا شك في الأمر ثم طلب من الله آيةً تبيَّن له شأن هذا الأمر فبيَّنه الله له، فإن هذا من نعمة الله عليه.
ومن ثم شُرعت الاستخارة، للإنسان إذا همَّ بالأمر وأشكل عليه: هل في إقدامه خير أم في إحجامه خير، فإنه يستخير الله، وإذا استخار الله بصدق وإيمان فإن الله تعالى يعطيه ما يستدل به على أن الخير في الإقدام أو الإحجام. إما بشيء يلقيه في قلبه ينشرح صدره لهذا أو لهذا، وإما برؤيا يراها في المنام، وإما بمشورة أحد من الناس، وإما بغير ذلك.
وكان من كرامات هذا الغلام أنه يبرئ الأكمة والأبرص ، يعني أنه يدعو لهم فيبرأون ، وهذا من كرامات الله له.
وليس كقصة عيسى بن مريم يمسح صاحب العاهة فيبرأ، بل هذا يدعو الله فيستجيب الله تعالى دعاءه، فيُبرئ بدعائه الأكمة والأبرص.
وقد أخبر الراهب هذا الغلام بأنه سيُبتلى يعني سيكون له محنة واختبار، وطلب منه أن لا يخبر به إن هو ابتلي بشيء.
وكأن هذا الغلام- والله أعلم- مستجاب الدعوة، إذا دعا الله تعالى قَبِلَ منه.
وكان للملك جليس أعمى- لا يبصر- فأتى بهدايا كثيرة لهذا الغلام حينما سمع عنه ما سمع وقال: لك ما هنا هنا أجمع- أي كله- إن أنت شفيتني، فقال، إنما يشفيك الله.
انظر إلى الإيمان !
لم يغترَّ بنفسه وادَّعى أنه هو الذي يشفي المرضى، بل قال: إنما يشفيك الله عز وجل، وهذا يشبه من بعض الوجوه ما جرى لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمة الله عليه-، حينما جيء إليه برجل مصروع قد صرعه الجنيّ، فقرأ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه لم يخرج، فجعل شيخ الإسلام يضربه على رقبته ضرباً شديداً، حتى إن يد شيخ الإسلام أوجعته من الضرب .فتكلَّم الجني الذي في الرجل وقال له: أخرج كرامة للشيخ، فقال له الشيخ رحمه الله: لا تخرج كرامة لي ولكن أخرج طاعة لله ولرسوله. لا يريد أن يكون له فضل ، بل الفضل لله عز وجل أولاً وآخرا. فخرج الجني. فلما خرج الجني استيقظ الرجل فقال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ لأنه حينما صُرع يمكن أنه كان في بيته أو سوقه، قال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ فقالوا: سبحان الله! ألم تحسَّ بالضرب الذي كان يضربك؟ قال: ما أحسست به ولا أوجعني.فأخبروه ، فبريء الرجل!

الشاهد أن أهل العلم والإيمان لا ينسبون نعمة الله إليهم، وإنما ينسبونها إلى موليها عز وجل وهو الله.
وقال له: (( فإن أنت آمنت دعوت الله لك)) فآمن الرجل، فدعا الغلام ربه أن يشفيه، فشفاه الله، فأصبح مبصراً.
فجاء هذا الجليس إلى الملك وجلس عنده على العادة ، فسأله الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال:ربي وربك الله .فأخذه , فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ,وأتى بالغلام وأخبره بالخبر وعذَّبه تعذيبا شديدا , قال من الذي علَّمك بهذا الشيء ؟ وكان الراهب قد قال له: إنك ستُبتلى، فإن ابتُليت فلا تخبر عني. ولكن لعله عجز عن الصبر، فأخبر عن الراهب.
وكان هذا الملك الجبار- والعياذ بالله- لما دلوا على الراهب، جيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك ولكنه أبى أن يرجع عن دينه.
فأتوا بالمنشار فشذبوه من مفرق رأسه- من نصف الجسم- فبدأوا بالرأس ، ثم الرقبة، ثم الظهر حتى انقسم قسمين - شقَّين: سقط شق هنا وشق هنا- ولكنه لم يُثنه ذلك عن دينه. أبى أن يرجع، ورضِيَ أن يقتل هذه القتلة ولا يرجع عن دينه- ما شاء الله-!! ثم جيء بالرجل الأعمى الذي كان جليساً عند الملك وآمن بالله، وكفر بالملك ، فدُعي أن يرجع عن دينه فأبى، ففُعلَ به كما فعل بالراهب ، ولم يردَّه ذلك عن دينه. وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يصبر.
ولكن هل يجب على الإنسان أن يصبر على القتل، أو يجوز أن يقول كلمة الكفر ولا تضره إذا كان مكرها ؟ هذا فيه تفصيل: إن كانت المسألة تتعلق بنفسه فله الخيار : إن شاء قال كلمة الكفر دفعا للإكراه مع طمأنينة القلب بالإيمان وإن شاء أصر وأبى ولو قُتل، هذا إذا كان الأمر عائداً إلى الإنسان بنفسه يعني مثلاً قيل له: اسجد للصنم، فلم يسجد، فقتل، أو سجد دفعاً للإكراه ولم يقتل.
أما إذا كان الأمر يتعلق بالدين ، بمعنى أنه لو كفر ولو ظاهرا أمام الناس لكفر الناس , فإنه لا يجوز له أن يقول كلمة الكفر، بل يجب أن يصبر ولو قُتل، كالجهاد في سبيل الله. المجاهد يقدمُ على القتل ولو قتل، لأنه يريد أن تكون كلمة الله هي العليا، فإذا كان إماماً للناس وأُجبر على أن يقول كلمة الكفر فإنه لا يجوز أن يقول كلمة الكفر، لاسيما في زمن الفتنة، بل عليه أن يصبر ولو قُتل.
ومثل ذلك ما وقع للإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله - حين امتُحن المحنة العظيمة المشهورة، على أن يقول إن القرآن مخلوق وليس كلام الله، فأبى، فأُوذي وعُزِّر، حتى إنه يجر بالبغلة بالأسواق-إمام أهل السنة- يجر بالبغلة بالأسواق ويضرب بالسوط حتى يغشى عليه ولكنه كلما أفاق قال: القرآن كلام ربي غير مخلوق.
وإنما لم يجز لنفسه أن يقول كلمة الكفر مع الإكراه، لأن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فلو قال: القرآن مخلوق، لصار كل الناس يقولون: القرآن مخلوق، وفسد الدين.
ولكنه- رضي الله عنه- جعل نفسه فداء للدين ومع هذا صبر واحتسب، وكانت العاقبة له ولله الحمد. مات الخليفة ، ومات الخليفة الثاني الذي بعده، وأتى الله بخليفة صالح أكرمَ الإمام أحمد إكراماً عظيماً، فما مات الإمام أحمد حتى أقرَّ الله عينه بأن يقول الحق عالياً مرتفع الصوت، ويقول الناسُ الحقَّ معه.
وخُذل أعداؤه الذين كانوا يحدثون الخلفاء عليه. ولله الحمد. وهذا دليل على أن العاقبة للصابرين، وهو كذلك، والله الموفق.
لما قتل الملك الراهب، وقتل جليسه ، جيء بالغلام فطُلب منه أن يرجع عن دينه إلى دين الملك، ودين الملك دين شرك؛ لأنه- والعياذ بالله - يدعو الناس إلى عبادته وتأليهه.
فأبى الغلام أن يرجع عن دينه ، فدفعه الملك إلى نفر من أصحابه- أي جماعة من الناس- وقال لهم: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، جبل معروف عندهم شاهق رفيع، وقال لهم إذا بلغوا ذروته: فاطرحوه ، يعني على الأرض، ليقع من رأس الجبل فيموت، بعد أن تَعرِضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن رجع وإلا فاطرحوه.
فلما بلغوا به قمة الجبل طلبوا منه ان يرجع عن دينه فأبى؛ لأن الإيمان قد وقَر في قلبه، ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما همُّوا أن يطرحوه قال: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)).
دعوة مضطر مؤمن: ((اللهم اكفينهم بما شئت)) أي: بالذي تشاء، ولم يُعيِّن. فرجف الله بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك؟ أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم الله عز وجل.
ثم دفعه إلى جماعة آخرين، وأمرهم أن يركبوا البحر في قرقور- أي سفينة- فإذا بلغوا لـجَّةَ البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه، فإن لم يفعل رَمَوه في البحر. فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه - وهو الإيمان بالله- عز وجل- فقال: لا! أبى، ثم قال: ((اللهم اكفنيهم بما شئت)) فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه الله. ثم جاء إلى الملك فقال له: أين أصحابك؟ فأخبره بالخبر.
ثم قال له: إنك لست قاتلي حتى تفعل ما آمرك به! قال: وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد، كل أهل البلد تجمعهم في مكان واحد، ثم تصلبني على جذع ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي فتضعه في كبد القوس، ثم ترميني به وتقول: بسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني!
فجمع الملك الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخذ سهما من كنانته فوضعها في كبد القوس، ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فأصابه السهم في صدغه، فوضع يده عليه ومات، فأصبح الناس يقولون: بسم الله رب الغلام. وآمنوا بالله وكفروا بالملك. وهذا هو الذي كان يريده هذا الغلام.
ففي هذه القطعة من الحديث دليل على مسائل:
أولا: قوة إيمان هذا الغلام، وأنه لم يتزحزح عن إيمانه ولم يتحوَّل .
ثانياً: فيه آية من آيات الله، حيث أكرمه الله عز وجل بقبول دعوته، فزلزَلَ الجبل بالقوم الذين يريدون أن يطرحوه من رأس الجبل حتى سقطوا.
ثالثاً: أن الله عز وجل يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، فإذا دعا الإنسان ربه في حال ضرورة مُوقناً أن الله يجيبه، فإن الله تعالى يجيبه، حتى الكفار إذا دعوا الله في حال الضرورة أجابهم الله، مع أنه يعلم أنهم سيرجعون إلى الكفر، إذا غشيهم موج كالظُّلل في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، فإذا نجَّاهم أشركوا ، فينجيهم لأنهم صدقوا في الرجوع إلى الله عند دعائهم ، وهو سبحانه يجيب المضطر ولو كان كافراً.
رابعاً: أن الإنسان يجوز أن يغرِّرَ بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه، وهو أن يأخذ سهماً من كنانته ويضعه في كبد القوس ويقول : باسم الله ربِّ الغلام.
قال شيخ الإسلام: ((لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمةٌ وهو لم يفتقد شيئا،لأنه مات وسيموت إن آجلاً أو عاجلاً)).
فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله.
ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين ، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام (119).
لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام، لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مائة أو مائتين ، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يُسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، فإن فيها إسلام كثير من الناس، فكل من حضر في هذا الصعيد أسلموا، أما أن يموت عشرة أو عشرون أو مائة أو مائتان من العدو ، فهذا لا يقتضي أن يسلم، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويُوغرُ صدره هذا العمل حتى يفتك بالمسلمين أشد فتك ، كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة أخذوا من جراء ذلك ستين نفرا أو أكثر، فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فُجِّرَت هذه المتفجرات في صفوفهم.
ولهذا نرى أن ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار ، نرى أنه قتلٌ للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وأن صحابه ليس بشهيد . لكن إذا فعل الإنسان هذا متأولا ظانا أنه جائز، فإننا نرجو أن يَسْلَم من الإثم، وأما أن تكتب له الشهادة فلا؛ لأنه لم يسلك طريقة الشهادة، لكنه يسلم من الإثم لأنه متأول، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر.
في خاتمة هذا الحديث العظيم الذي فيه العبرة لمن أعتبر، فيها أن الملك الكافر الذي يدعو الناس إلى عبادته، لما آمن الناس وقالوا آمنا بالله رب الغلام، جاءه أهل الشر وأهل الحقد على الإيمان وأهله ، وقالوا له: أيها الملك إنه وقع ما كنت تحذر منه، وهو الإيمان بالله، وكان يحذر ذلك ؛لأنه - والعياذ بالله - قد جعل نفسه إلها كما فعل فرعون , وكان ملكا طاغياً ظالماً ، فأمر بالأخدود على أفواه السكك فخدت، الأخدود يعني حفر عميق مثل السواقي على أفواه السكك، يعني على أطراف الأزقَّة والشوارع ، وقال لجنوده: من جاء ولم يرجع عن دينه فأقحموه فيها؛ لأنه أضرم فيها النيران_ والعياذ بالله- فكان الناس يأتون ولكنهم لا يرتدون عن دينهم وإيمانهم، فيقحمونهم في النار، فكل من لم يرجع عن دينه الحقيقي- وهو الإيمان بالله- قذفوه في النار، ولكنهم إذا قذفوهم في النار واحترقوا بها فإنهم ينتقلون من دار الغرور والبوار إلى دار النعيم والاستقرار، لأن الملائكة تتوفاهم طيبين يقولون: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[النحل:32] ، ولا أعظم من هذا الصبر، أن يرى الإنسان النار تتأجج فيقتحم فيها خوفا على إيمانٍ وصبرًا عليه. فجاءت امرأة ومعها صبي رضيع ، فلما رأت النيران كأنها تقاعست أن تقتحتم النار هي وطفلها، فقال لها الطفل : يا أماه اصبري فإنك على الحق، يقوله وهو صغير لا يتكلم ، لكن أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، وهو كرامة لهذه الأم ، أن الله أنطق ابنها من أجل أن تقوى على أن تقتحم النار وتبقى على إيمانها ، لأن تكلم هذا الصبي في المهد آية عظيمة ، وقد شهد هذا الصبي بأن أمه على الحق، فصبرت واقتحمت النار، وهذا من آيات الله ، وهو دليل على أن الله تعالى ﴿يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[الزمر:61].
ومريم بنت عمران- رضي الله عنها- خرجت من أهلها وذهبت مكانا قصيَّا وهي حامل بابنها عيسى الذي خلقه الله تعالى بكلمة كُنْ فكان ﴿فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ[مريم:23]، يعني الطلق، فوضعت تحت جذع النخلة، وجعل الله تحتها ا يمشي ، فقيل لها:﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً[مريم:25]، رطب يقع من فرع النخلة، جنيَّا لم يتأثَّر بسقوطه على الأرض، وهذا من آيات الله، لأن من المعروف أن الرطب لو سقطت من يد الإنسان- ولو كان واقفا فقط- تمزَّقت، لكن هذه الرطب لم تتمزق، مع أنها تسقط من فرع النخلة. ثم إن هذه المرأة امرأة ضعيفة ماخض، لم تلد إلا الآن، ومع ذلك تهزُّ النخلة من جذعها فتهتز النخلة، فهذا أيضا من آيات الله، لأن العادة أن النخلة لا تهتز من الجذع إلا إذا هزَّها أحد قوي من فرعها، فقيل لها ﴿فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنا[مريم: 26]، ثم أتت به قومها تحمله، هذا الطفل ، فصاحوا بها﴿يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً[مريم:27]، يعني شيئا عظيماً، لأنهم أيقنوا بأنها زنت- والعياذ بالله- كيف يأتيها ولد من دون زوج؟﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً[مريم:28] ، يعني أن أباك ليس امرأ سوء، وكذلك أمك ليست بغيَّا، ليست زانية، فمن أين جاءك هذا؟ وهذا تعريض لها بالقذف،فأشارت إليه؟
يعني: اسألوه قالوا: ﴿كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً[مريم: 29]،فظنوا أنها تسخر بهم، فأنطق الله هذا الصبي﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ
- كلام فصيح- ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا[مريم:30 -33] .

عشر جمل تكلم بها هذا الصبي الذي في المهد بأبلغ ما يكون من الفصاحة فانظر إلى قدرة الله عز وجل-، حيث ينطق هؤلاء الصبيان بكلام من أفصح الكلام، بكلام يصدر من ذي عقل، كل ذلك دلالة على قدرة الله، وفيه أيضاً إنقاذُ لمريم- رضي الله عنها- من التهمة التي قد تلحقها بسبب هذا الحمل بدون زوج. وهكذا أيضاً هذا الطفل مع المرأة التي تقاعست أن تقتحم النار، أكرمها الله إنطاق هذا الطفل من أجل أن تقتحم النار وتبقى على إيمانها. وفي هذه القصص وأمثالها دليل على أن الله- سبحانه وتعالى- برحمته ينجي كلَّ مؤمن في مفازته، وكل متق في مفازته، يعني في موطنٍ يكون فيه هلاكه ولكن الله تعالى ينقذه لما سبق له من التقوى، وشاهد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (( تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْكَ في الشدة)) والله الموفق.

* * *
31- وعن أنس -رضي الله عنه- قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقي الله واصبري)) فقالت :إليك عنِّي، فإنك لم تُصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))(120). [ متفق عليه].
وفي رواية لمسلم: (( تبكي على صبي لها)).

الشرح قال المؤلف - رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بامرأة وهي عند قبر صبي لها قد مات، وكانت تُحِبه حباً شديداً، فلم تملك نفسها أن تخرج إلى قبره لتبكي عنده. فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بتقوى الله والصبر.
قال لها: ((اتقي الله واصبري، فقالت له: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي)) إليك عنِّي أي: ابعد عنِّي فإنك لم تصب بمثل مصيبتي.
وهذا يدل على أن المصيبة قد بلغت منها مبلغاً عظيماً، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم عنها.
ثم قيل لها: إن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فندمت وجاءت إلى رسول الله، إلى بابه، وليس على الباب بوَّابون أي: ليس عنده أحد يمنع الناس من الدخول عليه. فأخبرته وقالت: إنني لم أعرفك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى)).
الصبر الذي يثاب عليه الإنسان هو أن يصبر عند الصدمة الأولى أول ما تصيبه المصيبة، هذا هو الصبر.
أما الصبر فيما بعد ذلك، فإن هذا قد يكون تسلِّيًا كما تتسلَّى البهائم. فالصبر حقيقة أن الإنسان إذا صدم أول ما يُصدم يصبر ويحتسب ، ويحسن أن يقول: ((إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمَّ أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)).
ففي هذا الحديث عدة فوائد:
أولاً: حسن خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام ودعوته إلى الحق وإلى الخير، فإنه لما رأى هذه المرأة تبكي عند القبر أمرها بتقوى الله والصبر.
ولما قالت: ((إليك عني)) لم ينتقم لنفسه، ولم يضربها ، ولم يُقمها بالقوة، لأنه عرف أنه أصابها من الحزن ما لا تستطيع أن تملك نفسها، ولهذا خرجت من بيتها لتبكي عند هذا القبر.
فإن قال قائل: أليست زيارة القبور حراما على النساء؟ قلنا : بلى هي حرام على النساء ، بل هي من كبائر الذنوب !! لأن النبي عليه الصلاة والسلام ((لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج))(121).
لكن هذه لم تخرج للزيارة ، وإنما خرجت لما في قلبها من لوعة فراق هذا الصبي والحزن الشديد، لم تملك نفسها أن تأتي ؛ ولهذا عذرها النبي عليه الصلاة والسلام ولم يُقمها بالقوة، ولم يجبرها على أن ترجع إلى بيتها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان يُعْذَر بالجهل، سواء أكان جهلاً بالحكم الشرعي أم جهلاً بالحال، فإن هذه المرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إليكَ عني، أي: ابعد عني، مع أنه يأمرها بالخير والتقوى والصبر. ولكنها لم تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا عَذَرَها النبي عليه الصلاة والسلام.
ومنها: أنه لا ينبغي للإنسان المسؤول عن حوائج المسلمين أن يجعل على بيته بوَّاباً يمنعُ الناس إذا كان الناس يحتاجون إليه. إلا إذا كان الإنسان يخشى من كثرة الناس وإرهاق الناس وإشغال الناس عن شيء يمكنهم أن يتداركوا شغلهم في وقت آخر، فهذا لا بأس به.
وما جُعِلَ الاستئذانُ إلا من أجل النظر، ومن أجل أن الإنسان يتصرَّف في بيته في إدخال من شاء ومنع من شاء.
ومن فوائده: أن الصبر الذي يُحمَدُ فاعله هو الصبر الذي يكون عند الصدمة الأولى . يصبر الإنسان ويحتسب، ويعلم أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وأن كل شيء عنده بأجل مسمى.
ومن فوائد هذا الحديث: أن البكاء عند القبر ينافي الصبر؛ ولهذا قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم : ((اتقي الله واصبري)).
ويوجد من الناس من يُبتلى ، فإذا مات له ميِّت صار يتردد على قبره ويبكي عنده، وهذا ينافي الصبر، بل نقول: إذا شئت أن تنفع الميت فادع الله وأنت في بيتك ، ولا حاجة أن تتردد على القبر، لأن التردد على القبر يجعل الإنسان يتخيَّلُ هذا الميت دائما في ذهنه ولا يغيب عنه، وحينئذ لا ينسى المصيبة أبدا، مع أن الأفضل للإنسان أن يتلهَّى وأن ينسى المصيبة بقدر ما يستطيع . والله الموفق.

* * * 32- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة))(122) [ رواه البخاري].

الشرح هذا الحديث يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله، ويسمي العلماء- رحمهم الله- هذا القسم من الحديث : الحديث القدسي ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رواه عن الله.
قوله: ( صَفِيَّهُ) : الصَّفي: من يصطفيه الإنسان ويختاره ويرى أنه ذو صلة منه قوية، من ولد، أو أخ، أو عم، أو أب، أو أم ، أو صديق، إذا أخذه الله عز وجل ثم احتسبه الإنسان فليس له جزاء إلا الجنة.
ففي هذا دليل على فضيلة الصبر على قبض الصَّفي من الدنيا، وأن الله عز وجل يُجازي الإنسان إذا احتسب، يُجازيه الجنة.
وفيه: دليل على فضل الله سبحانه وتعالى وكرمه على عباده، فإن الملْكَ ملكه، والأمر أمره، وأنت وصفيُّك كلاكما لله عز وجل، ومع ذلك فإذا قبض الله صفي الإنسان واحتسب ، فإن له هذا الجزاء العظيم.
وفي هذا الحديث أيضاً من الفوائد: الإشارة إلى أفعال الله، من قوله: ((إذا قبضت صفيه)) ولا شك أن الله سبحانه وتعالى فعَّال لما يريد ، ولكن يجب علينا أن نعلم أن فعل الله تعالى كله خير، لا يُنسب الشر إلى الله أبداً، والشر إذا وقع فإنما يقع في المفعولات ولا يقع في الفعل.
فمثلاً إذا قدَّرَ الله على الإنسان ما يكره، فلا شك أن ما يكرهه الإنسان بالنسبة إليه شر. لكن الشر في هذا المقدر لا في تقدير الله، لأن الله تعالى لا يُقَدِّرهُ إلا لحكمة عظيمة، إما للمقدَّر عليه وإما لعامة الخلق.
أحياناً تكون الحكمة خاصة في المقدَّر عليه، وأحياناً في الخلق على سبيل العموم.
المقدرُ عليه إذا قدَّر الله عليه شرا وصبر واحتسب نال بذلك خيراً، وإذا قدر الله عليه شرًا ورجع إلى ربه بسبب هذا الأمر، لأن الإنسان إذا كان في نعمة دائماً قد ينسى شكرَ المُنعِمِ عز وجل ولا يلتفت إلى الله، فإذا أصيب بالضراء تذكَّر ورجع إلى ربه سبحانه وتعالى، ويكون في ذلك فائدة عظيمة.
أما بالنسبة للآخرين ، فإن هذا المقدَّر على الشخص إذا ضرَّه قد ينتفع به الآخرون.
ولنضرب لذلك مثلا برجل عنده بيت من الطين، أرسل الله مطراً غزيراً دائماً، فإن صاحب هذا البيت يتضرَّر، لكن المصلحة العامة للناس مصلحة ينتفعون بها، فصار هذا شرًا على شخص وخيرًا للآخرين، ومع ذلك فكونه شرًّا لهذا الشخص أمر نسبي، إذا إنه شر من وجه لكنه خير له من وجه آخر.فيتَّعظُ به ويعلم أن الملجأ هو الله عز وجل، لا ملجأ إلا إليه، فيستفيد من هذا فائدة أكبر مما حَصَلَ له من المضرة.
المهم أن هذا الحديث ذكره المؤلف رحمه الله في باب الصبر، لأن فيه فائدة عظيمة فيما إذا صبرَ الإنسان على قبض صفيِّه، أنه ليس له جزاء إلا الجنة. والله الموفق.

كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

33- وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذابا يبعثه الله تعالى على من يشاء، فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين ، فليس من عبد يقع في الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد))(123) [ رواه البخاري].

الشرح
نقل المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله من الأحاديث الواردة في الصبر حديث عائشة - رضي الله عنها- أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أن الطاعون عذاب أرسله الله سبحانه وتعالى على من يشاء من عباده.
والطَّاعون : قيل : إنه وباء مُعيَّن. وقيل: إنه كلُّ وباءٍ عام يحل بالأرض فيصيب أهلها ويموت الناس منه.
وسواء كان معيناً أم كلَّ وباءٍ عام مثل الكوليرا وغيرها؛ فإن هذه الطاعون عذاب أرسله الله عز وجل. ولكنه رحمة للمؤمن إذا نزل بأرضه وبقي فيها صابراً محتسباً ، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، فإن الله تعالى يكتب له مثل أجر الشهيد، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه))(124).
إذا وقع الطاعون بأرض فإننا لا نقدم عليها، لأن الإقدام عليها إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ولكنه إذا وقع في أرض فإننا لا نخرج منها فراراً منه، لأنك مهما فررت من قدر الله إذا نزل بالأرض فإن هذا الفرار لن يُغني عنك من الله شيئاً، واذكر القصة التي قصها الله علينا في الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حَذَر الموت. قال بعض العلماء في تفسير الآية: إنه نزل في الأرض وباء فخرجوا منها، فقال الله لهم مُوتوا ثم أحياهم ، ليُبيِّن لهم أنه لا مفر من قضاء الله إلا إلى الله.
ففي حديث عائشة- رضي الله عنها- دليل على فضل الصبر والاحتساب ، وأن الإنسان إذا صبَّرَ نفسه في الأرض التي نزل فيها الطاعون ثم مات به، كتب الله له مثل أجر الشهيد .
وذلك أن الإنسان إذا نزل الطاعون في أرضه فإن الحياة غالية عند الإنسان، سوف يهرب، يخاف من الطاعون.فإذا صبر وبقي واحتسب الأجر وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ثم مات به، فإنه يُكتب له مثل أجر الشهيد. وهذا من نعمة الله عز وجل.

* * *
34- وعن أنس- رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل قال: إذا ابتليتُ عبدي بحَبِيبتَيهِ فصبر، عوَّضتُه منهما الجنة)) يريد عينيه (125) [ رواه البخاري].
في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه)) يعني عَيْنيه فيعمى، ثم يصبر، إلا عوضه الله بهما الجنة. لأن العين محبوبة للإنسان ، فإذا أخذهما الله سبحانه وتعالى وصبر الإنسان واحتسب، فإن الله يعوضه بهما الجنة، والجنة تساوي كل الدنيا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها)) (126) .أي مقدار متر في الجنة خير من الدنيا وما فيها؛ لأن ما في الآخرة باقٍ لا يفنى ولا يزول، والدنيا كلها فانية زائلة، فلهذا كانت هذه المساحة القليلة من الجنة خيرًا من الدنيا وما فيها.
واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا قبض من الإنسان حاسةً من حواسه، فإن الغالب أن الله يعوضه في الحواس الأخرى ما يخفف عليه ألمَ فَقْدِ هذه الحاسة التي فقدها.
فالأعمى يَمُنُّ الله عليه بقوة الإحساس والإدراك، حتى إن بعض الناس إذا كان أعمى تجده في السوق يمشي وكأنه مبصر يَحِسُّ بالمنعطفات في الأسواق، ويحس بالمنحدرات وبالمرتفعات، حتى أن بعضهم يتفق مع صاحب السيارة- سيارة الأجرة- يركب معه من أقصى البلد إلى بيته وهو يقول لصاحب السيارة: خذْ ذات اليمين، وهكذا حتى يُوقفه عند بابه، وصاحب السيارة لا يعرف البيت، لكن هذا يعرف البيت وهو راكب، سبحان الله! فالله عز وجل إذا اقتضت حكمته أن يُفْقِدَ أحداً من عباده حاسة من الحواس، فالغالب أن الله تعالى يخلف عليه حاسة قوية وإدراكاً قويا يعوِّض بعض ما فاته مما أخذه الله منه. والله الموفق.

* * * 35- وعن عطاء بن أبى رباح قال: قال لي ابن عباس- رضي الله عنهما- ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت بلى، قال: هذه المرأة السوداء . أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع، وإني أتكشَّف، فادع الله تعالى لي قال: ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله تعالى أن يُعافيكِ)) فقالت: أصبر . فقالت: إني اتكشف ، فادع الله أن لا أتكشف.فدعا لها (127) [ متفق عليه].
قوله: ((ألا أريك امرأة من أهل الجنة)) : يعرض عليه أن يريَهُ امرأة من أهل الجنة. وذلك لأن أهل الجنة ينقسمون إلى قسمين: قسم نشهد لهم بالجنة بأوصافهم، وقسم نشهد لهم بالجنة بأعيانهم.
1ـ أما الذين نشهد لهم بالجنة بأوصافهم فكل مؤمن ، كل متَّق، فإننا نشهد بأنه من
أهل الجنة. كما قال الله سبحانه وتعالى في الجنة ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133]، وقال:﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [البينة:7،8] ، فكل مؤمن متقٍ يعمل الصالحات فإننا نشهد بأنه من أهل الجنة. ولكن لا نقول هو فلان وفلان، لأننا لا ندري ما يُختمُ له، ولا ندري هل باطنه كظاهره، فلذلك لا نشهد له بعَيْنه. فإذا مات رجل مشهود له بالخير قلنا: نرجو أن يكون من أهل الجنة، لكن لا نشهد أنه من أهل الجنة.
2ـ قسم آخر نشهد له بعينه، وهم الذين شَهِدَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في
الجنة، مثل العشرة المبشرين بالجنة، وهم أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبدالرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبوعبيدة عامر بن الجراح، والزبير بن العوام، رضي الله عنهم.
ومثل ثابت بن قيس بن شماس، ومثل سعد بن معاذ، ومثل عبد الله بن سلام، ومثل بلال بن رباح، وغيرهم، رضي الله عنهم، ممَّن عينهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء نشهد لهم بأعيانهم، نقول: نشهد بأن أبا بكر في الجنة، ونشهد بأن عمر في الجنة، ونشهد بأن عثمان في الجنة، نشهد بأن عليا في الجنة، وهكذا.
ومن ذلك هذه المرأة التي قال ابن عباس لتلميذه عطاء بن أبي رباح: ((ألا أُريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى! قال: هذه المرأة السوداء)).
امرأة سوداء لا يؤبه لها في المجتمع، كانت تُصرع وتنكشف، فأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام وسألته أن يدعو الله لها، فقال لها ((إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت : أصْبر، وإن كانت تتألم وتتأذى من الصرع، لكنها صبرت من أجل أن تكون من أهل الجنة. ولكنها قالت: يا رسول الله إني أتكشَّف، فادع الله أن لا أتكشف .فدعا الله أن لا تتكشف، فصارت تُصرع ولا تتكشف.
والصرع- نعوذ بالله منه- نوعان:
1ـ صرع بسبب تشنُّج الأعصاب: وهذا مرض عضوي يمكن أن يعالج من قبل
الأطباء الماديين ، بإعطاء العقاقير التي تُسكِّنه أو تزيله تماماً .
2ـ وقسم آخر بسبب الشياطين والجن، يتسلط الجني على الإنسي فيصرعه ويدخل
فيه، ويضرب به على الأرض ، ويغمى عليه من شدة الصرع، ولا يحس، ويتلبَّس الشيطان أو الجني بنفس الإنسان ويبدأ يتكلم على لسانه، الذي يسمع الكلام يقول إن الذي يتكلم الإنسي، ولكنه الجني، ولهذا تجد في بعض كلامه الاختلاف، لا يكون ككلامه وهو مستيقظ ؛ لأنه يتغير بسبب نطق الجني.
هذا النوع من الصرع- نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منه ومن غيره من الآفات - هذا النوع علاجه بالقراءة من أهل العلم والخير ، يقرأون على هذا المصروع.
فأحياناً يخاطبهم الجني ويتكلم معهم، ويُبَيِّنُ السبب الذي جعله يصرع هذا الإنسي، وأحياناً لا يتكلم.
وقد ثبت صرع الجنى للإنسي بالقرآن، والسنة ، والواقع.
ففي القرآن قال الله سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ[البقرة: 275]، وهذا دليل على أن الشيطان يتخبط الإنسان من المس وهو الصرع.
وفي السنة : روى الإمام أحمد في مسنده ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر من أسفاره، فمرَّ بامرأة معها صبي يُصرع، فأتت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وخاطب الجني وتكلم معه وخرج الجني. فأعطت أم الصبي الرسول صلى الله عليه وسلم هدية على ذلك)) (128).
وكذلك أيضاً كان أهل العلم يخاطبون الجني في المصروع ويتكلمون معه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، ذكر ابن القيم (129)- وهو تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية - أنه جئ إلى شيخ الإسلام برجل مصروع، فجعل يقرأ عليه ويُخاطبه ويقول لها : اتقي الله أخرجي- لأنها امرأة- فتقول له: أريد هذا الرجل وأحبُّه، فقال لها شيخ الإسلام: لكنه لا يحبك اخرجي، قالت إني أريد أن أحج به. قال هو لا يريد أن تحجي به اخرجي. فأبت ، فجعل يقرأ عليها ويضرب الرجل ضربا عظيماً، حتى إن يد شيخ الإسلام أوجعته من شدة الضرب.
فقالت الجنية: أنا أخرج كرامة للشيخ، قال: لا تخرجي كرامة لي، اخرجي طاعة لله ورسوله. فما زال بها حتى خرجت، ولما خرجت استيقظ الرجل فقال: ما الذي جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا: سبحان الله ‍! أما أحسست بالضرب الذي كان يضربك أشد ما يكون؟ قال ما أحسست بالضرب ولا أحسست بشيء. والأمثلة على هذا كثيرة.
هذا النوع من الصرع له علاج يدفعه ، وله علاج يرفعه.
فهو نوعان:
1ـ أما دفعه: فبأن يحرص الإنسان على الأوراد الشرعية الصباحية والمسائية . وهي
معروفة في كتب أهل العلم، منها: آية الكرسي، فإن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
ومنها سورة الإخلاص والفلق والناس، ومنها أحاديث وردت عن النبي عليه الصلاة
والسلام ، فليحرص الإنسان عليها صباحاً ومساء ، فإن ذلك من أسباب دفع أذيَّةِ الجن.
وأما الرفع: فهو إذا وقع بالإنسان فإنه يقرأ عليه آيات من القرآن فيها تخويف وتحذير
وتذكير واستعاذة بالله عز وجل حتى يخرج.
الشاهد من هذا الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المرأة: (( إن شئت
صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر)) ففي هذا دليل على فضيلة الصبر، وأنه سبب لدخول الجنة. والله الموفق.

* * *36- وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم، ضَرَبَهُ قومُهُ فأدموه، فجعل يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (130) [ متفق عليه] .

الشرح هذا الحديث يحكي النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئا مما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأنبياء كلَّفهم الله تعالى بالرسالة لأنهم أهل لها، كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، فهم أهل لها في التحمُّل والتبليغ والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ذلك، وكان الرسل - عليهم الصلاة والسلام- يُؤذَوْنَ بالقول وبالفعل، وربما بلغ الأمر إلى قتلهم ، وقد بيَّن الله ذلك في كتابه حيث قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ﴾أي: إن استطعت ذلك فافعل﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ ولكن لحكمة اقتضت أن يكذبوك ، حتى يتَبيّن الحق من الباطل بعد المصارعة والمجادلة ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ[الأنعام:35] .
حكى نبينا صلى الله عليه وسلم عن نبي من الأنبياء أن قومه ضربوه، ولم يضربوه إلا حيث كذبوه حتى أدموا وجهه، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وهذا غايةُ ما يكون من الصبر، لأن الإنسان لو ضُرب على شيء من الدنيا لاستشاط غضباً، وانتقم ممن ضربه، وهذا يدعو إلى الله، ولا يتخذ على دعوته أجرًا ، مع هذا يضربونه حتى يدموا وجهه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
وهذا الذي حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدثنا به عبثاً أو لأجل أن يقطع الوقت علينا بالحديث، وإنما حدثنا بذلك من أجل أن نتخذ منه عبرة نسير عليها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ[يوسف:111]، والعبرة من هذا أن نصبر على ما نؤذى به من قول أو فعل في سبيل الدعوة إلى الله، وأن نقول مُتَمَثِّلين:
هـل أنـتِ إلا إصبـعٌ دَميـتِ وفـي سبيـل الله مـا لَقِيـتِ (131)
وأن نصبر على ما يصيبنا مما نسمعه أو ينقل إلينا مما يقال فينا بسبب الدعوة إلى الله، وأن نرى أن هذا رفعةٌ لدرجاتنا وتكفير لسيئاتنا ، فعسى أن يكون في دعوتنا خلل من نقص في الإخلاص أو من كيفية الدعوة وطريقها ، فيكون هذا الأذى الذي نسمع، يكون كفارة لما وقع منا، لأن الإنسان مهما عمل فهو ناقص لا يمكن أن يكمل عمله أبداً، إلا أن يشاء الله، فإذا أصيب وأوذي في سبيل الدعوة إلى الله فإن هذا من باب تكميل دعوته ورفعة درجته، فليصبر وليحتسب ولا ينكص على عقبيه ، لا يقول لستُ بمُلزَم، أنا أصابني الأذى، أنا أوذيت ،أنا تعبت، بل الواجب الصبر، والدنيا ليست طويلة! أيام ثم تزول، فاصبر حتى يأتي الله بأمره.
وفي قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحكي لنا)) فيه دليل على أن المحدث أو المخبر يخبر بما يؤيِّد ضبطه للخبر والحديث. وهذا أمر شائع عند الناس، يقول: كأني أنظر إلى فلان وهو يقول لنا كذا وكذا، أي: كأني أنظر إليه الآن، وكأني أسمع كلامه الآن.
فإذا استعمل الإنسان مثل هذا الأسلوب لتثبيت ما يحدِّث به فلَهُ في ذلك أسوةٌ من السلف الصالح رضي الله عنهم. والله الموفق.

* * *37- وعن أبي سعيد وأبي هريرة- رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يُصيب المسلم من نَصَب ولا وَصَب ، ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذى ولا غَمٍ، حتى الشوكة يُشاكُها ، إلا كَفَّرَ الله بها من خطاياه)) (132) [ متفق عليه] ، ((والوَصَبُ)): المرض
38- وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعَكُ ، فقلت: يا رسول الله ، إنك توعك وعكا شديداً قال: (( أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)) قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: (( أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى ؛ شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته، وحُطت عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) (133) [ متفق عليه] .
و(( الوعك)) مَغْثُ الحمى، وقيل: الحمى.

الشرح هذان الحديثان : حديث أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود - رضي الله عنهم- فيهما دليل على أن الإنسان يكفِّر عنه بما يصيبه من الهم والنصب والغم وغير ذلك، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى، يبتلي سبحانه وتعالى عبده بالمصائب وتكون تكفيراً لسيئاته وحطا لذنوبه.
والإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يبقى مسروراً دائماً، بل هو يوماً يُسر ويوماً يُحزن، ويوماً يأتيه شيء ويوماً لا يأتيه ، فهو مصاب بمصائب في نفسه ومصائب في بدنه. ومصائب في مجتمعه ومصائب في أهله، ولا تحصى المصائب التي تصيب الإنسان، ولكن المؤمن أمره كله خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له.
فإذا أُصبت بالمصيبة فلا تظن أن هذا الهم الذي يأتيك أو هذا الألم الذي يأتيك ولو كان شوكة، لا تظن أنه يذهب سُدى، بل ستعوَّض عنه خيراً منه، ستُحط عنك الذنوب كما تحط الشجرة ورقها، وهذا من نعمة الله.
وإذا زاد الإنسان على ذلك الصبر والاحتساب، يعني: احتساب الأجر، كان له مع هذا أجر.
فالمصائب تكون على وجهين:
1- تارة إذا أُصيب الإنسان تذكر الأجر واحتسب هذه المصيبة على الله، فيكون فيها
فائدتان: تكفير الذنوب؛ وزيادة الحسنات.
2- وتارة يغفل عن هذا فيضيق صدره، ويصيبه ضجر أو ما أشبه ذلك، ويغفل عن
نية احتساب الأجر والثواب على الله، فيكون في ذلك تكفير لسيئاته، إذاً هو رابح على كل حال في هذه المصائب التي تأتيه.
فإما أن يربح تكفير السيئات وحط الذنوب بدون أن يحصل له أجر؛ لأنه لم ينوِ شيئا ولم يصبر ولم يحتسب الأجر. وإما أن يربح شيئين: تكفير السيئات، وحصول الثواب من الله عز وجل كما تقدم.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا أصيب ولو بشوكة، فليتذكر احتساب الأجر من الله على هذه المصيبة، حتى يؤجر عليها، مع تكفيرها للذنوب.
وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى وجوده وكرمه، حيث يبتلي المؤمن ثم يُثيبه على هذه البلوى أو يكفر عنه سيئاته .
فالحمد لله رب العالمين.

* * *39- وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من يُرد الله به خيراً يُصب منه)) (134) [رواه البخاري] .

الشرح قوله: ((يُصب)) قُرئت بوجهين : بفتح الصاد( يصَب) وكسرها ( يصِب) وكلاهما صحيح.
أما ((يصب منه)) فالمعنى أن الله يُقدِّر عليه المصائب حتى يبتليه بها: أيصبر أم يضجر. وأما (( يصب منه)) فهي أعم، أي: يصاب من الله ومن غيره.
ولكن هذا الحديث المطلق مقيد بالأحاديث الأخرى التي تدل على أن المراد: من يرد الله به خيراً فيصبر ويحتسب، فيصيب الله منه حتى يبلوه.
أما إذا لم يصبر فإنه قد يصاب الإنسان ببلايا كثيرة وليس فيه خير، ولم يرد الله به خيراً.
فالكفار يصابون بمصائب كثيرة، ومع هذا يبقون على كفرهم حتى يموتوا عليه، وهؤلاء بلا شك لم يرد بهم خيرا.
لكن المراد: من يرد الله به خيراً فيصيب منه فيصبر على هذه المصائب، فإن ذلك من الخير له، لأنه سبق أن المصائب يكفر الله بها الذنوب ويحط بها الخطايا، ومن المعلوم أن تكفير الذنوب والسيئات وحط الخطايا لا شك أنه خير للإنسان، لأن المصائب غاية ما فيها أنها مصائب دنيوية تزول بالأيام ، كلما مضت الأيام خفَّت عليك المصيبة، لكن عذاب الآخرة باقٍ- والعياذ بالله- فإذا كفر الله عنك بهذه المصائب صار ذلك خيراً لك.

* * *40- وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت لضُرٍّ أصابه، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)) (135) [متفق عليه] .
في هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يتمنى الموت لضرٍّ نزل به. وذلك أن الإنسان ربما ينزل به ضر يعجز عن التحمل ويتعب؛ فيتمنى الموت، يقول: يا رب أمتني، سواء قال ذلك بلسانه أو بقبله. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به)). فقد يكون هذا خيرا له.
ولكن إذا أصبت بضر فقل: اللهم أعنِّي على الصبر عليه، حتى يُعينُكَ الله فتصبر، ويكون ذلك لك خيراً.
أما أن تتمنى الموت فأنت لا تدري، ربما يكون الموت شراً عليك لا يحصل به راحة، ليس كل موت راحة، كما قال الشاعر:
ليس من مات فاستراحَ بميت إنـما الميـت ميِّـت الأحيـاءِ
الإنسان ربما يموت فيموت إلى عقوبة- والعياذ بالله- وإلى عذاب قبر، وإذا بقي قي الدنيا فربما يستعتب ويتوب ويرجع إلى الله فيكون خيراً له؛ فإذا نزل بك ضرٌ فلا تتمنَّ الموت، وإذا كان الرسول - عليه الصلاة والسلام- نهى أن يتمنى الإنسان للضر الذي نزل به، فكيف بمن يقتل نفسه إذا نزل به الضر، كما يوجد من بعض الحمقى الذين إذا نزلت بهم المضائق خنقوا أنفسهم أو نحروها أو أكلوا سُمًّا أو ما أشبه ذلك، فإن هؤلاء ارتحلوا من عذاب إلى أشد منه، فلم يستريحوا ، لكن- والعياذ بالله- انتقلوا من عذاب إلى أشد. لأن الذي يقتل نفسه يعذب بما قتل به نفسه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (136)، إن قتل نفسه بحديدة- خنجر أو سكين أو مسمار أو غير ذلك - فإنه يوم القيامة في جهنم يطعن نفسه بهذه الحديدة التي قتل بها نفسه.
وإن قتل نفسه بسم فإنه يتحسَّاه في نار جهنم، وإن قتل نفسه بالتردي من جبل فإنه يُنصب له جبل في جهنم يتردى من أبد الآبدين وهلمَّ جرا!
فأقول : إذا كان النبي- عليه الصلاة والسلام- نهى أن يتمنى الإنسان الموت للضر الذي نزل به، فإن أعظم من ذلك أن يقتل الإنسان نفسه ويبادر الله بنفسه، نسأل الله العافية.
ولكن الرسول- عليه الصلاة والسلام- لما نهى عن شيء ، كان من عادته إذا كان له بديل من المباح أن يذكر بديله من المباح كما هي طريقة القرآن، قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا[البقرة:104] ، فلما نهى الله عن كلمة ((راعِنا)) بيَّن لنا الكلمة المباحة، قال: (وَقُولُوا انْظُرْنَا ) .
ولما جيء للنبي- عليه الصلاة والسلام- بتمرٍ جيِّدِ استنكرَهُ وقال: ما هذا؟ ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) قالوا: لا، والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تفعل، لكن بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً))(137) يعني تمراً طيبا. فلما منعه بيَّن له الوجه المباح.
هنا قال: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)).
فتح لك الباب لكنه باب سليم، لأن تمني الموت يدل على ضجر الإنسان وعدم صبره على قضاء الله، لكن هذا الدعاء((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)) هذا الدعاء وكل الإنسان فيه أمره إلى الله، لأن الإنسان لا يعلم الغيب، فيَكِلُ الأمر إلى عالمه عز وجل ((أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)).
تمني الموت استعجال من الإنسان بأن يقطع الله حياته، وربما يحرمه من خير كثير، ربما يحرمه من التوبة وزيادة الأعمال الصالحة، ولهذا جاء في الحديث: ((ما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم أن لا يكون استعتب))(138) أي: استعتب من ذنبه وطلب العتبى، وهي المعذرة.
فإن قال قائل: كيف يقول ((اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي؟)).
نقول: نعم؛ لأن الله سبحانه يعلم ما سيكون، أما الإنسان فلا يعلم، كما قال الله ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ[النمل: 65], ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34]، فأنت لا تدري قد تكون الحياة خيراً لك، وقد تكون الوفاة خيراً لك.
ولهذا ينبغي للإنسان إذا دعا لشخص بطول العمر أن يقيد هذا فيقول: أطال الله بقاءك على طاعته، حتى يكون في طول بقائه خير.
فإن قال قائل: إنه قد جاء تمني الموت من مريم ابنة عمران حيث قالت: ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً[مريم: 23] ، فكيف وقعت فيما فيه النهي؟
فالجواب عن ذلك أن نقول:
أولاً: يجب أن نعلم أن شرع من قبلنا إذا ورد شرعنا بخلافه فليس بحُجَّة، لأن شرعنا نسخ كل ما سبقه من الأديان.
ثانياً: أن مريم لم تتمنَّ الموت، لكنها تمنت الموت قبل هذه الفتنة ولو بقيت ألف سنة، المهم أن تموت بلا فتنة، ومثله قول يوسف عليه الصلاة والسلام ﴿أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[يوسف: 101]، ليس معناه سؤال الله أن يتوفاه، بل هو يسأل أن يتوفاه الله على الإسلام، وهذا لا بأس به، كأن يقول: اللهم توفني على الإسلام وعلى الإيمان وعلى التوحيد والإخلاص، أو توفني وأنت راضٍ عنِّي وما أشبه ذلك.
فيجب معرفة الفرق بين شخص يتمنى الموت من ضيق نزل به، وبين شخص يتمنى الموت على صفة معيَّنة يرضاها الله عز وجل!.
فالأول: هو الذي نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
والثاني: جائز
وإنما نهى النبي - عليه الصلاة والسلام- عن تمني الموت لضر نزل به؛ لأن من تمنى الموت لضر نزل به ليس عنده صبر، الواجب أن يصبر الإنسان على الضر، وأن يحتسب الأجر من الله عز وجل، فإن الضرر الذي يصيبك من همّ أو غمٍّ أو مَرَضٍ أو أي شيء مكفر لسيئاتك ، فإن احتسبت الأجر كان رفعة لدرجاتك . وهذا الذي ينال الإنسان من الأذى والمرض وغيره لا يدوم ، لابد أن ينتهي ، فإذا انتهى وأنت تكسب حسنات باحتساب الأجر على الله عز وجل ويكفر عنك من سيئاتك بسببه ؛ صار خيرا لك ، كما ثبت عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : (( عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ))(139) ، فالمؤمن على كل حال هو في خير ، في ضرَّاء أو في سرَّاء .

* * *41 ـ وعن عبد الله خبَّاب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بردةً له في ظل الكعبة، فقلنا : ألا تستنصر لنا ، ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليُتِمَّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون))(140) [ رواه البخاري ] .
وفي رواية : (( وهو متوسد بردة ، وقد لقِينا من المشركين شِدَّةً ))

الشرح حديث أبي عبد الله خباب بن الأرت ـ رضي الله عنه ـ يحكي ما وجده المسلمون من الأذية من كفار قريش في مكة ، فجاؤوا يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ((وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة )) صلوات الله وسلامه عليه . فبيَّن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن من كان قبلنا ابتُلي في دينه أعظم مما ابتلي به هؤلاء ، يُحفر له حفرة ثم يلقى فيها ، ثم يؤتى بالمنشار على مفرق رأسه ويشق ، يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ، بأمشاط الحديد يمشَّط ، وهذا تعزير عظيم وأذية عظيمة .
ثم أقسم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن الله سبحانه سيتم هذا الأمر ، يعني سيتم ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام من دعوة الإسلام ، حتى يسيَر الراكب من صنعاء إلى لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون . أي : فاصبروا وانتظروا الفرج من الله ، فإن الله سيتم هذا الأمر . وقد صار الأمر كما أقسم النبي عليه الصلاة والسلام .
ففي هذا الحديث آية من آيات الله ، حيث وقع الأمر مطابقا لما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
وآية من آيات الرسول - عليه الصلاة والسلام - حيث صدَّقه الله بما أخبر به ، وهذه شهادة له من الله بالرسالة ، كما قال الله ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً[النساء:166] .
وفيه أيضا دليل على وجوب الصبر على أذية أعداء المسلمين . وإذا صبر الإنسان ظفر !!
فالواجب على الإنسان أن يقابل ما يحصل من أذية الكفار بالصبر والاحتساب وانتظار الفرج ، ولا يظُنَّ أن الأمر ينتهي بسرعة وينتهي بسهولة، قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بالكفار يؤذونهم وربما يقتلونهم ، كما قتل اليهود الأنبياء الذين هم أعظم من الدعاة وأعظم من المسلمين . فليصبر ولينتظر الفرج ولا يملَّ ولا يضجر ، بل يبقى راسيًا كالصخرة ، والعاقبة للمتقين ، والله تعالى مع الصابرين .
فإذا صبر وثابر وسلك الطرق التي توصل إلى المقصود ولكن بدون فوضى وبدون استنفار وبدون إثارة ، ولكن بطريق منظمة ، لأن أعداء المسلمين من المنافقين والكفار يمشون على خطى ثابتة منظمة ويحصلون مقصودهم .
أما السَّطحيون الذين تأخذهم العواطف حتى يثوروا ويستنفروا ، فإنه قد يفوتهم شيء كثير ، وربما حصل منهم زَلَّة تفسدُ كل ما بنوا ، إن كانوا قد بنوا شيئا .
لكن المؤمن يصبر ويتَّئد ، ويعمل بتؤدة ويوطِّن نفسه ، ويخطط تخطيطا منظما يقضي به على أعداء الله من المنافقين والكفار ، ويفوِّت عليهم الفرص ؛ لأنهم يتربصون الدوائر بأهل الخير ، يريدون أن يثيروهم ، حتى إن حصل من بعضهم ما يحصل حينئذ استعلوا عليهم وقالوا : هذا الذي نريد ، وحصل بذلك شر كبير .
فالرسول - عليه الصلاة والسلام - قال لأصحابه اصبروا ، فمن كان قبلكم - وأنتم أحق بالصبر منه - كان يُعمَلُ به هذا العمل ويصبر ، فأنتم يا أمة محمد أمة الصبر والإحسان ، اصبروا حتى يأتي الله بأمره ، والعاقبة للمتقين .
فأنت أيها الإنسان لا تسكت عن الشر ، ولكن أعمل بنظام وبتخطيط وبحسن تصرف وانتظر الفرج من الله ، ولا تمل ، فالدرب طويل ، لاسيما إذا كنت في أول الفتنة ، فإن القائمين بها سوف يحاولون - ما استطاعوا - أن يصلوا إلى قمة ما يريدون ، فاقطع عليهم السبيل ، وكنْ أطول منهم نفسا وأشد منهم مكرا ، فإن هؤلاء الأعداء يمكرون ، ويمكر الله ، والله خير الماكرين ، والله الموفق .
42 - وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : لما كان يوم حُنين ، آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا في القسمة ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عُيينة بن حصن مثل ذلك ، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يؤمئذ في القسمة . فقال رجل : والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أُريدَ فيها وجه الله، فقلت : والله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصِّرْف ثم قال : (( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال : يرحم الله موسى ،قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)) فقلت: لا جَرَمَ لا أرفع إليه بعدها حديثاً(141) [متفق عليه] .
وقوله : ((كالصِّرْف)) هو بكسر الصاد المهملة: وهو صبغ أحمر.

الشرحهذا الحديث الذي نقله المؤلف- رحمه الله- عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه ((لما كان غزوة حنين)) وهي غزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة، غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وغنمَ منهم غنائم كثيرة جداً من إبل، وغنم، ودراهم ودنانير، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بالجِعرَّانة، وهي محل عند منتهى الحرم من جهة الطائف، نزل بها وصار صلى الله عليه وسلم يقسمُ الغنائم، وقسم في المؤلفة قلوبهم-أي: في كبار القبائل- يؤلفهم على الإسلام ، وأعطاهم عطاء كثيراً، حتى كان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل.
فقال رجل من القوم : ((والله إن هذه قسمة ما عُدِلَ فيها وما أُريد فيها وجه الله)) نعوذ بالله- يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن حب الدنيا والشيطان يوقع الإنسان في الهَلَكة. نسأل الله العافية. هذه الكلمة كلمة كفر، أن ينسب الله ورسوله إلى عدم العدل، وإلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرد بها وجه الله، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذه القسمة وجه الله ، أراد أن يؤلِّف كبار القبائل والعشائر من أجل أن يتقوَّى الإسلام ، لأن أسياد القوم إذا ألفوا الإسلام وقوي إيمانهم بذلك حصل منهم خير كثير ، وتبعهم على ذلك قبائل وعشائر ، واعتز الإسلام بهذا . ولكن الجهل - والعياذ بالله - يوقع صاحبه في الهلكة .
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تُقالُ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ورفعها إليه . أخبره بأن هذا الرجل يقول كذا وكذا ، فتغيَّر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان كالصِّرْف - أي كالذهب - من صُفرته وتغيُّره ، ثم قال : (( فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله )) وصدق النبي عليه الصلاة والسلام ! إذا كانت قسمة الله ليست عدلا ، وقسمة رسوله ليست عدلا ، فمن يعدل إذاً ! ثم قال (( يرحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )) .
والشاهد من الحديث هذه الكلمة ، وهي أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يؤذَون ويصبرون ، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قيل له هذا الكلام بعد ثماني سنين من هجرته . يعني ليس في أول الدعوة ، بل بعدما مكّن الله له ، وبعدما عُرف صدقه وبعدما أظهر الله آيات الرسول في الآفاق وفي أنفسهم ، ومع ذلك يقال : هذه القسمة لم يعدل فيها ولم ُيرد بها وجه الله .
فإذا كان هذا قول رجل في صحابة النبي - عليه الصلاة والسلام - للنبي صلى الله عليه وسلم فلا تستغرب أن يقول الناس في عالمٍ من العلماء: إن هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب ، لأن الشيطان هو الذي يَؤزُّ هؤلاء على أن يقدحوا في العلماء ، لأنهم إذا قدحوا في العلماء وسقطت أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحد يقودهم بكتاب الله.من يقودهم بكتاب الله إذا لم يثقوا بالعلماء وأقوالهم ؟ تقودهم الشياطين وحزب الشيطان ، ولذلك كانت غيبة العلماء أعظم بكثير من غيبة غير العلماء ، لأن غيبة غير العلماء غيبة شخصية ، إن ضرَّت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة ، لكن غيبة العلماء تضر الإسلام كله ؛ لأن العلماء حملة لواء الإسلام ، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم ؛ سقط لواء الإسلام ، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية .
فإذا كانت لحوم الناس بالغيبة لحوم ميتة ، فإن لحوم العلماء ميتة مسمومة، لما فيها من الضرر العظيم ، فلا تستغرب إذا سمعت أحدا يَسُبُّ العلماء ! وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل فيه ما قيل ، فاصبر ، واحتسب الأجر من الله عز وجل ، واعلم أن العاقبة للتقوى ، فمادام الإنسان في تقوى وعلى نور من الله عز وجل فإن العاقبة له .
وكذلك يوجد بعض الناس يكون له صديق أو قريب يخطئ مرة واحدة فيصفه بالعيب والسب والشتم - والعياذ بالله - في خطيئة واحدة .
على هذا الذي وُصِفَ بالعيب أن يصبر ، وأن يعلم أن الأنبياء قد سبوا وأُوذوا وكذِّبوا ، وقيل إنهم مجانين ، وإنهم شعراء ، وإنهم كهنة ، وإنهم سحرة ﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا[الأنعام:34]، هكذا يقول الله عز وجل .
ففي هذا الحديث : دليل على أن للإمام أن يعطي من يرى في عطيَّته المصلحة ولو أكثر من غيره ، إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام ، ليست مصلحة شخصية يحابي من يحب ويمنع من لا يحب ، ولكن إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام وزاد في العطاء ، فإن ذلك إليه وهو مسؤول أمام الله ، ولا يحل لأحد أن يعترض عليه ، فإن اعترض عليه فقد ظلم نفسه .
وفيه : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - يعتبر بمن مضى من الرسل ، ولهذا قال : لقد أُوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ، لأن الله تعالى يقول﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب﴾[يوسف:111] ،ويقول:﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه[ الأنعام : 90] ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي الأنبياء قبله .
وهكذا ينبغي لنا نحن أن نقتدي بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الصبر على الأذى ، وأن نحتسب الأجر على الله ، وأن نعلم أن هذا زيادة في درجاتنا مع الاحتساب ، وتكفير لسيئاتنا . والله الموفق .

كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
43 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة )).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن أعظم الجزاء مع عظم البلاء ،وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي الله فَلهُ الرضى، ومن سخط فله السُّخط )) (142)رواه الترمذي وقال: حديث حسن .

الشرح
الأمور كلها بيد الله عز وجل وبإرادته، لأن الله تعالى يقول عن نفسه ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[البروج:16] ، ويقول: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج:18] ، فكل الأمور بيد الله .
والإنسان لا يخلو من خطأ ومعصية وتقصير في الواجب ؛ فإذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا : إما بماله ، أو بأهله ، أو بنفسه ، أو بأحد ممن يتصل به ؛ لأن العقوبة تُكَفِّرُ السيئات ، فإذا تعجَّلت العقوبة وكفَّر الله بها عن العبد ، فإنه يوافي الله وليس عليه ذنب ، قد طهَّرَته المصائب والبلايا ، حتى إنه ليشدَّدُ على الإنسان موته لبقاء سيئة أو سيئتين عليه ، حتى يخرج من الدنيا نقيا من الذنوب ، وهذه نعمة ؛ لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة .
لكن إذا أراد الله بعبده الشر أمهل له واستدرجه وأدرَّ عليه النعم ودفع عنه النقم حتى يبطر - والعياذ بالله - ويفرح فرحا مذموما بما أنعم الله به عليه ، وحينئذ يلاقي ربه وهو مغمور بسيئاته فيعاقب بها في الآخرة ، نسأل الله العافية . فإذا رأيت شخصا يبارز الله بالعصيان وقد وقاه الله البلاء وأدرَّ عليه النعم ، فاعلم أن الله إنما أراد به شرًّا ؛ لأن الله أخَّرَ عنه العقوبة حتى يوافى بها يوم القيامة .
ثم ذكر في هذا الحديث: ((إن عظم الجزاء من عظم البلاء)) يعنى أنه كلما عظُم البلاء عظم الجزاء . فالبلاء السهل له أجر يسير ، والبلاء الشديد له أجر كبير ، لأن الله عز وجل ذو فضل على الناس ، إذا ابتلاهم بالشدائد أعطاهم عليها من الأجر الكبير ، وإذا هانت المصائب هان الأجر .
((وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط)) .
وهذه - أيضا - بُشرى للمؤمن ، إذا ابتُلي بالمصيبة فلا يظن أن الله سبحانه يُبغضه ، بل قد يكون هذا من علامة محبة الله للعبد ، يبتليه سبحانه بالمصائب ، فإذا رضيَ الإنسان وصبر واحتسب فله الرضى ، وإن سخط فله السخط .
وفي هذا حث على أن الإنسان يصبر على المصائب حتى يُكتب له الرضى من الله عز وجل . والله الموفق .

* * *
44- وعن أنس - رضي الله عنه - قال : كان ابنُ لأبي طلحة - رضي الله عنه - يشتكي ، فخرج أبو طلحة ، فقُبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ قالت أم سُليم - وهي أم الصبي - : هو أسكن ما كان . فقرَّبت إليه العشاء فتعشى ، ثم أصاب منها ، فلما فرغ قالت: وا رُوا الصبي، فلما أصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال (( أعرَّستم الليلة ؟ )) قال : نعم ، قال : (اللهم بارك لهما ؛ فولدت غلاما ، فقال: لي أبو طلحة: احمله حتى تأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معه بتمرات، (( أَمَعَه شيء ؟ )) قال : نعم ، تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فمضغها ، ثم أخذها من فيه فجعلها في فِي الصبي ، ثم حنَّكه وسماه عبد الله(143) . [ متفق عليه ] .
وفي رواية للبخاري(144) : قال ابن عُيينه : فقال رجل من الأنصار ، فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرأوا القرآن ، يعني من أولاد عبد الله المولود .
وفي رواية لمسلم(145) : مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سُليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، فجاء ، فقرَّبت إليه عشاء فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك ، فوقع بها ، فلما أن رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت : يا أباطلحة ، أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ، ألهم أن يمنعهم ؟ قال : لا ، فقالت : فاحتسب ابنك . قال: فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني ؟ ! فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان ، فقال رسول الله : (( بارك الله في ليلتكما )) قال : فحملت ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقا ، فدنوا من المدينة ، فضربها المخاض ، فاحتبس عليها أبو طلحة ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : يقول أبو طلحة : إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج ، وأدخل معه إذا دخل ، وقد احتبست بما ترى . تقول أم سليم ؟ يا أبا طلحة ، ما أجد الذي كنت أجد ، انطلق ، فانطلقا ، وضربها المخاض حين قدما فولدت غلاما ، فقالت لي أمي : يا أنس ، لا يُرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبح احتملته ، فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر تمام الحديث .

الشرح حديث أنس بن مالك عن أبي طلحة أنه كان له ابنٌ يشتكي ، يعني مريضا ، وأبو طلحة كان زوج أم أنس بن مالك رضي الله عنهم . وكان هذا الصبي يشتكي ، فخرج أبو طلحة لبعض حاجاته ، فقُبِضَ الصبي . يعني مات ، فلما رجع سأل أمه عنه فقال : كيف ابني ؟ قالت : ((هو أسكن ما يكون)) وصدقت في قولها ، هو أسكن ما يكون ؛ لأنه مات ، ولا سكون أعظم من الموت . وأبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ فهِمَ أنه أسكن ما يكون من المرض ، وأنه في عافية ، فقدمت له العشاء فتعشى على أن ابنه برئٌ وطيب . ثم أصاب منها ، يعني جَامَعَها ، فلما انتهى قالت له : ((وارُوا الصبي)) أي : ادفنوا الصبي ؛ فإنه قد مات ، فلما أصبح أبو طلحة رضي الله عنه ووارى الصبي وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وسأل : ((هل أعرستم الليلة)) قال: نعم . فدعا لها بالبركة «اللهم بارك لهما في ليلتهما» فولدت غلاما سماه عبد الله ، وكان لهذا الولد تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي هذا الحديث : دليل على قوة صبر أم سليم - رضي الله عنها - وأن ابنها الذي مات بلغ بها الحال إلى أن تقول لزوجها هذا القول وتورِّيَ هذه التورية ، وقدمت له العشاء ، ونال منها ، ثم قالت : ادفنوا الولد .
وفي هذا دليل على جواز التورية ، يعني أن يتكلم الإنسان بكلام تخالف نيَّته ما في ظاهرة هذا الكلام . فله ظاهر هو المتبادر إلى ذهن المخاطب، وله معنى آخر مرجوح ، لكن هو المراد في نية المتكلم ، فيظهر خلاف ما يريد .
وهذا جائز ، ولكنه لا ينبغي إلا للحاجة ، إذا احتاج الإنسان إليه لمصلحة أو دفع مضرة فليُوَرِّ، وأما مع عدم الحاجة فلا ينبغي أن يوري ؛ لأنه إذا ورى وظهر الأمر على خلاف ما يظنه المخاطب نسب هذا الموري إلى الكذب وأساء الظن به ، لكن إذا دعت الحاجة فلا بأس .
ومن التورية المفيدة التي يحتاج إليها الإنسان: لو أن شخصا ظالما يأخذ أموال الناس بغير حق ، وأودع إنسان عندك مالاً قال : هذا مالي عندك وديعة ، أخشى أن يطلع عليه هذا الظالم فيأخذه ، فجاء الظالم إليك وسألك : هل عندك مال لفلان ؟ فقلت والله ماله عندي شيء .
المخاطَب يظن أن هذا نفي ، وأن المعنى : ما عندي له شيء . لكن أنت تنوي بـ (ما ) الذي ، أي : الذي عندي له شيء ، فيكون هذا الكلام مثبتا لا منفيا . هذا من التورية المباحة ، بل قد تكون مطلوبة إذا دعت الحاجة إليها ، وإلا ففيما عدا ذلك فلا .
وفي هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء أنس بن مالك بأخيه من أمه ابن أبي طلحة جاء به إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - ومعه تمرات ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ومضغ التمرات، ثم جعلها في فِي الصبي ، يعني أدخلها فمه وحنَّكه ، أي : أدخل أصبعه وداره في حنكه ؛ وذلك تبرُّكا بريق النبي عليه الصلاة والسلام ، ليكون أول ما يصل إلى بطن الصبي ريق الرسول عليه الصلاة والسلام . وكان الصحابة يفعلون هذا إذا وُلد لهم أولاد - بنون أو بنات - جاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا بالتمرات معهم من أجل أن يحنكه .
وهذا التحنيك هل هو لبركة ريق النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو من أجل أن يصل طعم التمر إلى معدة الصبي قبل كل شئ ؟
إن قلنا بالأول صار التحنيك من خصائص الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلا يحنك أحد صبيا ؛ لأنه لا أحد يُتَبرَّك بريقه وعَرَقِه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وإن قلنا بالثاني : إنه من أجل التمرات ليكون هو أول ما يصل إلى معدة الصبي ؛ لأنه يكون لها بمنزلة الدباغ ، فإننا نقول : كل مولد يحنك .
وفي هذا الحديث : آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم حيث دعا لهذا الصبي فبارك الله فيه وفي عقبه ، وكان له كما ذكرنا تسعة من الولد ، كلهم يقرأون القرآن ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام .
وفيه: أنه يستحب التسمية بعبد الله ، فإن التسمية بهذا وبعبد الرحمن أفضل ما يكون ، قال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ))(146) .
وأما ما يُروى أن (( خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّد ))(147) فلا أصل له ، وليس حديثا عن رسول الله صلى الله عليه سلم ، الحديث الصحيح : ((أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمَّام ))(148) . وحارث وهمام أصدق الأسماء لأنها مطابقة للواقع ، فكل واحد من بني آدم فهو حارث يعمل ، وكل واحد من بني آدم فهو همام يهم وينوي ويقصد وله إرادة .
قال الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ[الانشقاق:6] ، وكل إنسان يعمل ، فأصدق الأسماء حارث وهمام ؛ لأنه مطابق للواقع ، وأحبها إلى الله عبد الله ، وعبد الرحمن .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار لأبنائه وبناته أحسن الأسماء ؛ لينال بذلك الأجر ، وليكون محسنا إلى أبنائه وبناته .
أما أن تأتي بأسماء غريبة على المجتمع، فإن هذا قد يوجب مضايقات نفسية للأبناء والبنات في المستقبل، ويكون كل همٍّ ينال الولد أو الابن أو البنت من هذا الاسم فعليك إثمه ووباله ؛ لأنك أنت المتسبب لمضايقته بهذا الاسم الغريب الذي يُشار إليه، ويقال : انظر إلى هذا الاسم ، انظر إلى هذا الاسم ‍‍‍‍‍‍!! .
ولهذا ينبغي للإنسان أن يختار أحسن الأسماء .
ويحرم أن يسمي الإنسان بأسماء من خصائص أسماء الكفار ، مثل جورج وما أشبه ذلك من الأسماء التي يتلقب بها الكفار؛ لأن هذا من باب التشبه بهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((من تشبَّهَ بقوم فهو منهم))(149).
ويجب علينا - نحن المسلمين - أن نكره الكفار كرهًا عظيما ، وأن نعاديهم ، وأن نعلم أنهم أعداء لنا مهما تزيَّنوا لنا وتقربوا لنا ، فهم أعداؤنا حقا ، وأعداء الله عز وجل ، وأعداء الملائكة ، وأعداء الأنبياء ، وأعداء الصالحين ، فهم أعداء ولو تلبسوا بالصداقة أو زعموا أنهم أصدقاء ، فإنهم والله هم الأعداء ، فيجب أن نعاديهم، ولا فرق بين الكفار الذين لهم شأن وقيمة في العالم أو الكفار الذين ليس لهم شأن ، حتى الخدم والخادمات ، يجب أن نكره أن يكون في بلدنا خادم أو خادمة من غير المسلمين ، لا سيما وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول (( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب )) ويقول : (( لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما ))(150)، ويقول في مرض موته ، في آخر حياته وهو يودِّعَ الأمة : (( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ))(151).
وبعض الناس الآن - نسأل الله العافية - يخير بين عامل مسلم وعامل كافر فيختار الكافر ! قلوب زائغة ضالة ، ليست إلى الحق مائلة ، يختارون الكفار !! يزين لهم الشيطان أعمالهم ، ويقولون كذبا وزورا وبهتانا : إن الكافر أخلصُ في عمله من المسلم ! أعوذ بالله ! .
يقولون : إن الكافر لا يصلى ، بل يستغل وقت الصلاة في العمل ، ولا يطلب الذهاب إلى العمرة أو الحج ، ولا يصوم ، هو دائما في عمل .
ولا يهمُّهم هذا الشيء مع أن خالق الأرض والسموات يقول:﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221] ، فيجب عليكم أيها الإخوة أن تناصحوا إخوانكم الذين اغترُّوا وزين لهم الشيطان جَلْبَ الكفار إلى بلادنا خدَما وعمالا وما أشبه ذلك ، يجب أن يعلموا أن في ذلك إعانة للكفار على المسلمين؛ لأن هؤلاء الكفار يؤدون ضرائب لحكوماتهم لتقويتها على المسلمين.
والشواهد على هذا كثيرة ، فالواجب علينا أن نتجنَّب الكفار، بقدر ما نستطيع ، فلا نتسمى بأسمائهم ، ولا نوادُّهم ، ولا نحترمهم ، ولا نبدأهم بالسلام ، ولا نفسح لهم الطريق ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لاتبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطرُّوهم إلى أضيقه ))(152) .
أين نحن من هذه التعليمات ! ؟ أين نحن من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ؟ لماذا لا نحذر إذا كَثُرَ فينا الخبث من الهلاك ؟ استيقظ النبي - عليه الصلاة والسلام - ذات ليلة محمرًّا وجهه فقال (( لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب )) إنذار وتحذير ، ويل للعرب حملة لواء الإسلام من شر قد اقترب (( فُتح اليوم من ردمِ يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلَّق بأُصبعه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب : يا رسول الله ، أنَهْلكُ وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كَثُرَ الخبث ))(153).
الخبث العملي والخبث البشري ، فإذا كثر الخبث في أعمالنا فنحن عرضة للهلاك ، وإذا كثر البشر النجس في بلادنا فنحن عرضة للهلاك ، والواقع شاهد بهذا ، نسأل الله أن يحمي بلادنا من أعدائنا الظاهرين والباطنين ، وأن يكبت المنافقين والكفار ، ويجعل كيدهم في نحورهم ، إنه جواد كريم .
قول أم سليم - رضي الله عنها - (( أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت ثم طلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم ؟ قال: لا ، فقالت فاحتسب ابنك )) يعني أن الأولاد عندنا عارية ، وهم ملك لله - عز وجل - متى شاء أخذهم ، فضربت له هذا المثل من أجل أن يقتنع ويحتسب الأجر على الله سبحانه وتعالى.
وهذا يدل على ذكائها - رضي الله عنها - وعلى أنها امرأة عاقلة صابرة محتسبة ، وإلا فإن الأم كالأب ينالها من الحزن على ولدها مثل ما ينال الأب ، وربما تكون أشدَّ حزنا ؛ لضعفها وعدم صبرها .
وفي هذا الحديث بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان له تسعة من الولد كلهم يقرأون القرآن ، ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه - أيضا - كرامة لأبي طلحة رضي الله عنه ؛ لأن أبا طلحة كان قد خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكانت معه أم سليم بعد أن حملت ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من السفر أتاها المخاض ، أي : جاءها الطَّلْقُ قبل أن يصلوا إلى المدينة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحِبُ أن يطرقَ أهله طروقًا)) أي: لا يحب أن يدخل عليهم ليلا دون أن يخبرهم بالقدوم . فدعا أبو طلحة - رضي الله عنه - ربه وقال : اللهم إنك تعلم أنني أحب أن لا يخرج النبي صلى الله عليه وسلم مخرجا إلا وأنا معه ولا يرجع مرجعا إلا وأنا معه ، وقد أصابني ما ترى - يناجي ربه سبحانه وتعالى - تقول أم سليم : (( فما وجدتُ الذي كنت أجده من قبل )) يعني هان عليها الطلق ، ولا كأنها تطلق .
قالت أم سليم لزوجها أبي طلحة : انطلق ، فانطلق ، ودخل المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما وصلوا إلى المدينة وضعت . ففي هذا كرامة لأبي طلحة - رضي الله عنه - حيث خفف الله الطلق على امرأته بدعائه ، ثم لما وضعت قالت أم سليم لابنها أنس بن مالك - وهو أخو هذا الحمل الذي ولد ، أخوه من أمه - قالت : احتمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي:اذهب به ،كما هي عادة أهل المدينة إذا وُلد لهم ولد، يأتون به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم تمر ، فيأخذ النبي صلى الله عليه وسلم التمرة فيمضغها بفمه ثم يحنِّك بها الصبي ، لأن في ذلك فائدتين :
الفائدة الأولى : بركة ريق النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتبرَّكون بريق النبي صلى الله عليه وسلم وبعَرَقه ، حتى كان من عادتهم أنه إذا كان في الصباح وصلى الفجر أتوا بآنية فيها ماء فغمس النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الماء ، وعرك يديه في الماء ، فيأتي الصبيان بهذا الماء ثم ينطلقون به إلى أهليهم يتبركون بأثر النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - إذا توضأ النبي عليه الصلاة والسلام كادوا يقتتلون على وضوئه، أي : فضلِ الماء، يتبركون به ، وكذلك من عَرَقه وشَعْره .
حتى كان عند أم سلمة - إحدى زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام وإحدى أمهات المؤمنين - عندها جُلْجُلٌ من فضة، أي مثل ( الطابوق ) فيه شعرات من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم يستشفون بها ، أي يأتون بشعرتين أو ثلاثة فيضعونه في الماء ثم يحركونها من أجل أن يتبركوا بهذا الماء(154) ، لكن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام .
الفائدة الثانية من التمر الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحنكه الصبيان : أن التمر فيه خير وبركة ، وفيه فائدة للمعدة ، فإذا كان أول ما يصل إلى معدته من التمر كان ذلك خيرا للمعدة .
فحنَّكه الرسول - عليه الصلاة والسلام - ودعا له بالبركة .
والشاهد من هذا الحديث: أن أم سليم قالت لأبي طلحة: احتسب ابنك ، يعنى: اصبر على ما أصابك من فقده ، واحتسب الأجر على الله . والله الموفق .

* * * 45 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس الشديد بالصُرَعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))(155) [ متفق عليه ].
(( والصرعة )) بضم الصاد وفتح الراء ، وأصله عند العرب : من يصرع الناس كثيرا .
46 - وعن سليمان بن صُرَد - رضي الله عنه - قال : كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجلان يَسْتَبَّان ، وأحدهما قد احمر وجهه ، وانتفخت أوداجه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ذهب منه ما يجد )) فقالوا له : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( تعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم ))(156) [متفق عليه] .

الشرح هذان الحديثان اللذان ذكرهما المؤلف في الغضب ، والغضب جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم ، فيستشيط غضبا ، ويحتمي جسده ، وتنتفح أوداجه ، ويحمرُّ وجهه ، ويتكلم بكلام لا يعقله أحيانا ، ويتصرف تصرفا لا يعقله أيضا .
ولهذا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني قال : (( لا تغضب )) قال فردَّد مرارا ،قال «لا تغضب» (157) .
وبيَّن النبي - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبي هريرة هذا الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - أن الشديد ليس بالصُّرَعة فقال : ((ليس الشديد بالصرعة)) أي: ليس القوي في الصرعة الذي يكثر صرع الناس فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة ، هذا يقال عنه عند الناس إنه شديد وقوي ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ليس هذا الشديد حقيقة ، ((إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) أي : القوي حقيقة هو الذي يصرع نفسه إذا صارعته وغضب ملكها وتحكم فيها ، لأن هذه هي القوة الحقيقة ، قوة داخلية معنوية يتغلب بها الإنسان على الشيطان ، لأن الشيطان هو الذي يلقي الجمرة في قلبك من أجل أن تغضب .
ففي هذا الحديث الحث على أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب ، وأن لا يسترسل فيه ، لأنه يندم بعده ، كثيرا ما يغضب الإنسان فيطلِّق امرأته ، وربما تكون هذه الطلقة آخر تطليقة !
كثيرا ما يغضب الإنسان فيتلفُ ماله ، إما بالحرق أو بالتكسير . كثيرا ما يغضب على ابنه حتى يضربه ، وربما مات بضربه . وكذلك يغضب على زوجته مثلا فيضربها ضربا مبرحا ، وما أشبه ذلك من الأشياء الكثيرة التي تحدث للإنسان عند الغضب ؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان(158) لأن الغضب يمنع القاضي من تصور المسألة ، ثم من تطبيق الحكم الشرعي عليها ، فيهلك ويحكم بين الناس بغير الحق .
وكذلك ذكر المؤلف - رحمه الله - حديث سليمان بن صُرَد - رضي الله عنه - في رجلين استَبَّا عند الرسول صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما حتى انتفخت أوداجه واحمر وجهه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد ، لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) أعوذ بالله أي : أعتصم به .
من الشيطان الرجيم : لأن ما أصابه من الشيطان ، وعلى هذا فنقول : المشروع للإنسان إذا غضب أن يحبس نفسه وأن يصبر ، وأن يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وأن يتوضأ ، فإن الوضوء يطفئ الغضب ، وإن كان قائما فليقعد ، وإن كان قاعدا فليضطجع ، وإن خاف خرج من المكان الذي هو فيه ، حتى لا ينفذ غضبه فيندم بعد ذلك . والله الموفق .

* * *47 - وعن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من كظم غيظا ، وهو قادر على أن يُنْفِذَه ، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيِّره من الحور العين ما شاء ))(159) رواه أبو داود ، والترميذي وقال : حديث حسن .
48 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أوصني ، قال: ((لا تغضب )) فردَّدَ مرارًا ، قال (( لا تغضب )) (160) [رواه البخاري] .
49 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة ))(161) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح] .

الشرح هذه الأحاديث في باب الصبر تدل على فضيلة الصبر .
أما الحديث الأول : حديث معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة))
الغيظ : هو الغضب الشديد ، والإنسان الغاضب هو الذي يتصوَّر نفسه أنه قادر على أن ينفذ ؛ لأن من لا يستطيع لا يغضب ، ولكنه يحزن ، ولهذا يوصف الله بالغضب ولا يوصف بالحزن ؛ لأن الحزن نقص ، والغضب في محله كمال ؛ فإذا اغتاظ الإنسان من شخص وهو قادر على أن يفتك به ، ولكنه ترك ذلك ابتغاء وجه الله ، وصبراً على ما حصل له من أسباب الغيظ ؛ فله هذا الثواب العظيم أنه يُدعى على رؤوس الخلائق يوم القيامة ويخيَّر من أي الحور شاء .
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله ، أوصني . قال : (( لا تغضب )) فردد مررا فقال : (( لا تغضب )) فقد سبق الكلام عليه .
والحديث الثالث فهو أيضا دليل على أن الإنسان إذا صبر واحتسب الأجر عند الله كفَّرَ الله عنه سيئاته ، وإذا أُصيب الإنسان ببلاء في نفسه أو ولده أو ماله ، ثم صبر على ذلك ، فإن الله - سبحانه وتعالى - لا يزال يبتليه بهذا حتى لا يكون عليه خطيئة . ففيه دليل على أن المصائب في النفس والولد والمال تكون كفارة للإنسان ، حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ، ولكن هذا إذا صبر .
أما إذا تسخَّط فإن من تسخط فله السخط .
والله الموفق .

كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

50 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهم- قال : قدم عُيينَة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يُدْنيهم عمر رضي الله عنه ، وكان القراء أصحاب مجلس عمر - رضي الله عنه - ومشاوَرتِهِ، كهولا كانوا أو شبانا ، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير فاستأذنْ لي عليه ، فاستأذنَ ، فأذن له عمر . فلما دخل قال : هيه يا ابن الخطاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل ، فغضب عمر - رضي الله عنه - حتى هم أن يوقعَ به ، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199] ، وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها ، وكان وقَّافًا عند كتاب الله تعالى ))(162)[رواه البخاري] .

الشرح
ما زال المؤلف - رحمه الله - يأتي بالأحاديث الدالة على الصبر وكظم الغيظ ، فذكر هذا الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمير المؤمنين ، وثالث رجل في هذه الأمة الإسلامية ، بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وبعد الخليفة الأول ، فعمر هو الخليفة الثاني .
وكان قد اشتُهِرَ بالعدل بين الرعية ، وبالتواضع للحق، حتى أن المرأة ربما تذكِّرهُ بالآية في كتاب الله فيقف عندها ولا يتجاوزها ، فقد قدم عليه عيينة بن حصن - وكان من كبار قومه - فقال له : هيه يا ابن الخطاب . هذه كلمة استنكار وتلوُّم. وقال له : إنك لا تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل .
انظر إلى هذا الرجل يتكلم على هذا الخليفة المشهور بالعدل بهذا الكلام ، مع أن عمر كما قال ابن عباس رضي الله عنه ((كان جلساؤه القراء )) القُرَّاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جلساؤه ، سواء كانوا شيوخا أو كهولا أو شبابا ، يشاورهم ويدنيهم ، وهكذا ينبغي لكل أمير أو خليفة أن يكون جلساؤه الصالحين ؛ لأنه إن قُيِّضَ له جلساء غير صالحين ؛ هلك وأهلك الأمة ، وإن يسَّر الله له جلساء صالحين نفع الله به الأمة . فالواجب على ولي الأمر أن يختار من الجلساء أهل العلم والإيمان . وكان الصحابة - رضي الله عنهم - القُرَّاء منهم هم أهل العلم ، لأنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل .
لما قال الرجل هذا الكلام لعمر: إنك لا تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل ، غَضِبَ - رضي الله عنه - غضبا حتى كاد أن يهمَّ به ، أي : يضر به أو يبطش به .
ولكن ابن أخي عيينة الحر بن قيس قال له : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين .
فوقف عندها عمر ولم يتجاوزها ؛ لأنه كان وقَّافًا عند كتاب الله - رضي الله عنه وأرضاه - فوقف، وما ضرب الرجل وما بطش به ؛ لأجل الآية التي تليت عليه .
وانظر إلى أدب الصحابة - رضي الله عنهم عند كتاب الله ؛ لا يتجاوزونه ، إذا قيل لهم هذا قول الله وقفوا ، مهما كان .
فقوله تعالى ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ أي : خذ ما عفا من الناس وما تيسَّر، ولا تطلب حقك كله ؛ لأنه لا يحصل لك ، فخذ منهم ما عفا وسهل .
وقوله : ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ أي: اأمر بما عرفه الشرع وعرفه الناس، ولا تأمر بمنكر ، ولا بغير العرف
لأن الأمور ثلاثة أقسام :

1 - منكر يجب النهي عنه .
2 - وعرف يؤمر به .
3 - وما ليس بهذا ولا بهذا فإنه يسكت عنه .
ولكن على سبيل النصيحة ينبغي للإنسان ألا يقول إلا قولا فيه خير ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت ))(163) .
وأما لقوله : ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ فالمعنى : أن من جهل عليك وتطاول عليك فأعرض عنه لاسيما إذا كان إعراضك ليس ذُلا وخُنوعًا .
مثل عمر بن الخطاب إعراضه ليس ذُلاًّ ولا خنوعا ، فهو قادر على أن يبطش بالرجل الذي تكلم ، لكن امتثل هذا الأمر وأعرض عن الجاهلين .
والجهل له معنيان :
أحدهما: عدم العلم بالشيء .
والثاني : السفه والتطاول ، ومنه قول الشاعر الجاهلي :
ألا لا يجهَلَـنْ أحـدٌ علينــا فَنَجْهَـَل فوق جَهْـِل الجـاهِلينـا
أي لا يسفَهْ علينا أحد ويتطاول علينا فنكون أشدَّ منه ، لكن هذا شعر جاهلي !! أما الأدب الإسلامي فإن الله تعالى يقول : ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[فصلت:34] ، سبحان الله !!
إنسان بينك وبينه عداوة أساء إليك ، ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا دفعت بالتي هي أحسن ففورًا يأتيك الثواب والجزاء :﴿أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ[فصلت:34] ، وقوله ﴿وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي قريب صديق في غاية ما يكون من الصداقة والقرب ، والذي يقول هو الله عز وجل مُقَلِّبُ القلوب ، ما من قلب من قلوب بني آدم إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يُصَرِّفه كيف يشاء .

فهذا الذي كان عدوًّا لك ودافعته بالتي هي أحسن ، فإنه ينقلب بدل العداوة صداقة (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) .
فالحاصل أن هذه الآية الكريمة ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف:199] ، لما تليت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه - وقف ولم يبطش بالرجل ، ولم يأخذه على جهله .
فينبغي لنا إذا حصلت مثل هذه الأمور ، كالغضب والغيظ ، أن نتذكر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن نسير على هديهما ، حتى لا نضلَّ ، فإن من تمسك بهدي الله فإن الله يقول: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى[طـه:123] ، والله الموفق.

* * *
51 - وعن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها !‍ قالوا: يا رسول الله،فما تأمرنا!قال: تؤدُّون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم ))(164) [ متفق عليه] .
(( والأثرة )) الانفراد بالشيء عمن له فيه حقٌ .
52 - وعن أبي يحيى أُسيد بن حضير - رضي الله عنه - أن رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ، ألا تستعملني كما استعملت فلانا ؟ فقال (( إنكم ستلقون بعدي أثرةً ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ))(165) [متفق عليه] .
(( وأُسَيْدٌ )) بضم الهمزة . (( وحُضَيْرٌ )) بحاء مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة ، والله أعلم.

الشرحهذان الحديثان : حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وحديث أسيد بن حضير - رضي الله عنه - ذكرهما المؤلف في باب الصبر لأنهما يدلان على ذلك .
أما حديث عبد الله بن مسعود فأخبر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إنها ستكون بعدي أثرة )) والأثرة يعني : الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق .
يريد بذلك صلى الله عليه وسلم أنه سيستولي على المسلمين وُلاةٌ يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقَّهم فيها .
وهذه أثرة وظلم الولاة ، أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق ، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين . ولكن قالوا : ما تأمرنا ؟
قال : ((تُؤدُّون الحق الذي عليكم)) يعني: لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم ، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوهم الأمر الذي أعطاهم الله ((وتسألون الله الذي لكم)) أي: اسألوا الحق الذي لكم من الله ، أي : اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم ، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ علمَ أن النفوس شحيحة ، وأنها لن تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم ، ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرشد إلى أمر قد يكون فيه الخير ، وذلك بأن نؤدِّي ما علينا نحوهم من السمع والطاعة وعدم منازعة الأمر وغير ذلك ، ونسأل الله الذي لنا ، وذلك إذا قلنا : اللهم اهدهم حتى يعطونا حقنا ، كان في هذا خير من جهتين .
وفيه دليل على نبوَّة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر بأمر وقع ، فإن الخلفاء والأمراء منذ عهد بعيد كانوا يستأثرون المال، فنجدهم يأكلون إسرافا ، ويشربون إسرافا ، ويلبسون إسرافا ، ويسكنون ويركبون إسرافا ، وقد استأثروا بمال الناس لمصالح أنفسهم الخاصة ، ولكن هذا لا يعني أن ننزع يدا من طاعة ، أو أن نُنابِذَهم ، بل نسأل الله الذي لنا ، ونقوم بالحق الذي علينا .
وفيه ـ أيضا ـ استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الإثارة ، فإنه لا شك أن استئثار الولاة بالمال دون الرَّعيَّة يوجب أن تثور الرعية وتطالب بحقها ، ولكن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر بالصبر على هذا ، وأن نقوم بما يجب علينا ، ونسأل الله الذي لنا .
أما حديث أسيد بن حضير ـ رضي الله عنه ـ فهو كحديث عبد الله بن مسعود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((إنها ستكون أثرة)) ولكنه قال : ((اصبروا حتى تلقوني على الحوض)) .
يعني: اصبروا ولا تنابذوا الولاة أمرهم حتى تلقوني على الحوض ، يعني أنكم إذا صبرتم فإن من جزاء الله لكم على صبركم أن يسقيَكم من حوضه ، حوض النبى صلى الله عليه وسلم ، اللهم اجعلنا جميعا ممن يرده ويشرب منه .
هذا الحوض الذي يكون في يوم القيامة في مكان وزمان أحوج ما يكون الناس إليه ؛ لأنه في ذلك المكان وفي ذلك الزمان ، في يوم الآخرة ، يحصل على الناس من الهم والغم والكرب والعرق والحر ما يجعلهم في أشد الضرورة إلى الماء ، فيَرِدونَ حوض النبي صلى الله عليه وسلم ، حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر ، يصب عليه ميزابان من الكوثر ، وهو في الجنة أُعْطِيَهَ النبي صلى الله عليه وسلم ، يصبَّان عليه ماء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وأطيب من رائحة المسك ، وفيه أوان كنجوم السماء في اللمعان والحسن والكثرة ، من شرب منه شربة واحدة لم يظمأ بعدها أبدًا . اللهم اجعلنا ممن يشرب منه .
فأرشده النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى أن يصبروا ولو وجدوا الأثرة ، فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورود على الحوض والشرب منه .
وفي هذين الحديثين : حث على الصبر على استئثار ولاة الأمور في حقوق الرعية ، ولكن يجب أن نعلم أن الناس كما يكونون يُوَلَّى عليهم ، إذا أساؤوا فيما بينهم وبين الله فإن الله يُسَلِّط عليهم ولاتهم ، كما قال تعالى :﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الأنعام:129] ، فإذا صلحت الرعية يَسَّرَ الله لهم ولاة صالحين ، وإذا كانوا بالعكس كان الأمر بالعكس .
ـ ويذكر أن رجلا من الخوارج جاء إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ
وقال له : يا علي ، ما بال الناس انتقضوا عليك ولم ينتقضوا على أبي بكر وعمر ؟

فقال له : إن رجال أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أنا وأمثالي ، أما أنا فكان رجالي أنت وأمثالك ، أي: ممن لا خير فيه ؛ فصار سببا في تسلُّط الناس وتفرقهم على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وخروجهم عليه ، حتى قتلوه رضي الله عنه .
ـ ويذكر أن أحد ملوك بني أمية سمع مقالة الناس فيه ، فجمع أشراف الناس ووُجَهاءهم وكلَّمهم ـ
وأظنه عبد الملك بن مروان ـ
وقال لهم: أيها الناس ، أتريدون أن نكون لكم مثل أبي بكر وعمر ؟

قالوا : نعم ! فال إذا كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا مثل رجال أبي بكر وعمر !!
فالله سبحانه وتعالى حكيم ، يولي على الناس من يكون بحسب أعمالهم ، إن أساؤوا فإنه يُساء إليهم ، وإن أحسنوا أحسن إليهم .

ولكن مع ذلك لاشك أن صلاح الراعي هو الأصل ، وأنه إذا صلُحَ الراعي صلحت الرعية ، لأن الراعي له سلطة يستطيع أن يُعَدِّلَ من مال ، وأن يُؤدِّب من عالَ وجَار . والله الموفق.

* * * 53 ـ وعن أبي إبراهيم عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لَقِيَ فيها العدو ، انتظر حتى إذا مالت الشمس ، ثم قام فيهم فقال : (( يا أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)).
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم : (( اللهم مُنزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم ))(166) [ متفق عليه ] .

الشرح قال المؤلف ـ رحمه الله تعالى ـ فيما نقله عن عبد الله بن أبي أو فى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض غزواته ، فانتظر حتى مالت الشمس، أي: زالت الشمس ، وذلك من أجل تُقبِلَ البرودة ويكثر الظل وينشط الناس، فانتظر حتى مالت الشمس قام فيهم خطيبًا .
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب الناس خطبا دائمة ثابتة كخطبة يوم الجمعة ، وخطبا عارضة إذا دعت الحاجة إليها قام فخطب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذه كثيرة جدا ، فقال في جملة ما قال: ((لا تتمنوا لقاء العدو)) .
أي: لا ينبغي للإنسان أن يتمنى لقاء العدو ويقول: اللهم ألقني عدوي ‍!
((واسألوا الله العافية)) قل: اللهم عافنا .
((فإذا لقيتموهم)) وابتليتم بذلك ((فاصبروا)) ، هذا هو الشاهد من الحديث ، أي : اصبروا على مُقاتَلَتِهم واستعينوا بالله عز وجل ، وقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا .
((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) نسأل الله من فضله !
فالجنة تحت ظلال السيوف التي يحملها المجاهد في سبيل الله ؛ لأن المجاهد في سبيل الله إذا قُتل صار من أهل الجنة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران: 169ـ 171].
والشهيد إذا قُتل في سبيل الله فإنه لا يحسُّ بالطعنة أو بالضربة ، كأنها ليست بشيء ، ما يحسُّ إلا أن روحه تخرج من الدنيا إلى نعيم دائم أبدا ، نسألك اللهم من فضلك .
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف )) .
وكان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنس بن النصير ، قال: (( إنِّي لأجد ريح الجنة دون أُحد))(167).
انظر كيف فتح الله مشامَّه حتى شم ريح الجنة حقيقة دون أحد ، ثم قاتل حتى قتل ـ رضي الله عنه ـ فوجِدَ فيه بضع وثمانون ضربة ما بين سيف ، ورمح ، وسهم ، وغير ذلك ؛ فقُتل شهيدًا رضي الله عنه ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) .
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) وهذا دعاء ينبغي للمجاهد أن يدعو به إذا لقي العدو.
فهنا توسَّل النبي- عليه الصلاة والسلام- بالآيات الشرعية والآيات الكونية .
توسل بإنزال الكتاب وهو القرآن الكريم، أو يشمل كل كتاب، ويكون المراد به الجنس، أي: منزل الكتب على محمد وعلى غيره.
((ومجري السحاب)): هذه آية كونية، فالسحاب المسخر بين السماء والأرض لا يجريه إلا الله عز وجل، لو اجتمعت الأمم كلها بجميع آلاتها ومعداتها على أن تجري هذا السحاب أو أن تصرف وجهه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وإنما يُجريه من إذا أراد شيئاً قال له كُنْ فيكون.
((وهازم الأحزاب)): فإن الله عز وجل وحده هو الذي يهزم الأحزاب.
ومن ذلك: أن الله هزم الأحزاب في غزوة الأحزاب ،والتي قد تجمَّع فيها أكثر من عشرة آلاف مقاتل حول المدينة ليقاتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن الله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً[الأحزاب: 25] ، فأرسل عليهم ريحًا وجنوداً زلزلت بهم وكفأت قدروهم وأسقطت خيامهم، وصار لا يستقرُّ لهم قرار، ريحٌ شديدةٌ باردةٌ شرقيةٌ حتى ما بقوا وانصرفوا.
قال الله عز وجل: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ[الأحزاب: 25]، فالله عز وجل هو هازم الأحزاب، ليست قوة الإنسان هي التي تهزم، بل القوة سبب قد تنفع وقد لا تنفع، لكننا مأمورون بفعل السَّبب المباح، لكن الهازم حقيقة هو الله عز وجل.
ففي هذا الحديث عدة فوائد:
منها: أن لا يتمنى الإنسان لقاء العدو، وهذا غير تمنِّي الشهادة! تمني الشهادة جائز وليس منهيًّا عنه، بل قد يكون مأموراً به، أما تمني لقاء العدو، فلا تتمناه ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتمنوا لقاء العدو)).
ومنها: أن يسأل الإنسان الله العافية، لأن العافية والسلامة لا يعدلها شيء، فلا تتمنَّ الحروب ولا المقاتلة، واسألِ الله العافيةَ والنصرَ لدينه، ولكن إذا لقيت العدو، فاصبر .
ومنها: أن الإنسان إذا لقيَ العدو فإن الواجب عليه أن يصبر، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(45)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال:45،46].
ومنها: أنه ينبغي لأمير الجيش أو السَّرِيَّة أن يرفق بهم، وأن لا يبدأ القتال إلا في الوقت المناسب، سواء كان مناسباً من الناحية اليوميَّة أو من الناحية الفصليَّة. فمثلاً في أيام الصيف لا ينبغي أن يتحرَّى القتال فيه؛ لأن فيه مشقَّة. وفي أيام البرد الشديد لا يتحرَّى ذلك أيضاً؛ لأن في ذلك مشقة، لكن إذا أمكن أن يكون بين بين، بأن يكون في الربيع أو في الخريف، فهذا أحسن ما يكون.
ومنها - أيضاً- أنه ينبغي للإنسان أن يدعو بهذا الدعاء: ((اللهم مُنزل الكتاب، ومُجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) .
ومنها: الدعاء على الأعداء بالهزيمة؛ لأنهم أعداؤك وأعداء الله، فإن الكافر ليس عدواً لك وحدك، بل هو عدو لك ولربك ولأنبيائه ولملائكته ولرسله ولكل مؤمن. فالكافر عدو لكل مؤمن. وعدو لكل رسول، وعدو لكل نبي، وعدو لكل ملك، فهو عدو ، فينبغي لك أن تسأل الله دائماً أن يخذل الأعداء من الكفار، وأن يهزمهم، وأن ينصرنا عليهم والله الموفق.

الصفحات 1 2 

التالي

الصبر وثمراته - الشيخ أسامة بن عبد الله خياط

السابق

إنكار المنكر - الشيخ إبراهيم الدويش

كلمات ذات علاقة
للعلامة , الله , الصامدين , الصبر , الصحى , العثيمين , باب , رحله , رياض , كتاب