العبادة وأثرها في الأجساد - الشيخ محمد صالح المنجد

مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
العبادة وأثرها في الأجساد - الشيخ محمد صالح المنجد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


عباد الله: نحن عبيد لله، وعبادته -سبحانه- هي وظيفتنا في هذه الحياة، وهذه العبودية أعمال للقلب والجوارح يقوم بها المسلم لربه، تدور على القلب، كالمحبة والرجاء والخوف والحياء والتوكل، وعلى الجوارح، كذكر اللسان، وأفعال الأعضاء كاليدين والركبتين في الصلاة، وكذلك أفعاله في حجه لربه طوافا وسعياً ورميا ونحرا ووقوفاً... وهكذا من أعمال الجوارح.


هذه العبادات لها أثر على هذه الجوارح، وقد قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ...) [الفتح:29].


السيمة هي العلامة، والمقصود بقوله: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ)، يعني أثر الطاعة، أثر الصلاة، أثر السجود، أثر العبادة؛ قال مجاهد -رحمه الله-: إنها ليست هذه الخدوش في الجبين؛ ولكن نور الطاعة وبهاؤها، والخشوع والوقار والتواضع.


هذه السيمةُ هي السمت الحسن في الدنيا، أما في الآخرة فإن (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) فهي النور الذي يكون في مواضع السجود، وكذلك البياض والنور الذي يكون في مواضع الوضوء، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "غُرَّاً مُحَجَّلِينَ"، هذه آثارُ الطاعةِ والعبادة.


وقال ربنا: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ...) [البقرة:273]، ما معنى (تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ

التخشع وأثر الحاجة، العبادة لها أثر على الأعضاء، حياة القلب له أثر على الوجه، النور الداخلي يظهر في الخارجِ بهاءً وسمتاً حسَناً ونورا وجلالا يكسوه الله للعابد.

كان -عليه الصلاة والسلام- يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، يعني تتشقق، فتقول عائشة: لمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدا شكورا؟".


وهكذا كان الصحابة الكرام، وهكذا كان السلف، كان مسروق يقوم حتى تتورم قدماه، فتجلس امرأته خلفه تبكي رحمة له، وكان شعبة والسلف يقومون وآثار القيام في أقدامهم، وسفيان يقوم طويلا ثم يستلقي ويرفع رجليه على الجدار ليعود الدم من طول قيامه، والأسود بن يزيد، من سادات التابعين، كان يقوم حتى يصفر لونه، فيقولون له: تعذِّب نفسك، فيقول: راحتَها أريد.


قالوا لابن للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فقال: إن شددتم كذبتم وتركتموني، قالوا: لا نفعل، فحمل على الروم فشق صفوفهم حتى جاوزهم إلى الطرف الأخر وما معه أحد، ثم رجع فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربةٌ ضُرِبَها يوم بدر فصارت ثلاثاً، قال عروة بن الزبير، يعني بعد ذلك: اندملت الجراح وبقيت الآثار في الكتِف أُدْخِلُ أصابعي في تلك الضربات ألعب بها وأنا صغير. هذه آثار العبادة في أجساد الصحابة.


أبو عبيدة -رضي الله عنه-، لما دخلت حلقتان من حلق المِغْفَر في وجنته الشريفة -صلى الله عليه وسلم- جاء يعدو لينزعهما، فلم يجد إلا أن يعض بأسنانه على الحلقة الأولى فيجذبها بقوة حتى وقع على ظهره وخرجت الحلقة ومعها سنيته، ثم فعل مثل ذلك في الحلقة الأخرى فسقطت سنيته الثانية، والتي سقطت سنيتاه يقال له في اللغة أهتم، قالوا: فما رأوا أهتم أجمل من أبي عبيدة.


طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه- صدَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرباتٍ وسهاماً كثيرة، حتى لم يجد في أحد السهام إلا أن يمد يده فيقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك السهم، فقطع السهم أصابعه، قال قيس بن حازم -رحمه الله-: فرأيت يد طلحة التي وقى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد شلت.


وأَحد المسلمين في معركة ضرب مشركا وضربه المشرك، فقُتل المشرك، ووقعت ضربة المشرك في كتف المسلم، ثم إن هذا المسلم تزوج ابنة ذلك المشرك بعدها، فكانت في المداعبة تقول له: لا عُدِمْتَ، مَنْ وشَّحَكَ هذا الوشاح؟ فيقول لها: لا عُدِمْتِ، مَن ألحق أباك بالنار؟.


أبو سفيان، فُقِئَت عينه في حُنَيْن، والعين الأخرى يوم اليرموك، وممن فقئت عينه في الجهاد هاشم بن عتيبة بن أبي وقاص، سعدٌ عمُّه، فقئت يوم اليرموك، فأرسله عمر إلى القادسية فأبلى فيها بلاء حسنا عظيما.


ومسروق -رحمه الله- شلت يده يوم القادسية، وأصابته شجة بلغت أم الرأس وجلدة الدماغ؛ والبراء بن مالك، وما أدراك ما البراء؟! جُرح يوم اليمامة في حرب مسيلمة بضعة وثمانين؛ وعمار بن ياسر قطعت أذنه في يوم اليمامة أيضا، قال ابن عمر: وكان يقاتل وأذنه تذبذب.


جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان -رحمه الله، ورضي عنه- وهو يحدث الأحاديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكانت يد زيد قد أصيبت يوم نهاوند -قُطِعَتْ-، فالأعرابي هذا من قلة فهمه تكلم، فقال لزيدٍ، الشيخِ المحدِّث: والله إن حديثك لَيُعْجِبُني، ولكن يدك لَتُريِبُني! كأنه يُلمِّحُ إلى أن يدك قطعت في السرقة، فقال زيد: وما يريبك مِن يدي؟ إنها الشمال، أي: لماذا تشك، فالمقطوعة هي الشمال وليست اليمين، فقال الأعرابي: والله ما أدري اليمينَ يقطعون أم الشمال؟ فقال زيد: صدق الله: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:97].


إذاً، أيها الأحباب، أيها الإخوة والأصحاب، كانت آثار العبادة على أجساد الصحابة ظاهرة، كانت آثار هذه الطاعات واضحة وبينة، آثار الصلاة، الصيام، الحج، الذكر، الجهاد.


اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين.


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمد لله، وسبحان الله، والله اكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، سبحانه! خلَقَ فسوَّى، وقدَّر فهدى، وهو ذو الجلال والإكرام، يفعل ما يشاء، الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون.


وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه على آله وذريته وأصحابه وأزواجه وخلفائه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


عباد الله: لقد كان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن في وجهه أثر البكاء من خشية الله، قال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطَّان أسودان من البكاء، وهكذا كان عمر -رضي الله عنه- يمرض إذا سمع تخويفا بالله ويسقط في بيته، ويُعَادُ وهو مريض، فهذا أثر للخوف من الله والخشية منه.


وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: رأيت عمر -رضي الله عنه- نشج -يعني في بكائه- حتى اختلفت أضلاعه.


وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- أيضا من البكَّائين من خشية الله -عز وجل-، حتى إن تحت عينه كالشراك البالي، كأن الدموع قد خدت الأخاديد في تلك الخدود.


وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كذلك، وأما ابن عباس فإنه ترجمان القرآن، يبكي من تلاوة آيات الكتاب العزيز، حتى ذهب بصره في آخر عمره، وهو الذي قال:
إنْ يأخذِ اللهُ من عينيَّ نورَهُما *** ففي فؤادي وقلبي منهمَا نُورُ
قَلبي ذَكِيٌّ وعَقْلِي غيرُ ذِي عِوَجٍ *** وفِي فمِي صارمٌ كالسيفِ مشهورُ


قال الحسن بن عرفة: رأيت يزيد بن هارون بواسطٍ وهُو أحسن الناس عينين، ثم رأيته بعينٍ واحدة، ثم رأيته وقد ذهبت عيناه، فقلت: يا أبا خالد، ما فعَلت العينان الجميلتان؟ فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار.


عباد الله: هذه غيض من فيض، وإلَّا فالبكَّاؤونَ مِن خَشْيَةِ الله في تاريخ الأمة لا يحصَوْنَ من الرجال والنساء.


وكانت آثار طلب العلم سهَرَاً وسفَراً لائحة بادية على أجساد المحدِّثين، مات البخاري ولم يخلف بخراسان مثل أبي عيسي الترمذي في العلم والحفظ والورع والزهد، بكى حتى عمي وبقي ضريرا سنين، فكان الترمذي -رحمه الله تعالى- ضريرا.


وفي المقابل، كانت آثار العلم والفقه والعبادة في الوجه نضارة، كما قال -عليه الصلاة والسلام- داعيا: "نضَّر الله امرأً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلِّغه"، والنضارة هي النعمة والبهجة والزينة والجمال والنعيم، كما قال الله: (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) [الإنسان:11].


عباد الله: العبادة وأثرها في الأجساد، عبادة القلب وعبادة الجوارح، فماذا قدمت من جسدك لله؟ وبأي شيء تأثر بدنك من طاعته -سبحانه وتعالى-؟.


ليس المطلوب أن يتعمد الإنسان الإضرار بجسده؛ لأن الجسد له حق، ولكن هذه أشياء من طول العمل والممارسة ظهرت، فلم يتعمد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يشقق قدميه من القيام، لكن مع كثرة القيام تشققت قدماه، تورمت الأقدام من طول العبادة سنين في طاعة الله.


والنبي -عليه الصلاة والسلام- نفسه نظر إليه بعض الصحابة في آخر عمره فرآه وقد حطمه الناس، يعني ظهرت على البدن الشريف آثار الإعياء والتعب في آخر عمره -عليه الصلاة والسلام-؛ لكثرة من حطمه من الناس يأتونه في حاجتهم وفي أسئلتهم، يأتونه في مشكلاتهم، يأتون ليذهب معهم في حاجاتهم.


كم غزوة ركبها؟! كم سفرة سافر فيها في حج وعمرة وجهاد؟! كم وكم من الأعمال الشريفة قام بها -عليه الصلاة والسلام-؟! وظهرت آثار ذلك في النهاية على بدنه الشريف، فرآه الصحابة وقد حطمه الناس، ورأي ذلك الجسد الشريف وقد تأثر بكثرة الطاعات والعبادات، وهذا كله نور ونضرة ونعيم وراحة يوم القيامة.


نسأل الله أن يجعلنا ممن افنوا حياتهم وأعمارهم في سبيله، اللهم إنا نسألك أن ترزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، واجعلنا ممن يعبدونك حتى يأتيهم اليقين.


كتبت : أم رائد
-
الله ينور قلبك بالعلم والايمان
ويشرح صدرك بالهدى واليقين
وييسر امرك ويرفع مقامك فى العلين
ويحشرك بجوار النبى الامين
تقبلى مرورى
كتبت : الماسه تحب الوناسه
-
الله يجزاك خير
عزيزتي

التالي

مكائد الشيطان – بدع شهر رجب - الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين

السابق

كيف يتحد المسلمون - الشيخ محمد صالح المنجد

كلمات ذات علاقة
محمد , الأجساد , المنجد , الصحى , العبادة , شامي , وأثرها