معني الآية ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ )
مجتمع رجيم / القرآن الكريم وعلومه
والجواب كما قال الزمخشري:
(لأنه لو قيل كما قلت لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة) أ.هـ.
ومراده أن نوحاً عليه السلام لبث فيهم تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية.
وأنه لو قال القرءان "تسعمائة وخمسين سنة" فربما توهم متوهم أن ذلك من باب التقريب وأنه لم يلبث هذه السنين كلها، وأنه ربما لبث تسعمائة وثلاثين أو بضعاً وثلاثين، أو أربعين أو بضعاً وأربعين .. فقربها القرءان إلى تسعمائة وخمسين عاماً.
لأن التسعمائة والخمسين يحتمل فيها إطلاق العدد على أكثره بخلاف مجيئه مع الاستثناء.
فماذا قال القرءان؟
قال: "أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا"
"إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا" استثناء.. والاستثناء استدراك على الجملة الأصلية، ورجوع عليها
(بالتنقيص تحريراً للعدد فلا يحتمل المبالغة ... كما قال ابن المنير في الانتصاف)
فأنت إذا قلت: جاء الناس كلهم إلا خمسة رجال.
فقولك خمسة رجال هذا العدد لا يحتمل المبالغة بل هم خمسة عدداً .. لا مبالغة فيه لأنه استثناء.
نعود إلى آية سورة الصافات .. وقول الله تعالى:
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (147) سورة الصافات
قال ابن القيم في مدارج السالكين الجزء الأول ......
... قوله تعالى :
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ... } (74) سورة البقرة
وقوله : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (147)
سورة الصافات
قال ابن القيم:
هو كالتنصيص على أن المراد بالأول الحقيقة لا المبالغة فإنها إن لم تزد قسوتها على الحجارة فهي كالحجارة فى القسوة لا دونها.
وأنه إن لم يزد عددهم على مئة ألف لم ينقص عنها فذكر "أو" ههنا كالتنصيص على حفظ المئة الألف وأنها ليست مما أريد بها المبالغة والله أعلم.
انتهى.
ومراد الشيخ يرحمه الله:
أن "أو" هنا بينت أن المذكور صفةً (قساوة مثل الحجارة)
أو عدداً (مئة ألف) في الآيتين لم يكن من قبيل المبالغة، وإنما هو على الحقيقة.
مثاله أن تقول: رأيت رجلاً كالأسد في قوته "أو" يزيد.
فإنك لو قلت: رأيت رجلاً كالأسد، ثم سكتَّ..
لظن السامع أنك تريد بيان شدة قوته، فشبهته بالأسد مبالغة في قوته، وأنه ليس في قوة الأسد على الحقيقة، فلما قلت (أو يزيد) علم السامع أن من رأيت حقاً في قوة الأسد على الحقيقة ليس مبالغة في الوصف، وهو إن لم يكن في قوة الأسد فهو لن ينقص عنها بل يزيد عليها... فأنت حفظت أصل الصفة بـ"أو" وهي قوته التي كقوة الأسد.
فجاءت "أو" تأكيداً للوصف الأول المذكور.
وفي الجزء الثالث من "مدارج السالكين"
قال:
...ما فائدة ذكر "أو" في قوله تعالى:
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (9) سورة النجم
فيقال هي لتقرير المذكور قبلها .. وأن القرب إن لم ينقص عن قدر قوسين لم يزد عليهما وهذا كقوله
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}
والمعنى أنهم إن لم يزيدوا على المائة الألف لم ينقصوا عنها فهو تقرير لنصية عدد المائة الألف فتأمله.
أ.هـ.
وهو كلام قيم جداً من الإمام رحمه الله، وهو نفس المعنى السابق الذي ذكره في الجزء الأول.
ومثله قاله في التبيان في أقسام القرآن
قال:
ثم ذكر استواء هذا المعلم (يعني جبريل) بالأفق الأعلى ودنوه وتدليه وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيحاء الله ما أوحى .. فصور سبحانه لأهل الإيمان صورة الحال من نزول جبريل من عنده إلى أن استوى بالأفق ثم دنى وتدلى وقرب من رسوله فأوحى إليه ما أمره الله بإيحائه حتى كأنهم يشاهدون صورة الحال ويعاينونها هابطا من السماء إلى أن صار بالأفق الأعلى مستويا عليه ثم نزل وقرب من محمد صلى الله عليه وسلم وخاطبه بما أمرع الله به قائلا : ربك يقول لك كذا وكذا وأخبر سبحانه عن مسافة هذا القرب بأن قدر قوسين أو أدنى من ذلك ...
وليس هذا على وجه الشك بل تحقيق لقدر المسافة وأنها لا تزيد عن قوسين ألبتة كما قال تعالى
{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}
تحقيق لهذا العدد، وأنهم لا ينقصون عن مائة ألف رجل واحداً ونظيره قوله
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ... }
أي لا تنقص قسوتها عن قسوة الحجارة بل إن لم تزد على قسوة الحجارة لم تكن دونها وهذا المعنى أحسن وألطف وأدق من قول من جعل "أو" في هذه المواضع بمعنى "بل"
ومن قول من جعلها للشك بالنسبة إلى الرأي وقول من جعلها بمعنى "الواو" فتأمله.
انتهى.
هذا كلام ابن القيم .. وهو كلام قيم.
رأه الشيخ أنه أدق مما قاله الكوفيون، والبصريون ...
وإن كان ما قالوه له أيضاً مكانه ...
فالكوفيون قالوا إن "أو" التي في قوله تعالى
(وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قالوا هي بمعنى (بل) ويكون المعنى وأرسلناه إلى مائة ألف بل يزيدون.
واحتجوا على ذلك بأنه ..
(قد جاء ذلك كثيرا في كتاب الله تعالى وكلام العرب.
قال الله تعالى ( وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون)
فقيل في التفسير إنها بمعنى "بل" أي "بل يزيدون"
وقيل إنها بمعنى الواو أي "ويزيدون".