عرض مشاركة واحدة
كتبت : *بنت الإسلام*
-
حذر السلف من الرياء والمباهاة


ومما يجب على الحاج اجتنابه، وبه يتمُّ برُّ حجِّه أن لا يقصد بحجه رياءً ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخراً ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه الله سبحانه وتعالى ورضوانه، ويتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه.

وقد كان السلف رحمهم الله شديدي الحذر من أن يدخل في عملهم شيء من الرياء أو حظوظ النفس؛ لأنهم يعلمون أن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه صواباً على سنة نبيه .

ولذلك لما قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: ( ما أكثر الحاج! ) قال له ابن عمر: ( ما أقلّهم! )
وقال شريح القاضي: ( الحاجّ قليل، والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقلّ الذين يريدون وجهه ).



خليلي قطاع الفيافي الى الحمى *** كثيرٌ وأما الواصلون قليلُ

وجوه عليها للقبول علامةٌ *** وليس على كل الوجوه قبولُ

قال عمر بن الخطاب يوماً وهو بطريق مكة: ( تشعثون وتغيرون، وتتلون، وتضحون، لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدنيا، ما نعلم سفراً خيراً من هذا )، يعني الحجّ!!


إخواني: سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمناً، يترددون إليه ولا يرون أنهم قَضَوْا منه وطراً.

تعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذُكر لهم ذلك البيت الحرام حنّوا، وكلما تذكروا بُعدهم عنه أنّوا.

رأى بعض الصالحين الحاجّ في وقت خروجهم، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه! ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع من الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟!

يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة وهو قاعد أن يحزن.



ألا قل لزوّار دارِ الحبيب *** هنيئاً لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضاً *** فنحن عطاش وأنتم ورودُ


حال السلف في عرفات
أخي الحبيب: كانت أحوال السلف في عرفات تتنوع، فمنهم من كان يغلب عليه الخوف والحياء، ومنهم من كان يتعلق بأذيال الرجاء، ومنهم من كان يغلب عليه الشوق والقلق، ولكنهم كانوا يتساوون جميعاً في الذكر والدعاء والإقبال على الله ومناجاته والانطراح بين يديه.


وقف مطرّف وبكر ابنا عبدالله بن الشخير رضي الله عنهما في الموقف، فقال مطرّف: ( اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي!! ) وقال بكر: ( ما أشرفه من مقام وأرجاه لأهله، لولا أني فيهم!! ).
وقال الفضيل لشعيب بن حرب بالموسم: ( إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شرّ مني ومنك فبئس ما ظننت! ).
وكان أبو عبيدة الخواص يقول في الموقف: ( واشوقاه إلى من يراني ولا أراه )، وكان بعدما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا رب، قد كَبرتُ فأعتقني، وكان ينشد وهو واقف بعرفة:
سبحان من لو سجدنا بالعيون له *** على شبا الشوك والمحمى من الإبر

لم نبلغ العشر من معشار نعمته *** ولا العشير ولا عشراً من العشر

هو الرفيع فلا الأبصار تدركه *** سبحانه من مليك نافذ القدر
وكان سفيان الثوري ممن يقدم الرجاء في هذا اليوم، فقد قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تهملان، فالتفت إليّ فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: ( الذي يظن أن الله لا يفغر لهم! ).
وروي عن الفضيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: ( أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً - يعني سدس درهم - أكان يردهم؟ قالوا: لا. قال: والله للمغفرة عند الله، أهون من إجابة رجل لهم بدانق!! ).
وإني لأدعو الله أسأل عفوه *** وأعلم أن الله يعفو ويغفر



حال السلف في الطواف
قال عبدالمجيد بن أبي روّاد: ( كانوا يطوفون بالبيت خاشعين ذاكرين، كأن على رؤوسهم الطير وقع، يستبين لمن رآهم أنهم في نسك وعبادة ).
وكان طاوس رحمه الله ممن يُرى فيه ذلك النعت.
ومن العبادات التي تُطلب في حال الطواف: غضّ البصر لوجود النساء مع الرجال أثناء الطواف. قال ابن الجوزي: ( اعلم أن غضّ البصر عن الحرام واجب، ولكم جلب إطلاقه من آفة، وخصوصاً في زمن الإحرام وكشف النساء وجوههن، فينبغي لمن يتقي الله عز وجل أن يزجر هواه في مثل ذلك المقام، تعظيماً للمقصود، وقد فسد خلق كثير بإطلاق أبصارهم هنالك ).
قال ابن المحب الطبري: ( ومن المنكر الفاحش ما تفعله الآن نسوان مكة وغيرهن في تلك البقعة ليالي الجُمع وغيرها من الاختلاط بالرجال، ومزاحمتهن لهنّ في تلك الحال، مع تزيّنهن لذلك بأنواع الزينة، واشتغالهن عند إتيانه بما يوجب الروائح العطرة، فيشوّشن بذلك على متورّعي الطائفين، ويجتلبن بسببه استدعاء نظر الناظرين، وربما طافت إحداهن بل أكثرهن بغير جوربين، ويشقّ على الناس الاحتراز من ملامستهنّ في بعض الأحايين، وهذه مفسدة عظيمة عمّت بها البلوى، وتواطأ الناس على عدم إنكارها ).

فينبغي للعبد أن ينزّه طوافه عن كل ما يوجب شيئاً من ذلك، ولا يأمن عقوبة سوء الأدب وفحش المخالفة هنالك.
قيل إن إسافاً ونائلة، الصنمين المعروفين كانا رجلاً وامراة من جُرهم، دخلا الكعبة، فقبّل أحدهما الآخر فمُسخا حجرين مكانهما.


مشهدُ الحجيج
قال ابن القيم رحمه الله:
أما والذي حج المحبون بيته *** ولبّوا له عند المهل وأحرموا

وقد كشفوا تلك الرؤس تواضعاً *** لعزة من تعنوا الوجوه وتُسلمُ

يُهلّون بالبيداء لبيك ربنا *** لك الملك والحمد الذي أنت تعلمُ

دعاهم فلبوه رضاً ومحبة *** فلما دعوه كان أقرب منهم

تراهم على الأنضاء شُعثاً رءوسهم *** وغُبراً وهم فيها أسر وأنعم

وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة *** ولم تُثْنهم لذاتهم والتنعّم

يسيرون كم أقطارها وفجاجها *** رجالاً وركباناً ولله أسلموا

ولما رأت أبصارهم بيته الذي *** قلوب الورى شوقاً إليه تضرّمُ

كأنهم لم يَنْصبوا قطّ قبله *** لأن شقاهم قد ترحّل عنهمُ

فلله كم من عَبرةٍ مهراقةٍ *** وأخرى على آثارها لا تَقدمُ

وقد شرقت عين المحب بدمعها *** فينظر من بين الدموع ويُسجمُ

وراحوا إلى التعريف يرجون رحمة *** ومغفعرة ممن يجود ويكرم

فلله ذاك الموقفُ الأعظم الذي *** كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمُ

ويدنو به الجبّار جلّ جلاله *** يُباهي بهم أملاكه فهو أكرم

يقول عبادي قد أتوني محبةً *** وإني بهم برّ أجودُ وأكرم

فأُشهدكم أني غفرت ذنوبهم *** وأعطيتُهم ما أمّلوه وأنعمُ

فبشراكمُ يا أهل ذا الموقف الذي *** به يغفرُ الله الذنوب ويرحم

فكم من عتيقٍ فيه كُمل عتقه *** وآخر يَسْتسعي وربُك أكرمُ

وما رُئي الشيطان أغيظ في الورى *** وأحقر منه عندها وهو ألأمُ

وذاك لأمر قد رآه فغاظة *** فأقبل يحثو التُرب غيظاً ويلطمُ

لما عاينت عيناه من رحمة أتت *** ومغفرة من عند ذي العرش تُقْسَمُ

بنى ما بنى حتى إذا ظن أنه *** تمكن من بنيانه فهو مُحْكمُ

أتى الله بُنياناً له من أساسه *** فخرّ عليه ساقطاً يتهدمُ

وكم قدر ما يعلو البناء وينتهي *** إذا كان يبنيه وذو العرش يهدمُ
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

منقول