عرض مشاركة واحدة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-



الهجرة جاءت على قدر:

لم تكن الهجرة قَرارًا مرتجلاً اتَّخَذه الرسول - صلوات الله عليه - ولم تكن مجرَّد ردِّ فعلٍ غريزي لِمُؤامَرة المشركين لاغتِيال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

إنَّ الهجرة قدرٌ مَقدورٌ في تاريخ الدعوة إلى الله.

لقد عَلِمَ الرسول أنَّ الهجرة قدرٌ لا مردَّ له في أوَّل أيَّام الدعوة حين قال ورقة بن نوفل: "وليتني أكون معك يوم يُخرِجك قومك"، فقال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أومُخرِجيَّ هم؟!))، فقال ورقة: "ما جاء رسولٌ بِمِثل الذي جئتَ به إلاَّ أُوذِي وأُخرِج".


وإذًا فهذه هي الرسالة، وهذا هو الطريق، وهو طريقٌ محفوفٌ بالشدائد؛ لأنَّ الأمانة ثقيلة ثقيلة، غاصٌّ بالمكاره؛ لأنَّ الحقَّ تكرهه نفوسٌ قال الله عن أصحابها: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
[يوسف: 103].

لذا؛ كانت وصاة القرآن له - بعد أمرِه بالبلاغ والرِّسالة - هي الصبر: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
[المدثر: 1 - 7].

ولقد امتَثَل الرسول لما أُمِر به، وكان إمام الصابرين.

هجرات قبل الهجرة الكبرى:

إزاء ذلكم الاستِكبار الجاهلي من أهل مكة، وصدِّهم الناس عن سبيل الله، بحَث الرسول لأصحابه عن مهجر يهاجرون إليه؛ فرارًا إلى الله بدِينِهم ونَجاةً من آثام قومهم، فنصَحَهم بالهجرة، فكانت هذه الهجرات:

1- الهجرة الأولى إلى الحبشة:

خرج إليها عشرة رجال، وخمس نسوة؛ منهم: عثمان بن عفان، وزوجه رقيَّة بنت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو سلمة وزوجته، وعبدالرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير، والزبير بن العوام، وغيرهم، وأمَّر عليهم عثمان بن مظعون، إلاَّ أنهم عادوا بعد ثلاثة أشهر، ظنًّا منهم أنَّ قلوب المكيين قد اهتَدَتْ للرشاد، ولكنَّ البلاء قد تَضاعَف، فنصَحَهم الرسولُ كرَّة أخرى بالهجرة، فكانت:

2- الهجرة الثانية إلى الحبشة:

ولقد رغَّبهم الرسول في هذه الهجرة بقوله: ((لو خرَجتُم إلى أرض الحبشة؛ فإنَّ بها ملكًا لا يُظلَم عنده أحدٌ، وهى أرضُ صدقٍ، حتى يجعَل الله لكم فرجًا ممَّا أنتم فيه...))، وبلغت عدة من هاجر هذه الهجرة من المسلمين بضعة وثمانين.

3- الهجرة إلى الطائف:

ومع اشتِداد سفَه قُرَيش وإعراضها، فكَّر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عرض دعوَتِه على غيرها، فخَرَج من مكَّة قاصدًا مدينة الطائف في الجنوب الشرقي من مكَّة، ولَمَّا وصَلَها التَقَى بمسعود وحبيب ابني عمرو بن عمير، وبعبد ياليل، وهم زُعَماء قبيلة ثقيف، وعرَض عليهم دعوةَ الحقِّ، لكنَّ قبيلة ثقيف كانت هي الأُخرَى في حلفٍ مع الشيطان فأخرَجَتْ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - شرَّ إخراج، ومع ما كان العرب يَتفاخَرون به في الجاهليَّة من إكرام الضَّيف، وإجارة المستجير، فإنَّ الحميَّة للشِّرك، وعبادة الهَوَى طمست أعيُن المشركين في مكة والطائف، فلم يَعرِفوا لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حرمةً، ولا جوارًا، ولا قرابة، ولا ضِيافة، ولا ذمَّة!

مقدمات الهجرة الكبرى وبشائرها:

1- الرؤى الصادقة:

وسط الرياح الهوجاء، وإبَّان الساعات الحرجة العصيبة، يُطلِق الرسول البشرى الصحابة بالهجرة فيقول: ((أُرِيتُ دارَ هجرتكم أرضًا سبخة بين لابتين))، (واللابة: هي الحجارة، والأرض السبخة أصلح للزراعة من غيرها، وهذا الوصف يَصدُق على (يثرب) التي سُمِّيت بالمدينة بعد هجرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليها).


2- عرض الدعوة على أهل المدينة:

بدَأ رسول الله - بإلهامٍ وتوفيقٍ من ربِّه - يرنو ببَصِيرَته نحو المدينة، عسى أنْ تجد (دعوة الحق) فيها من (المستقرِّ الآمِن) ما لم تجده في مكة أو الطائف، فاغتَنَم موسم الحج الذي يشهده حجيج العرب من كلِّ صوب وحدب، وعرض الدعوة على نفرٍ من الأوس والخزرج، ووجَد منهم آذانًا واعِيَة، وقلوبًا مُصغِية، وعادوا إلى قومهم يُحدِّثونهم بما سمعوا.


3- بَيْعة العقبة الأولى:

ولما وافَى موسم الحج التالي، قَدِمَ من المدينة اثنا عشر رجلاً، والتَقوا بالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند العقبة (مكان رمي الجمرات بمنى)، وبايَعُوه بَيْعة سُمِّيت (بيعة النساء)؛ لأنها خَلَتْ من التعاهُد على الحرب التي لم تكن قد افتُرِضت بعدُ، ومن أهميَّة الجهاد في الإسلام أنْ تُشبَّه البَيْعة التي خلتْ من التعاهُد عليه ببيعة النساء، التي ورَد ذكرُها في الآية الثانية عشرة من سورة الممتحنة.


وعن هذه البَيْعة يقول عبادة بن الصامت - رضِي الله عنه -: "بايَعنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلةَ العقبة الأولى على: ألاَّ نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتانٍ نفتَرِيه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإنْ وفيتم فلكم الجنَّة، وإنْ غشيتُم من ذلك شيئًا فأخذتُم بحدِّه في الدنيا فهو كفَّارة له، وإنْ سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمرُكُم إلى الله - عزَّ وجلَّ - إنْ شاء عذَّب وإنْ شاء غفر".

4- الدعوة داخل المدينة:

أراد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ يعدَّ المدينة إعدادًا دينيًّا روحيًّا لتحسن استقبال الدعوة، فلم يكتفِ بِمَن آمَن من الأنصار (كمبعوثين محليِّين دائِمين) يُبشِّرون بالدعوة، بل أرسَلَ (سفيرًا خاصًّا) على أعلى مستوى من الكفاءة في المهمَّة الموكولة إليه وهى: أنْ يُقرِئهم القرآن الكريم (دستور الدولة الإسلاميَّة) التي أقامَها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأمر ربِّه - تعالى - في المدينة، وأنْ يُربِّيهم (التربية الإسلاميَّة) بتَفقِيههم في أحكام الدِّين، وهذا السفير الداعية هو: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبدمناف.


5- الاستجابة العملية:

أخَذت (الطليعة المؤمنة) في المدينة طريقَها إلى تطبيق الإسلام، وجعله حياتها وسلوكها، وذلك حتى قبل أنْ يُهاجِر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن أدلَّة ذلك أنَّ أبا أمامة أسعد بن زرارة جمَع أربعين رجلاً من الأنصار، وصلَّى بهم صلاة الجمعة لأوَّل مرَّة في تاريخ الدعوة الإسلاميَّة، وكان هذا في مكانٍ بالمدينة يُقال له: (نقيع الخضمات بهزم النبيت من حرة بنى بياضة).


هذا، مع أنَّ المسلمين في مكَّة لم يتمكَّنوا من إقامة صلاة الجمعة؛ إذ كان المجتمع الجاهلي يملك أَزِمَّةَ الأمور فيها، ويتربَّص بالحق وأهلِه الدوائر، وهذا يلفت نظرنا إلى ملحظَيْن مهمَّين وهما:


أ- أنَّ العقيدة الحقَّة لا تُثمِر ثمرتها المُبارَكة إلاَّ في جوِّ الحريَّة الآمِن كالذي توفَّر في المدينة.

ب- إنَّ قيام الجمعة وجماعة الصلوات مُرتَهن بوجود المجتمع الإسلامي الذي أقامَتْه الدولة الإسلاميَّة في المدينة.

6- بَيْعة العقبة الثانية:

كانت (بَيْعة العقبة الثانية) من ثمرات الجهود المُخلِصة التي قامَتْ بها الطَّلِيعة المُؤمِنة في (يثرب)؛ ففي العام الذي تلا بَيْعة العقبة الأولى، وعند مكان العقبة، وفى جوف ليلة من ليالي التشريق التَقَى برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثلاثةٌ وسبعون رجلاً وامرأتان من نسائهم، وحضَر هذا الاجتماع العبَّاس بن عبدالمطلب عم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، وكان لا يَزال مشركًا - ولكنَّه حمايةً لابن أخيه، ودِفاعًا عنه، أراد أنْ يستَوثِق من نُصرَة الأنصار للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد قال الأنصار للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: خُذْ لنفسك ولربِّك ما أحببتَ. وتكلَّم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتَلا القرآنَ، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام، ثم قال: ((أُبايِعكم على أنْ تمنَعُوني ممَّا تمنَعُون منه نساءَكم وأبناءَكم)).


فأخَذ البراء بن معرور بيَدِه ثم قال: نعم، والذي بعَثَك بالحق لنمنعنَّك ممَّا نمنع منه أُزُرَنا (يعنى: أعراضنا) فبايِعنا يا رسول الله؛ فنحن أهلُ الحرب، وأهل الحلقة (درع الحرب)، ورِثناها كابرًا عن كابر (عظيمًا عن عظيم).


ثم أخَذ أبو الهيثم بن التيِّهان (رجل من الأنصار) بطرفٍ من الحديث قائلاً: "يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال (يعنى: يهود يثرب) حبالاً (عهودًا) نحن قاطِعُوها، فهل عصَيْت إنْ نحن فعلنا ذلك، ثم أظهَرَك (نصَرَك) الله أنْ ترجع إلى قومك وتدعنا؟"، فأجابه رسول الله مبتسمًا: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنتم منِّي وأنا منكم، أُحارِب مَن حارَبتُم، وأُسالِم مَن سالَمتُم)).

(الهدم: ضَياع دم القتيل هدرًا، والمعنى: أنَّ المعاهدة بيننا وثيقة وثيقة، حيث إنَّ مَن أراد دماءكم فقد أرادني، ومَن أهدَرَها فقد أطل دمي).


ثم تناول الحديث العباس بن عبادة من الأنصار فقال: "يا معشر الخزرج، أتعلَمُون عَلامَ تُبايِعون هذا الرجل؟! إنَّكم تُبايِعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإنْ كنتم ترَوْن أنَّكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً، وأشرافكم قتلاً أسلمتُموه، فمن الآن فدَعُوه، فهو والله إنْ فعلتُم خزي الدنيا والآخِرة، وإنْ كنتُم ترَوْن أنَّكم وافون له بما دعَوْتموه إليه على نهكة الأموال، وقتل الأشراف - فخُذوه؛ فهو والله خير الدنيا والآخِرة". فقالت الأنصار: إنَّا نأخُذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا يا رسول الله إنْ نحن وفينا بذلك؟ فأجابهم الرسول: ((الجنة)).

وكانت هذه البيعة في العام الثاني عشر من بعثته - صلَّى الله عليه وسلَّم.