عرض مشاركة واحدة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

المؤامرة

كانَتْ بَيْعة العقبة الثانية تتضمَّن عهدًا من الأنصار بنُصرَة رسول الله ومُظاهَرته، حتى لقد قال العبَّاس بن عبادة الأنصاري للرسول بعد أنْ أتَمَّ البيعة: "والله الذي بعَثَك بالحق إنْ شِئتَ لنَمِيلنَّ على أهل مِنى غدًا بأسيافنا"، فأجابهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائلاً: ((لم نُؤمَر بعدُ، ولكن ارجِعُوا إلى رِحالكم)).

ونَمَتْ أخبارُ هذه المعاهدة إلى قريش، وكانت أوَّل الأمر في شكٍّ منها، ولكنَّها استَوثَقَتْ وبانَتْ لها جلية الأمر، فطارَ صَوابها وداخَلَها من الأمر هَمٌّ عظيم، وأضحَتْ أمامَ مرحلةٍ خطيرةٍ من مراحل صِراعِها مع النبيِّ وأصحابه.

واجتمع القرشيون يُفكِّرون في كيفيَّة التخلُّص من (صاحبهم) الذي يُرِيد أنْ يطمس على وثنيَّتهم، وأنْ يُجلِّي - بمدد الله - آيةَ الحق مبصرة.

ووَجدَتْ قريش أنَّ سجنَ الرسول أو نفيَه من الأرض، لا يَحُول دون خطَرِه الذي إنْ تُرِك دون مقاومةٍ استَأصَل شأفةَ باطلهم.

وقادَهم الهوى الأعمى والشيطان الغَرُور إلى أنْ يختاروا من كلِّ قبيلة شابًّا فتيًّا جلدًا، وأنْ يمنحوهم سيوفًا باترة ليَضرِبوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ضربةَ رجلٍ واحدٍ فيتفرَّق دمُه في القبائل، ثم لا يقدر بنو هاشم على حرب قومهم جميعًا قصاصًا لقتل الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيرضون بالدية فتُعطَى لهم.

وأحاط الفتية المأجورون بدار رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَرقُبونه، وينتظرون خروجه... وخرج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مارًّا بينهم، وهم قِيامٌ يَنظُرون، ولكنَّ الله أغشاهم فهم لا يُبصِرون، وذهَب إلى دار أبي بكرٍ، وكان قد أعلَمَه قبل ذلك بساعاتٍ بما سيَكُون من أمرهما، وأَوْصاه بالكتمان.

الأمانة... والساعات الحالكة:

كان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَثَلاً أعلى للأمانة، فكان بعض المكيِّين يجعَلُونه أمينَ ودائعهم ومستودع أموالهم، ولم يتزَحزَح رسولُ الله رغمَ الأخطار التي كانَتْ تَحُوطُه عن القِيام بهذا الواجب الإنساني النبيل.

وأُذِن للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالهجرة، وعندَه هذه الودائع، ولا بُدَّ من أداء هذه الأمانات إلى أصحابها، وبعضُهم من المشركين، ولكنها الأمانة، ومكَّة آذَتْه وأخرجَتْه، وأصحابه قد تركوا خلفَهم ديارَهم، وأمتعتَهم، وأموالَهم، ولكنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرفَع من الحِقد، وأنزَه من أنْ ينتَقِم إلاَّ بالحق والعدل.

ولكن مَن يُؤدِّي هذه الأمانات إلى المكيِّين؟

إنَّه ربيبُه، وحبيبُه، وابنُ عمِّه علي رضِي الله عنه.

الفدائيَّة... والموت متربِّص:

نامَ الفتى (علي) على فراش النبيِّ المُفتَدى، وتسجَّى ببُردِ النبيِّ الحضرمي الأخضر، وأحاطَتْ به تسعةُ سيوف صقيلة بَتَّارَة يدفَعُها هوس حاقد، ويحضُّها كفرٌ أعمى، وكلَّما مرَّت بهم برهة نظَرُوا إلى سيوفهم الظامئة إلى الدم، واستبطَؤُوا خروجَ النبي، ويتقدَّم أحدُهم في تُؤدَة مُصطَنعة ليَنظُر من فرجةٍ، فيرى الراقد المسجَّى في بُردِه الأخضر، ويَتراجَع ليطمئن أصحابه أنهم لم يخطئُوا بُغيَتهم، ويمرُّ وقتٌ آخَر، وتتكرَّر مراجعة النَّظر، ومعاودة الأمل، النائم هانئٌ قرير العَيْن، والقتَلَة في اضطرابٍ وقلق، وأمَّا بُغيَتهم فما إلى نَيْلها من سبيل!

وطلَع الفجر، وساءَ صَباح المشركين، وأنعِم بصَباح المؤمنين! وكان فجرًا يَحمِل بشائر الخير للأرض كلِّها.
وأمَّا (علي) الذي باتَ المشركون يحرسونه وهم لا يَشعُرون، فقد أدَّى الودائع وبلَّغ الأمانات، ثم أخَذ طريقَه ليَلحَق بمجتمع الخير والهدى والرشاد.

الرحلة:

ذهَب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى دار أبي بكرٍ، وكان أبو بكرٍ قد أعدَّ راحلتَيْن ارتِقابًا لهذا الأمر، فاشتَرَى رسول الله من أبي بكرٍ إحدى الراحلتين بالثمن، وأبى أنْ يتقبَّلها هديةً من أبي بكرٍ ليكون له أجرُ الهجرة بنفسه وماله، وخرَج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بابٍ صغيرٍ خلف دار أبي بكرٍ، ومعه أبو بكر؛ إمعانًا في السرِّيَّة والتكتُّم.

حنين ووفاء:

ورغم كلِّ ما نالَتْ به مكَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أذًى وتضييق، وانتَهَى بها الحقدُ إلى التآمُر على حياته، رغم ذلك وقَف عند مغادرته لها متَّجهًا إلى البيت الحرام، مُخاطِبًا مكة: ((والله إنَّك لأحبُّ بلاد الله إلى الله، وإنَّك لأحبُّ أرض الله إلَيَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني لما خرجتُ)).


هكذا، وفي هذه اللحظة التي هي من أحرَجِ لحظات الحياة لم يتكلَّم إلا بالخير، وما تكلَّم بغيره قط، ولم يعرف إلا الوفاء، وهو خُلقُه الدائم، تنزَّه عن الحِقد في لحظةٍ يُعذَر فيها إذا حقد، وترفَّع عن التعبير الأليم، والألم مُفتَرض في هذا الموقف وأشباهه.


الثقة بالله لا تُنافِي الحيطة:

مع أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه كانا في ثقةٍ واثقةٍ ومعيَّة كاملة لله ربِّ العالمين، إلاَّ أنَّ ذلك لم يمنَع من أخذ الأُهبَة الكاملة، والحيطة البصيرة، وتتمثَّل فيما يلي:
1- الخروج سرًّا، وفي جُنح الظلام.

2- الخروج من خوخة في بابٍ خلفي لدار أبي بكر.

3- سلوك طريقٍ غير مألوفة للسائرين.

4- القصد إلى غارٍ بجبل ثورٍ، والمكوث به ثلاثةَ أيَّام للتعمية، ولتحيير أهل الشِّرك، وحتى تفتر حدَّة الطلب.

5- أخْذ الطعام والزاد قبل الهجرة.

6- تَأمِين وصول الزاد يوميًّا بما كان يَفعَله عامر بن أبي فُهَيرة، من رعي الغنم وحلب ألبانها قُرب الغار مع تَعمِية الأثر.

7- وصول أخبار مكَّة يوميًّا إلى الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجمَعُها عبدالله بن أبي بكرٍ، ويُبلِّغها ليلاً في حيطةٍ وسريَّة.

8- قِيام أبي بكرٍ بتفقُّد الغار، وتفتيشه قبل أنْ يدخله الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

9- استِئجار عبدالله بن أُرَيقط، وكان رجلاً عليمًا بالدُّروب والمسالك بين مكَّة والمدينة؛ أي: كان - كما قيل -: (هاديًا خرِّيتًا)، وهذا من تَوسِيد الأمور إلى أهلها، والعجيب في الأمر أنَّ ابن أُرَيقط هذا كان مُشرِكًا، وكان عَطاء قريش لِمَن يدلُّها على الرسول مائة ناقة، ومع هذا فإنَّ (شرف المهنة) وما بقي عند العربي من قِيَمٍ أبَيَا عليه أنْ يتَّصِف بوصمة الخيانة.

10- كان أبو بكرٍ يَسِير خلفَ الرسول تارةً، ومن أمامه تارةً، وعن يمينه تارة، وعن شماله تارة، فسأله الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن سرِّ ذلك، فقال: يا رسول الله، أتَذكَّر الرصد فأكونُ من أمامك، وأخشى الطَّلب فأكون من خلفك، وأخاف الكمين فأكون عن يمينك وعن يسارك.

من حديث الغار:

آوَى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع صاحبه إلى (غار ثور) حتى تفتر شراسة الطلب، وخرَج المشركون في طلبه، يتقدَّمهم الفتية الذين كانوا يُحاصِرون الدار، وغادَرَها الرسولُ أثناء الحِصار، فجعَلَهم أضحوكةً لأهل مكة، وجعَل من كفاءتهم ملهاة للساخِرين، كان الحقد على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يغلي في صُدورهم كغلي الحميم، وكانت الرغبة في تَعوِيض الفشل تستعر في أعماقهم.

وأعلنَتْ قريش عن عطاءٍ قوامه مائة ناقة لِمَن يدلُّها على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرَّقت في الطُّرقات المؤدِّية إلى المدينة - المأهولة وغير المأهولة - تَطلُبه، واستَعمَلت وسائل عَصرِها في البحث عنه؛ ومنها: (قصاص الأثر)، ووصَل المتربصون الآثِمون إلى الغار، وكانت كلُّ الدلائل البشريَّة تَقطَع بأنَّ محمدًا وصاحبه في الغار، وكانت كلُّ الدواعي تقضي - وهم جمع غفير - أنْ يتقدَّم بعضهم إلى دخول الغار، وتقدَّموا جميعًا وأحاطُوا بالغار حتى قال أبو بكر: "والله يا رسول الله لو نظَرُوا تحت أقدامهم لرأونا".

قالها أبو بكرٍ في خوفٍ، فمَن الذي منَعَهم أنْ يَنظُروا؟ وما الذي صرَف أبصارَهم؟ وبماذا أجابَ الرسول صاحبَه؟
فأمَّا روايات لا يَثبُت سندها فنقول:
إنَّ المشركين وجَدُوا شجرةً ذات ثمرٍ أبيض يستَخدم في حشو الوسائد، قد مالَتْ بأغصانها البيض على فتحة الغار، ونسَج العنكبوت خيوطه وباضت حمامتان عند فوهة الغار - وتزعم الرواية أنَّ حمام الحرمين كلَّه من نسل هاتين الحمامتين - وأنَّ هذا المَنظَر هو الذي صرَف المشركين عن دخول الغار، قائلين: "إنَّ هذا العنكبوت أقدم من ميلاد محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم".

ونظرتنا إلى هذه الرواية أنها لم تَثبُت في المصادر التي يُعوَّل عليها، ولو ثبتَتْ لتلقَّيناها مؤمنين بأنَّ "قدرة الله فوق الشك والتُّهَم"، قائلين: "آمنا به، كل من عند ربنا"، أما وإنها لم تَثبُت فنحن منها في حلٍّ، وعلينا أنْ نلتَمِس إجابات الأسئلة التي طرَحناها - منذ قليل - من كتاب الله، في قوله - تعالى -: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[التوبة: 40].

فانظر إلى درجة اليَقِين التي كان عليها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ﴾ وتأمَّل حالة الثقة والطمأنينة: ﴿ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ﴾ وقِفْ طويلاً متدبرًا متمعنًا: كيف يكون الجنودُ من عالم الغيب؟ ﴿ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾.

وصدَق مَن قال:
align="right"> لَوْلاَ يَدُ اللهِ بِالْجَارَيْنَ مَا سَلِمَا


align="right"> وَعَيْنُهُ حَوْلَ رُكْنِ الدِّينِ لَمْ يَقُمِ