عرض مشاركة واحدة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
نهاية الرحلة

ثم وصَل الرَّكب العظيم إلى المدينة تَحُوطُه عناية الله، وتَحمِيه معيَّته، وتُؤيِّده جنود (لم تروها) فقُوبِل بأكرَمِ ترحاب.
وكان أوَّل عملٍ قام به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَوْرَ وصولِه أنْ أقام المسجد، ليكون مثابةً للمؤمنين، ومعقلاً للحق، ومنارةً للهداية.


وآخَى بين المهاجرين والأنصار مُؤاخاةً لم يُعرَف مثلها في التاريخ قطُّ حتى قام على أساسها الميراث، إلاَّ أنَّه نسخه القرآن بقوله - سبحانه -: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
[الأحزاب: 6].


نتائج الهجرة:

1- إذا كان يوم المبعث بدْء (الدعوة الإسلاميَّة)، فإنَّ يوم الهجرة هو بدء قِيام (الدولة الإسلاميَّة).

2- كانت الهجرة بدء تحوُّل فاصل في تاريخ الإسلام، فأصبح للمسلمين (وطن)، وقد كانوا من قبل - كما وصفهم القرآن - ﴿ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ...
[الأنفال: 26].

3- شُرِع الجهاد بعد الهجرة، ولم يعد المسلمون مُستَضعَفِين في الأرض، بل أصبح عليهم أنْ يردُّوا الصاع تأديبًا للمُجرِمين كما أمَرَهم - سبحانه -: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً
[التوبة: 123].

4- لم تكن المدينة وطَنًا للمسلمين فقط، بل صارت قاعدةَ انطلاقٍ ضد أعداء الله في مكة وغيرها.

5- حقَّقت الهجرة عالميَّة الدعوة؛ فقد كان الحصار المضروب حول الدعوة في مكَّة حائلاً دون ذلك، فمن المدينة أرسل الرسول رسلَه وكتبَه إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام.

6- جعَل الله التناصُر في الدِّين على أساس الهجرة؛ كما قال - سبحانه -: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
[الأنفال: 72].

7- في المدينة نزَلت الشريعة وطُبِّقت، ولم يكن ذلك مُستَطاعًا في مكَّة؛ إذ كيف كان يستطاع في مكة قطع يد السارق، أو رجم الزاني أو جلد القاذف أو الشارب؟!

8- عرف المسلمون في المدينة حريَّة العقيدة والعبادة لأنفسهم، ولغيرهم، كما كان من معاملة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لليهود معاملة سمحة، لكنهم عبَّروا بتصرُّفاتهم كلها مع المسلمين عن لؤم الطباع وخسَّة النفوس.

هذه بعض نتائج الهجرة، سُقناها في إيجاز عَجُول، وهي آثار ونتائج لم تكن ذات أثَر في تغيير تاريخ الجزيرة العربيَّة أو منطقة الشرق الأوسط وحدَها، بل كانت لها الآثار التي غيَّرت وجهَ التاريخ الإنساني كلِّه، حين قامَتْ للمسلمين دولةٌ واحدة حكمت جُلَّ المعمورة، وبسَطَتْ سلطان الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها.

التاريخ بالهجرة:

امتنَّ الله على عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - بنفسيَّة الرائد الوثَّاب، وعقليَّة المِقدام الطُّلَعة، ورأى الإمام حولَ المسلمين كل أمَّة لها تاريخ تُؤرِّخ به أعوامها، وتاريخ هذه الأمَّة يرتبط بحادثةٍ لصيقة بهذه الأمَّة أو يتعلَّق بمعنى خاص بهذا الشعب، وعمر يُدرِك أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة لا تَقتات من مَوائِد الآخَرين، ولا تَسِير على دروب غيرها، فلا بُدَّ لها من تاريخٍ تُنظِّم به أوقات أعمالها، ولا بُدَّ أنْ يكون هذا التاريخ مُعبِّرًا عن أصالة الأمَّة الإسلاميَّة، صادرًا من مَنابِعها العَذبة.


ومرَّت أحداثٌ بعمر جعلَتْه يعجل بما يدور في خلده، وما طمحت إليه خواطره.

فهذا دائنٌ يشكو إليه مُماطَلة غريمة في دينٍ له عليه، ودفع الدائن إلى عمر بالوثيقة المثبتة لهذا الدين، وفيها أنَّ أداءه يحين إلى فلان في شعبان، فقال عمر: أيّ شعبان: الذي مضى، أم الذي نحن فيه، أم شعبان الذي هو آتٍ؟

وروى أبو موسى الأشعري شكاية عمَّال عمر إليه حول هذا الأمر فقال: "كتب إلى عمر عمَّاله أنَّه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ..."، إزاء هذه المشكلة جمَع عمر أصحابَ الرأي من المسلمين وعرَض عليهم الأمر، "فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث، وقال بعضهم: أرِّخ بالهجرة"، فقال عمر - رضِي الله عنه -: "الهجرة فرقت بين الحق والباطل"، فأرَّخوا بها. وفي ذلك يقول السهيلى (من كبار شرَّاح السيرة النبوية): "فاتَّفَق رأيُهم أنْ يكون التاريخ من عام الهجرة؛ لأنَّه الوقتُ الذي عَزَّ فيه الإسلام، والذي أمر فيه النبي (أي: عزَّ أمره)، وأسس المساجد، وعبَد اللَّه آمِنًا".

وهنا مَلحَظٌ عظيم يجب أنْ نلتفت إليه، وهو أنَّ المقترحات دارَتْ حول التاريخ بالمبعث أو بالهجرة، وهذا يَهدِينا إلى أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة أمَّة عقيدة ورسالة ومبدأ.

فما من جيلٍ أحبَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما أحبَّه أصحابه، لكنَّه حبُّ الراشدين، لقد كان الواحد منهم يحبُّ رسول الله أكثر من والده وولده ونفسه التي بين جنبَيْه، وكان افتِداؤهم للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنفسهم وأموالهم أحبَّ إليهم ممَّا طلعتْ عليه الشمس.

لكنَّهم لم يطروه كما أطرَت النصارى المسيح ابن مريم، ولم يُؤرِّخوا بمولده، بل أرَّخوا باليوم الذي أعزَّ فيه رسالته، وذلك هو الفَهم السديد والرَّشاد الأرشد.

فهموا أنَّ رسول الله ما جاء يَدعُوهم إلى نفسه، بل إلى عبادة ربِّه، ولم يدعهم إلى إقامة ملكٍ له، وإنما إلى إقامة دين الله القيِّم في أرض الله كلها، كما هو وعد الله لهم: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
[النور: 55].

وكان التفكير في التاريخ بالهجرة بعد سبعة عشر عامًا من هِجرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في خلافة عمر، والهجرة كانت في ربيع، فاتَّفقت الكلمة أنْ يكون البدء بالمحرم؛ لأنَّه أوَّل السنة، وأنْ يكون عام هجرة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوَّل أعوام التاريخ الإسلامي.

هذه خُلاصةٌ لأحداث هِجرة سيِّد ولد آدم - صلوات الله وسلامُه عليه - نسأل الله العليَّ القدير أنْ يجعَلَنا ممَّن يهتَدُون بهديِه، ويستنُّون بسنَّته، ويُحشَرون تحت لوائه، وأنْ يُرِينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، وأنْ يريَنا الباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

وآخِر دَعوانا أن الحمد لله رب العالمين.