عرض مشاركة واحدة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
فقه الهجرة الكبرى


فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى


PIC-309-1352922072.g



فقه الهجرة الكبرى


محمد شلبى محمد





(1- التمهيد النفسي)


جرت العادةُ أن تُذْكَر الهجرة في المحافل حكايةً جميلةً الأحداث.

لكن كم من الحاكين يعرضها حكاية بليغة الحكم؟



وكم من المستمعين يحكم هذه الحِكَم في أحداثِ حياته، كما وَظَّفَها الله - تعالى - في أحداث الهجرة.




ليست الهجرة مجردَ حَدَث؛ لأَنَّ هذا الحدَث مقصودٌ من الله، ومأذونٌ له منه، والله يصنع مُخْلَصيه على عَيْنِه، ويورد عليهم من عجائب التقدير ما يَهدي إلى صراطه كلَّ بصير.




إنَّ الهجرةَ مَجموعةُ أقدار وحِكَم، ودُرُوس وعبر، وتضحية وعطاء.




الهجرة أسبابٌ ونتائج، وتَخطيط وتدبير، وفقه للواقع.




ولعلَّ الله أنْ يَفتحَ في هذه السُّطور ببعضِ ما أودع فعالَه من جلائل الأمور، فخُذها بقوة وكن لها من الواعين.

أول ذلك:




قَدَر التمهيد.




التمهيدُ للشيء سبيلٌ لتَمَكُّنه إذا حدث.




والتمهيدُ للوصول للقرارِ الحاسم مَقصدٌ شرعي، وإنَّما يكون ذلك فيما يشق على النفوس القيام به أول ما تُؤمَر، كما هي الحال في التدرُّج في تحريم الخمر والربا.




وليس شيء أشق على النفوس من تَرْكِ الوطن والأهل والمال إلى مكانٍ غير مألوف
وماذا يبقى للنَّفس من بعدُ؟



ولذلك كانت الهجرةُ حَرِيَّةً لِأَنْ يُمهِّد الله - تعالى - لحدوثها تَمهيدًا حسنًا، وقد كان.




فقد مَهَّد الله - تعالى - للهجرة بأمورٍ أربعة: الإخبار بحدوثها، وبدوافِعِها، وبنظائرها، وبالفتح لها.




الأولان: تَمهيد نفسي، وهما محور مقالنا هذا.




والآخران: تَمهيد عملي.




1- التمهيد النفسي للهجرة بالإخبار عنها:




كان ذلك ثلاثَ مَرَّات: في الكتب السماوية السابقة، وإخبار ورقة، ورُؤيا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد ورد ذكرُ مهاجر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التوراة والإنجيل، وشاع في العصر الذي بعث فيه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين رجالِ الدِّين من هؤلاء وهؤلاء أنَّ مِنْ عَلاماتِ صِدْقه هجرته إلى المدينة؛ إذ أخبر سَلمان الفارسي - في رحلته الطويلة، وهو يبحث عن الحقيقة - أنَّه لما هداه الله إلى الرجل الأخير في هذه الرحلة، قال: "فمكثت عنده ما شاء الله أن أمكُث، وثاب لي شيء حتى اتَّخذتُ بَقراتٍ وغنيمة، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى مَن توصي بي؟
فقال لي: أيْ بُنَيَّ، والله ما أعلم أنَّه أصبح في الأرض أحدٌ على مثل ما كُنَّا عليه آمرك أن تأتِيَه، ولكنَّه قد أظَلَّك زمانُ نبيٍّ يُبْعَث بدين إبراهيم (الحنيفيَّة)، يَخرج من أرض مهاجره وقراره ذات نَخل بين حَرَّتين، فإنِ استطعتَ أن تَخْلُصَ إليه، فاخلص وإن به آيات لا تَخفى..."؛ الحديث [الطبقات الكبرى، لابن سعد: ترجمة سلمان الفارسي].



فذلك أمر مردُّه إلى ما وصل إليهم من نُبُوءات في الكُتُب السابقة عن مَوْلِد الرسول وأحداث حياته، ولا شَكَّ أنَّ مَعْرفة هذه النبوءة تقرُّ في النفوس المؤمنة قَبول الهجرة والرِّضا بترك الأهل والوطن، وكانتْ هذه مرة.




والمرة الثانية التي أخْبَر فيها الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحدوث هِجْرته كان غَريبًا شيئًا ما، ولكنَّ الحديثَ فيه ارتباطٌ يقتضي عرضه كاملاً، وألاَّ يقتصر فيه على الشاهد.




تروي السيدةُ عائشة - رضي الله عنها - في حدث النبوة، تقول:




"أوَّلُ ما بُدِئ به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الوحي الرُّؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاَّ جاءت مثلَ فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يَخلو بغار حراء، فيتحَنَّث فيه، وهو التعبد الليالِيَ ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثُمَّ يرجع إلى خديجة، فيتزَوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ))
قال: ((فأخذني فغَطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
[العلق: 1 - 3]))
فرجع بها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرجف فؤادُه، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: ((زملوني زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي))، فقالت خديجة: كلاَّ، والله ما يُخزيك الله أبدًا، إنَّك لتَصِلُ الرحم، وتَحمل الكلَّ، وتَكْسِب المعدوم وتَقْرِي الضيف، وتُعين على نوائبِ الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعُزَّى، ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتابَ العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالتْ له خديجة: يا ابنَ عمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل اللهُ على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أومخرجيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قَطُّ بمثل ما جئت به إلاَّ عُودي، وإن يُدركني يومك، أنصرك نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لَم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي"؛ [البخاري: 3].




وهنا أُمُور:




أولها: أنَّ هذا الإخبارَ بالهجرة والعداء كان في اليومِ الذي أصبح فيه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا، يا له مِن خبر! ويا لها مِن نفس تتحمله!




وهذا هو الأمرُ الغريب الذي أشرتُ إليه قبل إيراد الحديث، ووجهُ الغرابة سُرعة بيان ضخامة المسؤولِيَّة، وإعلامُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه لن يكون رسولاً؛ ليتكلَ على نصر الله له، وإنَّما لا بد أن يُهيِّئ نفسَه الكبيرة لأمورٍ كبار.




إنه سيُعادَى ويضطر لهجر مُجتمعه ، وسيضطر لهجر وطنه وأهله وماله.




الأمر الثاني:




أنَّ الحديثَ قَصَّ علينا تَمهيدَيْن:




الأول: تَمهيد للنبوة بالرُّؤيا الصادقة - التي هي جزء من أربعين جزءًا من النبوة.




والثاني: تَمهيد للهجرة بإخبار ورقة إيَّاه بذلك، فالأمران مُقترنان: النبوة والهجرة؛ لأَنَّهما ميلادان ومسؤولِيَّتان.




والأمر الثالث: فتور الوحي.




كأنَّما الله - تعالى - يعطي رسولَه فرصةً لإجالة الأمر في نفسه، واستيعاب مُستقبله الضَّخم، وإعداد النفس لتحمُّله، وهذا ما كان، فقد اشتاق الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - للوحي، حتى قالت عائشة - رضي الله عنها -: "وفتر الوحي فترةً، حتى حَزِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما بلغنا حَزَنًا غدا منه مرارًا؛ كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال"؛ [البخاري: 6982].





وهذه الفترة لم تكن إلاَّ تَمكينًا لاستشراف الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا المستقبل بما فيه من أحداثٍ عظام.

وكانتْ هذه هي المرة الثانية التي مَهَّد فيها للهجرة بالإخبار عنها.





وأمَّا المرة الثالثة، فهي رؤيا أُرِيَها الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل الهجرة، ورُؤيا الأنبياء حق؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُرِيت دارَ هجرتكم ذات نخل بين لابتين))، وعلقت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: "فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورجع إلى المدينة بعضُ مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة"؛ [البخاري: 2297].





والحديث يُبيِّن أَثَرَ هذه الرُّؤيا في فعل الصحابة، وَثَمَّةَ أمران:




أنَّ هجرةَ مَن هاجر دليلٌ على نَجاح التمهيد النفسي، الذي قَدَّره الله تعالى.




أنَّ عدم هجرة من هاجر حين ذلك دليلٌ على شِدَّة أمر الهجرة على النفوس؛ مما يؤكد قيمةَ التمهيد لها.





2- التمهيد النفسي للهجرة بإيجاد دوافعها:




فالله - تعالى - الذي أَمْرُه "كن" شاء أن يُؤذَى المسلمون إيذاءً يفوق التصوُّر، وأراد تعالى أن يُرِيَ الناس من عجائب تَحمُّل النفس الإنسانية ما تَمثَّل في الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة الأجلاء في أحسن بلاء؛ ليكونَ هذا للناس أسوة فيما يفعلون أو يتركون.





وذلك لأَنَّ هذا الأذى شمل كلَّ عنصر في حياةِ المؤمنين وقتئذٍ، العنصر النفسي والبدني والمالي، وقد كان لهذا الأذى فائدةٌ أخرى عظيمة، وهي فائدة التمحيص.





ومثالاً مُلَخّصًا على هذا الأذى:

عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائم يصلي عند الكعبة، وجَمْعُ قريش في مجالسهم - إذ قال قائل منهم: ألاَ تنظرون إلى هذا المرائي؟
أيُّكم يقوم إلى جزور آل فلان، فَيَعْمِد إلى فَرْثِها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلَمَّا سجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وضعه بين كتفيه، وثبت النبيُّ ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضُهم إلى بعض من الضَّحِك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - عليها السلام - وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبُّهم، فلما قضى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصلاة، قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش))، ثم سَمَّى: ((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبةَ بن ربيعة، وشيبةَ بنِ ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعُمارة بن الوليد))، قال عبدالله: فوالله، لقد رأيتهم صرعى يومَ بدر، ثم سحبوا إلى القَليب قَلِيب بدر، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وَأُتْبِعَ أصحابُ القليب لعنةً))".



والسلا من الناقة كالمشيمة من المرأة النفساء.




تُلْقَى على خير ظهر ركع، وأطهر رأس سجد.





وإذا كان هذا مع رأس المؤمنين، فما بالكم بالمؤمنين أنفسهم؟!
هذه سُمَيَّةُ المرأة من أول سبعة أظهروا الإسلامَ في مَكَّة؛ يقول عنها مُجاهد: "فلما كان العشي، جاء أبو جهل، فجعل يشتم سُمَيَّةَ ويرفث، ثم طعنها فقتلها"، وإنَّما كان قتله إيَّاها أنْ ضَرَبَها بحربة في فَرْجها، فنفذت منها، قتلان: مادي ومعنوي.



ويقول ابن سعد في طبقاته: "وهي أول شهيد في الإسلام، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة"، ولم تكن وحْدَها، بل أسرتها جميعًا: هي وزوجها ياسر وابنها عَمَّار.




ذكر العيني في "عمدة القاري": "كان عمار - رضي الله عنه - يعذب حتى لا يدري ما يقول".




وهذا بلال، يقول عنه مجاهد: "هانتْ عليه نفسُه في الله حتى مَلُّوه، فجعلوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانَهم أن يشتدوا به بين أخشبي مكة، وجعل يقول: أَحَد أَحَد".




وما تعذيبُ أميةَ فيه عنكم ببعيد.




وضُيِّقَ على أبي بكر - ومن هو نسبًا ومالاً - حتى شرع في هجرةٍ إلى الحبشة، ورَدَّه ابنُ الدغنة مُجيرًا إيَّاه، ثُمَّ رد هو جوار ابن الدغنة من بعدُ، واكتفى بجوار الله ورسوله.




وهذا غيض من فيض.




وقد كان هذا القَدْر - قدر وقوع الأذى - من الله بَيانًا صَريحًا إلى أنَّ اعتناقَ هذا الدين مسؤولية، لن يصلح لحملها إلاَّ الرجال، وأنَّ مَن تواصى بالحق لا بُدَّ أن يصبر كما قرَّر الله في سورة العصر.




وكان من أحسن فعل المؤمن بُرهانًا على إيمانه الوثيق أنْ يتركَ كلَّ ثَمين لأَجْلِ هذا الدين.




فكان هذا الأذى سَبيلاً إلى تَحقق المعنى الأول للهجرة، فقد هجر المسلمون الأوائل أهليهم وذراريهم من الكُفَّار، وهجروا حُبَّهم للمال، وهجروا تقاليدَ المجتمع الفارغة الضَّالة الجاهلة، ثم أدَّى بهم هذا النوع من الهجرة المعنوية إلى الهجرة الحقيقية.





فكان هذا الأذى كذلك سببًا في الهجرة من دار الكفر، وإن كانت وطنًا، وكانت الهجرة سببًا في الفتح.

والله - تعالى - أكرمُ من عباده، فكلُّ نَهر ضيق لا بد أن يصبَّك في بحر واسع؛ ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً
[النساء: 100].



فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى