عرض مشاركة واحدة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

(2- التمهيد العملي)


1- التمهيد العملي للهجرة بنظائرها:


كانت الهجرةُ الأولى والثانية للحبشة تَمهيدًا عظيمًا للهجرة الكبرى؛ إذ بَيَّنَتَا أنَّ وطن المسلم يكون حيث يأمن على إسلامه.


وأنَّ الهربَ بالدين خَيْرٌ من البقاء وسطَ المال والأهلين.

وأنَّ المسلمَ قادر على أنْ يَعيش المعنى الأول، وأن يقوم بالفعل الثاني.

وقد اختار الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرضَ الحبشة، خاصَّة؛ لعِلَّة مُهِمَّة؛ قال فيما روى ابن إسحاق: ((لو خرجتم إلى الحبشة، فإنَّ بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صِدْق حتى يَجعل الله لكم فَرَجًا)).

العدل مُبتغى المهاجرين؛ لأَنَّه في مكة لم يكن عدلٌ، فلم تكن حرية.

وقد صَدَّق فعلُ النجاشي قولَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

إذ لَمَّا أرسلت قريشٌ في أعقاب المهاجرين للحبشة عَمْرَو بنَ العاص في وَفْدٍ؛ ليرجع بالمؤمنين، تَكَلَّم بكلام يُبْدِي له ولقومه الحق، فما كان من النجاشي إلاَّ أنِ استمع لجعفر، كما استمع لعمرو، فكان قرارُه: "سيحوا في الأرض لا يسبكم أحدٌ إلاَّ عوقب".


ولقصة الهجرة الأولى إلى الحبشة رَوْعةٌ وحُسن، فلا يَحسُن أن نَمُرَّ بها ولا نذكرها:

"عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: "لما نزلنا أرضَ الحبشة، جاورنا بها خَيْرَ جارٍ النجاشي، آمنَّا على ديننا، وعبدنا اللهَ لا نؤذى، ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلَمَّا بلغ ذلك قُرَيْشًا، ائتمروا أنْ يَبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَيْنِ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأَدَم، فجمعوا له أَدَمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بِطْريقًا إلاَّ أهدوا له هَدِيَّة، ثم بعثوا بذلك مع عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمْرَهم.

وقالوا لهما: ادفعوا إلى كلِّ بطريق هديَّته قبل أن تكلموا النَّجاشي فيهم، ثُمَّ قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أنْ يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دارٍ، وعند خير جار، فلم يبقَ من بَطارقته بطريقٌ إلاَّ دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النَّجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنَّه قد صَبَا إلى بلد الملك منَّا غِلْمان سُفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدينٍ مُبْتَدع لا نعرفه نَحن ولا أنتم، وقد بَعَثَنا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم؛ ليرُدَّهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإنَّ قومهم أعلى بهم عَيْنًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنَّهما قربا هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما.


ثم كلماه فقالا له: أيُّها الملك، إنَّه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدِينٍ مُبْتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عَيْنًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيءٌ أبغضُ إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمعَ النجاشيُّ كلامَهم، فقالت بطارقته حوله: صَدَقوا أيُّها الملك، قومُهم أعلى بهم عَيْنًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادِهم وقومهم، قال: فغضب النجاشي، ثم قال: لاَ ها اللهِ ايمُ الله، إذًا لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قومًا جَاوَروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان، أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك، منعتهم منهما، وأحسنت جوارَهم ما جاوروني.


قالت: ثم أرسل إلى أصحابِ رَسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعاهم، فلَمَّا جاءهم رسولُه، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نَبِيُّنا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه وقد دعا النَّجاشي أساقفته، فنشروا مصاحِفَهم حوله، سألهم، فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟


قالت: فكان الذي كَلَّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيُّها الملك، كُنَّا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحشَ، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، يأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرفُ نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله؛ لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحشِ، وقول الزُّور، وأكل مالِ اليتيم، وقَذْف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحْدَه لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصَّلاة والزَّكاة والصيام.


قالت: فعَدَّد عليه أمورَ الإسلام، فصدقناه، وآمنا به، واتَّبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحْدَه، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحَلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادةِ الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كُنَّا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا، وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظْلَمَ عندك أيُّها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صَدْرًا من (كهيعص)، قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أَخْضَل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحِفَهم حين سَمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إنَّ هذا والله والذي جاء به موسى لَيَخْرُج من مِشْكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد.


قالت أم سلمة: فلَمَّا خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله، لأُنَبِّئنهم غدًا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبدالله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله، لأخبرنه أنَّهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنَّهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا، فأرسل إليهم فاسألهم عَمَّا يقولون فيه.


قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القومُ، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟

قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلَمَّا دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟

فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبيُّنا، هو عبد الله ورسولُه ورُوحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتول، قالت: فضرب النجاشي يدَه إلى الأرض، فأخذ منها عُودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قُلْتَ هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - مَن سَبَّكم غرم، ثم مَن سَبَّكم غرم، فما أحب أن لي دَبْرًا ذهبًا، وأنِّي آذيت رَجُلاً منكم - والدبر بلسان الحبشة: الجبل - رُدُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجةَ لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه.


قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بِخَيْرِ دار مع خير جار، قالت: فوالله، إنَّا على ذلك إذ نزل به؛ يعني: مَن يُنازعه في ملكه، قالت: فوالله، ما علمنا حزنًا قطُّ كان أشدَّ من حزن حزناه عند ذلك؛ تَخَوُّفًا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حَقِّنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: مَن رجلٌ يَخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟


قالت: فقال الزُّبير بن العوام: أنا، قالت: وكان مِن أحدث القوم سِنًّا، قالت: فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم سبح عليها، حتى خرج إلى ناحيةِ النيل، التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنَّجاشي بالظُّهور على عَدُوِّه، والتمكين له في بلاده، واسْتَوْسَق عليه أمرُ الحبشة، فكُنَّا عنده في خَيْرِ مَنْزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو بمكة"؛ [مسند أحمد: 1740، حسنه الشيخ شعيب الأرنؤوط].


هذا عن الهجرة الأولى، وكان فيها اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان ومعه زوجه رقية بنت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



أمَّا عن الهجرة الثانية، فتُحَدِّث أمُّ سلمة عنها، تقول: "لما قدم أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكة من الهجرة الأولى، اشْتَدَّ عليهم قومُهم، وسَطَت بهم عشائرُهم، ولقوا منهم أذًى شديدًا، فأَذِنَ لهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الخروج إلى أَرْضِ الحبشة مَرَّة ثانية، فكانت خرجتُهم الآخرة أعظمها مَشَقَّة، ولقوا من قُريش تَعنيفًا شديدًا، ونالوهم بالأذى، واشْتَدَّ عليهم ما بلغهم عن النَّجاشي من حُسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، فهجرتنا الأولى، وهذه الآخرة إلى النجاشي ولست معنا؟


فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنتم مهاجرون إلى الله وإلَيَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا))، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله، وكان عدةُ مَن خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين رجلاً، ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشيَّة، وسبع غرائب، فأقام المهاجرون بأرضِ الحبشة عند النجاشي بأحسن جوار، فلما سَمِعوا بمهاجر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر، وشهد بدرًا منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً، فلَمَّا كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، كتب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى النجاشي كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أُمَيَّة الضمري، فلما قُرئ عليه الكتاب، أسلم، وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته، وكتب إليه.


ولما تَمَّت الهجرتان واستويتا، وشاع شأنهما وما أصاب المسلمين فيهما من خير، كانت النفوس مهيأةً للهجرة الكبرى. فما كان من أمر المؤمنين حين أذن لهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهجرة إلى المدينة، إلاَّ أن خرجوا أرسالاً، وبعض منهم كان ممن هاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة وهاجر منها إلى المدينة، وبعض منهم بَقِيَ في الحبشة حتى هاجر منها إلى المدينة مباشرة، منهم جعفر وافى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند خبير، وقال الرسول: ((لا أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)).



2- التمهيد العملي للهجرة بالفتح لها:


فهو فَتْحُ اللهِ قلوبَ أهل المدينة لاستقبال هذا الدين؛ إذ كان شأن هذين البَيْعَتَيْنِ، كشأن زَرْعٍ أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ.


وكان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو في مواسم الحج، والحج مؤتمر كبير، فأسلم من أهل المدينة ستة نفر، عام 11 من النبوة، ثم رجعوا إلى قريتهم بوجوه غير التي تركوها بها، ينفح منها السكينة والإشراق، وكانوا كالريحان يَعْرَف، فأسلم بما نفحوه من عطر الهدى سبعةٌ آخرون.

ثم قابلوا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العام التالي 12 من النبوة، فبايعوه على مثل بيعة الحديبية: الإيمان، والعمل، والطاعة.

ثم رجعوا ينشرون النورَ بين ذَويهم، حتى صاروا كثيرًا عددهم، وأرسل معهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أولَ سفراء الإسلام: مصعب بن عمير، الذي كان موفقًا أيَّ توفيق في الدعوة إلى الله، وأسلم على يديه كبراء القوم. وفي العام التالي جاؤوا إلى الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بضعًا وسبعين نفسًا، تركوا وراءهم شوارع المدينة وديارها مضاءة بنور الهدى.


وكانت هذه البيعةُ الثانية لها شأنها في التمهيد العملي للهجرة الكبرى.

يروي الإمامُ أحمد عن كعب بن مالك، قال: "... اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع، قال: فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى جاءنا ومعه يومئذٍ عمُّه العباس بن عبدالمطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه، إلاَّ أنَّه أحَبَّ أن يَحضر أمْرَ ابن أخيه، ويتوثق له، فلَمَّا جلسنا، كان العباسُ بن عبدالمطلب أولَ مُتكلم، فقال: يا معشر الخزرج - قال: وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أوسها وخزرجها - إنَّ محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رَأْيِنا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه ومَنَعَة في بلده.


قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتلا ودعا إلى الله - عزَّ وجلَّ - ورَغَّب في الإسلام، قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم))، قال: فأخذ البَرَاء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق، لنمنعَنَّك مما نَمنع منه أزرنا، فبايعنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنحن أهلُ الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر.


قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبدالأشهل، فقال: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها؛ يعني: العهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجعَ إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبَسَّمَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: ((بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب مَن حاربتم، وأسالم من سالمتم))، وقد قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أخرجوا إلَيَّ منكم اثني عشر نَقيبًا يكونون على قَومِهم))، فأخرجوا منهم اثني عشر نَقيبًا، منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وأَمَّا معبد بن كعب، فحدثني في حديثه عن أخيه عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يَدِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - البَرَاء بن معرور، ثم تتابع القوم..."؛ الحديث [أحمد: 15836، حسنه الشيخ الأرنؤوط].


وإنَّما كان لهذه البيعة هذا الشأن؛ لأَنَّها كانت مِيثاقًا دائمًا آخره الموت، ينسلخ الأنصار من كلِّ عهد وحلف، إلاَّ عهد الرسول وحلفه، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يذهب إليهم، ثُمَّ لا يعود إلى مَكَّة، وهذا يعني أنَّ المدينة هُيِّئَت التهيئةَ التامَّة لإقامة الرسول والمؤمنين بها منصورين مُنشئين دولةَ الإسلام.


ولَمَّا تَمَّت بيعةُ العقبة الأولى والثانية، كان هذا الاستعداد للنُّصرة أكبَرَ مُمهد للقيام بالهجرة، فها هي أرض العرب تُمْهَد فيها مساحةٌ لقَبول المؤمنين، قريبة من مكة، مثيلة في أعرافها وحياتها الاجتماعية لما ألف المؤمنون.

فتَمَّ قَدَرُ الله وحكمته البالغة في التَّمْهِيد العملي للهجرة الكبرى.