مجتمع رجيم

مجتمع رجيم (https://forum.rjeem.com/)
-   الموضوعات الاسلامية المميزة .. لا للمنقول (https://forum.rjeem.com/f311.html)
-   -   الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432) (https://forum.rjeem.com/t103585.html)

|| (أفنان) l| 05-24-2011 03:25 PM

الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432)
 
http://img444.imageshack.us/img444/9...8barwx6zq4.gif


http://www.rjeem.com/up/images/pxnx9hwvmapzyhm70x4.gif




العلامة المربّي القدوة عبد الرحمن الباني
سيرة وخواطر ووقفات
(1335-1432)



http://www.ikhwanonline.com/Data/2011/4/23/asd27.jpg

إنا لله وإنا إليه راجعون.
توفي قبيل فجر أمس الخميس 9/6/1432 شيخنا الإمام العلامة، الزاهد الورع، العالم العامل، مؤسس علم التربية الإسلامية، وعميد السلفيين
في بلاد الشام، التقي النقي الخفي، الشيخ الصالح القدوة المعمَّر، أبو أسامة، عبد الرحمن بن محمد توفيق الباني الحَسَني الدمشقي
نزيل الرياض، والمتوفى بها، إثر مرض عضال، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته،
وأخلف على المسلمين من أمثاله.
أَهَكَذَا البَدْرُ تُخْفِي نُورَهُ الحُفَرُ * ويُفْقَدُ العِلْمُ لا عَيْنٌ ولا أَثَرُ
خَبَتْ مَصَابِيحُ كُنَّا نَسْتَضِيءُ بها * وَطَوَّحَتْ للمَغيبِ الأَنْجُمُ الزُّهُرُ
وَاسْتَحْكَمَتْ غُرْبَةُ الإسلامِ وَانْكَسَفَتْ * شَمْسُ العُلومِ التي يُهْدَى بها البَشَرُ
تُخُرِّمَ الصَّالِحُونَ المُقْتَدَى بِهِمُ * وقامَ مِنْهُمْ مقامَ المُبْتَدا الخَبَرُ
فَلَسْتَ تَسْمَعُ إلا "كانَ ثُمَّ مَضَى" * ويَلْحَقُ الفارِطَ الباقي كما غَبَرُوا
والناسُ في سَكْرَةٍ مِنْ خَمْرِ جَهْلِهِمُ * والصَّحْوُ في عَسْكَرِ الأمواتِ لو شَعَرُوا
نَلْهُو بِزُخْرُفِ هذا العَيْشِ مِنْ سَفَهٍ * لَهْوَ المُنَبِّتِ عُودًا ما لَهُ ثَمَرُ
وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
فكان لزامًا وواجبًا على محبّي الشيخ وعارفي فضله نشر مآثره العطرة، فإنه قدوةٌ سلفية علمية سلوكية قلّ نظيرُها في هذا العصر، ورأيتُ ذلك متأكدًا عليّ، إذ إني تشرفتُ بمعرفة الشيخ منذ الطفولة على يد والدي رحمه الله، وزادت صلتي به في آخر سنيه إلى وفاته، فيا عينُ كفكفي دموعك، ويا قلب تصبَّر، فإن المصاب حديث، والخطب جَلَل، ولكن عِظَم الواجب يغالب الألم والحزن، وليعذرني القراء إن لم تكن الأفكار مرتبة كما ينبغي، ولا الكلمات توفي حق شيخنا الفقيد، فهي خواطر ووقفات بنات وقتها وحالها.
نسب الشيخ وأسرته:
هو الشيخ عبدالرحمن بن محمد توفيق (اسم مركب) بن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن الشيخ عثمان بن مصطفى بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر القاري الموصلي بن محمد بن عبدالكريم الأزعر بن إبراهيم بن محمد بن خليل بن محمد بن شرف الدين يحيى بن الحسين قضيب البان الموصلي (جد الأسرة) ابن عيسى أبي ربيعة بن يحيى أبي الخضر بن علي الموصلي بن عبدالله بن محمد الثعلب بن عبدالله الأكبر بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن عبدالله الرضا بن موسى الجون بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
ينتسب لأسرة دمشقية عريقة، معروفة بالعلم والأدب، وتعدد العلماء والفضلاء في الأسرة، ولعل أشهرهم العلامة السلفي الشيخ محمد سعيد الباني
(ت1351) مؤلف «عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق»، وهو عم شيخنا، ومنهم الشيخ محمد توفيق الباني (ت1338)- والد شيخنا-
وكان من أهل العلم المشتغلين بالتجارة، وكان قد خَلَف والدَه (جد الشيخ) معيدًا لدرس البخاري تحت قبة النسر في الجامع الأموي،
من أيام جدِّه لأمه الشيخ مسلَّم الكزبري، إلى أيام بدر الدين الحسني.
ووالدة شيخنا إحدى الفضليات الصالحات، واسمها فاطمة القاري.
وأبناؤها على الترتيب: أسماء، ثم محمد بشير، ثم عبدالهادي، ثم شيخنا عبدالرحمن، ثم سهيمة.
وله أخوان كبيران من أبيه، هما: محمد، وفاطمة، وأمهما ابنة الشيخ أمين الموصلي، وهي أخت أمين الفتوى الشيخ عز الدين،
وهذا استفاد منه شيخنا تعلم الخط.
وتصاهرت الأسرة مع أسر دمشق العريقة، فكان من قرابته المشايخ: بدر الدين الحسني، وعبد القادر الخطيب- وكلاهما ابن خالة لأبيه-
ومحب الدين الخطيب، وعلي الطنطاوي، وغيرهم، رحمهم الله جميعًا.
النشأة:
وُلد شيخنا رحمه الله في شعبان سنة 1335- كما وَجد هو بخط أبيه- بحي الدقاقين قرب الجامع الأموي بدمشق، وتوفي والد الشيخ وهو ابن الثالثة، ولا يتذكره إلا في موقف واحد وهو يحويه بعباءته، وفي صغره اضطرت أسرته للانتقال من منزلها-الذي كان أنموذجًا للعمارة الدمشقية العريقة، وكان جزءًا من بيت «ست الشام» المذكور في التواريخ- بسبب خطر القتال مع المحتلين الفرنسيين، حيث دخلت رصاصة في البيت إحدى المرات، ومرة سقطت شظية في بحرة الدار، فانتقلوا لمنزل قريبهم الشيخ عبدالقادر الخطيب الحسني في حي النوفرة، وذلك في سنة 1343 يوافقها 1925م.
فنشأ الشيخ في جو عائلي إسلامي ملتزم، وتولى تربيته وتوجيهه ورعايته أخوه الأكبر- غير الشقيق- محمد، واستفاد أيضًا من عمه العلامة محمد سعيد، ولعل شيخنا خاتمة تلاميذه، ثم استفاد من رفقة وصحبة شقيقيه الشيخ محمد بشير (1329-1429) والشيخ عبدالهادي (1334-1432)، والشيخ عبدالرؤوف الأسطواني، والشيخ صلاح دعدوش، وبعدهم الشيخ أحمد مظهر العظمة، وصديقه البار الشيخ محمد أمين المصري،
رحم الله الجميع.
الدراسة وطلب العلم:
دخل شيخنا المدرسة الجوهرية السفرجلانية، لصاحبها معلم الأجيال في دمشق الشيخ محمد عيد السفرجلاني، واستفاد كثيرًا من توجيهاته ونصائحه، واستفاد أيضًا من مدرّسيها، وعلى رأسهم الشيخ علي الطنطاوي، والشيخ عبدالوهاب دبس وزيت، والشيخ سعيد البرهاني، وكان الطلبة يدرسون فيها اليوم كاملًا، ويصلون الظهرين في جامعها، ويأتون بغدائهم في السفرطاس (حافظة الطعام).
ثم أكمل دراسته في مكتب عَنْبَر، ثم في مدرسة جودة الهاشمي، وكان منذ ذلك الوقت يناديه المدرسون: «السيد الباني»، احترامًا لشخصيته وعلمه وسلوكه، وكانوا يقدّمونه فيها، ومن أساتذته الذين تأثر بهم: الشيخ عبدالقادر المبارك، والشيخ محمد سَليم الجُندي، والشاعر محمد البزم.
ثم دخل معهد المعلمين، وكان الأول على دفعته، وكتب فيها بحثًا عن ابن خلدون، وآخر عن أسلوب التربية، وحصّل شهادة أهلية التعليم سنة 1362 (يوافقها 1943م).
ودرَّس بعد تخرجه في مدرسة التهذيب قرب جامع الحنابلة في الصالحية، ومدرسة سعادة الأبناء التي أنشأها الشيخ علي الدَّقْر، ومدرسة عمر بن عبدالعزيز في حي عَرْنوس، درّس فيها الصف الأول.
ومنذ شبابه لازم مع شقيقيه محمد بشير وعبدالهادي، دروس الشيخ محمد أمين كَفْتارو، ويذكر الشيخ الباني عنه صلاحًا وزهدًا حقيقيًّا
وصار مريدًا صوفيًّا نقشبنديًّا عنده، واستفاد منه في السلوك.
وبعد وفاته انتقل مريدًا عند ابنه الشيخ أحمد كفتارو- المفتي الرسمي لسورية بعد ذلك-
ويقول: إنه لم يتخلف عن شيء من دروسهما، إلى حين تركه للتصوف واهتدائه للسلفية، كما حضر شيئًا عند محمد أمين شيخو،
ووصفه بالذكاء الشديد مع الجهل التام في الشرع!
وحضر شيئًا يسيرًا من دروس ابن خالة أبيه الشيخ بدر الدين الحَسَني، وذكر له أخبارًا أسرية خاصة،
يقول: كان على وجهه نور العلم.
وحضر درسًا واحدًا مع أخويه عند الشيخ علي الدَّقْر في جامع السادات
.
الدراسة في القاهرة:
ثم ابتعثته وزارة المعارف السورية إلى كلية أصول الدين بالأزهر، وكان أول مبتعث من هذه الوزارة في العلوم الشرعية، فبقي في القاهرة سبع سنين بدل الأربع التي ابتُعث لها،
وكان يقول: رأيت من الواجب الاجتهاد والاستفادة بأقصى ما يُمكن لخطورة المرحلة وحاجة المسلمين، فالصراع في الشام خاصة وفي العالم عامة بحاجة لإعداد قوي.
فحصل في هذه المدة على أربع شهادات!
فنال الشهادة العالية لكلية أصول الدين في الأزهر سنة 1364هـ/1945م.
وشهادة العالِمية مع الإجازة في الدعوة والإرشاد من الأزهر 1366هـ/1947م.
وشهادة الليسانس في الفلسفة من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) 1369هـ/1950م،
وكتب فيها بحثًا عن ابن عربي وكتابه الفصوص.
وإجازة التدريس من المعهد العالي للمعلمين في القاهرة 1370هـ/1951م.
وخلال تلك المدة المكثفة استفاد كثيرًا من المشايخ والدعاة، ولازم درس الثلاثاء للداعية حسن البنّا ملازمة تامة إلى وفاته، واستفاد من همّه الدعوي،
ويقول: إنه أنشط داعية رآه.
ودخل مع جماعة الإخوان المسلمين وقتًا، واعتقل معهم سنة 1949.
وفي نفس الوقت كان حريصًا على إفادة وتوجيه زملائه السوريين الدارسين في مصر
فقال لنا الشيخ محمد أديب الصالح: كان لي ولزملائي في القاهرة مثل ولي أمرنا في توجيهه ونفعه وعنايته، مع فارق السن.
والجدير بالذكر أن الشيخ دَرَس اللغات الفارسية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية، لكنه تركها واعتنى بالعربية الفصحى فقط، ويعزو حبَّها لشيخيه عبدالقادر المبارك والجندي.
ورجع إلى دمشق سنة 1951م.
العودة إلى دمشق:
بعد عودته من مصر عُيّن مدرسًا في الثانوية أيامًا قليلة، ثم تولى التدريسَ في دار المعلمين الابتدائية بدمشق، ودار المعلمات، وفي كليتَي الشريعة والتربية بجامعة دمشق، مدة سنتين، وكان في كلية التربية مشرفًا على القسم التطبيقي العملي لطلاب الشريعة.
ثم عيِّن مفتشًا اختصاصيًّا لمادة التربية الإسلامية، فكان المسؤول الأول عن كل ما يتصل بالمادَّة، من تأسيس المناهج وتنقيح الكتب، واختيار المعلمين، وجاهد في ذلك ضد دعاة الاشتراكية والقومية والعلمانية، لا سيما أن بعض قياداتهم تولى وزارة التربية!
وصبر على المكائد والأذية - ومنها السجن والفصل وقطع الراتب -
إلى أن أصلح الله به أمورًا عظامًا، فضاعف حصصها، وتضخم المنهج من كتيب هزيل إلى مجلد كبير غني بالعلم، وهذّبه ونقاه من الخرافات والبدع والأحاديث الضعيفة، وبقي أثره في مناهج سورية مدة طويلة، وهذا أمر مشهودٌ له ومعروف، والحديث عنه يستحق مجالًا واسعًا، فجزاه الله خيرًا.
وكان للشيخ نشاط متميز في نشاطات مسجد جامعة دمشق، وينتهز فرصة مجيء كبار الشخصيات الإسلامية عند زيارة دمشق، فكان مرافقًا لمجيزنا الشيخ أبي الحسن الندوي في دمشق، وقد أثنى عليه في مذكراته، واستفاد من العلامة تقي الدين الهلالي، وكذلك رافق الشيخ المحدث أحمد محمد شاكر المصري- وكان لقيه في مصر قبل - وزار بمعيته الشيخ الألباني،
وقال: أعجب كل منهما بالآخر. ومثله سيد قطب،
ويقول: دعوتُه لحضور درس الألباني في بيتي، فجاء، وسر كل منهما بالآخر أيضًا.
وهذا يجرنا للحديث عن علاقته بالشيخ الألباني:

التعرف إلى الشيخ الألباني، والانتقال للسلفية:
رجع شيخنا إلى دمشق سنة 1951 كما تقدم، وهناك عرّفه زميله الشيخ الدكتور محمد أمين المصري بالشيخ الإمام المحدّث محمد ناصر الدين الألباني رحمهما الله تعالى، ويقول شيخنا الفقيد: إن هذا أكبر معروف أسداه لي الشيخ المصري.
يقول شيخنا: «وجدتُّ عند الشيخ الألباني ما لم أجده عند علماء مصر، خاصة في السنّة وتحقيقها، والاهتمام بالتصفية والاقتصار على الصحيح، وحفظ الوقت، وما أعرف في المعاصرين أشد حفاظًا على وقته منه، ولما وجدته على هذا العلم الغزير بالسنة والعقيدة رجوتُه أن يعمل عندي درسًا في بيتي، فاستجاب لي في حدود سنة 1371-1373 (1952-1954)، وأول ما درّسناه لمعة الاعتقاد، ولكن أهم من ذلك كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبدالوهاب، فكنا نقرأ في الكتاب، ويحل لنا كلام المؤلف، لا سيما فهم وجه استنباط المسائل، وله فضل كبير علينا.
وصرنا نلتقي مع الإخوة على حفظ القرآن ودراسته، ومنهم الأستاذ محيي الدين القُضْماني.
فبقيت أدرس على الشيخين أحمد كفتارو والألباني معًا، وكان درس كفتارو في جامع أبي النُّور بعد العصر، ودرس الألباني بعد المغرب في بيتي قرب جامع الشَّمْسِيَّة، فإذا فرغت من الدرس الأول أركض ركضًا لأدرك ضيوفي عند بيتي! فلم تكن هناك مواصلات، وأحيانًا أجدهم واقفين عند الباب ينتظرونني فأعتذر لهم، وكان الألباني لا يتكلم أمامي بشيء على كفتارو والتصوف، ويكتفي بالتدريس، وبعد مدة وجدت بطريقته المنهجية الحكيمة المقنعة أن الإسلام الصافي النقي شيء، وأن التصوف شيء آخر، وأثّر فيّ أيضًا رؤية الفارق من تعفف الشيخ الألباني الذي قلّ نظيره، وبين مد غيره للتقبيل و(كبس اليد) بالنقود! وتعريضه قائلًا: إذا ذهب أحد للطبيب ألا يدفع له؟
ومما أثّر فيّ أيضًا وصدّني عن التصوف تركيز الشيخ الصوفي على إلغاء عقل المريد، وترسيخ فكرة أن الشيخ محفوظ
- لا يقولون معصوم، لكن هذا الواقع- حتى لو جاء بما يخالف الشرع في ظاهره، فعلى المريد أن يتبعه».
ويستشهد شيخنا بثلاث قصص شنيعة سمعهما من شيخه كفتارو عشرات المرات كان يرددها ويرسخها في مريديه،
إحداها: قصة ذلك الشيخ الصوفي الذي كان يسيح في الأرض ويمشي على الماء، وأصر مريد له أن يصحبه، والشيخ يرفض، ومع الإلحاح وافق بشرط أن يطيعه في كل شيء، فمضيا، ولما وصلا للماء قال له الشيخ: أنا أقول: «يا الله» فأمشي على الماء، وأنت اتبعني ورَدِّد: «يا شيخي» وستمشي مثلي، فلما انتصف في البحيرة جاء الشيطان ووسوس للمريد: أنت تقول: «يا شيخي»! طيب شيخك يقول: «يا الله»،
فلماذا لا تقول أنت مباشرة مثل شيخك: «يا الله»؟ فلما قالها سقط في الماء! وصار يستغيث بشيخه، وأقبل هذا يسبه ويقرّعه،

ويقول له: هل أنت كفؤ أن تقول بلسانك: «يا الله»؟ أنت وِرْدُك أن تقول: «يا شيخي»!

فتاب المريد من التوحيد! ورجع إلى قول «يا شيخي»، فنجا من الغرق!
فهذه القصة يقول شيخنا الفقيد: ((إنه سمعها من شيخه أكثر من مئة مرة))، وكان عندما يحكيها لنا يشتد غضبًا وحرقة، وفي مرات عدة تدمع عيناه، ويقول: صار التوحيد وسوسة الشيطان ومهلكة! والشرك والإستغاثة بغير الله دينًا وخلاصًا! ولا حول ولا قوة إلا بالله.



وهكذا انتقل شيخنا للسلفية عن علم وقناعة وتجربة، وكان في مجالسه كثير الترداد لهذه القصص ولتجربته.
ومن الجدير أن يُذكر أن الإمام الألباني ألّف كتابه «آداب الزفاف» بمناسبة زواج الشيخ الباني وبطلبه، وألّف لأجله أيضًا «أحكام الجنائز»،
وكتابين آخرين.
وقال لنا شيخنا قبل وفاته بأشهر في 14/11/1431:
فضائل الألباني عليّ أوجزها في ثلاث:
((نقلني من الصوفية إلى الاتجاه الصحيح السلفي، وأفادني العلم بالسنّة على قدر إمكانياتي، واستفدت من خلقه وسيرته نموذجًا مثاليا، فما كان يمد يده لأحد، ويستغل وقته، كنتُ أزوره في جامع الجُرْزة قرب القَصّاع في محل الساعات المتواضع له، عنده "عدّة" العمل، وخلفه رفوف فيها كتب، فإذا فرغ من عمله اشتغل وقرأ في كتبه)).


الانتقال إلى السعودية:
بقي شيخنا رأس المناهج الشرعية في سورية نحو عشر سنين، وكانت سمعته وجهوده العلمية وصلت لكبار العلماء في السعودية
فحاول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله ضمّه للجامعة الإسلامية أوائل تأسيسها، عندما سعى لاستقطاب كبار علماء العالم الإسلامي للجامعة
ولكن اعتذر شيخنا بأن بقاءه في المناهج الشرعية أكثر نفعًا، وفي وقت مقارب استدعاه وزير المعارف في السعودية معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ رحمه الله للعمل في الوزارة، وأرسل له الشيخَ عبدالعزيز المسند رحمه الله- وهو حدّثني بذلك- فرأى شيخنا أن هناك مجالًا جديدًا رحبًا لخدمة الإسلام عبر المناهج في السعودية، إضافة للتضييق الذي حصل له في بلاده، فانتقل إلى الرياض سنة 1383 تقريبًا (نحو سنة 1964م)، وحدثني معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي- أمين الجامعة الإسلامية آنذاك-

قال: كنا حريصين جدًّا على قدوم الشيخ الباني للجامعة، ولكن (خطفته منا) وزارة المعارف!



وبانتقاله للسعودية صار شيخنا من أركان التعليم الحديث فيها، فعمل في وزارة المعارف، وفي إدارة معاهد إعداد المعلمين، وكانت له جهود عظيمة فيهما، وشارك في تأسيس المعهد العالي للقضاء، ووضع مناهجه، بتكليف من الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، وشارك أيضًا في وضع سياسة التعليم بالمملكة، وكان عضوًا خبيرًا في اللجنة الفرعية لسياسة التعليم، ويرى أن هذه السياسة هي وثيقة ثمينة عظيمة النفع متكاملة، أقيمت وفق الشريعة الإسلامية، تصلح لنهضة التعليم في العالم كله.
ودرّس أيضًا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، في كلّيتَي الشريعة واللغة العربية وفي قسم الاجتماع من كلية التربية، وكان عضوًا في لجنة قبول الطلاب للمرحلة العالية (الماجستير)، وبلغ تدريسه الجامعي نحو 30 سنة، أشرف فيها على عدد من رسائل الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه)، وشارك في مناقشة رسائل أخرى، وكان أوّلَ من وجّه طلاب الدراسات العليا إلى دراسة الفكر التربوي عند أعلام المسلمين، كالفكر التربوي عند الغزالي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن خلدون.
وكان شيخنا هو من اقترح وشارك في تأسيس مدارس تحفيظ القرآن الكريم التابعة لوزارة المعارف بالمملكة.
وأسهم في نحو سنة 1392 في تأسيس مدارس (منارات الرياض الأهلية) مع الأمير محمد الفيصل وعدد من الفضلاء، وهي مدارس نموذجية رفيعة المستوى، غايتها تربية طلابها على الإسلام في منهج تربوي متكامل، وهي مشروع غير ربحي، وعمل الشيخ فيها موجِّهًا ومشرفًا عامًّا سنوات منذ 1412 حتى 16/8/1418 حيث عين مستشارًا لوزير المعارف (ثم التعليم).
وبقي شيخنا مستشارًا ثماني سنوات، إلى أن عُيّن الوزير العبيد، فجرى ما جعل شيخنا يطلب الإعفاء أوائل سنة 1426، وتقاعد عن العمل الوظيفي، وقد جاوز التسعين! وقد ابتدأ العمل الوظيفي في التربية والتعليم سنة 1362، تقبل الله منه.
وأيضًا كان عضوًا في لجنة المراجعة النهائية للموسوعة العربية العالمية التي صدرت في ثلاثين مجلدًا برعاية ولي العهد الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود.
وعضوًا في لجان جائزة الملك فيصل العالمية ثلاث سنوات.
وشارك في عدد من المؤتمرات العلمية والإسلامية داخل المملكة وخارجها.
مواقف وأخبار
الإخلاص:
كل من يعرف الشيخ يعلم أنه كان مبتعدًا تمامًا عن الأضواء، ويهرب منها، ويعمل أعمالًا كبيرة في صمت، مع كرهٍ بالغ للثناء،
لقد عمل الشيخ أكثر من ستة عقود في مجال التربية والتوجيه والتعليم مشرفًا ومؤسسًا ومدرِّسًا، ومع ذلك ما كان يتكلم عن أعماله إلا نادرًا،
وكم رأيناه يكره الثناء ويُحرَج من ثناء بعض الكبار عليه إذا اجتمعوا، ومنها مجلس عامر في الرياض سنة 1423 تقريبًا
لما زار الشيخان الباني والصباغ شيخنا المحدّث عبدالقادر الأرناؤوط رحمه الله، فطفق يثني على الشيخ الباني، ويعدد لنا فضائله وكلام بعضهم عنه، والشيخ الباني يشير له بيديه أن توقف!
ومرة في 19/3/1426 زار الشيخان الباني والصباغ شيخنا بكري الطرابيشي عند ابنه الدكتور حمزة في الرياض، فبدأ الشيخ بكري يثني عليه ويذكر فضله، ويحثُّه على الظهور في الإعلام، فرد الشيخ الباني بكلامٍ يوجز منهجه
قائلًا: أنا رأيت أن الأفضل لي ولدعوتي أن أخدم الإسلام في الظل. فرد عليه شيخنا الصباغ: لكنك هكذا تبرد يا سيدي!
لازم تذهب تحت الشمس قليلًا
وأذكر أن الأستاذ فهد السنيدي حاول مرارًا مع شيخنا ليستضيفه في برنامجه الناجح: «صفحات من حياتي» على قناة المجد،
وكذلك حاول الشيخ فهد الشميمري مؤسس القناة - وهو من تلامذة الشيخ - أن يخرجه للإعلام، ووسّطا الوسائط، فامتنع الشيخ.
وأذكر موقفًا خاصًّا، وهو أني بقيت مدة أحاول مع الشيخ أن يحدّث بذكرياته، وأحث على ذلك بعض القريبين منه، ومع الإلحاح وافق بتحرج،
وبدأ يحدثنا وأنا أكتب وراءه سنة 1424- أي لما شارف التسعين من العمر!
- وفي البدايات كان يبدأ ثم يبتعد كثيرًا عن سيرته الخاصة للكلام عن أحداث وأعلام عايشهم، بما أشعر أنه يتعمد فعله، وأعيده بما أستطيع للموضوع، وكنا نجمع المعلومات عنه (بالقطّارة)
كما يقال، وكان يرفض التسجيل بتاتًا، بل كنت أراه هو وشيخنا الصباغ لا يرتاحان- في البداية - لكوني أعوّض التسجيل بالتقييد الكامل للكلام
في الدفاتر، وحصلت لي بعض المعاناة الخاصة، لا سيما بسعاية أحد (الفضلاء)!


ولكن ساعدنا كثيرًا صهر الشيخ الفاضل أبو حذيفة، وبعد وقت كلَّمني الشيخ
وقال: أنا لا أسمح أن يُنشر عني شيء في حياتي!

وكلّف ابنه أن يؤكد ذلك عليّ، كل هذا حرص منه ألا تخرج أعماله ولا يُتحدَّث بها، إلا أن شيخنا تسهل أمره مع الوقت، ولعله اقتنع بأهمية تقييد تاريخه ومذكراته للجيل الجديد، مع دنو أجله، وبحمد الله قيّض الله له الأخ الشيخ البار أيمن ذو الغنى الذي لازمه كثيرًا،
فهو تولى موضوع كتابة الذكريات، وانشرح له الشيخ وأمدّه وخصّه بالكثير، فكفى بذلك غيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،
أعانه الله وسدّده، ويسّر له إخراج الفوائد التي عنده.

ومن قصصه: أن علامة الكيمياء البارع الدكتور عبد الله حجازي- وهو من قدماء الملازمين للشيخ- قال لنا في مجلس شيخنا بتاريخ 2/12/1430: لما ترجمتُ كتاب فيدرمان للعربية كان ينقل من مصادر عجيبة بالعربية، فكان الأستاذ الباني يمدني بالمراجع من مكتبته، كل مرة حزمة كتب،
وأرسل لي من مكتبته التي في الشام أحد الكتب النادرة.
ثم استطرد وقال: والشيخ أحبه في الله حبًّا جمًّا، وهو مكتبة متحركة.. فقاطعه شيخنا بأدب قائلًا: أوجز! أوجز! وتبسم الحضور.
أدبه:
إن الشيخ هو الأخلاق الفاضلة إذا تجسدت! وسمو أخلاقه موضع إجماع، وسمعت من جمعٍ قولَهم: إنهم لم يروا مثل الشيخ في تواضعه وأخلاقه، وأخباره في هذا كثيرة جدًّا.ومنها أنه إذا خرج من غرفة الضيوف ثم أراد الدخول ثانية ينقر الباب بلطف، ثم يدخل، مع أنه في بيته!
ومن ذلك أنه في بعض الزيارات يتكلم عن مواضيع مهمة، ويستطرد في الحديث، ونحن نشفق عليه لما نراه من آثار تعبه، فيستأذن جلساءه ويخرج قليلًا ثم يعود لإكمال موضوعه المفيد، وأعلمنا إحدى المرات صهره الفاضل أبو حذيفة أن الشيخ يدخل ويستلقي دقائق لأجل آلام ظهره، ثم يعود ليُفيد، ولا يُظهر شيئًا لجلسائه.
ومرة دخل علينا الشيخ في مجلسه مرة متطيبًا بعطر جميل الرائحة، وكنتُ أحضرت لشيخنا كتبًا استطعت بجهد جهيد أن أهديها له دون أن يدفع الثمن كما أصرّ! فأراد مكافأتي، وأخرج الطيب الذي تطيب منه وأهدانيه!
وهو كثير التشجيع لمن يعمل عملًا إسلاميًّا طيبًا، أو يؤلف أو يحقق شيئًا نافعًا، وكم رأيتُه يثني أمام الحاضرين على بعض طلابه أو زائريه، بأن فلانًا له جهود، وينبغي أن يُدعى له، ويشجع، ويُشكر، ونحو ذلك، مما يكون له أثرٌ بالغ في نفس الرجل، وأنا أحد من استفاد من تشجيعه،
فجزاه الله عني خيرًا.
وكان يزور طلابه ويشجعهم ويهديهم الكتب، وفيهم من هو في سن أحفاده، بل نجد تشجيعه للأطفال الصغار، لا سيما إذا رأى فيهم نبوغًا، وأراني أخي الشيخ أيمن ذو الغنى إهداءً رفيعًا لولده أحمد- أصلحه الله وحفظه ووفقه ورعاه- من الشيخ، وفي إحداها كلّفه أن يقرأ الإهداء في المجلس لزيادة التشجيع.
وفي هذا الصدد أذكر لما كان شيخنا في منزله السابق في حي الملز، كان إذا خرج من المسجد يتجمهر عليه الأولاد، لأجل ما يخبئه لهم من حلويات وسكاكر، يشجعهم على الصلاة! كما كانت سنة الشيخ بهجة البيطار من قبل.
وما أكثر ما كان يهدي عروق الريحان من حديقة منزله، ومرة أهداني كيس ليمون! أذكر ذلك لأبيّن أنه يُشعرك في التعامل أنه والدٌ حانٍ!
وأما في الأمور العلمية فيُشعر جليسه أنه مثله أو أعلى! ولا يتحدث عن جليسه إن كان من طلبة العلم إلا بقوله: أخونا فلان.
وإذا كان في المجلس من (يشتغل) منهم بالحديث أو اللغة، يقول: وبعض الموجودين أعلم مني بهذا. وأما تقديره للعلماء الكبار
فبابٌ آخر من الأخلاق وسمو التقدير.


ومن مواقفه في إحدى المرات تشرفت بزيارته مع شيخنا الصباغ، فكان شيخنا الباني كلما تحدث قليلًا التفت للشيخ الصباغ،
ويقول: وأنتم أعلم منا. ويكررها، فقاطعه أخيرًا شيخنا الصباغ برفق،
وقال: هذه تسحبها ولا تقلها!
وكان من أراد درسًا حيًّا في أدب العلماء ينظر إلى جلسة هذين الاثنين معا، أو بعض الجلسات التي كان فيها معهما المشايخ: عبدالقادر الأرناؤوط، أو محمد أديب الصالح، أو محمود شاكر الحرستاني، وأمثالهم.
ومن أدب شيخنا العالي: مقابلته هضمه التام لنفسه بعنايته البالغة في عزو الاستفادة لغيره، كبيرًا كان أو صغيرًا
، فعندما يحكي أمورًا تجد من عادته التصريح والعزو،
فيقول: كما أفادني الشيخ فلان، أو غيره، حتى في الأمور الصغيرة.
وفي بعض مجالسه الأخيرة كان يقول: دبّ إليّ مؤخرًا عيبٌ كبير، وهو الاستئثار بالمجلس في وجود من هو أعلم مني!


التفاني في الدقة:
من طبع شيخنا الدقة المتناهية، في شتى أموره، وتجد أمرها بارزًا في اللغة.
حدثني الشيخ عبد الله بن حمود التويجري مرارًا قال: أيام رئاستي لجنة الاختبارات، كان الشيخ عبدالرحمن يأتي لنا بالأوراق المصححة لإجابات الطلاب، ونجد فيها: ثُمن درجة، وسُبع درجة، وثلاثة أثمان! فكانت متعبة علينا في الجمع والمراجعة،
فقال لنا: هذا ما يستحقه الطالب بالضبط، لا أظلمه شيئًا يسيرًا يستحقه، ولا أعطيه أكثر مما يستحق!

وحدثنا شيخنا سعد الحميّد مرارًا، قال: كان الشيخ يدرسنا مادة التربية في الجامعة، ومرة أجرى لنا اختبارًا، ولم يعطنا أسئلة مكتوبة، بل أملى علينا الأسئلة إملاءً، ولما جاءت الإجابات وجدنا الشيخ قد صحح الأوراق بتدقيقه المعهود، حتى الأسئلة صححها إملائيًّا! بالهمزات والنقاط وغيرها،
وقال لنا: لم أضع على أخطاء كتابة الأسئلة درجات، ولكن أردتُّ أن تستفيدوا وتعرفوا مستواكم.
يقول الشيخ سعد: أذكر أن أقل الطلبة خطأ كان عنده نحو أربعين تصحيحا في ورقته!
قال شيخنا سعد هذه القصة مرة في حضور شيخنا محمد أديب الصالح،
فقال: نعم، هو يدقِّق بوَرَع!
قلت: كنت أخبرت شيخنا أني كتبتُ ورقات في ترجمة علامة الجزائر ابن العُنّابي الأثري (ت1267)، فطَلَبها، وأعطيتُه إياها، ثم طلب أن آتيه لأجلها، وأعادها لي مليئة بالتصحيحات والملاحظات، وشرحها لي في نحو ساعة من الوقت: فهذا التركيب لا يجيء على لغة العرب،
وهذا خلاف الأفصح، وهذا من فاسد لغة الجرائد! وهذا كذا وكذا، واعتذر بأنه لانشغاله وتعبه ما قدر أن يقرأها إلا مرتين! جزاه الله عني خيرًا.
ومما ينبغي الإشادة به أن دقة الشيخ تمثلت في ذاكرة الشيخ النادرة إلى آخر أيامه، فكان يُدهش جليسه بسعة اطلاعه وتفننه الذي قلَّ أن رأيتُ مثله، بل ما أذكر أني رأيت مثله، على كثرة من لقيت وجالست من العلماء في البلدان، ومعارفه تتعدى علوم الشريعة- التي هو عالم فيها- إلى العلوم العصرية، وتطرح في مجالسه مواضيع غريبة عجيبة
ويقول: هذا الموضوع ألّف فيه العالم الغربي أو المستشرق فلان، وكتابُه ترجمه فلان، وقال في الموضوع كذا وكذا، ومن نتاج هذا الكاتب كذا.
يقول هذا ثم كثيرًا ما يقوم ويدخل مكتبته ويحضر طبعة الكتاب الغابرة التي مضى عليها عشرات السنين!
وأحيانًا يحضّر الكتاب قبل بدء المجلس، وأحيانًا يعتذر بأن الكتاب ضمن مكتبته العظيمة التي خلّفها في الشام!
وقد مر من كلام الدكتور عبدالله حجازي شيء في هذا المعنى.

النصح العام للمسلمين:
كان شيخنا رحمه الله آية في بذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقصصه في هذا كثيرة، وجهوده العامة معلومة
ومن قصصه: لما كان مستشارًا لوزير المعارف، كنا نأتيه بعض الأحيان للزيارة، فيجلس معنا قليلًا ثم يعتذر لنا بأنه مكلّف بدراسة الملفات والمناهج للعمل، فلا يكتفي بالعمل الدؤوب وقت الدوام، بل يأخذ الأعمال لبيته ويكملها، ويبقى مشغولًا كذلك أيامًا عديدة، وأنبّه أنه يعمل ذلك- على ما مرّ بكم من الدقة والتفاني- وهو في التسعين، ومن كبار موظفي الدولة، فابحثوا له عن نظير في هذا!
ومن نصحه: أن الدكتور محمد سعيد البوطي- هداه الله- مع تباين منهجه العلمي والعملي مع الشيخ، وموقفه المعروف من الألباني والسلفية:
لما كانت رسالته العالية (الدكتوراه) ساعده شيخنا في الموضوع لأقصى درجة، وساعده في كتابه خطة البحث، وأمده بمصادر كثيرة نادرة من مكتبته، رغم ما بينهما من اختلاف!
وحدثنا شيخنا سعد الحميّد، فقال: كان الشيخ إذا جاء لمحاضرته في الجامعة نُشفق عليه! يُحضر معه رزمًا من الكتب، ويعرّفنا بها عمليًّا وبمؤلفيها، ويتفانى في سبيل نفع الطلاب، ولا ننسى منه اللفتات التربوية والعلمية، ونجد عنده الحرقة في سبيل ذلك، ومرة قرأ علينا قصة محمد الصغير
في سقوط غرناطة- التي كتبها الطنطاوي في كتابه: قصص من التاريخ- وهو متأثر، ثم أدار وجهه للجدار وبدأ يبكي، ورغم أنه كان يدرّسنا مادة واحدة، وهي التربية، بل يتقاسمها مع الشيخ عبدالرحمن النحلاوي رحمه الله، إلا أن الشيخ الباني أكثر من أثّر فينا على الإطلاق من مدرّسينا،
ومنه استفدنا الاهتمام باللغة العربية، مع أنها ليست مادته.


لطائف وفوائد منوعة:
كان من عادة شيخنا مع زائره أن يأتي بورقة، ويطلب منه أن يكتب اسمه الكامل، وعمله، ورقم الاتصال به، وإن كان خفّ استخدامه لذلك أواخر أيامه لما كثر زائروه، والله أعلم بمصير هذا الأرشيف!
عُرف شيخنا بغرامه بالكتب، ومكتبته الخاصة في دمشق ثم الرياض من الضخامة والندرة بمكان، لما وُلدت بنتُه الرابعة أُهدي للشيخ بهذه المناسبة (نقوط) على عادة أهل الشام، وكانت الهدية ليرات ذهبية، فاشترى بها كتابًا طُبع حديثًا لابن فارس، وهو معجم مقاييس اللغة.
كان الشيخ مستقيمًا منذ نشأته كما تقدم، وقال لنا: لما كنت في دار إعداد المعلمين أُعجبت كثيرًا بالإمام الغزالي، فقررتُ من ذلك الوقت أن أكون غزاليًّا صغيرًا، واجتهدتُ في ذلك.
قلت: ثم كان يُدعى شيخنا أحمد بن حنبل لاستقامته، ومنهجه، وقوته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنذ نشأت صغيرًا وأنا أسمع في مجالس المشايخ السوريين مع الوالد رحمه الله أن مضرب المثل في الاستقامة والقوة في الحق هو الشيخ عبدالرحمن الباني، وأذكر مرة في مجلس الشيخ محمود شاكر طُرح خبر أنه وُجدت كنيسة صغيرة سرية بإحدى المزارع قرب الرياض
وأن الأمر رُفع للمشايخ، فقال بعض من في المجلس من المشايخ: أكيد الشيخ الباني إذا سمع بذلك سيأخذ معولًا ويمضي مباشرة ليهدمها!
ومن عيون قصص استقامته المبكرة وغيرته على الإسلام ما حصل بينه وبين مدرّسه في ميشيل عفلق، قبل أن يُظهر دعوته
فقاد شيخنا عليه (ثورة) على مستوى المشايخ سنة 1936م، لملاحظات عليه، خطب فيها شيخنا بجرأة أمام وزير المعارف في الجامع الأموي،
وأكمل خطبته الشيخ علي الطنطاوي، وقامت البلد! وفي اليوم التالي جاء عفلق ومد رأسه من باب الصف
وقال: لماذا فعلت بي هذا أيها «السيد الباني»؟

أنا لن أدخل للتدريس حتى تخرج أنت، فما كان موقف شيخنا إلا أن ثبت وقال: وأنا لم أُخطئ في شيء حتى أخرج.



وأصر على البقاء، وأصر عفلق على موقفه، وانتهت الحادثة بطرد عفلق من التدريس، والقصة عجيبة طريفة، وهي طويلة
ولكن الأعجب أن الأيام مرت، وصار عفلق وزيرًا للتربية، وشيخنا رئيس التفتيش الشرعي فيها
وبقي شيخنا على ثباته ومواجهته مع كونه مرؤوسًا!
يذكر مشايخنا- ومنهم شيخنا الصباغ- أن شيخنا فرض احترامه- لاستقامته وإخلاصه ونزاهته وثباته على مبادئه- حتى على مخالفيه وأعدائه، بما فيهم الشيوعيون والاشتراكيون، ومر معنا موقف ميشيل عفلق ذاته، وهو نصراني ومؤسس حزب البعث.
وذكريات شيخنا مع المشايخ والأعيان الذين أدركهم شيء عجيب، فقد كان محتفظًا بذاكرته لأدق التفاصيل إلى آخر أيامه، ودُفن معه تاريخ عظيم.
اعتقل شيخنا مرتين، مرة في مصر، اعتقل لعام دراسي كامل سنة 1949 بسبب صلته بالإخوان المسلمين، وذلك لما كان في السنة الثانية
من معهد التربية قبل أن يكون كلية، ومرة سجن في دمشق، وأورد القصة الشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه عن أبيه.
ومن عبر قصة سجنه أن الشيخ محمد أمين المصري كان يأتي بيت صديقه الشيخ الباني نهاية كل شهر، ويعطيهم راتبه كاملًا، لعدة أشهر
فلما خرج شيخنا سأل أهله من أين كنتم تصرفون؟ قالوا: ما احتجنا لأحد، كان يجيء لنا براتبك الشيخ أمين!
والواقع أن راتب الشيخ كان مقطوعًا، ولم يكن الشيخ أمين من ذوي اليَسار، لكن انظروا لهذا الموقف الخالد في الأخوة والإيثار.


كان شيخنا في حديثه على طريقة شيخه الطنطاوي في كثرة الاستطراد وتشعب الفوائد، حتى يكاد يذهب الموضوع الأصلي، ولكن كان له من يذكّره، لا سيما صاحبه المخلص الدكتور عبدالله حجازي.
انشغل شيخنا بالتربية وتأسيس المناهج والتدريس عن التأليف، وصدر له: (المدخل إلى التربية في ضوء الإسلام)، و(الفيلم القرآني)
وصدرا بإلحاح من وقف عليهما، وله جملة مقالات ومقدمات مفيدة للغاية، أشعرها مقدمة كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية
واستوفى تراثه أخي الشيخ أيمن ذو الغنى في ترجمته.
وشارك في تحقيق وتصحيح مشكاة المصابيح، وذُكر أنه شارك في تصحيح مختصر الخرقي، وكان له دور كبير في المكتب الإسلامي في توجيه بعض الكتب، وفي غيره، وكان شيخنا السبب في تأليف الإمام الألباني كتبه: آداب الزفاف، وأحكام الجنائز، وجلباب المرأة المسلمة.
وهناك عدد من المؤلفات والترجمات والدراسات صدرت بسببه المباشر، وتجد شكره في مقدمات عدد من الكتاب لإمدادهم بالمراجع والفوائد،
ومنهم علامة التربية عبدالرحمن النحلاوي في كتابه أصول التربية الإسلامية، والشيخ محمد عجاج الخطيب في كتابه لمحات في المكتبة (ص130).

من ثناء أهل العلم عليه:
لم يخالط أحدٌ الشيخ تقريبًا إلا احترمه وأحبه وأثنى عليه، ومنهم أساتذته ومشايخه، فأثنى عليه شيخه الألباني في بعض إهداءاته الخطية له.
وأثنى عليه الشيخ
علي الطنطاوي في مواضع من كتابه الذكريات وغيره، ومنها: قوله عن تدريسه في المدرسة الجوهرية السفرجلانية
قال (1/280): «وكان من تلاميذي فيها واحدٌ نبغ حتى صار من شيوخ التعليم، ومن العلماء، وأمضى شطرًا من عمره موجِّهًا للمدرسين، مشرفًا على وضع المناهج، وتأليف الكتب في العلوم الدينية؛ لأنه كان مفتش التربية الدينية في وزارة المعارف، وهو أحد تسعة كانوا أوفى من مرَّ بي من الطلاب، وقد مرَّ بي آلاف وآلاف وآلاف؛ هو الأستاذ عبدالرحمن الباني».
وعدَّه في (5/ 266): أحد علماء العربية الذين حفظ الله بهم العربية في الشام.
وقال في تقديمه لرسالة «المرأة المسلمة»، التي وزِّعت في زفافه: «عرفتُه تلميذًا وعرفته صديقًا، فما رأيت في شباب الشام من يفضله في حسن سيرته، واتباعه أمرَ الشرع ونهيه، فهو مسلم صادق الإسلام، في ظاهره وفي باطنه، وفي وحدته وفي صحبه».
وقال في تقديمه لكتاب الشيخ الصباغ لمحات في علوم القرآن (ص13): «هو العالم العامل الصالح الأستاذ عبدالرحمن الباني».
وقال العلامة
محب الدين الخطيب في تقديم آداب الزفاف: «أرجو الله عز وجل أن يأخذ بيد أخي المؤمن المجاهد الأستاذ السيد عبدالرحمن الباني في جميع مراحل حياته، حتى يحقق له آماله ملتزمًا سنة الإسلام في ذلك ما استطاع».
وقال الأستاذ عصام العطار في رثائه للفقيد (منشور على الألوكة): «لقد كان كلُّ جانب من جوانب حياته وجهاده وعمله كافيًا ليكون به عظيمًا بين العظماء؛ ولكنه لم يكن يحبُّ، بل لم يكن يقبل، أن يُعْلِن أو يُعلَن عن عمله؛ بل ربما أعطى حصيلة جهوده العلمية والفكرية لآخرين لتظهر بأسمائهم إذا رأى ذلك أنفع للإسلام والمسلمين، وأرجى للنجاح وتحقيق المراد.
قلت مرةً-وما أزال أقول-: أنا لا أعرف على كثرة مَنْ عَرفتُ في عالمنا وعصرنا من الناس أتقى من عبدالرحمن الباني، نعم عرفت قليلًا مثله، ولكنني لم أعرف أتقى منه... ولقد كان من سعادتي أني عرفته في مختلف جوانب حياته ونشاطه ، وكان بيننا من الأخوة والصداقة والمحبة والثقة المتبادلة ما ندر نظيره هذه الأيام، وإني لأشهد شهادة العارف الخبير أنه- ولا أزكّي على الله أحدًا- كان من أخلص المسلمين، وأبصرهم وأحسنهم خُلقًا وعملًا في عالمنا وعصرنا الذي عشنا وما نزال نعيش فيه».
وقال عنه الشيخ د. مصطفى الخن (كما في ترجمته لمحيي الدين مستو ص39):
«إنه يؤدي ما كُلِّفه بدأب وإتقان، ثم لا يريد أن يُنسبَ إليه شيءٌ مما أنجزه!».
وقال لنا الشيخ
بكري الطرابيشي: درر الشام الأربعة الآن عندكم في الرياض، فاحرصوا عليهم، وهم عبدالرحمن الباني-بدأ به- ومحمد الصباغ، ومحمد أديب الصالح، ومحمود شاكر. وقال لنا مرارًا: إن الذي عرفت منه السلفية وهداني لها هو الشيخ عبدالرحمن.
وقال لنا مرة في حضرة شيخنا الباني: من أراد أن يعرف حال العالم الإسلامي من تباين المشارب فلينظر إلى الإخوة الثلاثة لآل الباني،
وأحسب أن الشيخ عبدالرحمن على الصواب.
وقال لي في دُبَيّ بتاريخ 17/3/1430:
«الشيخ عبد الرحمن الباني شخصية على دين وعقيدة، وأعرفه من سبعين سنة أو تزيد وهو كما هو في الاستقامة والخير»

وحدثنا شيخنا عبدالقادر الأرناؤوط كثيرًا عن فضله، ومما قال: أخبرنا الشيخ غالب الحَرَش: لما سكن الشيخ الباني في حي الميدان كانوا يدعونه أحمد بن حنبل. يعني لاستقامته وزهده وصدعه بالحق.
وقال لنا: أنا صرتُ سلفيًّا بسبب الشيخ ونصائحه اللطيفة. وقال لنا: إن الشيخ الباني استطاع تنقية المناهج من جميع المخالفات والأحاديث الضعيفة، فكان- كما يقول- إذا اجتمع في اللجنة
قال: هذا فيه كذا وكذا، فما رأيكم إن أبدلناه بهذا؟ نصيحة (على الناعم) فاستطاع التغيير.
ويقول: إنه يمثل أخلاق السلف.
وحدثنا الشيخ
محمد بن لطفي الصباغ مرارًا أنه لا يعرف للشيخ الباني الآن نظيرًا، وقال لنا قبل سويعات من وفاة الشيخ: الشيخ الباني من بركات
هذا العصر، بل هو بركة العصر، ووالله لا أعرف اليوم أعلم ولا أتقى منه، وبسببه المباشر نجح الإسلاميون في السيطرة على النقابات في دمشق: الأطباء، والمهندسين، وغيرها.
وحدثنا الشيخ
محمد أديب الصالح في منزله بتاريخ 24/4/1427 قال: «الشيخ الباني رجل ناصح ومخلص، لما كنا ندرس في مصر كان هو أكبر منا، وكان يريد أن يصب ويفرغ كل ما عنده من علم وفوائد في غيره، وهو أسس علم التربية الإسلامية من لا شيء، ونفخ الروح في مادة التربية الإسلامية بالشام». وقال لنا يوم الاثنين السابق لوفاة شيخنا: كان يُعتبر في مصر مثل ولي أمرنا.
وقرأت إهداءً بخط الشيخ العلامة
كريّم راجح: «الأستاذ المعلم الذي لا يغيب عنّي منهجه في تعلمه وتعليمه، النهج المتسم بتقوى الله، الذي استفدت منه يوم كنتَ المفتش للتربية الإسلامية في ثانويات دمشق، والذي كنتُ أتعلم منه الدقة والإتقان المتسمين بالتقوى
الأستاذ عبدالرحمن الباني، حفظه الله، وأدام عليه الصحة والعطاء». وهو مؤرخ في 24 شوال 1431.،
وقال لي في منزله بدمشق في 5/8/1428: «إنه من خيرة الناس، كان يخاف الله جدًّا، وكان عادلا».
ومما قال الدكتور
محمد حسان الطيان في رثائه: (منشور في الألوكة): «أنا أشهد أنه من نوادر العصر، علمًا، وعملًا، وصلاحًا، وتُقًى، وورعًا، ونفعًا، وإصلاحًا، وهمةً، ونشاطًا، وقد خسرنا بفقده أمة». وله مقالة منشورة رائعة عن شيخنا بعنوان: شيخ في التسعين يستنهض همم الشبان.
وقال أخونا الشيخ
أيمن ذو الغنى: «علَّامة ربَّاني، وداعية مصلح، ومربٍّ من طراز فريد، زاهد عابد، وإمام قدوة، سلفي معمَّر، من بركات العصر وبقية السلف الصالح، ونوادر الدهر في الورع والتقوى والاستقامة، ومن الذين يؤثرون العمل بعيدًا عن الأضواء والشهرة. صادق اللهجة
لين العريكة، يألف ويؤلف، من الأمَّارين بالمعروف النهَّائين عن المنكر، بأسلوب يفيض رقة ولطفًا.
قارئ نهم مدقِّق، واسع الاطلاع على التراث العربي والإسلامي المطبوع، يملك مكتبة ضخمة من أكبر المكتبات الخاصَّة،
تحتوي نوادر البحوث والدراسات، صاحب آراء إصلاحية
غير مسبوقة في قضايا التربية الإسلامية، وذاكرة قوية حاضرة.
قضى أكثر من سبعين سنة في ميادين التربية طالبًا ومتعلِّمًا، ومدرِّسًا ومعلمًا، وموجهًا ومفتشًا، ومشرفًا ومنظِّرًا، وخبيرًا ومستشارًا، أستاذ جامعي مرموق، ومن علماء العربية المعدودين، يتميز بالتزام الفصحى في حديثه، وبجمال الخط وفق قواعد الرقعة».
وأحيل على كتابة الأخ الشيخ أيمن للمستزيد، واستفدتُ منه جملة من النقول.
من المشاريع أو الأعمال التي أقيمت بسعي منه رحمه الله:
- كان لشيخنا الباني سعي حثيث، وعمل دائب، وأثر عميق في إحياء ميتم سيِّد قريش، وإعادة افتتاحه، بعد أن كان أخنى عليه الدهر، وكساه ثوبًا من الإهمال سابغًا، بمشاركة الأستاذ هيثم المالح.
- ألف الأستاذ محمود البابُلِّي كتاب (السوق الإسلامية المشتركة) باقتراح من الشيخ وحث له.
- طباعة (رسائل مسجد الجامعة) في المكتب الإسلامي كانت بحثٍّ منه وإلحاح، ذكر ذلك شيخنا د. محمد بن لطفي الصباغ في تقديمه للمجموعة الثانية من الرسائل، قال في ص14: ((وإنني لأشكر أخي المجاهد الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي على استجابته لطلب أخي الكبير الأستاذ عبدالرحمن الباني الذي اقترح عليه إعادة نشر هذه الرسائل من جديد..)) ومقدمته مؤرخة في 18 من المحرَّم 1405هـ.
- كان من المستشارين في المكتب الإسلامي، يقترح تحقيق كتب معينة، ويبدي رأيه في عمل المكتب.


ومن مناقب شيخنا الجليلة: الوفاء
ومن أمثلته وفاؤه لأخويه الدكتور محمد بشير، والأستاذ عبد الهادي، برغم الاختلاف الشديد بينهم في المنهج والتوجه..
- كان أرسل إلى أخيه الشيخ محمد بشير هدية في ربيع 2008م مع الأخ الأستاذ أحمد الحمَّامي، وهي نسخة من كتاب
(التخطيط الإعلامي في ضوء الإسلام) لمحمود كرم سليمان، صادر عن دار الوفاء بمصر عام 1409هـ/ 1988م، وخط له كلمة إهداء جاء فيها:
((إلى أخي الكبير الأستاذ الدكتور محمد بشير الباني حفظه الله وأطال عمره في رضاه وفي صحة وعافية، وأعترف بفضله عليَّ، وأحيِّيه مع بعد الشقَّة وطول الغياب. عبدالرحمن الباني)).
- وأرسل معي في صيف 2008م هدية إلى أخيه الأستاذ الشيخ عبدالهادي، وهي كتاب (الدر النضيد على كتاب التوحيد) للشيخ سعيد الجندول وخط له كلمة إهداء قال فيها:
((إلى أخي الكبير الأستاذ عبد الهادي الباني حفظه الله، هدية اعترافٍ بالفضل في المشاركة بتنشئتي الأولى، وفي تعهد الأهل أيام المحنة. جزاه الله عني خير الجزاء وأطال عمره في طاعة الله وفي صحة وعافية، وفي غنًى عن الناس. أخوكم عبدالرحمن الباني، الرياض أصيل الأربعاء 5 شعبان 1429هـ)).
من أقوال عارفيه فيه:
- د. عبدالله حجازي: يتحدث عن الشيخ قائلاً: عرفت شيخنا الباني قبل أكثر من أربعين سنة، وكلما توثقت صلتي به أكثر تعلمت منه أكثر، وأحببته أكثر.
وقلت له بعد زواجي: إذا رزقني الله ذكرًا سأسمِّيه باسمك، وهذا ما كان، فسمَّيت ولدي البكر عبدالرحمن وكانت ولادته قبل نحو 36 سنة
[قال ذلك سنة 1429هـ].
- الشيخ عبدالله علوش: ذكر في مجلس الباني بتاريخ الخامس من المحرَّم 1430هـ: للشيخ الباني فضل كبير على كتب التربية الإسلامية في سوريا، وعلى أن الوِزارة عدَّلت المناهج وغيرت المقرَّرات بقيت العقيدة سليمة في الكتب بفضل الله أولاً ثم بفضل الشيخ الباني.
- وزير المعارف السابق
محمد بن أحمد الرشيد: قال في كتابه (مسيرتي مع الحياة) ص474: وأخص بالشكر أيضًا: فضيلة الشيخ عبدالرحمن محمد توفيق الباني، وفضيلة الدكتور محمد لطفي الصباغ، والأخ الدكتور أحمد البراء بن عمر بهاء الدين الأميري، على معاونتهم وجميل صنعهم معي في حقل التربية والتعليم، وقد سبق لي أن استعنت بخبرتهم في مواقع أعمالي السابقة خاصة في مكتب التربية العربي لدول الخليج،
وكوني أخص هؤلاء بالذكر فلمقامهم العلمي الرفيع، ولأنهم استجابوا للانضمام إلى العمل معي مستشارين في مكتبي
مع أنهم كانوا في مواقع علمية وعملية حين طلبت منهم ذلك.
ومن مواقفه:
- موقفه المهم مع عدد من زملائه في دار المعلمين، حين استاؤوا من إغفال مقرر عملي تطبيقي لمادة التربية الإسلامية، على خلاف سائر المواد التي تتضمن جانبًا عمليًّا، فكتبوا في ذلك بيانًا، ورفعوه إلى المجلس النيابي وقابلوا رئيس المجلس ناظم القدسي، فاستقبلهم استقبالاً حسنًا وتفهَّم طلبهم، ووعدهم أن يناقش المجلس طلبهم مناقشة منصفة، وهذا ماكان، إذ أصدر المجلس قرارًا بإضافة مقرر عملي لطرائق تدريس التربية الإسلامية، وكُلف شقيقه الأستاذ عبدالهادي الباني تدريس المقرَّر الجديد، وكان حينها شيخنا عبدالرحمن قد سافر إلى مصر لاستكمال الدراسة.
- شكل مع بعض رفقائه في مكتب عنبر: فرقة إحياء اللغة العربية، بإشراف شيخهم زين العابدين التونسي.
- ما زار الباني الشام بعد خروجه منها سوى مرتين، كانت ثانيتهما سنة 1397هـ، وحجزت فيها الجهات الأمنية جواز سفره، ولكن أخاه الشيخ بشير وكان حينها في أعلى منصب قضائي في سوريا ساعده على استرجاع الجواز.
دعاؤه آخر أيامه:الأيام الأخيرة ووفاته:
كان شيخنا رحمه الله جيد الصحة بالنسبة لسنه العالية، وبعد تقاعده فتح المجال أكثر للزيارات، وصار له مجلس أسبوعي شبه منتظم في منزله بعد صلاة الجمعة، يوجّه فيه وينصح ويملي ذكرياته، وربما قرأ من كتاب أو حضّر لموضوع، وكان يأتيه الزوار ينهلون من خبرته وتوجيهه وذكرياته، ويمتد المجلس أحيانًا إلى صلاة العصر.
ثم أصيب شيخنا بالتهاب الكبد منذ نحو ثلاث سنين، وانهدّت قواه، ولما رأيناه في تلك الحال من شدة الضعف كنا نتخوف ألا نراه بعدها، ولكن عافاه الله، ورجع كما كان من إفادة، ولكن صار شيخنا بين الفينة والأخرى أضعف من ذي قبل، وسقط عدة مرات في بيته وفي المسجد، فقد كان قلبه معلقًا بالمسجد، وكان يدخل المستشفى ويتحسن، إلى أن اشتدت عليه آثار تليف الكبد، ودخل المستشفى أكثر من مرة خلال الشهرين الأخيرين، وامتنع من استقبال الزوار، واشتد مرضه جدًّا، فكان يغيب عن الوعي أكثر وقته، ولكنه إذا أفاق كان حاضر الذهن والذاكرة، وكان لا يتقبل الطعام.
لكن هذه الحال الصعبة لم تمنعه أن يشارك في بيان لعلماء سورية حول أوضاعها الأليمة، وقبل أيام من وفاته توفي شقيقه الشيخ عبدالهادي في دمشق، فلم يُخبر شيخنا مراعاة لوضعه.
وفي ليلة الخميس تاسع جمادى الآخرة سنة 1432 أُخذ شيخنا لمستشفى الملك خالد الجامعي لهبوط شديد في ضغطه، وقبيل الفجر أصيب بنزيف في المعدة، وفي الساعة الثالثة وعشر دقائق توقف قلبه عن الخفقان، وكل من عليها فان، تغمده الله بالرحمة والرضوان.
ومع شدة مرض الشيخ يخبرني صهره البار الشيخ المهندس أبو حذيفة محمد بن أنيس الساعور
قال: كان في وعيه إلى دخوله المستشفى، ولم يفتر عن ذكر الله إلى غيبوبته قبل سويعات من وفاته، وقبل وفاته بيوم كان يتكلم بصوت خافت جدًّا عن أمور علمية دقيقة، منها ضرورة مراجعة المسلمين لعمل المستشرقين في مفتاح كنوز السنة بشكل علمي، وعدم الركون لعملهم، وما إلى ذلك.
وأوصى الشيخ قبل وفاته بثلاثة أيام أن يُسعى في جلب مكتبته بدمشق، وألا يتصرف فيها الورثة ببيع لجهة تجارية، اللهم إلا إذا كانت جهة علمية تستفيد منها، لكثرة النوادر فيها والكتب المختصة التي يصعب تحصيلها.


الجنازة:
تولى تغسيل الشيخ رحمه الله: الأخ الشيخ علي بن حسن سيف، وصهرا الشيخ الدكتور سعيد أبو عشي المالكي،
والمهندس الشيخ أبو حذيفة محمد أنيس الساعور.
وقال لي الأخ الشيخ علي سيف: إن الشيخ في تغسيله بدا كأنه مرتاح في المنام، ولا يظهر عليه شيء من آثار التعب والمرض الشديد
الذي كان به، ووجهه ما شاء الله تقاسيمه منبسطة، وكان غسله كجنازته سهلًا وميسرًا.
ثم تقرر أن يُصلَّى على الشيخ في جامع الراجحي الكبير بحي الجزيرة بعد صلاة الجمعة 10/6/1432، وحينها امتلأ الجامع على ضخامته،
وقبل صلاة الجنازة حضر الشيخان عبدالله وصالح ابنا العلامة حمود التويجري، وقبَّلا رأس الشيخ ودَعَوَا له
وقال لي الشيخ عبد الله: إن وجه الشيخ كان كما عرفه منذ أكثر من عشرين سنة في صفائه ومظهره، ولم يتغير.
ثم في مقبرة النسيم شرقي الرياض حضر لفيفٌ من العلماء والمشايخ وطلبة العلم والفضلاء والمحبين، يتقدمهم المشايخ: محمد أديب الصالح، وعبدالرحمن بن ناصر البراك، ومحمد بن لطفي الصباغ، حفظهم الله تعالى، وصُلِّي على الشيخ هناك أكثر من مرة.
وممن حضر من المشايخ والدعاة (للذكر لا للحصر): صالح بن أحمد الشامي، وسعود الفنيسان، وعبدالقدوس أبو صالح، وعبدالله علوش، وعبدالمحسن العسكر، وعمر الحفيان، ووئام بدر، وسليمان الحرش، ومنيب بن محمود شاكر، وعبدالكريم بكار، وسعيد الدباس، وفقهم الله ورعاهم.
وممن رأيتُه في الجامع الشيخ محمد عيد العباسي حفظه الله تعالى.
وأنزل الشيخ في قبره الزميل الشيخ علي بن حسن سيف، وتلميذه البار الشيخ أيمن ذو الغنى، وآخر، جزاهم الله خيرًا.
ودُفن مع الشيخ علم كبير، وتاريخ عظيم، أخلف الله على المسلمين من أمثاله.
قال لنا شيخنا في آخر معايدة له ظهر الأربعاء 11/12/1431: أنا دائمًا أدعو الله
وأقول: اللهم إني أسألك طول العمر في طاعة، وفي صحة وعافية، وفي غنى عن الناس، وحسن الختام.
فأرجو منكم إخواني أن تدعوا لي بذلك.
والله لما قالها شعرت في نفسي أن الشيخ مودِّع، أتذكر قوله الآن وعيناي تدمعان، ولكنا نرجو أن الله استجاب دعوته، فقد طال عمره، وكان الغالب عليه الصحة والعافية، والغنى عن الناس، ونسأل الله أن يكون ختم له بالحسنى،
وأن يكون شيخنا ممن يصدق فيهم الحديث: «خيركم من طال عمره وحسن عمله»، وحديث: «خير الناس أنفعهم للناس».
فنحسب شيخنا- والله حسيبه- من خيار العلماء العاملين، وكان قدوة في سيرته ومنهجه وسلوكه ودعوته، ولإن كان أحدٌ يُغبط على عمله وإفادته؛ فإنه مثل الشيخ؛ يكفي أنه أفاد الملايين منه في المناهج في الشام والسعودية.
وليكن هذا آخر ما أكتبه الآن، مع علمي أنها لا توفي شيئًا يُذكر من حق الفقيد، وتركتُ شيئًا كثيرًا مما أعرفه عن الشيخ، ولكنها محاولة متواضعة لأداء بعض الواجب، ورد شيء من الجميل الخاص والعام، وإعطاء فكرة عن الشيخ لمن يجهله، والله المستعان، وعليه التكلان،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذه قصيدة نشرها الدكتور عدنان علي رضا النحوي
رثـاء
الشيخ العلامة عبد الرحمن الباني
(يرحـمه الله)
ألا أيَّها الشيخُ الجَليلُ فكم تُرى * نَصَحْتَ بصدقٍ من فؤادك يُرْسَلُ
رَفيقٌ مع الأصحاب أغنى تواضعاً * وأرقى سماتٍ بالوفاء تُكلّلُ
بَنَيْتَ وأعليْتَ البناءَ مع الهُدى * بعونٍ من الرحمن يُغْني ويُكْمِلُ


جمعتَ نديَّ العلمِ في القلبِ! زادُه * يقينٌ يُزَكِّي العلم! تغنى وتنهَلُ
ألا أيها الباني! بنيتَ بعزمة * من العدل! طوبى للذي هو يعدلُ
مضيتَ مع الدنيا وقلبك خَافقٌ * هناك مع الأُخرى تروم وتأملُ

كأنكَ في الدنيا غريبٌ! وإنَّما * تسير على دربٍ قويمٍ وتَنْهَلُ

رحلتَ عن الدنيا فيا عزَّ رحلةٍ * وزادُك موفورٌ من الخير مُرْسَلُ

هنيئاً لمن أوفى مع العمر عهده * مع الله! ذِكْرٌ مستديمٌ ومَوْئلُ
فيارب أَنْزِلْه على خيْرِ منزِلٍ * يطيب له أجر غَنِيٌّ ومنزِلُ
ويا ربّ فاجعلْ قبَره رَوْضَةً بها * هناءةُ قلبٍ من عَطائك تُوْصلُ




تنقّلتَ ما بين الديار لتنتقي * أبرَّ الذي ترجو وما هو أكملُ


أبرُّ علومِ الأرضِ دينُ محمدٍ * كتابٌ من الرحْمنِ وحْيٌ مُنَزَّلُ

وسنَّةُ هَدْيِ المصطفى!هديُ سيرةٍ * أعزُّ وأغنى ما تروم وتُوصِلُ

وكم عَزْمَةٍ أَمضَيتَ لله دَرُّها * فترجو رضاءَ الله فيها وتأمَلُ
هَجَرْتَ من الدنيا زخارفها التي * تثير من الأهواء ناراً وتُشْعِلُ
فكم فتنةٍ في الأرض أوقد نارها * دبيبُ هَوىً بين النفوسِ يُعَلَّلُُ


أهم المصادر:
1) مشافهات وأمالٍ من الشيخ الفقيد
2) ترجمة كتبها زميلنا الأخ الشيخ أيمن بن أحمد ذو الغنى، ونشرها في الألوكة.
3) مشافهات متعددة من جماعة.

4) واستفدت شيئًا من معجم الأسر الدمشقية للصواف (2/448 الطبعة الثانية).
:00004154:
قامت قناة المجد بتسجيل حلقة خاصة عن الشيخ رحمه الله،حلقة وثائقية .
بمشاركة عدد من أصحابه وعارفيه.
وضيف الحلقة الرئيس هو الشيخ العلامة محمد بن لطفي الصباغ حفظه الله، وداخل فيها عدد من المشايخ، مثل الشيخ علي الشبيلي
والشيخ سعد الحميّد، والشيخ عبد الوهاب الطريري، وإستاذتي الدكتورة سمية بنت الشيخ عبد الرحمن الباني
أدار الحلقة الأخ الفاضل الأستاذ مروان خالد.
جزاهم الله خيراً.



رحمه الله رحمة واسعة نعم هؤلاء هم العلماء حقا
فنسأل الله العلي القدير ان يعوضنا خيرا
وان نرى في طلبتهم سمت مشايخهم
منقول من تجميعي وسماعي لقناة المجد عن سيرة الشيخ رحمه الله تعالى
http://www.rjeem.com/up/images/yaui2tgcdtm7cghctng.gif



ام البنات المؤدبات 05-24-2011 04:43 PM

رد: الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432)
 
وهكذا قبض شئ من العلم
رحم الله الشيخ واسكنه فسيح جناته
ابدعتي في اثراءنا بصفحات من تاريخ الشيخ
رغم ان الحزن على فراقه يعصر القلب الا انني
كنت فخورة بما كتبت هنا عن الشيخ كما كنت فخورة امس وانا اتابع حصة عنه في القناة العلمية للمجد
اشكـــــ ك ــر جزيــ الشكرـل
كما اشكـــ قناة المجد العلمية ــــــر

* أم أحمد * 05-24-2011 04:48 PM

رد: الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432)
 
جزاكِ الله خيراً وبارك الله فيكِ
تجميع رائع وقيّم عن سيرة العالم الجليل رحمه الله
وأسكنه فسيح جناته
سلِمت أختي الحبيبه لقد نورتينا وأعطيتنا صوره رائعه عن هذا العالم الجليل
ولا تحرمينا من مواضيعكِ الطيبه

LOVELYWIFE 05-24-2011 05:15 PM

رد: الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432)
 
رحم الله الشيخ واسكنه فسيح جناته
جزاك الله خيرا ام عمر على طرحك لسيرته
والله يعوضنا عنه

|| (أفنان) l| 05-24-2011 05:26 PM

رد: الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432)
 

اقتباس : المشاركة التي أضيفت بواسطة :
رحمه الله رحمة واسعة نعم هؤلاء هم العلماء حقا
فنسأل الله العلي القدير ان يعوضنا خيرا
وان نرى في طلبتهم سمت مشايخهم




:00004154:

بارك الله فيكن أخواتي الحبيبات وأثابكن
جزاكن الله خيراً على المرور وعلى الدعاء
تقبل الله منا ومنكن صالح الإعمال
أحبكن في الله

سنبلة الخير . 05-27-2011 12:04 AM

رد: الشيخ عبد الرحمن الباني العلامة المربّي القدوة رحمه الله رحمة واسعة سيرة وخواطر ووقفات (1335-1432)
 
رحم الله شيخنا الفاضل واسكنه الله اعالي الجنان
موضوع رائع
جزاك الله عنا كل خير
ابدعتي في الانتقاء
طرح مميز كما تعودنا منك
لاعدمناك
اثابك الله


الساعة الآن 04:35 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.6.0