تفريغ خطبة إذا غاب الإحسان للشيخ سعود الشريم حفظه الله
مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت :
~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]
تفريغ خطبة إذا غاب الإحسان للشيخ سعود الشريم حفظه الله
إذا غاب الإحسان
أكد الشيخ حفظه الله في هذه المادة على أهمية تحقيق الإحسان ومراقبة الله الذي لا تخفى عليه خافية والمطلع على ما في الضمائر، وأن هذه المراقبة إذا تحققت في حياة المسلم أثمرت له في الآخرة النظر إلى مولاه، وفي الدنيا صلاح القضاء، وصيانة الحياة الزوجية، والخشية لرب البرية.
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين -الجن والإنس- بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أقام الله به الحجة، وأوضح به الطريق، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وخلفائه الأربعة، أبي بكرٍ و عمر و عثمان و علي ، وعلى سائر أصحابه الأخيار، النجباء الأطهار.
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن الوقوف الدقيق عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبعث من مشكاة النبوة لَيَحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره، وتستضيء بأنواره، فلا ينفك يشرح للنفس ويهديها بهديه، فتؤمن بالنبي المصطفى والرسول المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وتتبع النور الذي أنزل معه.
وكلما ذُكر كلام المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فكأنما قيل من فمه للتو، كلام صريح، لا فلسفة فيه، يجعل ما بين المرء وصِنْوه من النية كما بين الإنسان وربه من الخوف والمراقبة.
كلامٌ يقرر أن حقيقة المسلم العالية لن تكون فيما ينال من لذته، ولا فيما ينجح من أغراضه، ولا فيما يقنعه من منطقه، ولا فيما يلوح من خياله، بل هو السمو الروحي الذي يغلب على الأَثَرَة؛ فيسميه الناس براً، والرحمة التي تغلب على الشهوة؛ فيسميها الناس عفة، والقناعة التي تغلب على الطمع؛ فيسميها الناس أمانة.
عباد الله: إن تنشئة النفس المؤمنة على البر والتقوى، والعفة والأمانة، والخوف والمراقبة، هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لحل معضلة الشر والانحراف لدى المجتمع المسلم.
أرأيتم الطفل كيف يشب على الخلق الكريم والنهج القويم لو تعهَّده القَيِّم بالتوجيه والتقويم، وعلى العكس من ذلك؛ لو أهمل أمره، وتركه في مهب الريح، إنه ينشأ شريراً خطراً على نفسه ومجتمعه؟
ذلكم -يا عباد الله- أبرز مثل للنفس حين ينشأ الفرد على مراقبة الله والخوف منه.
عباد الله! لقد ثبت في صحيح مسلم {أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك }
الراوي:عمر بن الخطابالمحدث:مسلم - المصدر:صحيح مسلم- الصفحة أو الرقم:8
خلاصة حكم المحدث:صحيح
الله أكبر! إنه لتعبير عجيب، تعبير يحمل في اختصاره حقيقة هائلة وخلة مذهلة، إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدة كبرى يقيم عليها الإسلام بناءه، هي: { أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك } قاعدة يقيم عليها نظمه كلها وتشريعاته وتوجيهاته طُرَّاً، نظام القضاء، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام الأسرة، موقف الفرد من المجتمع، وموقف المجتمع من الفرد، نظام المجتمع بأسره، بل نظام الحياة كلها، { تعبد الله كأنك تراه } .
فالمرء المسلم في مواجهة خالقه ومولاه المستعلي على جميع المخلوقات، في مواجهة مولاه بنفسه وبكل جوارحه وكل خلجاته بظاهرها وباطنها، بأسرارها وما هو أخفى من الأسرار: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر:19] سبحان الله! حتى خائنة الأعين، الخائنة التي يظن الإنسان أنه وحده الذي يحسها ويعرفها، دون أن يراها أحد من الناس أو يفهمها، وحتى السر بل وما هو أخفى من السر، الخطرات التائهة في مثالب النفس لا تصل إلا ظاهر الفكر ولا يتحرك بها اللسان للتعبير، إنه لا ستر إذاً ولا استخفاء (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)[طه:7] وكل هذه مكشوفة لله.
{ فإن لم تكن تراه فإنه يراك } وإنه لخير لك -أيها المسلم- أن تعبد الله كأنك تراه، خير لك أن تتوجه إلى حيث يرقُبُك، إلى حيث يرقبك خالقك، فتأمن المفاجأة، إنها الرهبة في الحالَين، رهبة مصحوبة بالأمل، حال كونك متوجهاً إلى الله، مخلصاً له قلبك، عاملاً على رضاه، ورهبة مصحوبة بالذعر، حال كونك متوجهاً بعيداً عنه، وهو من ورائك محيط، فخير لك إذن أن تعبد الله كأنك تراه
align="right"> أيها المسلمون: قول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه وأنه بين يديه كأنه يراه؛ لأنه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم وذلك أفضل الإيمان كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت } رواه الطبراني ، وبه تفوز بوعد الله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )[يونس:26]
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل في الجنة، وهذا مناسب لجعله جزاءًَ لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاء ذلك النظرَ إلى الله عياناً في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر به تعالى عن جزاء الكفار في الآخرة (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ )[المطففين:15]
وجعل ذلك جزاءً لحالهم في الدنيا وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حُجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا؛ فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة.
align="right">إن الإحسان على ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شئونها، فالقاضي المسلم لا يُظن في الظلم والجور حين يرقب الله كأنه يراه، ولا يجوز له أن يضع نزواته وهواه في مكان العدل الذي يطلبه منه رقيبه ومولاه، بل كيف تتجه نفسه إلى البطش والغمط ومن يرقبه يقول له: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )[المائدة:8] ويقول له: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ )[النساء:58]
align="right">أثر مراقبة الله في حياة القاضي