بعض ماتيسر من تفسير سورة يونس

مجتمع رجيم / الموضوعات الاسلامية المميزة .. لا للمنقول
كتبت : حبوبة ماما
-
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

0201110602053r5exb8c

اخواتي الغاليات اليكنَّ بعض ماتيسر من تفسير سورة يونس من منهجنا في الجامعة ارجو ان تستفيدنَّ منه.


سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنةِ سُورةَ يونس ؛ لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس ، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لمَّا آمنوا . وذلك في قوله تعالى :

﴿فَلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين﴾

[يونس : 98]
وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك، وقيل أنها أضيفت إلى يونس تمييزاً لها عن أخواتها الأربع المفتتحة بـ (ألر) ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضاً عن أن
يقال : الر الأولى وألر الثانية
وهي مكية في قول الجمهور ، وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار ، ومائة وعشر في عد أهل الشام .
قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾
﴿الر﴾ عن ابن عباس أي أنا الله أرى ، والراجح أنها مما اتسأثر الله بعلمه والأفضل فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير دليل شرعي ، مع الجزم أن الله لم ينزلها عبثا بل لحكمة عظيمة .

﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي .
﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ أي: آياته محكمة، صدرت من حكيم خبير
ومن إحكامها، أنها جاءت بأجل الألفاظ وأفصحها، وأبينها، الدالة على أجل المعاني وأحسنها.
ومن إحكامها، أنها محفوظة من التغيير والتبديل، والزيادة والنقص، والتحريف.
ومن إحكامها: أن جميع ما فيها من الأخبار السابقة واللاحقة، والأمور الغيبية كلها، مطابقة للواقع، مطابق لها الواقع، لم يخالفها كتاب من الكتب الإلهية، ولم يخبر بخلافها، نبي من الأنبياء
ومن إحكامها: أنها ما أمرت بشيء، إلا وهو خالص المصلحة، أو راجحها ، ولا نهت عن شيء، إلا وهو خالص المفسدة أو راجحها، وكثيرا ما يجمع بين الأمر بالشيء، مع ذكر [حكمته] فائدته، والنهي عن الشيء، مع ذكر مضرته.
ومن إحكامها: أنها جمعت بين الترغيب والترهيب ، والوعظ البليغ ، الذي تعتدل به النفوس الخيرة.
ومن إحكامها: أنك تجد آياته المتكررة ، كالقصص ، والأحكام ونحوها ، قد اتفقت كلها وتواطأت، فليس فيها تناقض، ولا اختلاف. فكلما ازداد بها البصير تدبرا، وأعمل فيها العقل تفكرا، انبهر عقله، وذهل لبه من التوافق والتواطؤ، وجزم جزما لا يمترى فيه، أنه تنزيل من حكيم حميد.

قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ{2}
قوله ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً﴾ استفهام لإنكار تعجب الكفار
قوله ﴿عَجَباً﴾ خبر كان
قوله ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا﴾ أسم كان
قوله ﴿إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ نزلت حين قال قريش الله أعظم أن يكون رسوله بشرا مثل محمد يعني ممن لم يكن له رياسة ومال وما يعدونه من أسباب الجلال، أي أكان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق، أمرا عجبا، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية ، وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب لأن الله تعالى إنما يختار من استحق الاختيار، والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء
قال تعالى {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى}
والبعث للجزاء على الخير والشر. هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول ، تعطيل الجزاء
قوله ﴿أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ﴾ أن مفسرة، وحذف المنذر به للتهويل، والإِنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله تعالى
وقدم سبحانه خبر كان وهو {عَجَباً} على اسمها وهو {أَنْ أَوْحَيْنَآ} لأن المقصود بالإِنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشراً، وقدم سبحانه الإِنذار على التبشير، لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة مالا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي
قوله ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾
البشارة: إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر، سمي بذلك لأن أثرها يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد، وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له، بخلاف الإِنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر، ولذا قال سبحانه ﴿أَنْ أَنذِرِ الناس﴾ أي جميع الناس، وذكر سبحانه في جانب التبشير المبشر به وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم لكي تقوى رغبتهم في طاعته. ومحبتهم لعبادته.

قوله ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ القَدم : اسم لما تَقدم وسلَف، فيكون في الخير والفضل وفي ضده وإضافة قدم إلى صِدق من إضافة الموصوف إلى الصفة أي أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم.
وأصل القدم العضو المخصوص، وأطلقت على السبق، لكونها سببه وآلته، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وفي ذلك تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم، إنما هو بسبب صدقهم في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم.
قوله ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾
أي: قال الكافرون المتعجبون من أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رسولا إليهم، إن هذا الإِنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيِّن السحر حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه ، والأخ وأخيه
وعلى هذا فالقراءة التي وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإِشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقرأ الباقون:
﴿إِنَّ هذا لَسِحِرٌ مُّبِينٌ﴾
أي: إن هذا القرآن لسحر واضح، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال الآلوسى: " وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرة خلّاق القوى والقدر ، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد، كما هو شنشنة المكابر اللجوج ، وشنشنة المفحم المحجوج " .
وجاءت الجملة بدون حرف عطف ، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قالوا بعد هذا التعجب؟
فكان الجواب : ﴿قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ .
وقد اشتملت جملة ﴿إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾ على جملة من المؤكدات، للإِشارة إلى رسوخهم في الكفر ، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا.
قوله تعالى:
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ(3)
قوله ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون .
قال الآلوسى: " وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه، أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، وقال سعيد بن جبير : كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة ولكنه - سبحانه - خلقهن فى ستة أيام ، لكي يعلم عباده التثبت والتأني في الأمور.
قوله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾
استوى ترد في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى ﴿ولما بلغ أشده واستوى﴾ فإذا عديت بعلى تكون بمعنى علا وارتفع كما هنا فإذا عديت بـ(إلى) فتكون بمعنى قصد كقوله تعالى
(ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات).
قوله ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ التدبير: النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودةَ العاقبة، والأمر: جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم فهو يدبر الأمر في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه
قوله ﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾
الشفيع مأخوذ من الشفع وهو ضم الشيء إلى مثله وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإِعانته على ما يريده، بعد أن وُصف الإله الحق بما هو منتف عن آلهتهم نُفِي عن آلهتهم وصْف الشفاعة عند الله، وأكد النفي ب (من) بحيث لم تبق لآلهتهم خصوصية، وزيادة ﴿إلاّ مِنْ بعد إذنه﴾ احتراس لإثبات شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بإذن الله كما قال تعالى
﴿وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى﴾
قوله ﴿ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ اسم الإِشارة ﴿ذلكم﴾ يعود إلى ذات الله تعالى الموصوفة بتلك الصفات الجليلة أي: ذلك الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته ، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك
قوله ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ إيثار ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ على تفكرون للإِيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى عمق في التفكير والبحث والتأمل إذ أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق.
قوله تعالى : ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)﴾
قوله : ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ أي: إلى الله تعالى وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا، ولن يخلف الله وعده.
قال أبو حيان : وانتصب ﴿وَعْدَ الله﴾ و ﴿حَقّاً﴾ على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة ، والتقدير وعد الله وعداً والتقدير في {حقا} : حق ذلك حقا ، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل، كقوله " صبغة الله " و " صنع الله ".
قوله : ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد وقد ذكر الدليل النقلي فقال: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ أي: وعده صادق لا بد من إتمامه.
قوله ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إبداءٌ لحكمة البعث وهي الجزاء على الأعمال المقترفة في الحياة الدنيا، إذ لو ترك الناس على أعمالهم بغير جزاء على الحسن والقبيح لاستوى المُحسن والمسيء فكان من الحكمة أن يلقَى كل عامل جزاء عمله، ولم يكن هذا العالم صالحاً لإظهار ذلك لأنه وُضع نظامه على قاعدة الكون والفساد، فكانت الحكمة قاضية بوجود عالم آخر متمحض للكون والبقاء
وقدم جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لشرفه ولياقته بذلك العالم، ولأنهم قد سلكوا في عالم الحياة الدنيا ما خلق الله الناس لأجله ولم يتصرفوا فيه بتغليب الفساد على الصلاح
قوله ﴿بِالْقِسْطِ﴾ القسط: العدل، يقال: قسط الرجل إذا جار وظلم ومنه قوله تعالى ﴿وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ ويقال أقسط فلان إذا عدل ، ومنه قوله تعالى ﴿وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ وتفيد الباء أنهم يُجزون بما يعادل أعمالهم الصالحة وأن ذلك الجزاء مكافأة على قسطهم في أعمالهم وإنما خص بذلك جزاء المؤمنين مع أن الجزاء كله عدل، بل ربما كانت الزيادة في ثواب المؤمنين فضلاً زائداً على العدل لأمرين:
أحدهما: تأنيس المؤمنين وإكرامهم بأن جزاءهم قد استحقوه بما عملوا، كقوله: ﴿ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ ومن أعظم الكرم أن يُوهم الكريم أن ما تفضل به على المكرَم هو حقه وأن لا فضل له فيه.
الثاني: الإشارة إلى أن جزاء الكافرين دون ما يقتضيه العدل، ففيه تفضل بضرب من التخفيف لأنهم لو جُوزوا على قدر جُرمهم لكان عذابهم أشد، ولأجل هذا خولف
والحميم: الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، قال تعالى ﴿وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾
قوله ﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ أي: بسبب كفرهم وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾
بعد أن بين سبحانه جانبا من مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض، أتبع ذلك بذكر مظاهر أخرى لقدرته، تتمثل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار ففي هاتين الآيتين تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى بآثار صنيعه وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى.
قوله ﴿ضياء﴾ جمع ضوء كسوط وسياط ، وحياض ، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما ، وصام يصوم صياما ، وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور ، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار
فجَعْلُ الشمسِ ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته وجَعْل القمر نوراً للانتفاع بنوره انتفاعاً مناسباً للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة ولذلك جُعل نوره أضعف ليُنتفع به بقدر ضرورة المنتفع ، فمن لم يضطرَّ إلى الانتفاع به لا يشعرُ بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جُعل ظلام الليل لحصوله، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطُهم وكمالُ حياتهم.
قوله ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ الضمير المنصوب في (قَدَّره) : إما عائد إلى النور أي قدر النور تقديراً على حسب المنازل ، فالنور في كل منزلة لَه قدَر غير قدره الذي في منزلة أخرى ، وإما عائد إلى (القمر) على تقدير مضاف ، أي وقدر سيره منازل.
وعودة الضمير إلى القمر وحده لأنه العمدة في تواريخ العرب ، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأغلب، وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا ، أي : وقدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال تعالى : ﴿لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ وإنما وحد الضمير للإيجاز كما في قوله تعالى : ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾
قوله : ﴿لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾ اللام تعليلية بيان للحكمة من الخلق أي : لتعلموا عدد السنين بحصول كل سنة باجتماع اثني عشر شهرا التي يفيدكم علمها في مصالحكم الدينية والدنيوية
قوله ﴿والحساب﴾ ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم
والحساب : مصدر حسب بمعنى عد وهو معطوف على (عدد) ، أي ولتعلموا الحساب . وتعريفه للعهد ، أي والحساب المعروف ، والمراد به حساب الأيام والأشهر لأن حساب السنين قد ذكر بخصوصه ، ولما اقتصر في هذه الآية على معرفة عدد السنين تعين أن المراد بالحساب حساب القمر ، لأن السنة الشرعية قمرية ، ولأن ضمير (قدره) عائد على (القمر) وإن كان للشمس حساب آخر وهو حساب الفصول
فمن معرفة الليالي تعرف الأشهر ، ومن معرفة الأشهر تعرف السنة ، وفي هذه الآية إشارة إلى أن معرفة ضبط التاريخ نعمة أنعم الله بها على البشر.
قوله ﴿مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق﴾ هذا كقوله تعالى ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين مَا خلقناهما إلا بالحق ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون﴾ اسم الإشارة (ذلك) يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا أي : ما خلق الله ذلك الذي ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق ، ومقترنا بالحكمة البالغة التي تقتضيها مصالحكم ليستفيق المشركون من غفلتهم عن تلك الحكم.
قوله ﴿يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ جعل التفصيل لأجل قوم يعلمون ، أي الذين من شأنهم العلم لما في صيغة المضارع من تجدد العِلم ، وإنما يتجدد لمن هو ديدنه ودَأبه ، فإن العلماء أهل العقول الراجحة وهم أهل الانتفاع بالأدلة والبراهين ، وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بتفصيل الآيات ليسوا من الذين يعلمون.
قوله تعالى ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ(6)﴾
الآيات هنا أعم من الآيات في الآية التي قبلها لشمولها ما هو أكثر من خلق الشمس والقمر ، وختمت الآيات هنا بـ (يتقون) إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون ، لأن بعدهم عن التقوى هو سبب حرمَانهم من الانتفاع بالآيات.
قوله تعالى ﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾ [يونس:7]
قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ أي: لا يظنونه ولا يتوقعونه ولا يطمعون بلقاء الله، الذي هو أكبر ما طمع فيه الطامعون.
قوله ﴿وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا﴾ أي أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة.
قوله ﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾ أي: ركنوا إليها، وجعلوها غاية مرامهم قد صرفوا إرادتهم ونياتهم وأفكارهم وأعمالهم إليها، فلها يرضى ، ولها يغضب ، ولها يفرح ، ولها يحزن.
قوله ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾ هم عين الذين لا يرجون لقاء الله، والمراد بالغفلة : إهمال النظر في الآيات التنزيلية والكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته ، وتقديم المجرور (عَنْ آيَاتِنَا) إشارة إلى أن غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء ، فليسوا عنها غافلين مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية ، وليس المراد مَن تعرِض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات.
فهذه أربع صفات للكافرين ترتبت على عدم الإيمان باليوم الآخر:
أولا/عدم الرجاء في لقاء الله بأن صاروا لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من عقاب
ثانيا/أنهم رضوا بالحياة الدنيا ، بأن أصبح همهم محصورا فيها
ثالثا/أنهم اطمأنوا بهذه الحياة ، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه
رابعا/الغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب ، وتهدي العقل
قوله تعالى ﴿أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ{8}﴾ أعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضار صفاتهم في أذهان السامعين، والباء للسببية ، والإتيان بـ(ما) الموصولة في قوله : ﴿بما كانوا﴾ إشارة إلى علة الحكم ، أي أن مكسوبهم سَبب في مصيرهم إلى النار ، فأفاد تأكيد السببية المفادة بالباء.
قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ{9}﴾
جاءت هذه الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتكون أحوال المؤمنين مستقلة بالذكر غير تابعة في اللفظ لأحوال الكافرين ، وهذا من طرق الاهتمام بالخبر، ومناسبة ذكرها مقابلة بأحوال الكافرين تنويهاً بأهلها وإغاضة للكافرين.
قوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي: جمعوا بين الإيمان، والقيام بموجبه ومقتضاه من الأعمال الصالحة، المشتملة على أعمال القلوب وأعمال الجوارح، على وجه الإخلاص والمتابعة.
قوله ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ﴾ يرشدهم إلى ما فيه خيرهم فيعلمهم ما ينفعهم، ويهديهم للنظر في آياته، ويهديهم في هذه الدار إلى الصراط المستقيم، والمقصود الإرشاد التكويني ، أي يخلق في نفوسهم المعرفة بالأعمال النافعة ، وأما الإرشاد الذي هو الدلالة بالقول والتعليم فالله يخاطب به المؤمنين والكافرين ، والإتيان بالمضارع للدلالة على أن هذه الهداية لا تزال متكررة متجددة
قوله ﴿بِإِيمَانِهِمْ﴾ الباء للسببية أي: بسبب ما معهم من الإيمان، يثيبهم الله أعظم الثواب، وهو الهداية
قال الطاهر بن عاشور ((في تكوين هدايتهم إلى الخيرات بجعل الله تعالى ، بأن يجعل الله للإيمان نُوراً يوضع في عقل المؤمن ولذلك النور أشعة نورانية تتصل بين نفس المؤمن وبين عوالم القدس فتكون سبباً مغناطيسياً لانفعال النفس بالتوجه إلى الخير والكمالِ لا يزال يزداد يوماً فيوماً ، ولذلك يقترب من الإدراك الصحيح المحفوظ من الضلال بمقدار مراتب الإيمان والعمل الصالح وفي الحديث : (قد يكون في الأمم محدَّثون فإن يك في أمتي أحدٌ فعمر بن الخطاب) وفي الحديث : (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يَنظر بنور الله) ولأجل هذا النور كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً لأنهم لما تلقوا الإيمان عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت أنواره السارية في نفوسهم أقوى وأوسع)) أهـ
قوله ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ﴾ أي من تحت منازلهم الجارية على الدوام.
قوله ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ أضافها الله إلى النعيم، لاشتمالها على النعيم التام، نعيم القلب بالفرح والسرور، ورؤية الرحمن وسماع كلامه، والاغتباط برضاه وقربه، ولقاء الأحبة، وسماع الأصوات المطربات، والمناظر المفرحات ونعيم البدن بأنواع المآكل والمشارب، والمناكح ونحو ذلك، مما لا تعلمه النفوس، ولا خطر ببال أحد، أو قدر أن يصفه الواصفون (((إلى هنا امتحان الشهر الأول))).
قوله تعالى ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)﴾
قوله ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ الدعوى : هنا الدعاء ، يقال : دعوة بالهاء ، ودعوَى بألف التأنيث أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة ، والاقتصار على كون دعواهم فيها كلمة ﴿سبحانك اللهم﴾ يشعر بأنهم لا دعوى لهم في الجنة غير ذلك القول ، لأن الاقتصار في مقام البيان يشعر بالقصر ، ووجه ذكر هذا في عدد أحوالهم يدل على أن ما هم فيه من النعيم هو غايات الراغبين بحيث إن أرادوا أن ينعَموا بمقام دعاء ربهم لم يجدوا أنفسهم مشتاقين لشيء يسألونه فاعتاضوا عن السؤال بالثناء على ربهم فألهموا التسبيح لأنه أدل لفظ على التمجيد والتنزيه
قوله ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ إضافة التحية إلى ضمير (هم) يفيد أن تحيتهم فيما بينهم عند التلاقي والتزاور وهو لفظ سلام ، وأنها محكية هنا بلفظها دون لفظ السلام عليكم أو سلام عليكم ، لأنه لو أريد ذلك لقيل وتحيتهم فيها السلام بالتعريف ليتبادر من التعريف أنه السلام المعروف في الإسلام ، وكذلك سلام الله عليهم بهذا اللفظ قال تعالى : ﴿سلام قولاً من رب رحيم﴾ وقيل: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه ﴿سَلامٌ﴾
ونكتة حذف كلمة (عليكم) في سلام أهل الجنة بعضهم على بعض أن التحيّة بينهم مجرد إيناس ، بخلاف تحيّة أهل الدنيا فإنها تقع كثيراً بين المتلاقين الذين لا يعرِف بعضهم بعضاً فكان فيها من المعنى الذي أحدَث البشر لأجله السلامَ ، وهو معنى تأمين الملاقِي من الشر المتوقَّع من بين كثير من المتناكرين ، وذلك شأن قديم أن الذي يضمر شَراً لملاقيه لا يفاتحه بالسلام ، ولذلك جعل السلام شعار المسلمين عند اللقاء تعميماً للأمن بين الأمة الذي هو من آثار الأخوة الإسلامية.
قوله ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ معنى ﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾ أنهم يختمون به دعاءهم فهم يكررون ﴿سبحانك اللهم﴾ فإذا أرادوا الانتقال إلى حالة أخرى من أحوال النعيم نَهَّوْا دعاءهم بجملة ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
قوله تعالى ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(11)﴾
كان المشركون من غرورهم يحسبون تصرفات الله كتصرفات الناس من الاندفاع إلى الانتقام عند الغضب اندفاعاً سريعاً ، ويحسبون الرسل مبعوثين لإظهار الخوارق ونكاية المعارضين لهم فكانوا لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم تصبهم بإثر ذلك مصائب من عذاب شامل ازدادوا غروراً بباطلهم وإحالة لكون الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلاً من قبل الله تعالى كقوله : ﴿وإذْ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ وقوله : ﴿يستعجلونك بالعذاب﴾ وقوله : ﴿فإن للذين ظلموا ذَنوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم فلا يستعجلون﴾ وكان المؤمنون ربما تمنوا نزول العذاب بالمشركين واستبطأوا مجيء النصر للنبي عليه الصلاة والسلام وربما عجب بعضهم من أن يرزق الله المشركين وهم يكفُرون به
فهذه الجملة معطوفة على جملة ﴿إن الذين لا يرجون لقاءنا﴾ فحيث ذكر عذابهم الذي هم آيلون إليه ناسب أن يبين لهم سبب تأخير العذاب عنهم في الدنيا لتكشف شبهة غرورهم وليعلم الذين آمنوا حكمةً من حكم تصرف الله في هذا الكون
قوله ﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ أي: لمحقتهم العقوبة
قوله ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي: لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يستعدون لها، ولا يعملون ما ينجيهم من عذاب الله.
قوله ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي: باطلهم وكفرهم، الذي جاوزوا به الحق والحد والعمه : عدم البصر
قوله تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(12)﴾
الإنسان مراد به الجنس ، وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.
وقدم الجنب وهو الجانب لأن الإنسان لا يلجأ إلى الله إلا في حال تمكن الضر منه فيضجعه على جنبه إما على الحقيقة كالمرض والجوع أو مجازا كمن أضجعه الضر عن كل الأسباب فيلجأ إلى مسبب الأسباب.
قوله ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾ أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!! يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.
قوله ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ أي: المتجاوزين للحد ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ(13)﴾
قوله ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ الخطاب للمشركين بمناسبة التماثل بينهم وبين الأمم قبلهم في الغرور بتأخير العذاب ، وهذه الآية تهديد وموعظة بما حل بأمثالهم ، ولتوكيد التهديد والوعيد أكدت الجملة بلام القسم وقد التي للتحْقيق
قوله ﴿لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ لمّا اسم زمان بمعنى حين ، والمعنى : أهلكناهم حينما ظلموا ، أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات مثل هود وصالح ولم يؤمنوا ، فمجموع الجمل الثلاث هو ما وُقِّت به الإهلاك كقوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾
قوله ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ التعريف في ﴿الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ للاستغراق فلذلك عم القرون الماضية وعم المخاطبين ، وبذلك إنذاراً لقريش بأن ينالهم ما نال أولئك وهذه سنته في جميع الأمم.
قوله تعالى ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ{14}﴾
﴿ثُمَّ﴾ تفيد بعد ما بين الزمنين ، والخلائف : جمع خليفة ، والمراد بالأرض بلاد العرب ، فالتعريف فيه للعهد ؛ لأن المخاطبين خلفوا عاداً وثموداً
قوله ﴿لِنَنظُرَ﴾ أي لنعلم علماً متعلقاً بأعمالكم ، وإن كان يعلم أن ذلك سيقع علماً أزلياً
قوله تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{15}﴾
هذا أسلوب آخر من أساليب تكذيبهم ، فهم يتوهمون أن القرآن وضَعه النبي (صلى الله عليه وسلم) من تلقاء نفسه ، ووصف الآيات بـ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ لزيادة التعجيب من طلبهم تبديلها.
قوله ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ أي كتاب آخر كقصص الفرس وملاحمهم إذ ليس مرادهم أن يأتي بسُورَ أخرى ، غير الذي جاء به من قبل.
قوله ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي﴾ أي: ما ينبغي ولا يليق
قوله ﴿مِن تِلْقَاء نَفْسِي﴾ التلقاء : يطلق على الجهة والمكان مطلقاً كقوله تعالى : ﴿ولما توجه تلقاء مدين﴾ والمعنى : من جهة نفسي أو من قبلي
قوله ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ أي: إني عبد مأمور أتبع الوحي وليس لي تصرف بتغيير أو غيره ، ودل سياق الكلام على أن الإتيان بقرآن آخر غير هذا ممتنع ولذلك لم يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول هنا : إلا ما شاء الله ، أو نحو ذلك
قوله تعالى ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{16}﴾
قوله ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ﴾ أي لو شاء الله أن لا آتيكم بهذا القرآن لما أرسلني به لكنني تلوته عليكم ، وتلاوته هي دليل الرسالة ولأن تلاوته تتضمن إعجازه إذ جاء به من لم يكن من أهل العلم وأعجز أهل اللغة كلهم مع تضافرهم في بلاغتهم .
قوله ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ﴾ تذكيراً لهم بقديم حاله المعروفة بينهم وهي حال الأمية ، أي قد كنت بين ظهرانيكم أربعون سنة ، تشاهدون أطوار نشأتي فلا ترون فيها حالة الكمال المتناهي الذي صار إليه لما أوحَى الله إليه القرآن ، إذ لو كانت حالته بعد الوحي حالاً معتاداً وكانت بلاغة الكلام الذي جاء به كذلك (معتادا) لكان التخلق بذلك أطواراً وتدرجاً ، فلا جرم دل عدم تشابه الحالين على أن هذا الحال الأخير حال رَباني محض ، وأن هذا الكلام موحًى إليه من عند الله ليس له بذاته عمل فيه.
ولكلمة ﴿تَلَوْتُهُ﴾ هنا من الوقع ما ليس لغيرها لأنها تتضمن تالياً كلاماً ، ومتلواً ، وباعثاً بذلك المتلو لأن التلاوة : قراءة المكتوب أو استعراض المحفوظ ، فهي مشعرة بإبلاغ كلام من غير المبلِّغ.
فبالأول : تشير إلى معجزة المقدرة على تلاوة الكتاب مع تحقق الأمية
وبالثاني : تشير إلى القرآن الذي هو معجزة دالة على صدق الآتي به
وبالثالث : تشير إلى أنه كلام من عند الله تعالى
قوله ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ مفعول ﴿تعقلون﴾ محذوف لدلالة الكلام السابق عليه والتقدير أفلا تعقلون أنَّ مثل هذا الحال من الجمع بين الأمية والإتيان بهذا الكتاب البديع في بلاغته ومعانيه لا يكون إلا حال من أفاض الله عليه رسالته.
قوله تعالى ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ{17}﴾
أي أن المفتري على الله كذباً والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما ، وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته ويقتضي أن أولئك مجرمون ، وأنهم لا يفلحون .
قوله تعالى ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(18)﴾
قوله ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ قُدم ذكر نفي الضر على نفي النفع لأن المطلوب من المشركين الإقلاع عن عبادة الأصنام وقد كان سدنتها يخوفون عبدَتها بأنها تُلحق بهم وبصبيانهم الضر ، (أما النفع فإنه يصعب جلبه) فالابتداء بنفي الضر لإزالة أوهام المشركين في ذلك الصَّادَّة لكثير منهم عن نبذ عبادة الأصنام
قوله ﴿وَيَقُولُونَ هَاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ أي: يعبدونهم ليقربوهم إلى الله، ويشفعوا لهم عنده، وهذا قول من تلقاء أنفسهم، وكلام ابتكروه هم، فإنها لا تقدر على ضر ولا نفع في الدنيا فهي أضعف مقدرة في الآخرة.
قوله ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ﴾ أي: الله تعالى هو العالم، الذي أحاط علما بجميع ما في السماوات والأرض، وقد أخبركم بأنه ليس له شريك ولا إله معه، أفأنتم تزعمون أنه يوجد له فيها شركاء؟ أفتخبرونه بأمر خفي عليه وعلمتوه؟ أأنتم أعلم أم الله؟ فلا يوجد قول أبطل من هذا القول، المتضمن أن هؤلاء الضلال الجهال السفهاء أعلم من رب العالمين؟ فليكتف العاقل بمجرد تصور هذا القول، فإنه يجزم بفساده وبطلانه.
قوله ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي: تقدس وتنزه أن يكون له شريك أو نظير، بل هو الله الأحد ، وكل معبود في العالم العلوي والسفلي سواه، فإنه باطل عقلا وشرعا وفطرة.
قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{19}﴾
الأمة : الجماعة العظيمة التي لها حال واحد في شيء مَّا، والمراد هنا أمة واحدة في الدين الحق.
قوله ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي متفقين على الدين الصحيح، والسياق يدل على أن المراد أنها واحدة في الدين الحق وهو التوحيد لأن الحق هو الذي يمكن اتفاق البشر عليه لأنه ناشئ عن سلامة الاعتقاد من الضلال والتحْريف، ثم إن البشر أدخلوا على عقولهم الاختلاف البعيد عن الحق بسبب الاختلاق الباطل والتخيل والأوهام بالأقيسة الفاسدة، فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ{5} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
قوله ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ﴾ بإمهال العاصين وعدم معاجلتهم بذنوبهم.
قوله ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بأن ننجي المؤمنين، ونهلك الكافرين المكذبين، ولكنه أراد امتحانهم وابتلاء بعضهم ببعض، ليتبين الصادق من الكاذب ومثل هذه الآية قوله تعالى ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{118} إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ{119}﴾
قوله تعالى ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(20)﴾
عطف على جملة ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم(18)﴾ فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوة.
قوله ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ فالضمير في ﴿عليه﴾ عائد للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعنون: آيات الاقتراح التي يعينونها كقولهم: ﴿لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ وكقولهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾
فهم جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلاً على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله ، لأنه لو أرسله لأيَّده بما يوجب له القبول عند المرسَل إليهم كقوله تعالى ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ﴾.
قوله ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ اللام للملك ، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله فهو المحيط علما بأحوال العباد، فيدبرهم بما يقتضيه علمه فيهم وحكمته البديعة، وليس لأحد تدبير في حكم ولا تعليل وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بهم كقوله تعالى ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ{50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{51}﴾
قوله ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ أي: كل ينتظر بصاحبه ما هو أهل له، فانظروا لمن تكون العاقبة وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شراً لهم ، كقوله تعالى : ﴿وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقُضي الأمر ثم لا ينظرون﴾
قوله تعالى ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ(21)﴾
قوله ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾ كالصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون
قوله ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾ في المراد منها الملابسة أي مكرهم المصاحب لآياتنا فيمكرون مكراً يتعلق بها وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك
قوله ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾ فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله فإن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فمقصودهم منعكس عليهم ودل اسم التفضيل (أَسْرَعُ) على أن مكر الكافرين سريع أيضاً
قوله ﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك، وفيه أنه يستلزم علم الله تعالى بذلك، وعبر بالمضارع في (يكتبون) و(يمكرون) للدلالة على التكرر ، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم
قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(22)﴾
أعقب التهديد على كفران النعمة بذكر بعض نعم الله عليهم ثم ضَراء تعقب النعمة للابتلاء والتذكير بخالقهم، ثم كيف تُفرج عنهم رحمةً بهم فيكفر فريق منهم كلتا النعمتين ولا يتذكر ، والمقصود أنَّ في ذلك أعظم الآيات على الوحدانية فكيف يقولون ﴿لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ وفي كل شيء له آية، ولكيلا يغتروا بالإمهال فيحسبوه رضى بكفرهم أو عجزاً عن أخذهم.
قوله ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أي بما يسر لكم من الأسباب المسيرة لكم فيها، وهداكم إليها.
قوله ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ أي: السفن البحرية ومراد به الجمع لقوله ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾
قوله ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ الريح الطيبة : الملائمة الرفيقة بالراكبين موافقة لما يهوونه، من غير انزعاج ولا مشقة.
قوله ﴿وَفَرِحُوا بِهَا﴾ أي اطمأنوا إليها
قوله ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ جواب ﴿إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ أي شديدة الهبوب، والريح مؤنثة في كلام العرب، وضمير(جاءتها) عائد إلى (الفُلك) لأن جمع غير العاقل يعامل معاملة المفرد المؤنث، والعاصف: وصف خاص بالريح ، أي شديدة السرعة، وإنما لم تلحقه علامة التأنيث لأنه مختص بوصف الريح فاستغنى عن التأنيث، مثل : نافس وحائض ومرضع ، فشاع استعماله كذلك
قوله ﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أي: عرفوا وأيقنوا أنه الهلاك، ومعنى ﴿أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أخذوا وأهلكوا كقوله ﴿لتأتنني به إلا أن يُحاط بكم﴾ فانقطع حينئذ تعلقهم بالمخلوقين، وعرفوا أنه لا ينجيهم من هذه الشدة إلا الله وحده.
قوله ﴿دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي دعوه ولم يدعوا معه أصنامهم، وليس المراد أنهم أقلعوا عن الإشراك في جميع أحوالهم بل تلك حالتهم في الدعاء عند الشدائد، وهذا إقامة حجة عليهم ببعض أحوالهم، مثل قوله تعالى : ﴿أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون﴾
قوله ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ الإشارة بـ (هذه) إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات: لامِ توطئة القسم، ونونِ التوكيد، والتعبير بصيغة (من الشاكرين) دون لنكونن شاكرين لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر.
قوله تعالى ﴿فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(23)﴾
قوله ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ أتى بحرف (إذا) الفجائية في جواب (لما) للدلالة على تعجيلهم بالبغي في الأرض عقب النجاة أي: نسوا تلك الشدة وذلك الدعاء، وما ألزموه أنفسهم، فأشركوا بالله من اعترفوا بأنه لا ينجيهم من الشدائد، ولا يدفع عنهم المضايق ولكن هذا البغي يعود وباله عليهم والبغي: الاعتداء والمراد به هنا الإشراك كما صُرح به في قوله ﴿فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون﴾ العنكبوت: 65 وسمي الشرك بغياً لأنه اعتداء على حق الخالق وهو أعظم اعتداء، كما يسمى ظلماً كما في قوله : ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ لقمان: 13 ولا يحسن تفسير البغي هنا بالظلم والفساد لأنه لا يناسب قولَه بعد ﴿إنما بغيكم على أنفسكم﴾ ونظائر هذه الآية قوله: ﴿وإذا مس الإنسان ضر دعا ربّه منيباً إليه ثم إذا خَوَّله نعمة منه نسي ما كَان يدعُو إليه من قبل وجَعل لله أنداداً ليضل عن سبيله﴾ وقوله: ﴿بغير الحق﴾ هو قيد كاشف لمعنى البغي، إذ البغي لا يكون بحق ، فهو كالتقييد في قوله تعالى : ﴿ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدى من الله﴾
قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ قصر البغي على كونه مُضراً بهم ليعلموا أن التحذير من الشرك والتهديد عليه لرعي صلاحهم لا لأنهم يضرونه كقوله: ﴿ولا تضروه شيئاً﴾ والمعنى إنما بغي كل أحد على نفسه، لأن الشرك لا يضر إلا بنفس المشرك باختلال تفكيره وعمله ثم بوقوعه في العذاب.
قوله ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي أمهلناكم على إشراككم مدة الحياة لا غير ثم نؤاخذكم على بغيكم عند مرجعكم إلينا
قوله ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ﴾ في يوم القيامة وتقديم المجرور في قوله: ﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ﴾ لإفادة الاختصاص، أي ترجعون إلينا لا إلى غيرنا
قوله ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ استعمل الإنباء كناية عن الجزاء لأن الإنباء يستلزم العلم بأعمالهم السيئة والقادر إذا علم بسوء صنيع عبده لا يمنعه من عقابه مانع وفي هذا غاية التحذير لهم عن الاستمرار على عملهم.
قوله تعالى ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{24}﴾
هذه الآية تتنزل منزلة البيان لجملة ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وهو مطابق لحالة الدنيا، فإن لذاتها وشهواتها وجاهها ونحو ذلك يزهو لصاحبه إن زها وقتًا قصيرًا، فإذا استكمل وتم اضمحل، وزال عن صاحبه، أو زال صاحبه عنه، فأصبح صفر اليدين منها، ممتلئ القلب من همها وحزنها وحسرتها
قوله ﴿كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ شُبه به ابتداء أطوار الحياة من وقت الصبا فهو يشبه حال نزول المطر من السماء في كونه سبب ما يؤمَّل منه مِن زخرف الأرض ونضارتها
قوله ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ﴾ أي: نبت فيها من كل صنف،
قوله ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ كالحبوب والثمار
قوله ﴿وَالأَنْعَامُ﴾ أي وَمما تأكل الأنْعَامُ كأنواع العشب، والكلأ المختلف الأصناف.
قوله ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾ غاية شبه بها بلوغ الانتفاع بخيرات الدنيا إلى أقصاه ونضوجه وتمامه وتكاثر أصنافه وانهماك الناس في تناولها فحصل معهم طمع، بأن ذلك سيستمر ويدوم، لوقوف إرادتهم عنده، ونسيانهم المصير إلى الفناء والزخرف : اسم الذهب . وأطلق على ما يتزين به مما فيه ذهب وتلوين من الثياب والحلي
قوله ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ أنهم مستمرون على الانتفاع بها محصلون لثمراتها
قوله ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾ كقوله ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾
قوله ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ﴾ أي كأن لم تعمر بالزرع، والأمس : اليوم الذي قبل يومك والمراد بالأمس في الآية مطلق الزمن الذي مضى لأن أمس يستعمل بمعنى ما مضى من الزمان ، كما يستعمل الغد في معنى المستقبل واليوم في معنى الحال
قوله ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ أي: نبينها ونوضحها، بتقريب المعاني إلى الأذهان وضرب الأمثال
قوله ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي: يعملون أفكارهم فيما ينفعهم وأما الغافل المعرض فهذا لا تنفعه الآيات، ولا يزيل عنه الشك البيان
قوله تعالى ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{25}﴾ سمى الله الجنة "دار السلام" لسلامتها من جميع الآفات والنقائص، وذلك لكمال نعيمها وتمامه وبقائه، وحسنه من كل وجه، وخص بالهداية من شاء استخلاصه واصطفاءه، فهذا فضله وإحسانه، والله يختص برحمته من يشاء، وذلك عدله وحكمته، وليس لأحد عليه حجة بعد البيان والرسل
قوله تعالى ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{26}﴾
قوله ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى﴾ الذين أحسنوا هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم والصراط المستقيم هو العمل الحسن، والحُسنى هي دار السلام وسميت حسنى لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا
قوله ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ هي النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، والفوز برضاه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا : ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة، قال : فيُكشف الحجاب، قال : فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه) وقيل : هي رضى الله تعالى كما قال: ﴿ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر﴾
قوله ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ﴾ الرهق: الغشيان، والقَتَرُ: لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوف، والذلة: الهوان أي: لا ينالهم مكروه، بوجه من الوجوه، لأن المكروه، إذا وقع بالإنسان، تبين ذلك في وجهه، وتغير وتكدر
قوله ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ الملازمون لها
قوله ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا يحولون ولا يزولون ولا يتغيرون
قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{27}﴾
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات عطف بذكر حال الأشقياء
قوله ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ أي: جزاء يسوؤهم بحسب ما عملوا من السيئات على اختلاف أحوالهم فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك.
قوله ﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ أي تغشاهم وتعلوهم ذلة وخوف من عذاب الله بسبب معاصيهم كما قال ﴿وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل﴾
قوله ﴿مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي مانع ولا واق يقيهم العذاب ولا يدفعه عنهم دافع ولا يعصمهم منه عاصم
قوله ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً﴾ فتسري تلك الذلة الباطنة إلى ظاهرهم، فتكون سوادًا في الوجوه إخبار عن سواد في الدار الآخرة كقوله تعالى ﴿يوم تبيض وجوه وتسود وجوه﴾ وقوله تعالى : ﴿وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة﴾ فكم بين الفريقين من الفرق، ويا بعد ما بينهما من التفاوت ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾
قوله تعالى ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ{28}﴾
قوله ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر والمشركين، وما كانوا يعبدون من دون الله كقوله : ﴿وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا﴾
قوله ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ﴾ أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا ليقع التحاكم والفصل بينكم وبينهم
قوله ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ أي امتازوا عن مقام المؤمنين كقوله تعالى ﴿وامتازوا اليوم أيها المجرمون﴾ وقوله ﴿ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون﴾ وفي الآية الأخرى ﴿يومئذ يصدعون﴾ أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء، وقيل التزييل هنا التفريق بينهم وبين شركائهم أي فرقنا بينهم بالبعد البدني والقلبي وحصلت بينهم العداوة الشديدة بعد أن بذلوا لهم في الدنيا خالص المحبة فانقلبت تلك المحبة والولاية بغضًا وعداوة
قوله ﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ أي أنهم أنكروا عبادتهم وتبرأ شُرَكَاؤُهُمْ منهم
قوله ﴿مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ فإننا ننزه الله أن يكون له شريك، أو نديد كقوله ﴿كلا سيكفرون بعبادتهم﴾ وقوله ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا﴾ وقوله ﴿وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء﴾
قوله تعالى ﴿َكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ{29}﴾
إن في قوله ﴿إِن كُنَّا﴾ مخففة من الثقيلة أي: فكفى أن يكون الله تعالى شهيدا وحكما بيننا وبينكم فهو سبحانه يعلم حالنا وحالكم، ويعلم أننا كنا في غفلة عن عبادتكم لنا، بحيث إننا ما فكرنا فيها ولا رضينا بها ولا أمرناكم بها، وإنما عبدتم من دعاكم إلى ذلك، وهو الشيطان كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ فالملائكة الكرام والأنبياء والأولياء ونحوهم يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة ويتنصلون من دعائهم إياهم إلى عبادتهم وهم الصادقون البارون في ذلك.
قوله تعالى ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ{30}﴾
قوله ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: في ذلك اليوم
قوله ﴿تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ﴾ أي: تختبر كل نفس مؤمنة أو كافرة: ما سلف منها من أعمال، فترى ما كان نافعاً أو ضاراً منها وتجازى بحسبه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر
قوله ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي وغاب عن المشركين في هذا الموقف ما كانوا يفترونه من أن هناك آلهة أخرى ستشفع لهم يوم القيامة.
قوله تعالى ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ{31}﴾
أي: قُلْ لهؤلاء الذين أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا محتجًا عليهم بما أقروا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الألوهية (مهم مهم)
قوله ﴿مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾ بإنزال الأرزاق من السماء، وإخراج أنواعها من الأرض، وتيسير أسبابها فيها؟
قوله ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ﴾ أم هنا منقطعة بمعنى بل أي: بل قل لهم من الذي خلقهما وهو مالكهما؟ وخصهما بالذكر من باب التنبيه على المفضول بالفاضل، ولكمال شرفهما ونفعهما.
قوله ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ دليل ثالث على قدرة الله ووحدانيته وهو إخراج أنواع الأشجار والنبات من الحبوب والنوى، وإخراج المؤمن من الكافر، والطائر من البيضة، ونحو ذلك
قوله ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ عكس هذه المذكورات،
قوله ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ دليل رابع على قدرة الله ووحدانيته أي: قل لهم من الذي يتولى تدبير أمر هذا الكون من إحياء وإماتة، وصحة ومرض، وغنى وفقر، وليل ونهار، وشمس وقمر ونجوم، وهذه الجملة الكريمة من باب التعميم بعد التخصيص، لأن كل ما سبق من نعم يندرج فيها في العالم العلوي والسفلي، وشامل لجميع أنواع التدابير الإلهية
قوله ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾ أي فإنك إذا سألتهم عن ذلك فإنهم يعترفون بجميع ذلك، وأن الله لا شريك له في شيء من المذكورات.
قوله ﴿فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ أي قل لهم إلزامًا بالحجة أفلا فتخلصون له العبادة وحده لا شريك له، وتخلعون ما تعبدون من دونه من الأنداد والأوثان.
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده فإن من تأمل هذه الموجودات علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير وإن أثر الأقدام لتدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات وعن أبي حنيفة أن (بعض الزنادقة) سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه . وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم (الإبريسم: الحرير) وتأكله النحل فيخرج منه العسل وتأكله الشاة والبقر والأنعام فتلقيه بعرا وروثا وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب والإبريز فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة، وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجبا كيف يعصى الإل ... ه ( الإله ) أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارات ومن الثوابت وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها وانظر إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال تعالى ﴿ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود﴾ وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم لا إله غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا
قوله تعالى ﴿فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ{32}﴾
قوله ﴿فَذَلِكُمُ﴾ اسم الإشارة يعود على ذي الجلال الذي وصف نفسه بما وصفها به
قوله ﴿اللَّهُ رَبُّكُم﴾ أي: المألوه المعبود المحمود، المربي جميع الخلق بالنعم وهو الْحَقُّ
قوله ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ﴾ أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع سوى الضلال فمن ترك الحق وهو عبادة الله وحده، فقد وقع في الباطل والضلال من عبادة من لا يستحق العبادة
ومن الأحكام التي تؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن الحق والباطل، والهدى والضلال، نقيضان لا يجتمعان، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وباطلين في وقت واحد، متى ثبت أن أحدهما هو الحق، وجب أن يكون الآخر هو الباطل
ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعاً كما في هذه الآية، والضلال حقيقته الذهاب عن الحق مأخوذ من ضلال الطريق
قوله ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ فكيف عن عبادة من هذا وصفه، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا بعد اعترافكم وإقراركم بأن خالقكم ورازقكم ومدبر أمركم هو الله تعالى وحده
قوله تعالى ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)﴾
الكاف للتشبيه بمعنى مثل و(حقت) بمعنى وجبت وثبتت والمراد ب(الكلمة) هنا حكمه وقضاؤه سبحانه والمراد بالفسق هنا التمرد في الكفر والسير فيه إلى أقصى حدوده والمعنى: مثل ما ثبت أن الله تعالى هو الرب الحق وأنه ليس بعد الحق إلا الضلال ثبت أيضا الحكم والقضاء منه سبحانه على الذين كفروا أنهم لا يؤمنون به لأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا.
قوله تعالى ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ{34}﴾
ثم ساق سبحانه أنواعا أخرى من الأدلة على وحدانية الله تعالى وقدرته
قوله ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ أي: يبتديه
قوله ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ وهذا استفهام بمعنى النفي والتقرير، أي: ما منهم أحد يبدأ الخلق ثم يعيده، وجعل سبحانه إعادة المخلوقات بعد موتها حجة عليهم في التدليل على قدرته مع عدم اعترافهم بها، للإِيذان بسطوع أدلتها، لأن القادر على البدء يكون أقدر على الإِعادة كما قال تعالى ﴿وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ فلما كان إنكارهم لهذه الحقيقة الواضحة من باب العناد أو المكابرة، نزّل إنكارهم لها منزلة العدم ودلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمرا مسلما معترفا بصحته عند العقلاء
قوله ﴿قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ من غير مشارك ولا معاون له على ذلك، فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب يعني أنه لا يدعهم للجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فتكلم أنت عنهم.
قوله ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ الإِفك الصرف والقلب عن الشيء أي: فأين تصرفون وتنحرفون عن عبادة المنفرد بالابتداء والإعادة إلى عبادة من لا يخلق شيئًا وهم يخلقون.
قوله تعالى ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{35}﴾
قوله ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ ببيانه وإرشاده، أو بإلهامه وتوفيقه.
قوله ﴿قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ بالأدلة والبراهين، وبالإلهام والتوفيق، والإعانة إلى سلوك أقوم طريق، ولا شك أن الذي يهدي غيره إلى الحق أحق بالاتباع من الذي هو في حاجة إلى أن يهديه غيره
قوله ﴿أَمَّنْ لا يَهِدِّي﴾ أي: لا يهتدي
قوله ﴿إِلا أَنْ يُهْدَى﴾ لعدم علمه، ولضلاله، وهي شركاؤهم، التي لا تهدي ولا تهتدي إلا أن تهدى
قوله ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ استفهام قصد به التعجيب والتهكم من أحوالهم التي تدعو إلى الدهشة والغرابة أي: ما الذي وقع لكم ، وما الذي أصابكم في عقولكم حتى صرتم تشركون في العبادة مع الله الخالق الهادي، مخلوقات لا تهدي بنفسها وإنما هي في حاجة إلى من يخلقها ويهديها
قال الإِمام الرازي : " واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا ثم بالهداية ثانيا عادة مطردة في القرآن، فقد حكى سبحانه عن إبراهيم أنه ذكر ذلك فقال ﴿الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ وعن موسى أنه قال ﴿رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك فقال ﴿سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى﴾ وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإِنسان له جسد وله روح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية، فها هنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعيدُهُ﴾ أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية
قوله تعالى ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)﴾
قوله ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا﴾ أي: إن هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوتك يا محمد، لا يتبعون في عقائدهم وعبادتهم لغير خالقهم سوى الظنون والأوهام التي ورثها الأبناء عن الآباء، وخص (أكثرهم) بالذكر، لأن هناك قلة منهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم لا يتبعونه عنادا وجحودا وحسدا، كما قال تعالى ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ﴾ أو يجوز أن يكون سبحانه خص أكثرهم بالذكر للإِشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق وستتَبعه في الوقت الذي يريده الله تعالى
قوله ﴿إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ استئناف مسوق لبيان شأن الظن وبطلانه والمراد بالظن هنا ما يخالف العلم واليقين، والمراد بالحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع .
أي : إن الظن الفاسد المبنى على الأوهام لا يغني صاحبه عن الحق الثابت الذي لا ريب في ثبوته وصحته
قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي سيجازيهم على ذلك بالعقوبة البليغة.
قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)﴾
قوله ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: غير ممكن ولا متصور أن يفترى هذا القرآن على الله تعالى، لأنه الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وهو كتاب الله الذي تكلم به رب العالمين، فكيف يقدر أحد من الخلق، أن يتكلم بمثله، أو بما يقاربه، والكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه.
قوله ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ المراد بالذي بين يديه: الكتب السابقة على القرآن كالتوراة والإِنجيل والزبور أي ليس من شأن هذا الكتاب في إعجازه وهدايته أن يكون من عند غير الله ، ولكن من شأنه أن يكون مؤيداً للكتب السماوية السابقة فيما دعت إليه من إخلاص العبودية لله تعالى ومن اتباع لرسله، ومفصلا وموضحا لما اشتملت عليه هذه الكتب من تشريعات وآداب وأحكام
قوله ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ أل في ﴿الْكِتَابِ﴾ للجنس، فالمراد به جنس الكتب السماوية التي أنزلها سبحانه على بعض أنبيائه أي جاء بتفصيل للحلال والحرام، والأحكام الدينية والقدرية، والإخبارات الصادقة
قوله ﴿لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: لا شك ولا مرية فيه بوجه من الوجوه، بل هو الحق اليقين تنزيل من رب العالمين



المصدر




جامع البيان في تفسير القرآن
او
تفسير الصفوي رحمه الله

للعلامة السيد معين الدين محمد بن عبدالرحمن الحسيني الإيجي الشافعي رحمه الله المولود عام 832هـ والمتوفى سنة 894هـ .
وقد علق عليه العلامة السيد محمد بن عبدالله الغزنوي رحمه الله المتوفى سنة 1296هـ

albyaaan.jpg

وقد صدر هذا التفسير عن دار غراس للنشر والتوزيع بالكويت ، وقد قدم له وراجعه صلاح الدين مقبول أحمد وفقه الله.
وخرج هذا التفسير في مجلد فاخر من القطع العادي بلغت صفحاته 1075 صفحة من وق الشمواه الخفيف .
وهذا الكتاب قد طبع عدة طبعات في الهند وباكستان ، وطبعاته نادرة الوجود مع جودته ، وهو تفسير مختصر فيه فوائد قل أن تجدها في غيره
، ولذلك قال مؤلفه في آخر مقدمته :(وقلما تجد آية إلا وقد رمزت في تفسيرها إلى دفع إشكال أو إلى تحقيق مقال ، بعبارة وجيزة أو أومأت إليه بإشارة لطيفة دقيقة ، وفي كثير من المواضع أوضحته في الحاشية ، وقد تعرضت فيها بوجوه أخر من المعاني والإعراب ،
فللمبتدئ حظ كثير من هذا التفسير ، وللعالم حظوظ ، وسميته (جامع البيان في تفسير القرآن) ...)
من مصادره من كتب التفسير :
1- معالم التنزيل للبغوي .
2- الوسيط للواحدي .
3- تفسير ابن كثير .
4- الكشاف للزمخشري.
5- أنوار التنزيل للبيضاوي .
في 19/7/1428هـ
طبع الكتاب في دار الكتب العلمية بحاشية الغزنوي, وبتحقيق د. عبد الحميد هنداوي, في أربعة مجلدات, عام 1424.
كتبت : الماسة الحب
-
جزاك الله خيرا

بس

غاليتي اذكري المصدر

او اسم الكتاب
كتبت : حبوبة ماما
-
class="quote">اقتباس : المشاركة التي أضيفت بواسطة الماسة الحب:
جزاك الله خيرا

بس

غاليتي اذكري المصدر

او اسم الكتاب
باذن الله ساذكره لاحقا
كتبت : راجيه عفو ربها
-
كتبت : * أم أحمد *
-

بارك الله فيكِ وفي عملكِ
ورزقكِ الله العلم النافع
ونفع بكِ
وجعلكِ من أهل القرآن وخاصته
وتقبلي ودي وتقييمي
كتبت : رسولي قدوتي
-

جزاكِ الله خيرا غاليتي

وبورك عملكِ

جعلكِ الله من اهــل القرآن الذين هم اهل الله وخاصته

الصفحات 1 2 

التالي

تأنس به القلوب ((حملة انه الله ))

السابق

لأن الله ربي >>> حملة إنه الله

كلمات ذات علاقة
ماتيسر , من , بعض , تفسير , يونس , صورة