رواية في ظل العملاق

مجتمع رجيم / القصص والروايات الادبية
كتبت : )) مخمليه ((
-
رواية في ظل العملاق




" انك تقعين من جديد فى الرومنسية. النقاش المستمر يصبح رتيبا فى النهاية ".
" ألا تتحمل أى مزاح؟ ".
ثم ضحكت وقالت :
"هل سترى أنيتا أورمان فى الجنوب؟ "."
آه , ألا تثقين بى؟ "
" بلى , لكن .... "
" تبا لك ولهذه الكلمة! اسمعى , يا لورنا. سأصّفى أعمالا ملحة وأجد وكيلا يحل مكانى ويساعد أنيتا. هل تثقين بى , نعم أم لا؟ "
" طبعا. ما فائدة الحب من دون الثقة؟ "
"لا شك بذلك ".
انه يطالب لورنا أن تثق به , لكن , هل كان صريحا معها؟ كانت تشعر بأن مايك يخفى عليها أمرا يتعلق بأنيتا. لقد أقسم أن لا علاقة عاطفية بينهما لكن الرجال غير صادقين فيما يتعلق بعلاقتهم مع النساء.....

- لورنا تحمل رسالة الى العمدة

الحر الساحق يسطع من السماء البيضاء على الصحراء الغريبة , والريح الساخنة تبعث , من حين الى آخر , بتموجات في بحار الرمال , ويحد الطريق من جهة اليسار نباتات الصبار , وخلفها لا وجود لأي شيء , لا شيء بتاتا يفصل دلتا النيل الخصبة عن الصحراء , وعلى يمين الطريق واحات من شجر النخيل والأوكاليبتوس.
هذه الطريق هي أحدى المحاور التي تصل القاهرة بالأسكندرية – تسلكها السيارات بصورة مستمرة , وتنطلق على هذه الطريق سيارة أميركية ماركتها شفروليه , تقودها فتاة نظرها مسمّر بالأسفلت وتحاول أن تجد المنعطف الذي سيقودها الى قرية ( سيدي دار) فهي تحمل رسالة الى رئيس بلديتها : قيل لها أنه لا خوف عليها أن تضل لأن أعلان الصحيفة واضح , غير أنها تسير على هذه الطريق الرئيسية منذ وقت طويل وبدأت تستاء من الغبار وسطوع الشمس بالرغم من نظارتيها السوداوين السميكتين وقبعتها الواسعة.
أخيرا , لمحت أمرأة بلباس أسود وعلى رأسها كيس من النايلون يحتوي على مشترياتها , هذا المنظر الفظ ليس أعتياديا , فخففت سرعتها لتسألها عن الطريق عندما أكتشفت لافتة قديمة كتب عليها : سيدي دار .... الكلمات البيضاء تبرز بوضوح على اللافتة السوداء , فأعطت أشارة وأنتظرت قليلا كي تستطيع أجتياز الطريق لكثرة تدفق السيارات الآتية في الأتجاه المعاكس , ولما أنكشفت الطريق أمامها , أنعطفت الى اليسار ولم تعد ترى المرأة باللباس الأسود.
قالوا لها أن الطريق الى سدي دار سالكة , أنا في الواقع , لم تكن واضحة في بعض الأحيان , ربما يعود ذلك الى عاصفة رملية هبت أخيرا , لكن الفتاة ظلت تسير بثقة والدرب تتجه نزولا الى أن أختفت الطريق العام بسرعة وراء تلة عالية من الرمال , ران صمت شامل, والفتاة تتوقع أن ترى القرية في أي لحظةالآن.
بعد قليل وصلت الى مفترق طرق , ولم تجد أي أشارة لأي من الأتجاهات العديدة , فتوقفت مترددة , ثم رأت رجلا على ظهر حمار يقترب بأتجاهها , أنه فلاح يرتدي الجلابية التقليدية ويعتمر العمامة , فتحت النافذة وسألته:
" من فضلك , أين هي طريق سيدي دار؟".
بدا أنه فهم الأسم وبحركة من رأسه أشار الى اليمين , فأخذت الفتاة الأتجاه المذكور وأسرعت قاطبة االحاجبين , لا ترى أي وضوح ولا أي أثر للقرية ولا لشجر النخيل الذي يتكاثر فيها , لم تكن سيدي دار روضة صحراوية , أنما كانت تحتوي على عدد كبير من الآبار , فتأخذ الأشجار غذاءها من الينابيع الموجودة تحت الأرض , ولأول مرة , أدركت الفتاة تغافلها وخطأها وأيقنت أنه ما كان يج عليها أن تغامر في المجيء وحدها الى هذه الأرض المجهولة ,لم تكن تعرف أن القرية ستكون بعيدة الى هذه الدرجة, ولا أن الطريق ستكون سيئة .

أشرف النهار على نهايته ولم تكن تنوي أن تجد نفسها في الصحراء عند حلول المساء , سيدي دار لا تقع بعيدا عن الطريق الرئيسي .... غير أنها أجتازت حتى الآن مسافة طويلة....
أخيرا حصل ما لم تكن تتوقعه , فتعطلت السيارة , عشرات المرات حاولت أن تدير المحرك , لكن من دون جدوى , فهي لا تعرف شيئا عن علم الميكانيك وليس بأستطاعتها حتى أن تغير عجلة , خرجت من السيارة ورفعت الغطاء المعدني ونظرت الى المحرك , لا تدري ما تفعل , لا شك أن الرمال وصلت الى الشمعات.... وجدت نفسها في طريق مسدود.
أغلقت الغطاء المعدني ونظرت حولها , لا شك أن القرية قريبة من هنا , فما عليها ألا الذهاب مشيا على الأقدام بحثا عن النجدة , نعم.... لا شك أن سيدي دار هناك .... في الأفق.... فأخذت أتجاها مباشرا وحذاؤها المقطع ينغمس في الرمل , لكن.... أين شجر النخيل؟ وأين البنايات؟ وجدت نفسها أمام تلة من الصخور العارية.
تسمرت مكانها , منهكة وعلى وشك الأنهيار , ثم جلست بثقل على صخرة ملساء , لكنها سرعان ما نهضت من جديد لشدة سخونة الصخرة التي كادت تحرق فستانها.
ربما تختتبىء هنا الأفاعي والعقارب؟ بدأت تركض عائدة الى سيارتها حيث بأمكانها أن تنتظر حلول العاصفة أو مجيء أحد لأنقاذها.
توقفت مندهشة , لم تر سيارتها , وفقدت حس الأتجاه , أين سيارتها؟ وبخوف تابعت سيرها متعثرة في طريقها , فجأة تسمرت مكانها كأنها أصيبت بالجنون وأدركت أنها ضلت طريقها نهائيا! ولم تعد تجد أثرا لخطواتها ! هل غمرت الريح الخفيفة آثارها أم أنها مرت قربها من دون أن تراها؟...
أخيرا لمحت من بعيد شبحا يتوجه نحوها , أنه رجل يمتطي حصانا , ولتللفت أنتباهه , خلعت قبعتها وراحت تلوح بها كبيرق , وبدأت الشمس تضرب بقوة على رأسها العاري من دون أن تعي ذلك , هل رآها الفارس الوحيد؟ أرادت أن تناديه لكنها لم تنجح ألا بأصدار صرخة خانقة فخارت جميع قواها.
الرجل يتوجه نحوها بسرعة ومعطفه يطير حوله مثل غيمة , هل هو رجل عربي؟ أنها متأثرة بروايات الصحراء , الشيخ الوسيم يخطف البطلة ويصطحبها الى خيمته.... للأسف هذه المغامرات لا وجود لها ألا في القصص , لقد سبق ورأت كثيرين في القاهرة , لكن لم تقع في هوى أحد منهم.
فجأة شعرت بالخوف ,ربما كان هذا الرجل أنسانا خطرا , لكنها أستعادت وعيها , ستعده بمكافأة سخية وتجعله يقتنع بضرورة مساعدتها , المهم أن تتمكن من التعبير بوضوح ببعض الكلمات العربية التي تعرفها.
خفف الحصان سرعته وأخترق الغبار وجه الفتاة وحلقها , الفارس يرتدي رداء أبيض ويعتمر عمامة تقليدية , بقلق وتوتر بحثت في وجهه عن ملامح لطيفة , كانت بشرته سمراء من شدة تعرضها لأشعة الشمس , لكن عينيه المحدقتين بالفتاة , كانتا زرقاوين بارزتين.
تصورت أنها تعيش حلما , فتلعثمت وقالت:
" كنت أعتقد أنهما سوداوان".
نزل الرجل عن حصانه وقال بلغة أنكليزية:
" يا أيتها الفتاة الحمقاء! ضعي قبعتك على رأسك!".
أستعادت وعيها بعد ساعات طويلة ولأول وهلة أعتقدت أنها في سريرها في فندق هيلتون القاهرة , نظرت حولها وأدركت أنها في محيط تجهله كليا , كانت داخل خيمة بسيطة , خالية من أي ديكور فاخر معروف عادة في قصور الأثرياء , الأثاث بسيط ومؤلف من سرير مخيم ضيق وفوقه غطاء رمادي , ومصباح معلق بالسقف , شعرت بشيء بارد على جبينها , فرفعت يدها لتكتشف منديلا وضعت بداخله قطع الثلج.
فأنتصبت في الحال وبدأت تستعيد ذكرياتها ..... الرسالة لم تصل الى صاحبها , العطل في السيارة , الصحراء , الرجل ذو العينين الزرقاوين على ظهر الحصان .... كان من المفروض أن تكون عيناه سوداوين .... وماذا بعد ذلك؟ أغمي عليها , من شدة الحر والتعب , وبالكاد تتذكر شيئا ضئيلا عن العودة على ظهر الحصان , في الغسق , جالسة أمام الرجل الذي كان يتمسك بها بشدة , ذراعه القوية أعطتها الطمأنينة والأمان بالرغم من كرهها الأعتيادي أن يلمسها أحد , لم تعرف الى أين يأخذها , ومن يكون , لكنها لم تكن في حال تسمح لها بطرح الأسئلة , لذلك أسترخت أمام هذا الشعور بالأمان والأستقرار , قبل وصولهما , أغمي عليها من جديد.

وبينما كانت منغمسة في ذكرياتها شعرت بأهتزاز في الخيمة فألتفتت نحو الباب ورأت رجلا يدخل , وللحال عرفت الفتاة منقذها , من دون عمامته وبزته العربية , كان يبدو أوروبيا بشعره القصير الأسمر ووجهه الملوّح الحليق وعينيه الزرقاوين , كان يرتدي قميصا أصفر وسروالا بيج وحذاء يامع , وعلى خصره زنار أحمر يضيف غرابة الى هيئته , قامته الممشوقة وعرض كتفيه يعبّران عن حيوية كبيرة.
والفتاة كانت بيضاء كالثلج , شعرها الأشقر يبدو كالفضة تحت النور المترجرج , وبشرة جلدها طرية وبيضاء كاللبن , عندما ألتقى بها الرجل كانت ترتدي فستانا أبيض وسترة خفيفة , في هذا الطقس الحار يرتدي الفلاحون حتى اليوم جلابيات واسعة , لم تعد ترتدي السترة الآن وبدا عنقها وذراعاها بلون أبيض كالحليب وبشرتها تلمع تحت النور الشحيح , العنصر الملون الوحيد في هذا المزيج من البياض كان حاجباها ورموشها الطويلة التي تحيط عينيها الرماديتين , حتى فمها لم يعد له لون.
والرجل الذي ينظر اليها مفصلا , هل كان معجبا بها أو مستاء؟ من الصعب أخترا وجهه , بريق أهتمام برز في عينيه الزرقاوين الثاقبين وأختفى في الحال , هل هذه علامة شفقة أو أنفعال ؟ لم تتوصل الفتاة الى تمييز ذلك , فقال لها:
" أخيرا , أستيقظت من نوم عميق".
كان صوته حادا وجذابا , أضاف يقول:
" ..... والآن , ربما بأمكانك أن تخبريني من أنت. وكيف ضللت طريقك في الصحراء".
مسحت الفتاة جبينها الرطب بالمنديل , الأفكار تغلي في رأسها , لم تكن تعي ألا لأمر واحد: هذا الرجل الواقف أمامها , لا شك أنه وسيم وجذاب ولم تر أحدا بجاذبيته من قبل , نظراته القوية توترها ,راحت تتأمل ذراعيه القويتين وتذكرت في الحال كيف حملها وأم***ا بقوة أمامه على الحصان , أجتازتها قشعريرة وأجابت بصوت ضعيف:
" أدعى لورنا ترافيرس".
" أذن, يا لورنا ترافيرس.... أنت نحيلة حتى الذبول".
ألتفت الى جانبه وتناول كأسا وضع بداخله شرابا وبعض قطع الثلج وقال:
" ..... خذي, أشربي , هذا شراب مفيد لأعصابك".
جرعته دفعة واحدة , لا شك أن هيئتها مخيفة..... شعرها المليء رملا وفستانها المتسخ , وشحوبها القوي , للأسف.... كانت تود لو بأمكانها أن تؤثر فيه , ربما كان ذلك ممكنا بحالتها الطبيعية , العديد من الرجال أعجبوا بها , لكنها لم ترغب في أغراء أي منهم , أما هذا الرجل الجذاب الواقف أمامها فيختلف كليا عن بقية الرجال وتريد منه أن ينجذب اليها.
وذكرت بأنها فقدت تبصّرها لشعورها بهذه الأنفعالات العاطفية , معروف عنها أنها تتصرف ببرود وترفع أمام الرجال الذين أطلقوا عليها لقب ( المرأة الجليدية).
لم يعد الرجل يتحمل صمتها , فقال:
" أذن....؟".
" كنت..... كنت متوجهة الى سيدي دار".
" الى سيدي دار؟ آه ,كنت بعيدة عنها كليا! لكن , هل كنت ذاهبة مشيا على الأقدام؟".
وقع نظره على ساقي الفتاة النحيلتين وعلى قدميها وحذائها المقطع , فأضاف يقول:
" وبهذه الأحذية؟".
" كلا, كلا.... كنت موكلة بأيصال رسالة الى عمدة القرية , جئت من القاهرة في سيارتي".
" لا شك أنها في مكان ما هنا .... لما تعطلت قررت أن أكمل طريقي سيرا على الأقدام.... وهكذا ضللت طريقي".

" لا عجب بذلك! في هذه المنطقة الصحراوية , الطرقات تتشابك وتتقاطع في كل الأتجاهات , لكن , في أي حال , أنت مجنونة أن تأتي الى سيدي دار وحدك! لقد ألتقيت بك بطريق الصدفة , ولما خلعت قبعتك أصبت بضربة شمس..... كدت أن تموتي...........".
" أنا أعترف أنني كنت متهورة وغير حذرة , قيل لي أن سيدي دار لا تبعد عن الطريق العام , خالتي تعاني من آلام حادة في الرأس , فتضطر أن تبقى طريحة الفراش يوما كاملا على الأقل , أرادت أن توصل رسالة الى عمدة القرية لتعتذر منه , ولذلك أضطررت للمجيء.....".
قال ساخرا:
" مبادرة رائعة! ولماذا كانت خالتك مصرّة أن توصل رسالة الى عمدة مصري؟ فأبراهيم بدوي وكمعظم البدو لم يعد يعش حياة الترحال بل قرر الأستقرار نهائيا في هذا المكان , لكن هذا لا يمنع أنه ما يزال غريزيا في نظرته الى الحياة ".
لكن لورنا كانت تفكر بأمر آخر, فصرخت بأستغراب:
" آه , ستقلق خالتي عليّ ! الوقت متأخر , أليس كذلك؟ أذا دخلت الى غرفتي ولم ترني عائدة فستتساءل ماذا جرى لي".
" بأمكاني أن أساعدك على ذلك ,في المخيم هاتف , سأتصل بالشرطة وأطلب منهم أن يتصلوا بخالتك ,أذا أعطيتني أسم خالتك وعنوانها , سأبلغ الشرطة في الحال".
" شكرا , خالتي تدعى الليدي أوغوستا كلافرينغ وتعيش الآن في فندق هيلتون في القاهرة".

التالي

رواية لا صد قلبى

السابق

بنت في مدرسة شباب

كلمات ذات علاقة
العملاق , رواية