فقه الهجرة الكبرى

مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى


PIC-309-1352922072.g



فقه الهجرة الكبرى


محمد شلبى محمد






(1- التمهيد النفسي)



جرت العادةُ أن تُذْكَر الهجرة في المحافل حكايةً جميلةً الأحداث.

لكن كم من الحاكين يعرضها حكاية بليغة الحكم؟



وكم من المستمعين يحكم هذه الحِكَم في أحداثِ حياته، كما وَظَّفَها الله - تعالى - في أحداث الهجرة.




ليست الهجرة مجردَ حَدَث؛ لأَنَّ هذا الحدَث مقصودٌ من الله، ومأذونٌ له منه، والله يصنع مُخْلَصيه على عَيْنِه، ويورد عليهم من عجائب التقدير ما يَهدي إلى صراطه كلَّ بصير.




إنَّ الهجرةَ مَجموعةُ أقدار وحِكَم، ودُرُوس وعبر، وتضحية وعطاء.




الهجرة أسبابٌ ونتائج، وتَخطيط وتدبير، وفقه للواقع.




ولعلَّ الله أنْ يَفتحَ في هذه السُّطور ببعضِ ما أودع فعالَه من جلائل الأمور، فخُذها بقوة وكن لها من الواعين.

أول ذلك:




قَدَر التمهيد.




التمهيدُ للشيء سبيلٌ لتَمَكُّنه إذا حدث.




والتمهيدُ للوصول للقرارِ الحاسم مَقصدٌ شرعي، وإنَّما يكون ذلك فيما يشق على النفوس القيام به أول ما تُؤمَر، كما هي الحال في التدرُّج في تحريم الخمر والربا.




وليس شيء أشق على النفوس من تَرْكِ الوطن والأهل والمال إلى مكانٍ غير مألوف
وماذا يبقى للنَّفس من بعدُ؟



ولذلك كانت الهجرةُ حَرِيَّةً لِأَنْ يُمهِّد الله - تعالى - لحدوثها تَمهيدًا حسنًا، وقد كان.




فقد مَهَّد الله - تعالى - للهجرة بأمورٍ أربعة: الإخبار بحدوثها، وبدوافِعِها، وبنظائرها، وبالفتح لها.




الأولان: تَمهيد نفسي، وهما محور مقالنا هذا.




والآخران: تَمهيد عملي.




1- التمهيد النفسي للهجرة بالإخبار عنها:




كان ذلك ثلاثَ مَرَّات: في الكتب السماوية السابقة، وإخبار ورقة، ورُؤيا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد ورد ذكرُ مهاجر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التوراة والإنجيل، وشاع في العصر الذي بعث فيه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين رجالِ الدِّين من هؤلاء وهؤلاء أنَّ مِنْ عَلاماتِ صِدْقه هجرته إلى المدينة؛ إذ أخبر سَلمان الفارسي - في رحلته الطويلة، وهو يبحث عن الحقيقة - أنَّه لما هداه الله إلى الرجل الأخير في هذه الرحلة، قال: "فمكثت عنده ما شاء الله أن أمكُث، وثاب لي شيء حتى اتَّخذتُ بَقراتٍ وغنيمة، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: إلى مَن توصي بي؟
فقال لي: أيْ بُنَيَّ، والله ما أعلم أنَّه أصبح في الأرض أحدٌ على مثل ما كُنَّا عليه آمرك أن تأتِيَه، ولكنَّه قد أظَلَّك زمانُ نبيٍّ يُبْعَث بدين إبراهيم (الحنيفيَّة)، يَخرج من أرض مهاجره وقراره ذات نَخل بين حَرَّتين، فإنِ استطعتَ أن تَخْلُصَ إليه، فاخلص وإن به آيات لا تَخفى..."؛ الحديث [الطبقات الكبرى، لابن سعد: ترجمة سلمان الفارسي].



فذلك أمر مردُّه إلى ما وصل إليهم من نُبُوءات في الكُتُب السابقة عن مَوْلِد الرسول وأحداث حياته، ولا شَكَّ أنَّ مَعْرفة هذه النبوءة تقرُّ في النفوس المؤمنة قَبول الهجرة والرِّضا بترك الأهل والوطن، وكانتْ هذه مرة.




والمرة الثانية التي أخْبَر فيها الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحدوث هِجْرته كان غَريبًا شيئًا ما، ولكنَّ الحديثَ فيه ارتباطٌ يقتضي عرضه كاملاً، وألاَّ يقتصر فيه على الشاهد.




تروي السيدةُ عائشة - رضي الله عنها - في حدث النبوة، تقول:




"أوَّلُ ما بُدِئ به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الوحي الرُّؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاَّ جاءت مثلَ فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يَخلو بغار حراء، فيتحَنَّث فيه، وهو التعبد الليالِيَ ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثُمَّ يرجع إلى خديجة، فيتزَوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال: اقرأ، قال: ((ما أنا بقارئ))
قال: ((فأخذني فغَطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني، فقال: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
[العلق: 1 - 3]))
فرجع بها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرجف فؤادُه، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: ((زملوني زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي))، فقالت خديجة: كلاَّ، والله ما يُخزيك الله أبدًا، إنَّك لتَصِلُ الرحم، وتَحمل الكلَّ، وتَكْسِب المعدوم وتَقْرِي الضيف، وتُعين على نوائبِ الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعُزَّى، ابن عم خديجة، وكان امرأً قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتابَ العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالتْ له خديجة: يا ابنَ عمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزَّل اللهُ على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أومخرجيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قَطُّ بمثل ما جئت به إلاَّ عُودي، وإن يُدركني يومك، أنصرك نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لَم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي"؛ [البخاري: 3].




وهنا أُمُور:




أولها: أنَّ هذا الإخبارَ بالهجرة والعداء كان في اليومِ الذي أصبح فيه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا، يا له مِن خبر! ويا لها مِن نفس تتحمله!




وهذا هو الأمرُ الغريب الذي أشرتُ إليه قبل إيراد الحديث، ووجهُ الغرابة سُرعة بيان ضخامة المسؤولِيَّة، وإعلامُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه لن يكون رسولاً؛ ليتكلَ على نصر الله له، وإنَّما لا بد أن يُهيِّئ نفسَه الكبيرة لأمورٍ كبار.




إنه سيُعادَى ويضطر لهجر مُجتمعه ، وسيضطر لهجر وطنه وأهله وماله.




الأمر الثاني:




أنَّ الحديثَ قَصَّ علينا تَمهيدَيْن:




الأول: تَمهيد للنبوة بالرُّؤيا الصادقة - التي هي جزء من أربعين جزءًا من النبوة.




والثاني: تَمهيد للهجرة بإخبار ورقة إيَّاه بذلك، فالأمران مُقترنان: النبوة والهجرة؛ لأَنَّهما ميلادان ومسؤولِيَّتان.




والأمر الثالث: فتور الوحي.




كأنَّما الله - تعالى - يعطي رسولَه فرصةً لإجالة الأمر في نفسه، واستيعاب مُستقبله الضَّخم، وإعداد النفس لتحمُّله، وهذا ما كان، فقد اشتاق الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - للوحي، حتى قالت عائشة - رضي الله عنها -: "وفتر الوحي فترةً، حتى حَزِن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما بلغنا حَزَنًا غدا منه مرارًا؛ كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال"؛ [البخاري: 6982].





وهذه الفترة لم تكن إلاَّ تَمكينًا لاستشراف الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا المستقبل بما فيه من أحداثٍ عظام.

وكانتْ هذه هي المرة الثانية التي مَهَّد فيها للهجرة بالإخبار عنها.





وأمَّا المرة الثالثة، فهي رؤيا أُرِيَها الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبل الهجرة، ورُؤيا الأنبياء حق؛ قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُرِيت دارَ هجرتكم ذات نخل بين لابتين))، وعلقت عائشة - رضي الله عنها - فقالت: "فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورجع إلى المدينة بعضُ مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة"؛ [البخاري: 2297].





والحديث يُبيِّن أَثَرَ هذه الرُّؤيا في فعل الصحابة، وَثَمَّةَ أمران:




أنَّ هجرةَ مَن هاجر دليلٌ على نَجاح التمهيد النفسي، الذي قَدَّره الله تعالى.




أنَّ عدم هجرة من هاجر حين ذلك دليلٌ على شِدَّة أمر الهجرة على النفوس؛ مما يؤكد قيمةَ التمهيد لها.





2- التمهيد النفسي للهجرة بإيجاد دوافعها:




فالله - تعالى - الذي أَمْرُه "كن" شاء أن يُؤذَى المسلمون إيذاءً يفوق التصوُّر، وأراد تعالى أن يُرِيَ الناس من عجائب تَحمُّل النفس الإنسانية ما تَمثَّل في الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - والصحابة الأجلاء في أحسن بلاء؛ ليكونَ هذا للناس أسوة فيما يفعلون أو يتركون.





وذلك لأَنَّ هذا الأذى شمل كلَّ عنصر في حياةِ المؤمنين وقتئذٍ، العنصر النفسي والبدني والمالي، وقد كان لهذا الأذى فائدةٌ أخرى عظيمة، وهي فائدة التمحيص.





ومثالاً مُلَخّصًا على هذا الأذى:

عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قائم يصلي عند الكعبة، وجَمْعُ قريش في مجالسهم - إذ قال قائل منهم: ألاَ تنظرون إلى هذا المرائي؟
أيُّكم يقوم إلى جزور آل فلان، فَيَعْمِد إلى فَرْثِها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلَمَّا سجد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وضعه بين كتفيه، وثبت النبيُّ ساجدًا، فضحكوا حتى مال بعضُهم إلى بعض من الضَّحِك، فانطلق منطلق إلى فاطمة - عليها السلام - وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ساجدًا حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبُّهم، فلما قضى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصلاة، قال: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش))، ثم سَمَّى: ((اللهم عليك بعمرو بن هشام، وعتبةَ بن ربيعة، وشيبةَ بنِ ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعُمارة بن الوليد))، قال عبدالله: فوالله، لقد رأيتهم صرعى يومَ بدر، ثم سحبوا إلى القَليب قَلِيب بدر، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وَأُتْبِعَ أصحابُ القليب لعنةً))".



والسلا من الناقة كالمشيمة من المرأة النفساء.




تُلْقَى على خير ظهر ركع، وأطهر رأس سجد.





وإذا كان هذا مع رأس المؤمنين، فما بالكم بالمؤمنين أنفسهم؟!
هذه سُمَيَّةُ المرأة من أول سبعة أظهروا الإسلامَ في مَكَّة؛ يقول عنها مُجاهد: "فلما كان العشي، جاء أبو جهل، فجعل يشتم سُمَيَّةَ ويرفث، ثم طعنها فقتلها"، وإنَّما كان قتله إيَّاها أنْ ضَرَبَها بحربة في فَرْجها، فنفذت منها، قتلان: مادي ومعنوي.



ويقول ابن سعد في طبقاته: "وهي أول شهيد في الإسلام، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة"، ولم تكن وحْدَها، بل أسرتها جميعًا: هي وزوجها ياسر وابنها عَمَّار.




ذكر العيني في "عمدة القاري": "كان عمار - رضي الله عنه - يعذب حتى لا يدري ما يقول".




وهذا بلال، يقول عنه مجاهد: "هانتْ عليه نفسُه في الله حتى مَلُّوه، فجعلوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانَهم أن يشتدوا به بين أخشبي مكة، وجعل يقول: أَحَد أَحَد".




وما تعذيبُ أميةَ فيه عنكم ببعيد.




وضُيِّقَ على أبي بكر - ومن هو نسبًا ومالاً - حتى شرع في هجرةٍ إلى الحبشة، ورَدَّه ابنُ الدغنة مُجيرًا إيَّاه، ثُمَّ رد هو جوار ابن الدغنة من بعدُ، واكتفى بجوار الله ورسوله.




وهذا غيض من فيض.




وقد كان هذا القَدْر - قدر وقوع الأذى - من الله بَيانًا صَريحًا إلى أنَّ اعتناقَ هذا الدين مسؤولية، لن يصلح لحملها إلاَّ الرجال، وأنَّ مَن تواصى بالحق لا بُدَّ أن يصبر كما قرَّر الله في سورة العصر.




وكان من أحسن فعل المؤمن بُرهانًا على إيمانه الوثيق أنْ يتركَ كلَّ ثَمين لأَجْلِ هذا الدين.




فكان هذا الأذى سَبيلاً إلى تَحقق المعنى الأول للهجرة، فقد هجر المسلمون الأوائل أهليهم وذراريهم من الكُفَّار، وهجروا حُبَّهم للمال، وهجروا تقاليدَ المجتمع الفارغة الضَّالة الجاهلة، ثم أدَّى بهم هذا النوع من الهجرة المعنوية إلى الهجرة الحقيقية.





فكان هذا الأذى كذلك سببًا في الهجرة من دار الكفر، وإن كانت وطنًا، وكانت الهجرة سببًا في الفتح.

والله - تعالى - أكرمُ من عباده، فكلُّ نَهر ضيق لا بد أن يصبَّك في بحر واسع؛ ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً
[النساء: 100].



فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى
فقه الهجرة الكبرى



كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

(2- التمهيد العملي)


1- التمهيد العملي للهجرة بنظائرها:


كانت الهجرةُ الأولى والثانية للحبشة تَمهيدًا عظيمًا للهجرة الكبرى؛ إذ بَيَّنَتَا أنَّ وطن المسلم يكون حيث يأمن على إسلامه.


وأنَّ الهربَ بالدين خَيْرٌ من البقاء وسطَ المال والأهلين.

وأنَّ المسلمَ قادر على أنْ يَعيش المعنى الأول، وأن يقوم بالفعل الثاني.

وقد اختار الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أرضَ الحبشة، خاصَّة؛ لعِلَّة مُهِمَّة؛ قال فيما روى ابن إسحاق: ((لو خرجتم إلى الحبشة، فإنَّ بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صِدْق حتى يَجعل الله لكم فَرَجًا)).

العدل مُبتغى المهاجرين؛ لأَنَّه في مكة لم يكن عدلٌ، فلم تكن حرية.

وقد صَدَّق فعلُ النجاشي قولَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

إذ لَمَّا أرسلت قريشٌ في أعقاب المهاجرين للحبشة عَمْرَو بنَ العاص في وَفْدٍ؛ ليرجع بالمؤمنين، تَكَلَّم بكلام يُبْدِي له ولقومه الحق، فما كان من النجاشي إلاَّ أنِ استمع لجعفر، كما استمع لعمرو، فكان قرارُه: "سيحوا في الأرض لا يسبكم أحدٌ إلاَّ عوقب".


ولقصة الهجرة الأولى إلى الحبشة رَوْعةٌ وحُسن، فلا يَحسُن أن نَمُرَّ بها ولا نذكرها:

"عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت: "لما نزلنا أرضَ الحبشة، جاورنا بها خَيْرَ جارٍ النجاشي، آمنَّا على ديننا، وعبدنا اللهَ لا نؤذى، ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلَمَّا بلغ ذلك قُرَيْشًا، ائتمروا أنْ يَبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلْدَيْنِ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأَدَم، فجمعوا له أَدَمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بِطْريقًا إلاَّ أهدوا له هَدِيَّة، ثم بعثوا بذلك مع عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمْرَهم.

وقالوا لهما: ادفعوا إلى كلِّ بطريق هديَّته قبل أن تكلموا النَّجاشي فيهم، ثُمَّ قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أنْ يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا فقدما على النجاشي ونحن عنده بخير دارٍ، وعند خير جار، فلم يبقَ من بَطارقته بطريقٌ إلاَّ دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النَّجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنَّه قد صَبَا إلى بلد الملك منَّا غِلْمان سُفهاء، فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاؤوا بدينٍ مُبْتَدع لا نعرفه نَحن ولا أنتم، وقد بَعَثَنا إلى الملك فيهم أشرافُ قومهم؛ ليرُدَّهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإنَّ قومهم أعلى بهم عَيْنًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنَّهما قربا هداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما.


ثم كلماه فقالا له: أيُّها الملك، إنَّه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدِينٍ مُبْتَدَع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشرافُ قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردَّهم إليهم، فهم أعلى بهم عَيْنًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه، قالت: ولم يكن شيءٌ أبغضُ إلى عبدالله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمعَ النجاشيُّ كلامَهم، فقالت بطارقته حوله: صَدَقوا أيُّها الملك، قومُهم أعلى بهم عَيْنًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادِهم وقومهم، قال: فغضب النجاشي، ثم قال: لاَ ها اللهِ ايمُ الله، إذًا لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قومًا جَاوَروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان، أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك، منعتهم منهما، وأحسنت جوارَهم ما جاوروني.


قالت: ثم أرسل إلى أصحابِ رَسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فدعاهم، فلَمَّا جاءهم رسولُه، اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نَبِيُّنا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلما جاؤوه وقد دعا النَّجاشي أساقفته، فنشروا مصاحِفَهم حوله، سألهم، فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الأمم؟


قالت: فكان الذي كَلَّمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيُّها الملك، كُنَّا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحشَ، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، يأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرفُ نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله؛ لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحشِ، وقول الزُّور، وأكل مالِ اليتيم، وقَذْف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحْدَه لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصَّلاة والزَّكاة والصيام.


قالت: فعَدَّد عليه أمورَ الإسلام، فصدقناه، وآمنا به، واتَّبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحْدَه، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحَلَّ لنا، فعدا علينا قومُنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادةِ الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلَّ ما كُنَّا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا، وظلمونا، وشقُّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظْلَمَ عندك أيُّها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ، فقرأ عليه صَدْرًا من (كهيعص)، قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أَخْضَل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحِفَهم حين سَمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إنَّ هذا والله والذي جاء به موسى لَيَخْرُج من مِشْكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكم أبدًا ولا أكاد.


قالت أم سلمة: فلَمَّا خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: والله، لأُنَبِّئنهم غدًا عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم، قالت: فقال له عبدالله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا -: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله، لأخبرنه أنَّهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنَّهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيمًا، فأرسل إليهم فاسألهم عَمَّا يقولون فيه.


قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القومُ، فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟

قالوا: نقول والله فيه ما قال الله، وما جاء به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن، فلَمَّا دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟

فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبيُّنا، هو عبد الله ورسولُه ورُوحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتول، قالت: فضرب النجاشي يدَه إلى الأرض، فأخذ منها عُودًا، ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قُلْتَ هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم الآمنون - مَن سَبَّكم غرم، ثم مَن سَبَّكم غرم، فما أحب أن لي دَبْرًا ذهبًا، وأنِّي آذيت رَجُلاً منكم - والدبر بلسان الحبشة: الجبل - رُدُّوا عليهما هداياهما، فلا حاجةَ لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيَّ فأطيعهم فيه.


قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بِخَيْرِ دار مع خير جار، قالت: فوالله، إنَّا على ذلك إذ نزل به؛ يعني: مَن يُنازعه في ملكه، قالت: فوالله، ما علمنا حزنًا قطُّ كان أشدَّ من حزن حزناه عند ذلك؛ تَخَوُّفًا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حَقِّنا ما كان النجاشي يعرف منه، قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: مَن رجلٌ يَخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟


قالت: فقال الزُّبير بن العوام: أنا، قالت: وكان مِن أحدث القوم سِنًّا، قالت: فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم سبح عليها، حتى خرج إلى ناحيةِ النيل، التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم، قالت: ودعونا الله للنَّجاشي بالظُّهور على عَدُوِّه، والتمكين له في بلاده، واسْتَوْسَق عليه أمرُ الحبشة، فكُنَّا عنده في خَيْرِ مَنْزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو بمكة"؛ [مسند أحمد: 1740، حسنه الشيخ شعيب الأرنؤوط].


هذا عن الهجرة الأولى، وكان فيها اثنا عشر رجلاً وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان ومعه زوجه رقية بنت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.



أمَّا عن الهجرة الثانية، فتُحَدِّث أمُّ سلمة عنها، تقول: "لما قدم أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مكة من الهجرة الأولى، اشْتَدَّ عليهم قومُهم، وسَطَت بهم عشائرُهم، ولقوا منهم أذًى شديدًا، فأَذِنَ لهم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الخروج إلى أَرْضِ الحبشة مَرَّة ثانية، فكانت خرجتُهم الآخرة أعظمها مَشَقَّة، ولقوا من قُريش تَعنيفًا شديدًا، ونالوهم بالأذى، واشْتَدَّ عليهم ما بلغهم عن النَّجاشي من حُسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، فهجرتنا الأولى، وهذه الآخرة إلى النجاشي ولست معنا؟


فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنتم مهاجرون إلى الله وإلَيَّ، لكم هاتان الهجرتان جميعًا))، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله، وكان عدةُ مَن خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين رجلاً، ومن النساء إحدى عشرة امرأة قرشيَّة، وسبع غرائب، فأقام المهاجرون بأرضِ الحبشة عند النجاشي بأحسن جوار، فلما سَمِعوا بمهاجر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً، ومن النساء ثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس بمكة سبعة نفر، وشهد بدرًا منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً، فلَمَّا كان شهر ربيع الأول سنة سبع من هجرة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، كتب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى النجاشي كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث به مع عمرو بن أُمَيَّة الضمري، فلما قُرئ عليه الكتاب، أسلم، وقال: لو قدرت أن آتيه لأتيته، وكتب إليه.


ولما تَمَّت الهجرتان واستويتا، وشاع شأنهما وما أصاب المسلمين فيهما من خير، كانت النفوس مهيأةً للهجرة الكبرى. فما كان من أمر المؤمنين حين أذن لهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الهجرة إلى المدينة، إلاَّ أن خرجوا أرسالاً، وبعض منهم كان ممن هاجر إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة وهاجر منها إلى المدينة، وبعض منهم بَقِيَ في الحبشة حتى هاجر منها إلى المدينة مباشرة، منهم جعفر وافى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند خبير، وقال الرسول: ((لا أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)).



2- التمهيد العملي للهجرة بالفتح لها:


فهو فَتْحُ اللهِ قلوبَ أهل المدينة لاستقبال هذا الدين؛ إذ كان شأن هذين البَيْعَتَيْنِ، كشأن زَرْعٍ أخرج شطأه، فآزره فاستغلظ.


وكان الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو في مواسم الحج، والحج مؤتمر كبير، فأسلم من أهل المدينة ستة نفر، عام 11 من النبوة، ثم رجعوا إلى قريتهم بوجوه غير التي تركوها بها، ينفح منها السكينة والإشراق، وكانوا كالريحان يَعْرَف، فأسلم بما نفحوه من عطر الهدى سبعةٌ آخرون.

ثم قابلوا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العام التالي 12 من النبوة، فبايعوه على مثل بيعة الحديبية: الإيمان، والعمل، والطاعة.

ثم رجعوا ينشرون النورَ بين ذَويهم، حتى صاروا كثيرًا عددهم، وأرسل معهم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أولَ سفراء الإسلام: مصعب بن عمير، الذي كان موفقًا أيَّ توفيق في الدعوة إلى الله، وأسلم على يديه كبراء القوم. وفي العام التالي جاؤوا إلى الرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بضعًا وسبعين نفسًا، تركوا وراءهم شوارع المدينة وديارها مضاءة بنور الهدى.


وكانت هذه البيعةُ الثانية لها شأنها في التمهيد العملي للهجرة الكبرى.

يروي الإمامُ أحمد عن كعب بن مالك، قال: "... اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائهم: نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي بن ثابت إحدى نساء بني سلمة، وهي أم منيع، قال: فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى جاءنا ومعه يومئذٍ عمُّه العباس بن عبدالمطلب، وهو يومئذٍ على دين قومه، إلاَّ أنَّه أحَبَّ أن يَحضر أمْرَ ابن أخيه، ويتوثق له، فلَمَّا جلسنا، كان العباسُ بن عبدالمطلب أولَ مُتكلم، فقال: يا معشر الخزرج - قال: وكانت العرب مما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج أوسها وخزرجها - إنَّ محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رَأْيِنا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه ومَنَعَة في بلده.


قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتلا ودعا إلى الله - عزَّ وجلَّ - ورَغَّب في الإسلام، قال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم))، قال: فأخذ البَرَاء بن معرور بيده، ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق، لنمنعَنَّك مما نَمنع منه أزرنا، فبايعنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنحن أهلُ الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر.


قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبدالأشهل، فقال: يا رسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال حبالاً، وإنا قاطعوها؛ يعني: العهود، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجعَ إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبَسَّمَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: ((بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب مَن حاربتم، وأسالم من سالمتم))، وقد قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أخرجوا إلَيَّ منكم اثني عشر نَقيبًا يكونون على قَومِهم))، فأخرجوا منهم اثني عشر نَقيبًا، منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وأَمَّا معبد بن كعب، فحدثني في حديثه عن أخيه عن أبيه كعب بن مالك، قال: كان أول من ضرب على يَدِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - البَرَاء بن معرور، ثم تتابع القوم..."؛ الحديث [أحمد: 15836، حسنه الشيخ الأرنؤوط].


وإنَّما كان لهذه البيعة هذا الشأن؛ لأَنَّها كانت مِيثاقًا دائمًا آخره الموت، ينسلخ الأنصار من كلِّ عهد وحلف، إلاَّ عهد الرسول وحلفه، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يذهب إليهم، ثُمَّ لا يعود إلى مَكَّة، وهذا يعني أنَّ المدينة هُيِّئَت التهيئةَ التامَّة لإقامة الرسول والمؤمنين بها منصورين مُنشئين دولةَ الإسلام.


ولَمَّا تَمَّت بيعةُ العقبة الأولى والثانية، كان هذا الاستعداد للنُّصرة أكبَرَ مُمهد للقيام بالهجرة، فها هي أرض العرب تُمْهَد فيها مساحةٌ لقَبول المؤمنين، قريبة من مكة، مثيلة في أعرافها وحياتها الاجتماعية لما ألف المؤمنون.

فتَمَّ قَدَرُ الله وحكمته البالغة في التَّمْهِيد العملي للهجرة الكبرى.


كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

(3- تخطيط الانطلاق)


أذن الله - تعالى - في الهجرة، فبدأ التخطيطُ والتدبير، وبدأت الدروس والعبر.

وأول ذلك:
1- حكمة التوقيت:

﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
[الرعد: 38].

والحكمة تقتضي اختيارَ وقتِ العمل، بل هذه حكمة الله في الخلق أجمع، إنَّ بَعْضَ النَّبَات إذا خالف غرسُه وقتَه، مات. وقد غرس الله كُلَّ بذرة في وقتها التام.

فالوقتُ الذي هاجر فيه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان الإسلام قد استَقَرَّت ملامِحُه في الأذهان، وطاب مذاقه في القلوب.

وكان البناء الأضخم - بناء الرجال - قد اكتمل، وانتشرت قضيةُ الإسلام على لسانِ أقوام في الحبشة ومكة والمدينة، فتم بلاغُ العقيدة خير تمام، وشرع الرسولُ في بلاغ أصول الشريعة، وبقي تمام بلاغ الشريعة.

وتَحتاج الشريعة إلى مُجتمع يعمل بالتشريع، فلا بُدَّ من الهجرة؛ لتكوين هذا المجتمع المبين.

وانفتح البابُ على مِصراعيه لاستقبالِ المهاجرين ونصرتهم أشَدَّ النصرة، بعقد بيعة العقبة الأولى والثانية، فتم بذلك ميقاتُ الهجرة ميقاتًا أنسب وحكمةً تَمَّاء.


والدليل على كون الهجرة قُدِرَ لَها ميقاتُها: هذا الحديث عن عائشة - رضي الله عنها -:

"استأذن النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبو بكر في الخروج حين اشتَدَّ عليه الأذى، فقال له: ((أقم))، فقال: يا رسول الله، أتطمع أن يؤذن لك؟ فكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إني لأرجو ذلك))، قالت: فانتظره أبو بكر، فأتاه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذاتَ يومٍ ظُهرًا، فناداه، فقال: ((أَخْرج من عندك))، فقال أبو بكر: إنَّما هما ابنتاي، فقال: ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج))، فقال: يا رسول الله، الصحبة، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصحبة))"؛ [البخاري: 4093].


فأبو بكر كان يستعجل الهجرة، وكان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستمهله، حتى أذن الله له، فدَلَّ على أن وقتها الأنسب لم يكن حان حين تَعَجَّلَ أبو بكر ذلك، حتى كان الحين الذي أخبر فيه الرسول بإذن الله له في الهجرة.


والحديث السابق يسوقنا للكلام على نقطة تالية:

2- حكمة الصحبة:

قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))
[مسند أحمد: 6748].

فالصحبة أمر واجب عند الاستيحاش في طريق السفر؛ حيث لا أنيس؛ ولذلك اصطحب الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم، وإن كان في غنى بالله - مَن كانوا معه.


أبو بكر الصديق خير رفيق، ومَن غيره يقوم هذا المقام؟! من غيره يستحق أن يُتْحَف بهذا الشرف الأسمى؟!
وعامر بن فهيرة وابن أريقط.

وفي الصحبة معانٍ أُخَر.

فلا بُدَّ أن يكون في هذه الرحلة المباركة مَن يَحكيها، ويشاهد عجائبها.

ولا بُدَّ أن يكون في الأمة مَن يشارك الرسول الكريم هذه التضحية الكبرى؛ حتى لا يكون الرسول وحْدَه مَن يَحمل أمانة هذا الدين وهَمَّ هذا الدين؛ لأَنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يريد رجالاً يبقون من بَعْده مصابيحَ، فلا بد أن يشعلهم ما أشعله من قبس الهدى، ويذكيهم ما أذكاه من العمل لله.

ولكن ثَمَّةَ فكرة لا يحسن المرور عليها بغير بيان، وهي أنَّ المسلمَ إذا كان صاحبًا، فإنه يكون عونًا لا عبئًا.

تروي أمُّنا عائشة - رضي الله عنها - أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - حين أعلمه الرسول بالصحبة، كان قد جَهَّز ناقتين للرحلة - وقد كان يتوقعها - وقال: "يا رسول الله، إنَّ عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما"، قال: ((قد أخذتها بالثمن))"؛ [البخاري: 2138].


لم يَرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أبو بكر حَرَجًا في البيع والشراء، ومن هما معًا؟! من هما؟!


وإنَّما أعلّق على هذه النقطة؛ لأَنِّي أجد كثيرًا من الأصحاب يستحيي بعضُهم من بعض في التعامُلات المادية، وقد يأتي على نَفسِه ويُحمِّلها ما لا تُطيق من باب التفضُّل والتنازُل والتسامُح في البيع والشراء.


وآخرون يعتمدون على رأس (الأُخُوة) حتى يدفنوها في التراب ويقتلوها بسيف الحياء، وهذا من التكلُّف الذي نهى الله عنه، فمن كان مُحتاجًا هو وأهله، فنفسه أولى من أخيه الغني، ومن كان غنيًّا، فهو في مقام التنازُل والتفضل.

وكم أنفق أبو بكر على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان يرضى الرسول في مقامها! ولكنه في هذا المقام كان لا بُدَّ أن يرفض، وأن يأخذها بالثمن.

والعلة - والله أعلم - أنَّ الرسول لو كان قبلها، لقال قائل: إنَّما استصحبه لأجل مواهبه له، فلَعَلَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أراد بيانَ فضل أبي بكر عنده، وأنه - لِطيب نفسه وحسن إيمانه - استحق صُحبةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.


3- حكمة التخطيط:

كثير ممن تناولوا أحداثَ الهجرة ذكروا قضيةَ التخطيط والعمل المنظم؛ لأَنَّ ذلك ظاهر من أول يوم.

اختيار الليل منطلقًا لهما:

تواعد الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع أبي بكر أنْ يتقابلا في الليل، والليل سر أمين.

وقد اختار الله - تعالى - الليلَ من قبلُ لإسراءِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن قبل ذلك أَمَر به لوطًا - عليه السَّلام -: ﴿ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ
[هود: 81].

وهو اختيارُ الناس عمومًا فيما يراد إتمامه، ولما في الكتمان من حِكْمَة نَصَحَ بها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان؛ فإنَّ كلَّ ذي نعمة محسود))؛ [الصحيحة مختصرة: 1435].
الاختباء في غار قريب:

انطلق الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليلاً إلى بيت أبي بكر، ومنه إلى جبل ثَوْر، فاختبأا بغارٍ فيه يبعد عن مكة خمسةَ أميال.

وحكمة ذلك أنَّه لا يُناسب أن ينطلقوا بحالهم ورحالهم مَرَّةً واحدة؛ إذ سيكون الطَّلَب على أشده، وإنَّما كان الاختباء وسيلة لفتور الطَّلب، وكان في غار قريب؛ حتى لا تبعد عنهما الأخبار، ولا يشق نقلها على ناقلها إليهما.

وبقيا فيه ثلاثةَ أيام، فلا هي بالقصيرة التي لا تُحقق فتورَ الطلب، ولا بالطويلة التي تُضَيِّع الوقتَ بلا طائل.


تنظيم العمل:

خلال هذه الأيام الثلاثة أعطى الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُلَّ امرئ مهمته:

أسماء تنقل الطعام والشراب.

عبدالله بن أبي بكر ينقل الأخبار.

عامر بن فهيرة يُعفي الأثر.

عبدالله بن أريقط دليلُ الرحلة.

وتَمَّ اختيارُ كلِّ فرد بحكمة شديدة.

فأسماء وعبدالله ولدا أبي بكر، فهذا رسولُ الله وأبوهما؛ ليكونا أحْرَصَ العالمين على كتم أمرهما، ولو كان فيه هلاكهما.

وأسماء المرأة شأنها الطعام، وإحكام أمره، قالت عائشة - رضي الله عنها -: "فجهزناهما أحَثَّ الجهاز، وصنعنا لهما سُفْرَة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعةً من نطاقها، فربطت به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيت ذات النطاقين"؛ [البخاري: 3905].

وعبدالله الرجل شأنه الأخبار، استمعوا إلى عائشة - رضي الله عنها - تقول عنه: "وهو غلام شاب ثقف لقن، فيُدلج من عندهما بسَحَر، فيصبح مع قريش بمكة كبائتٍ، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلاَّ وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يَختلط الظلام..."؛ [البخاري: 3905].


وهو من أحرار مَكَّة سيجول في نواديها كيف شاء، وله أصحاب شباب في مثل سِنِّه لا شك يتحدثون بما ينويه آباؤهم في مُطاردة الرسول وصاحبه، فيسعفه إدراكه في وَعْيِ الكلام، ويسعفه ذكاؤه في الرَّدِّ وحُسْن التصرف.

وأما عامر بن فهيرة، فكان يرعى إبلَ أبي بكر، وكان أخًا لعائشة من أُمِّها، فكان واحدًا من الأسرة، يهمه ما يهمُّها، وكان مُناسبًا أن يخدم أبا بكر، فهو يرعى إبله، وكان مُناسبًا أن يستعمل الشياه في بعثرة الأثر من على جبين الرمال.
وأمَّا عبدالله بن أريقط، فتُبيِّن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أمره:

"واستأجر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل، ثم من بني عبد بن عدي هاديًا خِرِّيتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمينَ حِلْفٍ في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأَمَّناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غارَ ثَوْر بعد ثلاثِ ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبيحةَ ليالٍ ثلاث، فارتحلا"؛ [البخاري: 2263].

يقول ناس: لا مشكلةَ في استخدامِ الكُفَّار واستئمانهم، بل قد يستأمنون منهم قومًا ولا يستأمنون إخوانهم المسلمين، ويقولون: قد استأمن الرسولُ عبدالله بن أريقط.

ولولا هذا الحلف ما أمَّنَّاه، ولولا أمانهما ما استعملاه.

وهذا عمر بن الخطاب كان يكره أن تكثُر العلوج بالمدينة، فكان ما كان لَمَّا خالفوه.

ونحن في هذه الأيام في ضوء حقوق الإنسان والتسامُح الإسلامي نستأمن على اقتصادنا واجتماعِيَّاتِنا وأمننا مَن لا يقول: لا إله إلا الله، فأيَّ شيء يتقي الكافر حتى نستأمنه؟!
خطة المسير:


سلك الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - طريقًا وَعِرًا ضيقًا غير تلك الطريق الشمالية، التي كان الناس يعهدونها، وهي الطريق الواسعة الموصلة بين مكة والمدينة.

سلك الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - جنوبًا؛ حيث لا يتوقع ذهنٌ سلوكَ هذي الطريق.

كذلك: فإنَّها ستكون آمنة بقدر ما هي غير مسلوكة، فقد حَقَّق الرسول بذلك أمرين: خداع الكفار، والبعد عن الأنظار. وكان ذلك من بيت أبي بكر، حتى انتهوا إلى جبل ثَوْر، وكذلك من غار ثَوْر إلى حيث سلك بهم ابن أريقط جنوبًا، ثم سلك بهم طريقَ السواحل متوجِّهًا من جديد إلى الشمال نحو المدينة بعد أن أَفلت من أنظار الطالبين.



كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
فقه الهجرة الكبرى
﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا

كانت الهجرة خطة محكمة خطَّها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد كان يمكن أن يدعو اللهَ - عزَّ وجلَّ - فتحمله الرِّيح التي حَمَلتْ سليمانَ - عليه السَّلام - وقد كان يمكن أن تتمَّ الهجرة قبل أن يقوم أحدٌ من مقامه، بل قبل أن يرتدَّ إلى أحدٍ طرْفُه، ولكن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أراد أن يشرع للمسلمين شريعة التدبير والتَّخطيط، والأَخْذ بالأسباب، ومع ذلك فقد تأتي على الأسباب عوارِضُ كثيرة تفتُّ في عضدها، وتُبْطِل أثرَها، وهنا تأتي أهمية التوفيق الإلهي في إنجاح العمل الإنساني.
فانطلقت سفينة الهجرة تَمْخر عباب الصَّحراء، وكان بسم الله مَجْراها ومرساها، منذ أن خرج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بيته، إلى بيت أبي بكرٍ، إلى الغار، إلى الطريق إلى المدينة.

مظاهِرَ حفظ الله تعالى لنبيِّه الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر؛ وذلك تقتضيه حكمة التناسب،ففى بداية الاحداث التي تَمَّت لهما بالأخذ بالأسباب، وهنا نتناول الأحْداث التي تَمَّتْ لهما خارجةً عن الأسباب، ولا بُدَّ أن يقترنَ الأمران، فيكون الأوَّل سعْي المرء برهانًا منه على صِدْق نيَّته، ثم يأتي نَصْر الله وتوفيقه من بعد، قال تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ ﴾ [التوبة: 14]
ولكنه قال: ﴿ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾ [التوبة: 14]
وإنِّي أستعين الله تعالى في سَرْد هذين المظهرَيْن مقترنين، مظهر الأخذ بالأسباب مكتفيًا بالإشارة إلى ما سبق ذِكْرُه، ومظْهر التَّوْفيق الإلهي فيما لا يستطيع الأخْذُ بالأسباب الوصولَ إليه.

أوَّل ذلك:

1 - خُرُوج الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِنْ بَيْته إلى بيت أبي بكر:

كانتْ حكمةُ اللهِ تعالى تقْتَضي أنْ يكونَ اجتماعُ قريش لِمُحاولة القضاء على الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في نفس اللَّيلة التي أذن له بالْهِجرة فيها؛ وذلك حتَّى تظهر قُدرة الله تعالى في نَصْرِ أوليائه، وكان الأخذ بالأسباب أن يَخْرج الرسول ليلاً، وأن يترك في فراشه عليًّا - رضي الله عنه - نائمًا؛ تعمية على الكفار إذا رأوا غطاءً تَحته جسدٌ نائم، وكان توفيقُ الله وحِفْظه أن يُلْقِي النُّعاس على الكُفَّار، كما ألْقاه مِن بعدُ على المؤمنين، وشتَّان ما بين هذا وذاك، فالذي جعَل النعاس للمؤمنين راحة وأمَنَة، جعَله للكافرين كسلاً وخُمولاً، والذي ثبَّت بالنُّعاس نفوسَ المؤمنين، زلزل به وزعزع نفوسَ الكافرين. هذه واحدة.
والأخرى أن يخرج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بين أيديهم يتلو آيات القرآن الكريم: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9].

وهذا يعني أنَّ للقرآن فاعليَّة مادِّية، على خلاف ما يظنُّ بعضُ الناس من كَوْن القرآن كتابًا يشفي الله به الصُّدورَ، وكفى، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ﴾ [الرعد: 31]

قال المفسرون: جواب لو مَحْذوف، وتقدير الكلام: ولو أن قرآنًا يفعل به هذه الأمور لكان هذا القرآن، بل لله الأمر جميعًا، وهذا ليس افتئاتًا على الله في كلامه، وإنَّما هو مقتضى فَهْم التعبير العربي.


والشاهد أنَّ للقرآن أثرًا ماديًّا يحقِّق الله تعالى به ما يريد، وكان من ذلك إلقاءُ النَّوم على الكُفَّار، وهذه النُّقطة تَجْمع المظهرين السابقين: الأخذ بالأسباب وهو التلاوة، والحفظ الإلهي وهو تحقيق الأثر.
وهناك أمر ثالث:

وهو أن يخرج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيحثو التراب فوق رؤوسهم، وهذا الفعل رمز للهوان والخِزْي الواقع على الكفَّار، وقيمته أن يستشعر الكفَّار هذا الشعور، فيكون أنكى لَهم من مُجرَّد الشعور بالحسرة مِن فوات الأمر عليهم في قتْل الرسول، وذلك أخذ بالأسباب أيضًا، ولا ننسى أن النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - استخدم التراب كثيرًا آخذًا به سببًا في فعل شيء ما، ومنه رقيته المريض بالتراب: "بِريقَةِ بعضِنا، وتربة أرضِنا، يُشفى سقيمنا"، ومنه رَمْيه التُّراب في وجوه الكُفَّار في معركة حُنَين، وقوله: ((شاهَتِ الوجوه)).
وكذلك في موقف الحصار هذا، رمى وقال كما يرويه عبدالله بن عباس، يقول: لَمَّا حاصر الكفَّارُ بيت الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - "فأقبلت ابنته فاطمة - رضي الله تعالى عنها - تبكي حتَّى دخلت على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأَوْك لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجلٌ إلاَّ قد عرف نصيبه من دَمِك، فقال: ((يا بُنَيَّة، أريني وَضوءًا))، فتوضَّأ، ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانُهم في صدورهم، وعُقِرُوا في مَجالسهم، فلم يرفعوا إليه بصرًا، ولم يَقُم إليه منهم رجلٌ، فأقبل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى قام على رؤوسهم، فأخذ قبضة من التُّراب، فقال: ((شاهت الوجوه))، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاةٌ إلاَّ قُتِل يوم بدر كافرًا"؛ "مسند أحمد"، 2762، حسَّنَه الشيخ الأرنؤوط.

والشاهد من الحديث قوله الأخير: ((فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلاَّ قُتِل يوم بدر كافرًا))؛ وذلك لأنَّ هذا التُّراب كان أخْذًا بالسَّبب، وكان قتْلُهم كفَّارًا يوم بدر هو التحقيق الإلهي له.
كانتْ هذه أحداث البِداية بين الأخْذ بالأسباب والتوفيق الإلهي.
2 - خروج الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي بكر إلى الغار:

خرجا مَشْيًا خَمسة أميال، وقد كانت النَّاقتان طوْعَ أمرهما.

ولكن من حكمة الأخْذ بالأسباب أن يقطعا هذه المرحلة مشيًا، ولم يكن أي مشي؛ فقد كانا يَمشيان على أطراف أصابعهما حرصًا على خفاء آثارهما، حتى حفيت قدم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
يعلِّقُ على ذلك د: إبراهيم علي محمد أحمد في كتابه "في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية":

"وفي ذلك اعتبارات أمنيَّة ظاهرة، فسَيْرُهم على الأقدام يَجْعل أثرهم أقلَّ وضوحًا مِمَّا لو كانا راكِبَيْن، إضافةً إلى أنَّ الرُّكوب على الدوابِّ في مثل هذا الوقت من اللَّيل مُلْفِتللنظر، وربما تنبَّهَت قيادةُ قريش للأمر، فتفسد الخطة، كما أن حركة الرَّواحل في الغالب يصدر عنها صوت، مِمَّا يجعل الرَّكْب عرضة لإثارة فضول قريش فتسأل الرَّكب، أو تستوقفه؛ لتستوضح أمره، بعكس السَّيْر على الأقدام فلا يُحْدِث صوتًا، وبخاصة إذا كان السير على أطراف الأصابع، كما كان يسير الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا السير يزيد من فرص نجاح المهمة". وكان التوفيق الإلهي بجانبهما؛ إذْ لم يعترض مسيرَهُما أحدٌ، كأنَّ هذا الطريق الطويل كان خاليًا من السَّالكين.


3 - البقاء في الغار أيامًا ثلاثة:

من الطبيعي أن يكونَ الغار نافعًا من الحرِّ والقرِّ، في الاستتار منهما، أما أن يكون نافعًا في الاستتار من الطالبين فإنَّ ذلك بعيد.
لأنَّ الغار لن يعوق جسوم الدَّاخلين فيه من قريش، ولن يردَّ أعين الناظرين في باطنه، غيْرَ أنَّ الأخذ بالأسباب يقتضي التخفِّيَ في مكان خافٍ، ولكن التوفيق الإلهي يَمْنع ما يُعارض السبب؛ إذْ لَمَّا انطلق الكفار على إثْر الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبِه انتهى بِهم علم القِيافة الذي برعوا فيه إلى الغار، وهناك كانت عناية الله تعالى تتجلَّى في أكثرَ مِن مظهر.
وقبل سرْدِ هذه المظاهر يطيب للنُّفوس أن تتلو كلام الله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
[التوبة: 40].


يَتَكَلَّم اللهُ تعالى عن نَصْرِه لرسوله الكريم وصاحبه، وهذه الكلمة كبيرة الحجم في ذاتِها إذا قرنت بالموقف الذي تحدَّثَت عنه، ولكنها تصير كبيرةَ المعنى جدًّا إذا كان قائلُها الله ربّ العالمين، إنَّها لَحرْبٌ، وإنه لنصر يتجلَّى فيه كلُّ معاني النصر، هما اثنان أعزلان إلاَّ من سلاح التوكُّل، وخلفهما أُمَّة كبيرة منَ الحاقدين المدجَّجين، وانتهت المطاردة بالرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه إلى ساحة محدودة هما فيها محصوران، وحدثت المواجَهة.
ولكن كانت ثَمَّ عنايةُ الله تعالى، متمثِّلة في:

كفِّ أذى العقارب عنهما:

كلُّ غار مليءٌ بالعقارب، وهذه طبيعة جبلية، وليس المقام هنا لعرض تصرُّف أبي بكرٍ معها، ولكن هذا مقامُ بيان كيف أنَّ الله تعالى كفَّ الشرَّ عنهما، فلم يَخْرج عليهما عقرب، ولم يُرْوَ من طريق صحيح أنَّ أبا بكر الصدِّيق لدغَتْه عقرب، ثُمَّ برئ لَمَّا تفل عليها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وإنِّي أظنُّ أنَّ هذه الرحلة كانتْ على درجة من السلامة تامَّة؛ فليس هذا هو موقفَ الابتلاء؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل، وقد ابتُلِي الرَّسول وأبو بكر مِن قَبْل ومِن بَعْد ابتلاءات حياتيَّةً كثيرة، ولكن في هذه الرحلة لَم أقع على ابتلاءٍ حياتِيٍّ عارض، مما يتعرَّض له الناس في يومهم.
كفِّ العيون عن لحظهما:

كلُّ عين صحيحة مِن طبيعتها الإبصار، وتتضاعف هذه القدرة لِمن كان طالبًا، غير أن الله تعالى الذي منع النار طبيعتَها، فصارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، منَعَ العيون المُبْصِرة أن تكون بِهما باصرة.
حكى أبو بكر الصديقُ لأنس بن مالك قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا، ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدمَيْه أبصرنا تحت قدمَيْه، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟))؛ (مسلم: 6319).


هذا منتهى الأخْذ بالأسباب: الاختفاء والتوكُّل، وماذا يفعلان بعدُ؟ وكان الله تعالى من ورائهم مُحيطًا.
وإذا كانت القلوبُ بين إصبعَيْن من أصابع الرحمن، فالحواسُّ الإنسانية كذلك، يتحكَّم فيها خالِقُها، فترى ما يُرِيها إيَّاه، وتعمى عما يعميها عنه، وذلك يقع لِفُرادى من الناس إذا كان يستغرقه التفكير، فإنَّه حينئذٍ لا يُبْصِر ولا يسمع، وإذا استغرقه الخوف لا يبصر ولا يسمع، وإذا استغرقَتْه السعادة لا يبصر ولا يسمع، هكذا الإنسان الضعيف، فأين إرادته مِن إرادة الله تعالى؟!
نسْجِ العنكبوت:

روى الإمام أحمد عن هذه القصة: "... فاقتفَوْا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمَرُّوا بالغار، فرأَوْا على بابه نسْجَ العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا أحدٌ لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثَ ليالٍ".
روى ابن كثير هذه الحكاية بإسناد قال عنه: "وهذا إسناد حسن، وهو مِن أجود ما رُوي في قصَّة نسج العنكبوت على فم الغار؛ وذلك من حماية الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ ("السيرة النبوية" لابن كثير، 2/ 239).
ولنا في قضيَّة نسج العنكبوت - إذا صحَّت - وقْفَة:

فالله تعالى جعل هذا الأمر معجزة وسببًا من الأسباب؛ لأنَّه لم يعجزهم بِها لتكون معجزة فقط، يعلم من تحدَّث معه أنَّها معجزة، وإنَّما ضلَّلهم الله تعالى بها، فهي سببٌ لإبعادِ فِكْرهم، وإن كانت معجزة في نظر الرسول وأبي بكر؛ لكونِها حدثَتْ من أجْلِهما، وأظهرت منظرًا عتيقًا وإن كانت قد حدثت في سرعة.
وهذا أعمق في دلالة الاستهزاء بالكُفَّار من أن يردَّهم الله تعالى بِمُعجزة يظهر لهم أنَّها معجزة؛ لأنَّ ذلك يعطيهم شأنًا عظيمًا، سيقولون في أنفسهم: لولا قُدْرة الله التي أعجزَتْنا، لَكُنَّا فعلنا وفعلنا، إنَّما هم أحقر من ذلك، فجعل الله العنكبوت في نظرهم أمرًا عاديًّا استهزاءً بِهم.
وكلُّ ما مضى من الحفظ هو من جنود الله تعالى التي ذكَرَها في آية التوبة، يعملون بأمر الله تعالى، إمَّا ملائكة السَّماء يَكُفُّون الأذى والعيونَ عن الرسول وصاحبه، وإما كائنات الأرض: العنكبوت.
4 - في الطريق نحو المدينة: سلك بِهما عبدالله بن أريقط بعد السَّير جنوبًا إلى الغرب ناحية الساحل، ثم إلى الشمال نَحْو المدينة في طريقٍ غير مَسْلوك.
هذا هو الأخذ بالأسباب، غير أنَّ عوارض تَحْدث، وثَمَّة تلفى العناية الإلهيَّة، فبينما هما يسيران إذْ تبعهما طالبٌ ذو حظٍّ عظيم، إنه "سُراقة بن مالك"، وقد رأى سوادهما من بعيدٍ أحدُ الناس فذهب فأخبَرَ بِهما القوم، وقال: ما أظنُّهما إلا محمدًا وصاحبه، فعمَّى سراقةُ على القوم، وضعَّف هذا الظنَّ؛ ليكون أوَّلَ نائلٍ لَهما، فيفوز بالجائزة، فلما فترت هِمَّة القوم عنهما ألْهبت هِمَّته هو، ورَكِب ظهر فرسه فطار خلفهما، وكان من أمهر الرُّماة، ولكن..

يقول أبو بكر: "... واتَّبَعَنا سراقةُ بن مالك، فقلت: أُتِينَا يا رسول الله، فقال: ((لا تَحْزن؛ إنَّ الله معنا))، فدعا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فارتطمَتْ به فرَسُه إلى بطنها - أُرَى: "في جلد من الأرض" شكَّ زهيْر - فقال: إنِّي أراكما قد دعوْتُما عليَّ، فادعوا لي، فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب، فدعا له النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فنجا، فجعل لا يلقَى أحدًا إلاَّ قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدًا إلا ردَّه، قال: ووفَّى لنا"؛ (البخاري: 3419).
قال ابن القيِّم: "وكان أوَّلَ النهار جاهدًا عليهما، وآخِرَه حارسًا لهما"؛ (زاد المعاد: 3/ 45).
فسبحان الله في عجيب هدايته! وفي عجيب حفظه!
هكذا كان أخْذُ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالأسباب، وهكذا كان التَّوفيق الإلهي لِهذا الأخذ، ومَجْموع الأمرين هو مقام كبير في الإسلام، يسمَّى "مقام التوكُّل".


كتبت : هدوء الورد
-


عوافي على الطرح الجميل والرائع
وسلمت يمناك على الانتقاء الاكثرمن رائع
ولاحرمنا جديدك الشيق
ودي لكـ



كتبت : أمواج رجيم
-
الصفحات 1 2 

التالي

ابتسامات نبويه

السابق

أعماله: صلى الله عليه وسلم-وعاداته:

كلمات ذات علاقة
الهجرة , الكبرى , فقه