عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت فواتح الكلم وخواتمه " قلنا " يارسول الله علِّمنا مما علمك الله عز وجل فعلَّمنا التشهد" حديث صحيح وقال بن مسعود أيضا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القراءن ... فاستشعر مكانة التشهد وشرفه واعلم الحكمة منه ذلك أنه من عادة الملوك أن يحييهم الناس بأنواع التحيات من الأفعال والأقوال المتضمنة للخضوع لهم والذل فمنهم من يُحيّا بالسجود ومنهم من يُحيّا بالثناء عليه ومنهم من يُحيّا بطلب البقاء والدوام له ومنهم من يُجمع له ذلك كله فيُسجَد له ويُثنى عليه ويُدعى له بالبقاء والدوام
... والتحيات
جمع تحية وأصلها من الحياة فأنت تطلب لمن تُحيي دوام الحياة .. الله وحده كل شيء هالك إلا وجهه فهو أولى بالتحيات وهي له وهو أهلها ومع ذلك يخشع الناس عند تحية ملوك البشر أكثر مما يخشعون لتحية ملك الملوك ورب البشر !! والتحيات لله كذلك أي السلام له من جميع ما يلحق بالعباد من العناء وسائر أسباب الفناء وذلك جميعه لا ينبغي إلا لله الحي القيوم
الصلوات الطيبات
ثم اعطف عليها الصلوات فالتحيات له مُلكا والصلوات له عبودية والتحيات والصلوات لا تكون إلا لله ثم اعطف عليها الطيّبات وهي تتناول الوصف والكلام والفعل فالوصف أنه سبحانه لا يقبل إلا اطيب وأفعاله كلها طيبة وصفاته أطيب شيء وهو إله الطيبين وربهم ولا يُقرّب منه ولا يجاوره إلا طيب فطِيب كل ما سواه من طيباته سبحانه وكلامه طيب وكلامه يتضمن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده والثناء عليه بآلائه وأوصافه ومنها مما لا يجوز معانيها إلا له سبحانه – سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك و – سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر و – سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفعله كله طيب فلا يصدر منه إلا الطيب ولا يُضاف إليه إلا الطيب ولا يصعد إليه إلا الطيب .... وقد يُقصد بالطيبات التنبيه على الإخلاص في العبادة فلا يُفعل ذلك ولا يكون إلا لله أو يُقصد أن التحيات : العبادات القولية والصلوات : العبادات الفعلية والطيبات : الصدقات المالية
السلام على عباد الله الصالحين
ثم سلِّم على عباد الله الصالحين وهم عباده الذين اصطفى مُتمثِّلا أمر الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " النمل 59 واستشعر عندها أن عليك في الصلاة حقا للعباد مع حق الله ذلك أن السلام دعاء الله يطلب من المسلم أن يدعو في صلاته لصفوة خلقه ويريد منه تحية المخلوق بعدما قدّم التحية للخالق ... وابدأ بأولى الخلق بها وهو النبي صلى الله عليه وسلم لشرفه وعظيم حقه عليك واستشعر قربه منك ولو بعدت بينك وبينه المسافات واستحضره أمامك ليمتلىء قلبك مهابة له وليصدق أمَلُكْ في أن يبلغه سلامك ويردُّه عليك بما هو أوفى منه والسلام اسم من أسماء الله الحسنى وتأويله لا خلوتَ من الخيرات والبركات وسلّمك الله من المكاره وكل ما يوجب الذم فإذا قلت "السلام عليك أيها النبي" فاقصد به : اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمّته السلامة من كل نقص فتزداد دعوته على الأيام علول وأمّته كرامة وعزا وأما الرحمة : فهي ايصال كل خير له وإثابته على ما بذل في حقنا وقدّم ثم سلِّم على نفسك ثم على سائر عباد الله الصالحين مُستصحبا أهمية الصحبة الصالحة ومعلّيا قيمتها مع استشعارك أن هذا السلام يعُم كل عبد صالح في السماء والأرض مما يجعل تارك الصلاة والمُقصّر فيها مقصرا في حق كل المسلمين لأنه أضاع حقهم عليه في الدعاء من مضى منهم ومن سيولد إلى يوم القيامة ولذا عظُمت معصية تارك الصلاة . قال النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا : التحيات لله والصلوات الطيبات ,السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته , السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين , فإنكم إذا قُلتم ذلك أصاب كل عبد في السماء والأرض " صحيح
معنى الشهادتين
ثم اشهد شهادة الحق التي بُنيت عليها الصلاة .. والصلاة حق من حقوقها ولا تنفع إلا بقرينتها وهي الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة وخُتمت بها الصلاة كما قال عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه –: "فإذا قُلت ذلك فقد قضيت صلاتك فإن شئت فقم وإن شئت فاجلس" وهكذا جُعلت شهادة الحق خاتمة الصلاة كما شُرع أن تكون خاتمة الحياة لأن " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " وكذلك شُرع للمتوضيء أن يختم وضوءه بالشهادتين
وارفع السبّابة وأنت تشهد واستشعر أنك بذلك تختم صلاتك بخنق شيطانك وعصر أضلاعه وقهره بسبّابة التوحيد فقد كان عبد الله بن عمر –رضي الله عنه – إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه وأتبعها بصره ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لهي أشد على الشيطان من الحديد " يعني السبّابة صحيح
" حميد " أي محمود مُستحِق لجميع المحامد على ذاته وصفاته وفعاله بل لا يستحق الحمد إلا هو وهو كذلك محمود في كل الأحوال في السراء والضراء والشدة والرخاء لأنه حكيم لا يجري في أفعاله غلط ولا يعتريه خطأ , وهي أيضا بمعنى حامد لذاته وأوليائه أو بمعنى الذي أجرى الحمد على لسان خلقه ومن كرمه أن نسب الحمد إليهم وهو من أعظم نعمه عليهم
" مجيد " أي المُتصف بالمجد وهو كمال الشرف والكرم والرفعة والصفات وإذا قارن شرف الذات حُسن الفعال سُمِّي مجدا والمجيد هو من تمجّد بفعاله ومجّده خلقه لعظمته
التعوذ
ثم تعوذ بالله من مجامع الشر كله امتثالا لوصية حبيبك – صلى الله عليه وسلم – الذي كان يُعلم الصحابة هذا الدعاء بعد التشهد " إذا تشهد أحدكم فليتعوذ من أربع : من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال ثم يدعو لنفسه بما بدا له " صحيح
والشر كل الشر في عذاب الآخرة وهو نوعان عذاب القبر وعذاب النار وأسبابه الفتنة وهي أيضا نوعان فتنة كبرى وهي فتنة الدجال وفتنة الممات لأن المفتون بهما لا سبيل له ليتدارك نفسه إذا سقط فيها .. وفتنة صغرى وهي فتنة الحياة وهي تشمل فتنة الأهل والمال والدنيا وهي أهون لأن المفتون بها يمكن أن يتدارك نفسه بالتوبة
واعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تعوّذ بالله من هذه الأمور وهو معصوم منها لنلتزم خوف الله تعالى ولنقتدي بنبينا وتعوّذ الصحابة رضوان الله عليهم من الدجال مع علمهم بتأخره عن زمانهم لينتشر خبره من جيل إلى جيل فيعرفه الناس ويعرفون كذبه كما أخبرنا حبيبنا – صلى الله عليه وسلم – ولقد أوجب بعض السلف هذا الدعاء
والدعاء الآخر الذي شُرع هنا هو الاستغفار لتختم صلاتك بطلب المغفرة كما بدأتها بطلب المغفرة " اللهم اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت المُقدّم وأنت المؤخّر لا إله إلا أنت " رواه مسلم
ومن الرائع أن تتخير لنفسك ما تشاء من الدعاء فقد أدّيت الحق الذي عليك في الصلاة وهو قبل السلام أفضل منه بعده
لأول مرة ...
أعرف قيمة كنز الدعاء بعد التشهد فأدعو الله بحاجتي عندها وأتضرع إليه بما أرجوه فقد عرفت فضل الدعاء في هذا الوقت فادّخرت إليه أهم الدعوات وأغلى الأمنيات
التسليم
وانو ِبالتسليم التحلل من الصلاة كما تتحلل بالحلق من الإحرام
واقصد به الدعاء لمن خلفك إن كنت إماما
واقصد أيضا السلام على الملائكة والحاضرين
وانو ِبه ختم الصلاة واستشعر شكر الله على توفيقك لإتمام طاعته وأذق قلبك الوجل والحياء من التقصير فيها
وخف أن تُردّ عليك واخش من عدم القبول رغم أخذك بأسباب القبول
واستشعر الحزن لانصرافك من بين يدي الله تعالى لأشغال الدنيا التي استرحت منها ساعة وقوفك لربك واحمل همّ تنقضائها فقد فارقت من كل سعادة في مناجاته إلى من كل همّ وأذى في مناجاتهم
.. ولن يشعر بهذا إلا من كان قلبه حيا عامرا بالإيمان