فضل صلاة الجماعة وحكمها

مجتمع رجيم / عــــام الإسلاميات
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

فضل صلاة الجماعة وحكمها
فضل صلاة الجماعة وحكمها
فضل صلاة الجماعة وحكمها


الجماعة PIC-146-1352407949.g

فضل صلاة الجماعة وحكمها

الشيخ عادل يوسف العزازي

الجماعة 40188.gif


فضل صلاة الجماعة:
عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صَلاة الرَّجُل في جماعةٍ تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضِعْفًا؛ وذلك أنَّه إذا توضَّأ فأحسنَ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يُخْرِجه إلاَّ الصلاة، لم يَخْطُ خطوةً إلاَّ رُفِعَتْ له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لَم تزَل الملائكة تُصلِّي عليه ما دام في مُصلاَّه، تقول: "اللَّهم صلِّ عليه، اللَّهم ارحمه"، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة))[1]، وفي رواية: ((ما لم يُحْدِث فيه، ما لم يُؤْذِ فيه)).



وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "مَن سرَّه أن يَلْقى الله غدًا مُسلِمًا، فلْيُحافظ على هؤلاء الصَّلواتِ حيثُ يُنادى بهن؛ فإنَّ الله تعالى شرع لنبيِّكم سننَ الهدى، وإنَّهن من سنن الهدى، ولو أنَّكم صليتم في بيوتكم كما يُصلِّي هذا المتخلِّف في بيته، لترَكْتم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّة نبيكم لضَللتم، وما من رجل يتطهَّر فيحسن الطُّهور، ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد، إلاَّ كتب الله له بكلِّ خطوةٍ يَخْطوها حسَنة، ويرفعه بها درَجة، ويحطُّ عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلاَّ منافق معلومٌ النِّفاق، ولقد كان الرَّجل يُؤتَى به يهادى بين الرجلين حتَّى يُقام في الصَّف"[2].



ومعنى ((يهادى)): يمسكه رَجُلان من جانبَيْه يعتمد عليهما.

وعن عُثْمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن توضَّأ فأسبغَ الوضوء، ثُم مشى إلى صلاةٍ مكتوبة، فصلاَّها مع الإمام، غُفِر له ذنبُه))[3].

وعن أنَسِ بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن صلَّى لله أربعين يومًا في جماعة، يُدْرِك التكبيرة الأولى كتب له براءتان؛ براءة من النار، وبراءة من النِّفاق))[4].

وقد وردَتْ أحاديثُ في فضيلة الجَماعة لصلاة الصُّبح والعشاء خاصَّة:
فعَنْ عُثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن صلَّى العشاء في جماعةٍ، فكأنَّما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصُّبح في جماعةٍ، فكأنَّما صلَّى الليل كلَّه))[5].

وفي رواية أبي داود: ((ومن صلَّى العشاء والفجر في جماعةٍ كان كقيام الليل)).

وعن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بَشِّر المشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنُّور التامِّ يوم القيامة))[6].

الترهيب من ترك الجماعة:
عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بَدْو لا تُقام فيهم الصَّلاة إلاَّ استحوذَ عليهم الشَّيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنَّما يأكل الذِّئب القاصيةَ))[7]، ومعنى "القاصية": المنفرِدة.

ملاحظات:
(أ) كُلَّما كثر الجَمْع؛ كان ذلك أزكى وأطيبَ؛ فعن قباث بن أشْيَم اللَّيثي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صلاة الرَّجُلين يؤمُّ أحدُهُما صاحِبَه أزكى عند الله من صلاة أربعةٍ تَتْرى، وصلاة أربعةٍ أزكى عند الله من صلاة ثمانيةٍ تَتْرى، وصلاة ثمانيةٍ يؤمُّهم أحدهم أزكى عند الله مِن صلاة مائةٍ تَتْرى))[8]، ومعنى ((تَتْرى)): فُرادى.



ويتفرَّع من هذا:
أن الأفضل اجْتِماع المُصلِّين في مَسْجدٍ يَكْثر فيه الجمع، وأنَّ هذا أولى من التفرُّق في مساجِدَ كثيرة، يجتمع في كلٍّ منها العددُ القليل.

قال الشيخ ابن عثيمين: "الأفضل أن تُصلِّي فيما حولك من المساجد؛ لأنَّ هذا سببٌ لعمارته، إلاَّ أن يَمْتاز أحد المساجد بخاصيَّة فيه فيُقدَّم؛ كما لو كنت في المدينة أو كنت في مكَّة، فإن الأفضل أن تصلِّي في المسجد الحرام في مكَّة، والمسجد النبوي في المدينة"[9].

وقال: "فالحاصل أن تُصلِّي في مسجد الحيِّ الَّذي أنت فيه؛ سواءٌ كان أكثر جماعة أو أقل.."[10]؛ يعني: عن مسجد آخر بعيدًا عن حيِّك.

إذا كان إمامُ المسجد الأبعدِ أحسنَ قراءة، أو أخشَع؛ فإنَّه يَجوز له أن ينتقل إليه، بل هذا هو الأفضل؛ لأنَّ مُراعاة الفَضْل المتعلِّق بالعبادة أولَى مِن مُراعاة الفضل المتعلِّق بِمَكانها[11].

(ب) من الملاحظات: إذا كان في صحراء، فإنَّه يُؤذِّن ويُقيم ويُصلِّي، وقد ورد التَّرغيب في ذلك، وبيان ثوابه:
فعن أبي سعيدٍ الخُدري - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الصَّلاة في جماعةٍ تَعْدل خَمْسًا وعشرين صلاة، فإذا صلاَّها في فلاةٍ فأتَمَّ رُكوعَها وسجودها، بلغَتْ خمسين صلاة))[12].

وعن عُقْبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يَعْجب ربُّك من راعي غنم، في رأس شَظِيّة، يؤذِّن بالصلاة، ويصلِّي، فيقول الله - عزَّ وجلَّ -: انظروا إلى عَبْدي هذا، يُؤذِّن ويقيم الصَّلاة؛ يخاف مني، قد غفرتُ لعبدي وأدخلتُه الجنَّة))[13]، و"الشظية": القطعة تَنْقطع من الجبَل، ولَم تنفصل عنه.

وعن سلمانَ الفارسيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا كان الرَّجلُ بأرض قِـيٍّ فحانَت الصَّلاة، فلْيَتوضَّأ، فإن لَم يَجِدْ ماءً فليتيمَّم، فإن أقام صلَّى معه ملَكاه، وإن أذَّنَ وأقام صلَّى خلفه من جنود الله ما لا يُرى طرَفاه))[14].

ومعنى "أرض قي": هي الأرض القَفْر؛ أي: الصحراء.

(جـ) المقصود بالجماعة التي يَحْصل لها الثَّواب هي الجماعة التي تُصلِّي في المسجد.
قال الحافظ ابن حجَر: "أصل المشروعيَّة إنَّما كان في جماعة المَساجد، وهو وَصْف معتبَر، لا ينبغي إلغاؤه، فيختصُّ به المسجد، ويلحق به ما في معناه مِمَّا يحصل به إظهار الشعار"[15]، والظاهر من قوله: "ما في معناه": جماعة ليس لدَيْهم مسجد، أو مَعْذورون شرعًا عن الذَّهاب إلى المسجد، والله أعلم.





(د) مِن آداب الذَّهاب إلى المسجد ما يلي:
يُستحَبُّ أن يَأتي الصلاة ماشيًا غير ساعٍ ولا مُهَرول، عليه السَّكينة، حتَّى لو سَمِع إقامة الصَّلاة، فعن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إذا أُقيمَتِ الصَّلاة، فلا تأتوها تَسْعون، وأْتُوها تَمْشون، وعليكم السَّكينة، فما أدركتُم فصَلُّوا، وما فاتَكُم فأتِمُّوا))[16].

وعلى هذا؛ فما يَفْعله كثيرٌ من النَّاس من الإسراع والجري والهرولة؛ لإدراك الإمام - مُخالفٌ لِهذا الحديث، وهو من الأخطاء الشَّائعة.

ومن الآداب: إذا خرجَ من بيته يَنْوي الجماعة، فإنَّه إن نوى الجماعة، ولَم يَكُن منه تَهاوُن في تأخيره، ثُمَّ ذهب إلى المسجد، فوجدَهم قد أتَمُّوا الصَّلاة، كُتِب له أجر الجماعة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن توضَّأ فأحسنَ وُضوءه، ثم راح فوجدَ النَّاس قد صلَّوا، أعطاه الله - عزَّ وجلَّ - مِثْل أجر مَن صلاَّها وحضَرَها، لا ينقص ذلك من أجرهم شيئًا))[17].

ومن الآداب: ألاَّ يشبِّك بين أصابعه حتَّى يرجع، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا توضَّأ أحَدُكم في بيته، ثُمَّ أتى المَسْجد، كان في صلاةٍ حتَّى يرجع، فلا يقل هكذا)) - وشبَّك بين أصابعِه[18].

ومن الآداب: الجُلوس بعد الصَّلاة، لحديث أبي هريرة.



(هـ) يَجْتمع لمن حضرَ الجماعة عدَّةُ فضائل يَعْظم بها الثواب، نقَّحَها الحافظُ ابن حجر، وهي:


(1) إجابة المُؤذِّن بنِيَّة الصلاة في جماعة.

(2) التَّبْكير إليها في أوَّل وقْتِها.

(3) المشي إلى المسجد بالسَّكينة، فيُرْفَع له درجة.

(4) دخول المسجد داعيًا.

(5) صلاة التَّحية عند دخوله المسجد.

(6) انتظار الجَماعة.

(7) صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له.

(8) شهادتهم له.

(9) إجابة الإقامة.

(10) السَّلامة من الشيطان حين يفِرُّ عند الإقامة.

(11) الوقوف منتظرًا إحرام الإمام، أو الدُّخول معه في أيِّ هيئة وجَدَه عليها.

(12) إدراك تكبيرة الإحرام.

(13) تسوية الصفوف وسَدُّ الفُرَج.

(14) جواب الإمام عند قوله: "سمع الله لمن حَمِدَه".

(15) الأمن من السَّهو غالبًا، وتنبيهه إذا سها بالتسبيح والفَتْح عليه.

(16) حصول الخُشوع والسَّلامة عما يلهي غالبًا.

(17) تحسين الهيئة غالبًا.

(18) احتفاف الملائكة به.

(19) التدرُّب على تجويد القرآن وتعلُّم الأركان.

(20) إظهار شعائر الإسلام.

(21) إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة، والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل.

(22) السَّلامة من صِفَة النِّفاق، ومن إساءة غَيْره الظنَّ به بأنَّه ترك الصَّلاة رأسًا.

(23) رَدُّ السلام على الإمام.

(24) الانتِفاع باجتماعهم على الدُّعاء والذِّكْر، وعود بركة الكامل على الناقص.

(25) قيام نظام الأُلْفة بين الجيران وحصول تَعاهدهم في أوقات الصَّلوات.

(26) الإنصات عند قراءة الإمام.

(27) التَّأمين عند تأمينه؛ لِيُوافق تأمين الملائكة[19].

[1] البخاري (477)، (647)، ومسلم (649)، وأبو داود (559)، والترمذي (603)، وابن ماجه (281)، (786).

[2] مسلم (654)، وأبو داود (550)، والنسائي (2/ 108)، وابن ماجه (777).

[3] صحيح: رواه ابن خزيمة (1489)، وأحمد (1/ 67).

[4] رواه الترمذي (241)، وحسنه الألباني (الصحيحة 1979، 2652).

[5] مسلم (656)، وأبو داود (555)، والترمذي (221).

[6] صحيح: رواه ابن ماجه (780)، وابن خزيمة (1498)، وله شاهد من حديث بريدة رواه أبو داود (561)، والترمذي (223).

[7] حسن: رواه أبو داود (547)، والنسائي (2/ 106).

[8] رواه الحاكم (3/ 685)، والبيهقي (3/ 61)، والطبراني في "الكبير" (19/ 36)، وقال الألباني: حسَنٌ لِغَيره، وقال المنذريُّ: إسناده لا بأس به، وصحَّحه الشيخ الألبانيُّ في "الصحيحة" (1912).

[9] "الشرح الممتع" (4/ 114 - 115).

[10] انظر لذلك "الشرح الممتع" (4/ 116).

[11] انظر لذلك: "الشرح الممتع" (4/ 116).

[12] صحيح: رواه أبو داود (560)، والحاكم (1/ 208)، وصححه على شرطهما، ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (3871).

[13] صحيح: رواه أبو داود (1203)، والنسائي (2/ 20)، وأحمد (4/ 157).

[14] صحيح: رواه عبدالرزاق (1/ 510 - 511)، والطبراني في "الكبير" (8/ 305/ 6120)، وصححه الألباني "انظر صحيح الترغيب 249".

[15] "فتح الباري" (2/ 136).

[16] البخاري (636)، ومسلم (602)، وأبو داود (572)، والترمذي (327).

[17] صحيح: رواه أبو داود (564)، والنسائي (2/ 111)، وأحمد (2/ 380).

[18] صحيح: رواه ابن خزيمة (439)، ورواه الحاكم (1/ 206)، وصححه، ووافقه الذهبي. وله شاهدٌ من حديث كَعْب بن عُجْرة؛ رواه أبو داود (562)، والترمذي (386).

[19] انظر فتح الباري (2/ 133).





الجماعة PIC-950-1352407949.g


فضل صلاة الجماعة وحكمها
فضل صلاة الجماعة وحكمها
فضل صلاة الجماعة وحكمها


كتبت : ~ عبير الزهور ~
-


حكم صلاة الجماعة:




اختلفَ أهلُ العلم في حُكْم صلاة الجَماعة على أربعة أقوال:
فمِنْهم مَن يرى أنَّها سُنَّة مؤكَّدة، وهو مذهب المالكيَّة والحنفية، ومِنهم مَن يرى أنَّها فرضُ كفاية، وهو مذهب الشَّافعية، ومنهم من يرى أنَّها فرض عينٍ، وهو مذهب الحنابلة، ومنهم من يرى أنَّها شرطٌ لصِحَّة الصلاة، وهو مذهب الظاهريَّة.


والراجح من ذلك كلِّه القولُ الثالث بأنَّ صلاة الجماعة فرضُ عين لمن سمع النِّداء ولم يَمْنعه من حضورها مانعٌ شرعي، على ما يأتي تفصيلُه - إن شاء الله تعالى.


والأدلَّة على وُجوبها كثيرةٌ، نَذْكر منها:
(أ) ما ثبتَ في "الصحيحَيْن" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لقد هممتُ أن آمُرَ بالصلاة فتُقام، ثم آمُرَ رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برجالٍ معهم حُزَم من حطَب إلى قومٍ لا يَشْهدون الصَّلاة، فأحرق عليهم بيوتَهم))[1].
ومعلومٌ أن النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يهمُّ بهذه العقوبة إلاَّ لأمرٍ واجب، وأمَّا كونه لم يفعل؛ فلأنَّ هناك أصحابَ الأعذار الَّذين لا يستحقُّون هذه العقوبة، والله أعلم.
(ب) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائدٌ يَقودني إلى المسجد، فسألَ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُرخِّص له فيصلِّي في بيته، فرخَّصَ له، فلَمَّا ولَّى دعاه، فقال: ((هل تَسْمع النِّداء؟))، قال: نعم، قال: ((فأَجِب))[2].
(جـ) أنَّ الله - تعالى - فرَضَ صلاة الجماعة في حالة الحَرْب، ولو كانت سُنَّة ما أوجَبَها، ولو كانت فرضَ كفايةٍ ما أوجبَها على الطَّائفة الثَّانية.


صلاة الجماعة للنِّساء:
الحكم السَّابق خاصٌّ بالرِّجال دون النِّساء، فلا يلزمهن الحضورُ للمسجد على سبيل "الوجوب"، ولكن "يَجوز" لهنَّ الحضور وشهود الجماعة؛ بشرط أن يتجنَّبْن التبَرُّج والتطيُّب.


فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تَمْنَعوا إماء الله مَساجد الله، ولْيَخرجْنَ تَفِلات))[3].
و"التفل": سوء الرَّائحة، يقال: امرأةٌ تفلة: إذا لم تَطيَّب.


ويُلاحَظ في ذلك أمور:
(1) لا يجوز للرِّجال أن يَمنعوا النِّساء من شُهود الجماعة إذا خرَجْن مُراعِياتٍ للآداب الشرعيَّة، سواء كانت المرأة شابَّة أو عجوزًا.
قال النوويُّ في "شرح مسلم": "... لا تُمنَع المَسْجد، لكن بشروطٍ ذكَرَها العلماء، مأخوذةٍ عن الأحاديث، وهي أنْ لا تكون متطيِّبة، ولا متزيِّنة، ولا ذاتَ خلاخل يُسمَع صوتها، ولا ثيابٍ فاخرة، ولا مختلطة بالرِّجال..."[4].
ورَجَّح الشيخ ابنُ عثيمين أنَّه يَحْرم على الولِيِّ أن يَمْنع المرأة إذا أرادَت الذَّهاب إلى المسجد لتصلِّي مع المسلمين[5].
ولكنْ يَجوز؛ بل يَجِب على الولِيِّ إذا خرجَت المرأة متطيِّبة أن يَمْنعها من الخُروج.
(2) ذهبَ جُمهور أهل العلم إلى أنَّ الأفضل لهنَّ الصَّلاةُ في بيوتهن؛ لِمَا ثبتَ في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تَمْنَعوا نساءكم المَساجد، وبيوتُهنَّ خير لهن))[6].
(3) هذا الحكم - وهو جواز حُضورِهن المساجد - عامٌّ؛ حتَّى في صلاة الصُّبح والعشاء، فقد كان النِّساء يشهَدْن صلاة الصُّبح مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم ينصَرِفْن متلفِّعات بِمُروطهن، لا يعرفهنَّ أحدٌ من الغلس[7]، و"الغلس": بقايا الظَّلام.
وعن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أيُّما امرأةٍ أصابَتْ بَخورًا، فلا تشهد معَنا العشاء الآخِرَة))[8].


(4) إذا علمت أنَّ صلاة المرأة في بيتها أفضل، فهل المُستحَبُّ أن تُصلِّيها جماعةً؛ أيْ: مع نسوةٍ معها؟
الجواب: نعَم، يستحبُّ ذلك؛ وذلك لِعُموم الحديث: ((تَفْضلُ صلاة الجماعة على صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة)).
ولِمَا ثبت أن عائشة - رضي الله عنها - أمَّت النِّساء وقامَتْ وسطَهنَّ في صلاةٍ مكتوبة، وكذلك ثبتَ عن أُمِّ سلمة - رضي الله عنها[9].
قال ابنُ حزم: "وقال الأوزاعيُّ وسفيان الثَّوري، وأحمَدُ بن حنبل، وإسحاقُ بن راهويه، وأبو ثور: يُستحبُّ للمرأة أن تؤمَّ النِّساء، وتقوم وسطهن"[10].
وذهبَ ابنُ القيِّم كذلك إلى استِحْباب صلاتهنَّ في جماعة[11].
(5) إذا أمَّت المرأةُ النِّساء، وقفَتْ وسطهن؛ وذلك لِمَا تقدَّمَ مِنْ فعل عائشة وأُمِّ سلمة - رضي الله عنهما - وليس هناك مُخالِفٌ لَهن.

(6) هل تجهر المرأة إذا أمَّت؟


ثبت أنَّ عائشة - رضي الله عنها - "أمَّت نساءً في الفريضة في المَغْرِب، وقامت وسطهنَّ، وجهرَتْ بالقراءة"[12].
ففيه جوازُ الجَهْر بالقراءة، لكن قيَّد ذلك ابنُ قُدامة إذا لم يَكُن ثَمَّ رجالٌ أجانب، فقال: "وتَجْهر في صلاة الجهر، وإن كان ثَمّ رجالٌ لا تجهر، إلاَّ أن يكونوا مِن مَحارمها، فلا بأس"[13].
(7) ثبتَ في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خيرُ صفوف الرِّجال أوَّلُها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النِّساء آخرها، وشرُّها أوَّلُها))[14].
قال النووي: "قد ذكَرْنا أنه يستحبُّ الصَّف الأول، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه إلى آخرها، وهذا الحكم مستمرٌّ في صفوف الرجال بكلِّ حال، وكذا في صفوف النِّساء المنفردات بجماعتهنَّ عن جماعة الرِّجال، أمَّا إذا صلَّت النِّساء مع الرِّجال جماعةً واحدة، وليس بينهما حائلٌ، فأفضَلُ صفوف النِّساء آخرها"[15].
قلت: والعِلَّة في ذلك حتَّى يَكُنَّ أبعدَ عن رؤية الرِّجال ومُخالَطتِهم وسَماع كلامهم[16].
(8) يُخصَّص للنِّساء بابٌ يَدْخلن منه المسجد؛ لِمَا ثبتَ في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو ترَكْنا هذا الباب للنِّساء))، فما دخَلَ من ذلك البابِ ابنُ عمر حتَّى مات[17].




[1] البخاري (644)، ومسلم (651)، واللفظ له، وأبو داود (548)، (549)، وابن ماجه (791).

[2] مسلم (653)، والنَّسائي (2/ 109).

[3] حسن: رواه أبو داود (565)، وأحمد (2/ 438)، والحديث ثابت من حديث ابن عمر دون قوله: ((وليخرُجْنَ تَفِلات))؛ رواه البخاري (900)، ومسلم (442).

[4] "شرح مسلم" للنووي (4/ 161).

[5] "الشرح الممتع" (4/ 254).

[6] صحيح: رواه أبو داود (567). وأصل الحديث في الصحيحين دون قوله: ((وبيوتهن خير لهن)).

[7] البخاري (372، 578)، ومسلم (645)، وأبو داود (423)، والترمذي (153)، والنَّسائي (1/ 371)، وابن ماجه (669).

[8] مسلم (444)، وأبو داود (4175)، والنسائي (8/ 154).

[9] صحيح لغيره: رواه ابن حزم في "المحلى" (4/ 309 - 311)، ورواه عبدالرزَّاق (3/ 140 - 141)، والدارقطني (1/ 404 - 405).

[10] "المُحلَّى" (4/ 309).

[11] انظر: "إعلام الموقِّعين" (2/ 376).

[12] "المحلَّى" (4/ 309).

[13] "المُغْنِي" (2/ 202).

[14] مسلم (440)، ورواه أبو داود (678)، والترمذي (224)، والنَّسائي (3/ 93).

[15] "المجموع" (4/ 301).

[16] انظر "شرح النووي"، و"سُبل السلام" (1/ 429)، و"نَيْل الأوطار" (3/ 184).

[17] صحيح: أبو داود (462)، والطبراني في "الأوسط" (1/ 303)، وابن حزم في "المحلى" (3/ 177).




كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

موقف الإمام وترتيب صفوف المأمومين:
أولاً - ترتيب الصفوف:
أقَلُّ الجماعة اثنان؛ لِمَا تقدَّم في الحديث: ((إذا حضَرَت الصَّلاة، فليؤذِّنْ أحدُكما، وليؤُمَّكما أكبَرُكما))[1]، وعلى هذا؛ فيَكون ترتيب الصُّفوف على النَّحْو الآتي:
(أ) فإذا كان المأمومُ رجلاً أو صبيًّا؛ فإنَّه يقف عن يمين الإمام بِجانبه تَمامًا، فلا يتقدَّم عنه ولا يتأخَّر.

قال الإمام البخاريُّ - رحمه الله -: "بابٌ: يقوم عن يمين الإمام بحِذائه سواءً، إذا كانا اثنين"، ثُمَّ أورد فيه حديثَ ابن عبَّاس وصلاته خلف النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيت خالته ميمونة، وفي بعض ألفاظه أنَّ ابن عباس قال: "فقمتُ إلى جنبه".

قال الحافظُ: "وظاهِرُه المُساواة"[2].

وعن ابن جُرَيج قال: قلتُ لعطاء: الرَّجل يُصلِّي مع الرجل؛ أين يكون منه؟ قال: إلى شقِّه الأيمن، قلت: أيُحاذي به حتَّى يصفَّ معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم، قلت: أتحبُّ أن يُساوِيَه حتَّى لا تكون بينهما فُرْجة؟ قال: نعم[3].

وفي الموطَّأ عن عبدالله بن عتبة بن مسعودٍ قال: دخلتُ على عمر بن الخطَّاب بالهاجرة، فوجدتُه يُسبِّح (يعني: يصلِّي)، فقمت وراءه، فقرَّبني حتَّى جعلَني حِذاءَه عن يمينه[4].

وعلى هذا؛ فمِن الأخطاء الشَّائعة أن يقف المأمومُ خلف الإمام قليلاً؛ بأن يجعل أصابع قدَمِه عند مؤخرة قدم الإمام، وقد يبتعد عنه قليلاً، والصواب ما تقدَّم من مُحاذاته سواءً بسواء، بأن تكون قدَمُه بقدمه صفًّا واحدًا.

(ب) فإن كانوا ثلاثةً فأكثر، تقدَّمَ الإمام وصفَّ المأمومان أو المأمومون خلْفَه.

فعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: "صلَّيتُ أنا ويتيمٌ في بيتنا خلف النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمي أمُّ سليم خلْفَنا"[5].

ومِمَّا يُؤكِّد ذلك ما رواه مسلمٌ من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: "قام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليصلِّي، فجئتُ فقمت عن يساره، فأخذ بيدي فأدارني، حتَّى أقامني عن يمينه، ثم جاء جابرُ بن صخر، فقام عن يسار رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخذ بأيدينا جميعًا فدفَعَنا حتَّى أقامَنا خلفه"[6].

ويجوز أن يقف أحَدُهما عن يمينه والآخَرُ عن يساره إذا كانا اثنَيْن فقط؛ لِمَا ثبتَ عن ابن مسعودٍ أنَّه وقف بين علقمة والأسود، وصلَّى بهما، وقال: "هكذا رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَل"[7].

ويرى بعضُ أهل العلم أنَّ ذلك منسوخ، ويرى آخرون أنَّ ذلك إذا كانت الصَّلاة فرضًا، والحالة الأولى في حالة النَّفل، والراجح جواز الأمرَيْن جميعًا، وإن كانت الأولى هي الأفضل.

ملاحظات:
(1) إذا أمَّت المرأةُ المرأةَ، وقفَتْ بِجانبها، فإن كُنَّ نسوة، وقفت وسطهنَّ - كما تقدم.

(2) إذا كان مع الرَّجلين امرأة، وقف الرَّجل بحذاء الإمام، ووقفَت المرأة خلفهما، فإن كان معه مأمومان، وقَفا خلفه، ووقفت المرأة خلفَهما؛ لحديث أنسٍ السَّابق.

فإن كان مع الإمام امرأةٌ فقط، صلَّتْ خلفه، وفي هذه الصُّورة يُكرَه أن يؤمَّ الرَّجلُ المرأة الأجنبيَّة بِمُفردها؛ حتَّى لا تكون خلوةً، إلاَّ أن تكون مِن مَحارمه.

وهذه الكراهة كراهةُ تَحْريم، كما نصَّ على ذلك الإمامُ النَّووي[8].

(3) إذا وقف المأموم عن يَسار الإمام، أداره الإمامُ من خلفه، حتَّى يوقفه عن يمينه، كما فعل النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بابن عبَّاس، وبِجابر.

(4) إن وقف المأموم عن يَمين الإمام، ثم جاء آخر فوقَفَ عن يساره، أخَّرَهما الإمامُ إلى ورائه؛ لِما تقدَّم في حديث جابر
قال ابن قُدَامة: "ولا يتقدَّم الإمام إلاَّ أن يكون وراءه ضيق، وإن تقدَّم جاز"[9].

(5) إذا صلَّى المأموم عن يسار الإمام ولَم يُدِرْه الإمام عن يمينه، فهل صلاة المأموم صحيحة أم باطلة؟

مذهب الحنابلة بُطْلان صلاته، إلاَّ إذا كان عن يمين الإمامِ رجلٌ آخر؛ لحديث ابن مسعود المتقدم[10].

ومذهب مالكٍ والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن أحمد: أنَّ صلاته صحيحة على كلِّ حال، إلاَّ أنه خالف السُّنة، وهذا هو الرَّاجح؛ لأنه لم ينصَّ دليلٌ صريح على بُطْلان الصلاة.

(6) إذا كبَّرَ اثنان خلف الإمام، ثُم خرج أحدُهما لِعُذر، تقدَّم الثاني حتَّى يقف بحذاء الإمام عن يمينه.

(7) علمنا أن السُّنة أن المرأة تقف خلف الرِّجال، وكذلك صفوف النِّساء خلف صفوف الرجال؛ فما الحكم لو خالفَتْ؟ يعني لو صلَّت بحذائهم أو أمامَهم؟

قال ابنُ حجر: "فلو خالفَتْ، أجزأَتْ صلاتُها عند الجمهور، وعن الحنفيَّة تفسد صلاة الرَّجل دون المرأة"[11]، والصحيح من ذلك قولُ الجمهور.

قال النَّووي: "وعُمْدتُنا أنَّ الأصل أن الصلاة صحيحة، حتَّى يَرِدَ دليلٌ صحيح شرعي في البطلان، وليس لهم ذلك..."[12].

قلتُ: ولا يخفى أنَّها تكون آثِمةً لو تعمَّدَت ذلك.

ثانيًا - تسوية الصفوف:
الرَّاجح وجوب تسوية الصُّفوف؛ فعن النُّعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لَتُسوُّنَّ بين صفوفكم، أو لَيُخالِفَنَّ الله بين وجوهكم))[13]، وفي بعض الروايات: ((بين قُلوبكم))، وعن أنسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((سَوُّوا صُفوفَكم؛ فإنَّ تسوية الصُّفوف من إقامة الصلاة)) - وفي روايةٍ -: ((من تَمام الصَّلاة))[14]، وهذه التَّسوية تتحقَّق بِمُراعاة هذه الأمور:
(1) المُحاذاة: بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد، وهذه المُحاذاة تكون بالمَناكب (الأكتاف)، وبالأَكْعُب، وأمَّا المحاذاة بأطراف أصابع الأرجُل، فهو خطأ؛ لأنَّ أقدام الناس تختلف طولاً وقِصَرًا.

(2) التَّراص: بحيث لا يكون فُرجات وخلَلٌ بين الصُّفوف، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أقيموا الصُّفوف، وحاذُوا بين المناكب، وسدُّوا الخلل، وَلِينُوا بأيدي إخوانكم، ولا تذَروا فرجاتٍ للشيطان، ومَن وصَلَ صفًّا وصَلَه الله، ومن قطعَ صفًّا قطعه الله))[15].

وعن أنسٍ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((رصُّوا صُفوفَكم، وقارِبوا بينها، وحَاذوا بالأعناق؛ فوالَّذي نفسي بيده، إنِّي لأَرَى الشَّيطان يَدْخل من خلل الصَّف كأنَّها الحذف))[16].

قال الخطابي: ((رصُّوا صفوفكم)) معناه: ضمُّوا بعضها إلى بعض، و"الحذف": غنم سودٌ صغار.

وصفة الرَّص: ما ثبت في روايتَيْ حديث أنسٍ والنُّعمان السابقتين، وفيهما: وكان أحَدُنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمَه بقدمه[17].

تنبيه: لا يَعْني ما سبق: "التَّزاحُم" الذي قد يُذْهِب الخشوع.

قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "وليس المراد بالتراصِّ التزاحم"[18]؛ فعلى المسلم أن يلين لأخيه؛ بأن يَصِلَ الصفَّ ويسدَّ الخلل، ولا يدفعه بِمنكبه؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خِيارُكم ألْيَنُكم مناكِبَ في الصلاة))[19].

(3) تقارب الصفوف: وقد تقدَّم في حديث أنسٍ قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((رصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها)).

(4) إتمام الصُّفوف: بحيث لا يشرع في صفٍّ حتَّى يتِمَّ الذي قبله؛ فعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أتِمُّوا الصفَّ المقدَّم، ثم الذي يليه، فما كان مِن نقصٍ، فلْيَكن في الصفِّ المؤخَّر))[20].

وقد ورد الحثُّ على ذلك؛ فعن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألاَ تَصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربِّها - عزَّ وجلَّ؟))، قلنا: وكيف تصفُّ الملائكة عند ربِّها؟ قال: ((يتمُّون الصُّفوف المقدَّمة، ويتَراصُّون في الصَّف))[21].

(5) أن تُقدَّم صفوف الرِّجال وتؤخَّر صفوف النِّساء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك.

وهل تؤخَّر صفوف الصِّبيان بحيث تَلِي صفوف الرِّجال؟ يَرى بعضُ العُلماء أنَّ ذلك من تسوية الصُّفوف؛ لِمَا ثبتَ في "سنن أبي داود" عن أبي مالكٍ الأشعريِّ - رضي الله عنه - قال: "ألاَ أُحدِّثكم بصلاة النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: فأقام الصَّلاة، وصفَّ الرِّجال، وصفَّ خلفهم الغلمان، ثم صلَّى بهم..." إلخ[22]، ولكنه حديث ضعيف؛ فإنَّه من رواية شَهْر بن حَوْشب؛ ولذلك رجَّح الشيخ ابن عثيمين والشيخُ الألباني - رحمهما الله - وقوفَ الغلمان مع الرِّجال[23]، وقد أوردَ الشيخ ابن عثيمين بعض المحاذير من جعْلِهم صفوفًا منفرِدةً بِما يُحْدِثون من تشويش، ومن كراهيتهم للمَسْجد، وكراهيتهم لمن أخَّرَهم.

قلتُ: يُمكِن أن يستدلَّ على وقوفهم في الصُّفوف بحديث ابن عبَّاس قال: "أقبلتُ راكبًا على أتان، وأنا يومئذٍ قد ناهَزْتُ الاحتلام، ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلِّي بالناس بِمِنًى إلى غير جدار، فمررتُ بين يدَيْ بعض الصف، فنَزلتُ وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصَّف، فلم يُنكِر ذلك عليَّ أحد"[24].

لكن يُراعَى ألاَّ يكونوا خلف الإمام مباشرة؛ للحديث الآتي:
(6) أن يلي الإمامَ أُولو الأحلام والنُّهى: وذلك لحديث أبي مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لِيَلِيني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يَلُونهم، ولا تختلفوا فتختَلِفَ قلوبكم، وإيَّاكم وهَيْشَات الأسواق))[25].

"وأولو الأحلام": البالغون المَوْصفون بالحِلْم، العُقَلاء؛ لشرفهم ومزيد تفَطُّنِهم وتيقُّظهم، وضَبْطهم لصلاة الإمام، ولذا رجَّحتُ أنَّ الأطفال لا يكونون خلف الإمام، و"هيشات الأسواق": ما يكون فيه من الجَلَبة وارتفاع الأصوات.

(7) تفضيل مَيامن الصُّفوف عن شمائلها؛ لِمَا ثبت في الحديث: ((إنَّ الله وملائكته يُصَلُّون على ميامن الصُّفوف))[26].

قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: "ولا حرجَ أن يكون يمينُ الصفِّ أكثر - يعني من يساره - حرصًا على تحصيل الفَضْل".

(8) تُكْرَه أن تُصَفَّ صفوف الصَّلاة بين السواري إلاَّ لحاجة؛ لِما ثبت عن عبدالحميد بن محمود قال: صلَّيتُ مع أنس بن مالك يوم الجمعة، فدفعنا إلى السَّواري فتقدَّمنا وتأخرنا، فقال أنس: "كُنَّا نتقي هذا على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[27].

وعن مُعاويةَ بنِ قُرَّة عن أبيه، قال: "كنا نُنْهَى عن الصَّلاة بين السواري، ونُطْرَد عنها طردًا"[28].

قال ابن العربي: "ولا خِلاف في جوازه عند الضيق، وأمَّا عند السَّعَة، فهو مَكْروه للجماعة"[29].

ملاحظات وتنبيهات:
(1) على الأئمَّة أن يُسوُّوا صفوفَ المُصلِّين؛ فعَن البَراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتخلَّل الصفَّ من ناحيةٍ إلى ناحية يَمْسح صُدورَنا ومناكبنا، ويقول: ((لا تَختلِفوا فتختلِفَ قُلوبكم))[30].

(2) إذا لَم تُسوَّ الصُّفوف، فهل تَبْطل الصَّلاة؟


قال الشيخ ابن عثيمين: "الْجَواب: فيه احتِمال، قد يُقال: إنَّها تبطل؛ لأنَّهم ترَكوا الواجب، ولكن احتِمال عدم البُطْلان مع الإثم أقوى"[31].

قال الحافظُ: "ومع القَوْل بأنَّ التَّسوية واجبة، فصَلاة مَن خالف ولَم يُسوِّ صحيحةٌ"[32]، ثم استدلَّ على ذلك بحديث أنسٍ - رضي الله عنه - حين قدم المدينة قيل له: ما أنكرت منَّا منذُ يوم عهدت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -؟ قال: "ما أنكرت شيئًا إلاَّ أنَّكم لا تقيمون الصُّفوف"[33]، ومع هذا الإنكار؛ فإنَّ أنسًا - رضي الله عنه - لَم يأمرهم بالإعادة.

(3) من الأخطاء الشَّائعة - خاصَّة في المساجد الكبيرة - أن يتَكاسل بعضُ النَّاس عن إتْمام الصُّفوف؛ لطول المَسافة التي سيَقْطعها إلى الصَّف، فتراه يُنشئ صفًّا جديدًا خلف الإمام، وهذا مُخالف لِهَدْي النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.

(4) ومِن الأخطاء كذلك أن يَقوم خادِمُ المسجد ومعه رجلٌ أو رَجُلان بإنشاء صفٍّ وحْدَهما، ولكن هل تصِحُّ صلاتُهم؟

الجواب: نعم؛ لأنَّ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يبطل إلاَّ صلاة المنفرد، وهذا غيرُ منفرد، لكنَّهم خالفوا السُّنة.

(5) نَرى في بعض المساجد وضْعَ كراسيَّ في آخِر المسجد يصلِّي عليها المَرْضى، وهذه فيها مُخالَفات:
منها: حِرْمانهم من ثواب الصُّفوف المقدَّمة.

ومنها: عدم وَصْلِهم للصُّفوف.

ومنها: بُعْدهم عن الإمام.

وهل تصحُّ صلاتهم؟
الجواب: نعَم؛ بشرط ألاَّ يكون أحَدُهم منفردًا.


(6) من الأخطاء وقوفُ بعض الأئمَّة قبل تكبيرة الإحرام للدُّعاء وتأمين مَن خلفه؛ إذْ لَم يثبت دليلٌ من السُّنة على هذا.

(7) اشتهَر على ألسنة الأئمَّة قولُهم: "إنَّ الله لا يَنْظر إلى الصفِّ الأعوج"، وهذا لا أصل له، والصحيح أن يقول ما كان يقولُه النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند تسوية الصُّفوف[34].

(8) وكذلك من الأخطاء وعْظُ الإمام قبل تكبيرة الإحرام؛ كقول الإمام: "صَلِّ صلاة مُودِّع"[35]، ورُبَّما قرأ قولَه تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 2]، ثم هو قد يكتفي بهذه المواعظ التي لا أصل لها في هذا الموطن، ولا ينظر إلى الصُّفوف: هل هي مستويةٌ أم لا؟

(9) من الأخطاء هروَلةُ بعض المَسْبوقين إذا وجَدوا الإمام راكعًا لإدراك الرَّكعة، وبعضهم يتنحنَح أو يُردِّد كلماتٍ أو آيات؛ لتنبيه الإمام إلى إطالة الرُّكن؛ لكي يدركوه، وهذا كلُّه مُخالف للشرع، وعليه أن يأتي بالسَّكينة والوقار، ثم يتمَّ ما فاته من الصلاة.

(10) ومن الأخطاء أنَّ المسبوق إذا رأى الإمام ساجدًا أو جالسًا، لا يدخل الصَّلاة معه حتَّى يقف الإمام، وأمَّا إذا كان الإمام في التشهُّد الأخير، انتَظَروه حتَّى يُسلِّم ليقيموا جماعةً أخرى.

والصَّوَاب: أنه متى دخلَ المُصلِّي المسجدَ انتظم مع إمامه؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا جئتُم إلى الصَّلاة ونحن سُجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا، ومَن أدرك ركعةً فقد أدركَ الصَّلاة))[36].

(11) إذا أدرك الإمامَ راكعًا، احتسبَ هذه الرَّكعة، وهذا قول المَذاهب الأربعة، وقد ثبَتَ في ذلك بعضُ الأحاديث المُصرِّحة بذلك، وفي أسانيدها مَقال، لكنَّه يُقوِّيها بعضُ الآثار عن الصحابة، منها عن ابن عُمَر - رضي الله عنهما -: "من أدرك الإمام راكعًا، فركعَ قبل أن يرفع الإمامُ رأسه، فقد أدرك تلك الرَّكعة"[37].

وثبتَ نحوُ هذا عن أبي بكر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن الزُّبير[38].

(12) من الألفاظ الواردة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لتسوية الصُّفوف:
((سَوُّوا صفوفكم؛ فإنَّ تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)).

((أقيموا صُفوفكم)) ثلاثًا.

((لا تختلفوا فتختَلِف قلوبُكم)).

((أقيموا صفوفكم، وحاذوا بين المَناكب، وسُدُّوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذَرُوا فُرجاتٍ للشيطان، ومن وصَلَ صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله)).

((رُصُّوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق)).

((أتِمُّوا الصف المقدَّم، ثم الذي يليه، فما كان من نقصٍ، فلْيَكن في الصف المؤخَّر)).

وقد تقدَّم تخريجُ كلِّ هذه الأحاديث في الصفحات السابقة، وهي كلُّها صحيحة.

(13) لا تصِحُّ صلاة المأموم أمامَ الإمام، إلاَّ إذا كانت ضرورة.

وهذا ما رجَّحَه شيخ الإسلام ابن تيميَّة[39].

(14) من الأخطاء الشائعة كذلك وقوفُ بعض عوامِّ النَّاس أو وقوف الصِّبيان خلف الإمام، وابتعاد أولي الأحلام والنُّهى عن هذا الموطن.




[1] البخاري (628)، ومسلم (674)، وأبو داود (589)، والترمذي (205)، وابن ماجه (979).

[2] "فتح الباري" (2/ 190).

[3] رواه عبدالرزاق (2/ 406 - 3870) بسند صحيح.

[4] رواه مالك في "الموطأ" (1/ 154)، والبيهقي (3/ 96)، وإسناده صحيح.

[5] البخاري (727)، ومسلم (658)، وأبو داود (612)، والترمذي (234)، والنسائي (2/ 85).

[6] مسلم (3010)، وأبو داود (634)، والبيهقي (2/ 239).

[7] صحيح: رواه أبو داود (613)، والنسائي (2/ 84).

[8] انظر "المَجْموع" (4/ 277).

[9] "المغني" (2/ 216).

[10] صحيح: [تقدم تخريجه].

[11] "فتح الباري" (2/ 212).

[12] "المجموع" (4/ 252).

[13] البخاري (717)، ومسلم (436)، وأبو داود (662)، والترمذي (227)، والنسائي (2/ 89)، وابن ماجه (994).

[14] البخاري (723)، (724)، ومسلم (433)، وأبو داود (668)، وابن ماجه (993).

[15] صحيح: أبو داود (666)، والنسائي مختصرًا (2/ 93).

[16] حسن: أبو داود (667)، والنسائي (2/ 92)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3505).

[17] انظر "صحيح البخاري" (725)، و"سنن أبي داود" (662).

[18] "الشرح الممتع" (3/ 14).

[19] صحيح: رواه أبو داود (672)، والبيهقي (3/ 101).

[20] صحيح: رواه أبو داود (671)، والنسائي (2/ 93).

[21] مسلم (430)، وأبو داود (661)، والنسائي (2/ 92)، وابن ماجه (992).

[22] أبو داود (677)، والطبراني في "الكبير" (3/ 281)، والبيهقي (3/ 97).

[23] "الشرح الممتع" (3/ 20 - 22)، و"تمام المنَّة في التعليق على فقه السُّنة" (ص284).

[24] البخاري (76)، (493)، ومسلم (504)، وأبو داود (715)، والترمذي (337)، والنسائي (2/ 64)، وابن ماجه (947).

[25] مسلم (432)، وأبو داود (674)، والترمذي (228)، وابن ماجه (976).

[26] رواه أبو داود (676)، وابن ماجه (1005)، وابن حبان (2160)، وحسنه الحافظ في الفتح، لكن المحفوظ بهذا الإسناد بلفظ: ((إن الله وملائكته يصلُّون على الذين يَصِلُون الصفوف)).
قُلْتُ: وثبَتَ عن البَراء قال: كُنَّا إذا صلَّيْنا خلف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحبَبْنا أن نكون عن يَمينه؛ رواه أبو داود (615)، والنَّسائي (2/ 94)، وصحَّحه الحافظ في "الفَتْح" وابنُ ماجه (1006).

[27] صحيح: أبو داود (673)، والترمذي (229)، والنسائي (2/ 94).

[28] حسن: ابن ماجه (1002)، وابن خزيمة (1567)، وابن حبان (2219).

[29] انظر "نيل الأوطار" (3/ 336).

[30] صحيح: رواه أبو داود (664)، والنسائي (2/ 89)، وابن ماجه (997).

[31] "الشرح الممتع" (3/ 12).

[32] "فتح الباري" (2/ 210).

[33] البخاري (724)، وأحمد (3/ 112).

[34] انظر الملاحظة رقم (12) الآتية.

[35] الطبراني في الأوسط (4/ 358)، وأحمد (5/ 412)، وصححه الألباني في "الصحيحة" (1914)، لكن لم يكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعظ الناس به عند إقامة الصلاة.

[36] رواه أبو داود (893)، وله شواهد، انظر "إرواء الغليل" للألباني (496).

[37] رواه ابن أبي شيبة (1/ 243)، والبيهقي (2/ 90)، وسنده صحيح.

[38] انظر "إرواء الغليل" (2/ 264).

[39] "مجموع الفتاوى" (23/ 404).




كتبت : ~ عبير الزهور ~
-


صلاة المنفرد خلف الصف:


لا يجوز للمأموم أن يُصلِّي خلف الصَّف منفردًا؛ لِما ثبت في الحديث أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا صلاةَ لِمُنفرد خلف الصَّف))[1].
وعن وابِصَة - رضي الله عنه - "أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى رجلاً يُصلِّي خلف الصَّف وحده، فأمَرَه أن يُعيد الصلاة"[2].
وقد اختلَفَ أهل العلم في صِحَّة صلاة المُنفَرِد خلف الصَّف، والرَّاجح بُطْلانها إلاَّ لِعُذر، كأَنْ يأتي المُصلِّي فيجد الصَّف قد تم، ولا يجد فُرْجة في الصف، فيجوز له حينئذٍ الصلاة منفردًا؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
وهذا ما رجَّحَه ابن تيميَّة، والشيخ عبدالرحمن السعديُّ، وابنُ عثيمين[3].
تنبيهات:
(1) لا يَجوز جذْبُ أحد المُصلِّين من الصُّفوف المتقدِّمة؛ لِيُنشئ به صفًّا جديدًا، والحديث الوارد في جواز ذلك ضعيف، وأيضًا ففي جذبه مُخالَفات:
منها: التَّشويش على مَن يجذبه، وعلى المُصلِّين.
ومنها: قَطْع الصف، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن قطَعَ صفًّا قطعَه الله))[4].
ومنها: وقوع الظُّلم على من يجذبه؛ لأنَّه نقله من المكان الفاضل إلى المَفْضول.
(2) قال ابن تيميَّة: "لو حضر اثنانِ أثناء الصَّلاة وفي الصَّف فُرْجة، فأيهما أفضل: وقوفُهما جميعًا، أو سَدُّ أحدهما الفُرجةَ وينفرد الآخَر؟ رجَّح أبو العبَّاس الاصطفافَ مع بقاء الفُرجة؛ لأنَّ سدَّ الفرجة مستحَب، والاصطفاف واجب"[5].
(3) لا يُؤمَر المنفرد بأن يصلِّي بجوار الإمام، ما دامَت الصُّفوف لم تنته خلفه؛ لأنَّه بذلك مُخالِفٌ للسُّنة، لكن إذا تَمَّت الصفوف كلُّها، ولم يجد المأمومُ موضعًا إلاَّ بجوار الإمام، جاز.
(4) من دخل والإمام راكعٌ، جاز له الرُّكوع دون الصَّف، ثم يمشي حتَّى يدخل في الصف؛ وذلك لِما ثبت عن عطاءٍ أنه سمع ابن الزُّبير على المنبر يقول: "إذا دخل أحدُكم المسجد والناس ركوعٌ، فلْيَركع حتَّى يدخل، ثم يدب راكعًا حتَّى يدخل في الصف، فإنَّ ذلك السُّنة"[6]، قال عطاءٌ: وقد رأيتُه يَصْنع ذلك، قال ابن جُرَيج: وقد رأيت عطاء يصنع ذلك.
وثبتَ ذلك عن جَماعة من كِبار الصَّحابة؛ منهم ابن مسعود، وزيد بن ثابت، ووَجْه الدلالة من الحديث السابق قوله: "فإن ذلك السُّنة"، ولَم يُنكِر عليه أحَدٌ من الصَّحابة.
ولا يُنافي هذا حديث أبي بَكْرة أنَّه جاء ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - راكعٌ، فركع دون الصَّف، ثم مشى إلى الصف، فلما قضى النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلاته قال: ((أَيُّكم الذي ركعَ دون الصَّف، ثم مشى إلى الصفِّ؟))، فقال أبو بكرة: أنا، قال: ((زادك الله حرصًا ولا تعد))؛ متَّفَق عليه.
ووَجْه الجمع بين هذا الحديث وحديث ابن الزُّبير المتقدِّم: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنَّما نَهى أبا بَكْرة عن الإسراع، كما وردَ في بعض الرِّوايات أنه جاء يعدو، وفي روايةٍ: قد حفزَنِي النَّفس؛ لذلك قال الشافعيُّ - رحمه الله -: قوله: ((لا تَعد)) يُشبِه قولَه: ((لا تأتوا الصَّلاة تسعَوْن))[7].
موضع الإمام والمأموم:
أوَّلاً: إذا كان الإمام والمأموم في المسجد:
صحَّ اقتِداءُ المأموم به؛ سواءٌ رأى الإمام، أو رأى مَن وراءه، أو لَم يرَهُم، ولو كانت بينهم مَسافات، بِشَرط سماع التَّكبيرات من الإمام أو مِمَّن يُبلِّغ عنه[8]، ويشترط كذلك ألاَّ يكون منفردًا، والأَوْلَى أن يَصِل الصُّفوف؛ لِمَا تقدَّم من الأحاديث.
فأمَّا إذا كان المأمومُ خارِجَ المسجد، فيُشترَط مع الشَّرط السابقِ اتِّصالُ الصُّفوف، وذلك بِقُربِهم من المسجد، حتَّى لو كان ذلك في الطُّرقات والأزِقَّة والأسواق المُحيطة بالمسجد.
قال ابن تيميَّة: "ولا تُصَفُّ في الطُّرقات والحوانيت، مع خُلوِّ المسجد، ومَن فعل ذلك استحقَّ التأديب، ولمن جاء بعده تَخطِّيه، ويَدْخل لتكميل الصُّفوف المقدَّمة؛ فإنَّ هذا لا حُرمةَ له"[9].
وعلى هذا الشَّرط؛ فلا تصحُّ الصَّلاة بصلاة المذياع والتِّلفاز؛ لعدم اتِّصال الصُّفوف.
وكذلك لا تصحُّ الصَّلاة في البيوت المُجاوِرة للمسجد ولو كانوا يرَوْن الإمام ويَسْمعون صوته؛ لعدم تَحقُّق شرط اتِّصال الصفوف[10]، وأمَّا إذا اتَّصلت الصُّفوف إليهم، جاز.
قال ابن تيميَّة: "وأمَّا إذا صَفُّوا وبينهم وبين الصَّف الآخَر طريقٌ يَمْشى الناس فيه لم تَصِحَّ صلاتُهم في أظهَرِ قولَي العُلماء"[11].
قلتُ: هذا محمولٌ على عدَم الضَّرورة، وأما عند الضرورة فيجوز، كما يجوز التقدُّم على الإمام للضَّرورة.


ثانيًا: إذا كان الإمامُ أعلى من المأموم، أو العكس:


فهذه لَها حالات:
(1) أن يَكون الإمام بِمُفرده في مكانٍ مُرتفِع: فهذا لا يجوز إلاَّ أن يكون لِقَصد التَّعليم؛ لِمَا ثبتَ أنَّ حذيفة أَمَّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعودٍ بقميصه فجبَذَه، فلمَّا فرغ من صلاته، قال: ألَم تعلم أنَّهم كانوا ينهَوْن عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكَرْتُ حين مدَدْتَني[12].
و"الدكان": هو المكان المرتفع، ويعرف مثله الآن: "دكَّة".


وإنَّما يجوز ذلك للتعليم؛ لِما ثبت في "الصحيحَيْن" عن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - قال: لقد رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام عليه - يعني: المنبر - فكبَّر وكبَّرَ الناس وراءه، ثم ركعَ وهو على المنبر، ثم رفع، فنَزَل القهقَرى، حتَّى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتَّى فرغ من آخرِ صلاته، ثم أقبل على النَّاس فقال: ((أيُّها الناس، إنَّما فعلتُ هذا؛ لِتَأتَمُّوا بي، وَلِتَعَلَّمُوا صلاتي))[13].
(2) أن يكون مع الإمام مِن المأمومين مَنْ في مستواه، ويوجد بعضُهم أعلى منه؛ كأنْ يَكونوا في أدوارٍ أُخرى، فلا يكره.
قال الشيخ ابن عثيمين: "وقَيَّد بعض العلماء هذه المسألةَ بِما إذا كان الإمامُ غير منفردٍ بِمَكانه، فإن كان معه أحدٌ، فإنه لا يُكرَه... لأنَّ الإمام لم ينفرد بمكان، وهذا لا شكَّ أنه قولٌ وجيه"[14].
(3) إذا كان الإمام في مكانٍ أسفل من المَأْمومين، فلا كراهةَ في ذلك؛ إذْ لَم يأت نَصٌّ يَمْنع من ذلك.
قلتُ: وبناءً على ما تقدَّم فتصحُّ الصلاة في المساجد ذوات الأدوار المتعدِّدة إذا كان الإمامُ في أحد هذه الطَّوابق، ويَقْتدي به مَن معه في هذا الطابق، والأفضل أن يكون هو في الطابق الأسفل.
ويُشترط في الطوابق الأخرى ألاَّ يَصفُّوا فيها إلاَّ حيث امتلأ المسجد بالَّذين يصفُّون خلف الإمام.
ومن الأخطاء الشائعة في بعض المعاهد الَّتي في المساجد منْعُ الطُّلاب من حضور الجماعة في المسجد، وبعضهم يصلِّي في مكانه (المعهد) بتكبيرات الإمام، وبعضهم يُقيمون جماعةً أخرى في مكانهم، والصَّحيح الذي ينبغي اجتماعهم في المسجد، وإدراكُ الجماعة فيه.
ثالثًا: إذا كان بين الإمام والمأموم حائل:
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان لنا حصيرةٌ نبسطها بالنَّهار، ونحتجر بها باللَّيل، فصَلَّى فيها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات ليلة فسَمِع المسلمون قراءته، فصَلَّوا بصلاته..."؛ الحديث[15].
والحديث دليلٌ على أنَّ الحائل غيرُ مانعٍ من صِحَّة الصلاة.
قال أحمد في رجُلٍ يصلِّي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابُ المسجد مغلقة: "أرجو ألاَّ يكون به بأس"[16].
قلتُ: وشَرْطُه أن يَعْلم بانتقالات الإمام، سواء كان ذلك عن طريق مُكبِّرات الصوت، أو بتبليغِ مَن خلف الإمام، ولكن إذا انقطعَ ذلك عنهم بأن يَنْقطع التيَّار الكهربائيُّ مثلاً، ولم يمكن لأحد تبليغُهم، فإنه يجوز في هذه الحالة أن يَنْوي المأمومُ المفارقةَ، ويُتِمَّ صلاته لنفسه.



[1] صحيح: رواه أحمد (4/ 23)، وابن ماجه (1003).

[2] حسن: رواه أبو داود (682)، والترمذي (230)، وابن ماجه (1004).

[3] "مجموع الفتاوى" (23/ 396)، و"الفتاوى السعديَّة" (1/ 171)، و"الشرح الممتع" (4/ 382).

[4] حديث حسن.

[5] "الاختيارات الفقهية" (ص 133).

[6] رواه ابن خزيمة (1571)، والطبراني في "الأوسط" (7/ 115)، والحاكم (1/ 214)، وصحَّحه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر "الصحيحة" (229).

[7] رواه البيهقي في "السُّنن" (2/ 90).

[8] انظر "الشرح الممتع" (4/ 419 - 423).

[9] "مجموع الفتاوى" (23/ 410).

[10] انظر "الشرح الممتع" (4/ 419 - 423).

[11] "مجموع الفتاوى" (23/ 410).

[12] صحيح: رواه أبو داود (597)، والحاكم (1/ 210)، والبيهقي (3/ 108)، وصححه الألباني في "الإرواء" (2/ 331).

[13] البخاري (917)، ومسلم (544)، وأبو داود (1080)، والنسائي (2/ 57)، وأحمد (5/ 339).

[14] "الشرح الممتع" (4/ 426).

[15] رواه أحمد (6/ 61)، ورواه البخاري (6113)، ومسلم (781) من حديث زيد بن ثابت.

[16] انظر "المغني" (2/ 208).




كتبت : محبة رسول الهدى
-
بارك الله فيكى حبيبتى
وجعله الله فى ميزان حسناتك
كتبت : دكتورة سامية
-
أختي الغالية
ماشاء الله لا قوة إلا بالله لو أنــــي أوتيت كـــل بلاغة
وأفنيت بحر النطق في النظم والنثر
لما كنت بعد القول الامقصـــرةً
ومعترفةً بالعجز عن واجب الشــــــــــــكر
أمام تلكَ الروعة وذاكَ الرقي

نفعنا الله وإياكِ باذنه تعالى
وصلِ اللهُ على سيِّدِنا مُحمَّد وَعلى آلِهِ وصَحْبه وَسلّم
دمـتِ برعـاية الله وحفـظه
الصفحات 1 2 

التالي

سر الخشوع عند إقامة الصلاة

السابق

ملف كامل شامل عن صلاة الجمعة والخطبة

كلمات ذات علاقة
الجماعة , صلاة , فضل , وحكمها