(5)
في هذه الفقرة سأتحدث عن موقفٍ غريب وقصَّة حقيقيَّة وقعتْ معي، فلقد كنتُ قاعدًا في المسجد أتدارس مع بعض الإخوة مِن طلبة العلم كتابًا من كُتُب العلم، وأثناء استغراقنا في ذلك، رأيتُ رجلًا دخل المسجد، وصلَّى صلاة العصر التي تبدو أنَّها فاتَتْه، وبعد أنِ انتهى من صلاته، ورآنا قعودًا نتدارس أحاديث المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكنتُ ألحظه بعيني أثناء التفاته إلينا، وأقول في نفسي: عند هذا الرجل أمرٌ ما، خصوصًا وهو يرمقنا كثيرًا ببصره!
قام هذا الشخص من مكانه، واتَّجه إلينا وتحدَّث معي قائلًا: يا شيخ لدي سؤال، وأريد الجواب الشافي الكافي عنه؛ لأنَّ هنالك موضوعاً قد حيَّرني أنا وأختي، وأريد الجواب عنه لو سمحت!
فقلت له: استعن بالله وألق السؤال.
فقال لي: إنَّ أختي قد وضعتْ مالًا لها في بنكٍ رِبَوِيٍّ، وضعتْ فيه ما يقارب مائتي دولار في حسابها وجعلته في بند (حساب التوفير).
وبعد مدَّة من الزمن اتَّصل أحد موظفي البنك بها، وقال لها: إنَّك قد ربحتِ جائزة كبرى مقدارها: 150 ألف دولار، وطلب منها المجيء لاستِلامها، والاحتفال بهذه الجائزة الكبرى، والتي حازت عليها دون أن تشارك في مسابقة! بل كان هنالك سحبٌ من البنك على أرقام الحسابات، فكان مِن حظها الفوز بهذه الجائزة!
ومضى يقول لي: يا شيخ، ما رأيُك في استلام هذه الجائزة؟ وأرجو أن تجيبني جوابًا أنتَ متأكد منه؟!
في الحقيقة أثناء حديثِه معي، كنتُ أُفَكِّر في الطريقة التي سأجيبه بها؛ لأنَّ الموضوعَ واضحٌ بالنسبة لي، وخصوصًا حينما وضعتْ أختُه مالَها في حساب التوفير في البنك الربوي!
بعد ذلك استعنتُ بالله في جواب الرجل، وقلت له: والله يا أخي لأجيبنك جوابًا لربما يكون أثقل عليك وعلى أختك مِن حمل جبل (أُحُد)!
فاستغرب الرجل، وقال لي: مه يا شيخ، ألهذه الدرجة، وما جوابك؟!
فقلتُ له: هذا المالُ الذي فازتْ به أختُك مالٌ محرَّم وهو سُحت، لا يجوز انتفاعُها به مطلقًا، وقد وقعتْ أختُك في الحرام كذلك مذْ وضعتْ مالَها في الحساب الربوي!
في الحقيقة وأنا أتحدَّث للرجل بجوابي هذا، كنتُ ألحظ تفاعُلَه الحركي والنفسي مع جوابي، حيث رأيتُ حماليق عينيه تدور (استغرابًا)، ويبدو لي أنَّه وأخته يعيشان في وضع ماديٍّ عادي، فلم تكنْ أخه تَتَوَقَّع أن تفوزَ بمبلغٍ هائل كهذا بالنسبة لها، خصوصًا أنَّ الخبرَ كان بالنسبة لها شيئًا مفاجئًا، فلا هي بالتي شاركتْ بمسابقة، ولا ما يحزنون!
لكن الرجل قال لي – وهو شِبهُ مصدومٍ من الجواب -: يا شيخ، أأنتَ مُتأكِّد من جوابك؟
قلت له: نعم، ولكنِّي أرى أن تستلمَ أختُك المال؛ لكي لا يكون راجعًا للبنك وتصرفه في مصالح البر والإحسان، ولا تعتبر ذلك صدقة منها، فإنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، وأضيف إلى ذلك أن تسحبَ أختُك مالَها من البنك الربوي إلى بنكٍ إسلامي، فإن لَم يَتَيَسَّر لها ذلك، فعليها أن تضعَ مالَها في الحساب الجاري لا حساب التوفير!
ومع هذا كلِّه، فيبدو أنَّ الرجل مِن وقع الجواب الصادم له - والذي بالفعل صدق حدسي حينما قلتُ: إنَّه قد يكون أثقل عليه مِن حمل جبل أحد - فالرجل لم يكنْ يُفَكِّر معي، فقد كان يُفكِّر في أمر آخر، حيث باغتني بقوله: لو سمحتَ هل من الممكن أن تسأل شيخاً ثانياً لربما يكون له رأي آخر؛ لكي نتأكَّد؟!
ومضيتُ مع ذلك الرجل قُدُمًا، وقلتُ له: لا حرج، سأُحيلك على شيخٍ آخر من العلماء، وهو متَخَصِّص في مجال المُعاملات المالية لعلَّه يفيدك.
اتَّصَلْتُ على الشيخ وأنا جالس مع هذا الأخ، وبعض إخواني من طلبة العلم، وقلتُ له: يا فضيلة الشيخ، السؤال كذا وكذا، والرجل يجلس بجانبي، وهو يسمع جوابك، فما رأيُك في استلام أخته للمال، هل يجوز أو لا؟
فغضب الشيخ، وقال: قل لهذا الرجل: هذا المال حرام حرام حرام! وأنهيتُ المكالمة بعد شكره.
رأيتُ هذا الرجل بعدما سَمِع مني ومن ذلك العالِم تلك الإجابة؛ حيثُ قام مباشرة وهو يقول لي: شكرًا يا شيخ (أتعبتك معي)، ومضى خارجًا من المسجد، وشعرتُ أنَّه كذلك غير مُقتنع بكل ما جرى، ويبدو أنَّه كان يعيش أزمةً نفسيَّةً حادَّةً!
إنَّ ما أرمز إليه بعد سرد هذه القصَّة أنَّ كثيرًا من الناس يُحاولون الذهاب لعدد من أهل العلم وطلبته، لكي يعثروا على جوابٍ يناسب المقاس الذي يُفصِّلونه هم، ولربما يسأل السائل ويحاول الإجابة؛ لكي يستنطق الشيخ أو المفتي بنفس الإجابة التي يُريدها، وللناس في مثل هذه الأحابيل فنونٌ لا تخفى على ذي عينين مِمَّن قام لإفتاء الناس والإجابة عن أسئلتهم ومشكلاتهم.
إنَّ مَن يَقُوم بمِثْل هذه التصرُّفات، حتَّى لو سأل عددًا مِن أهل العلم، فسيكون قصارى جهده استصدار حكم، واستخراج تأشيرة جواز من ذلك الشيخ، أو حتَّى لو كان تحريمًا لأمر ما يَمر في نفسه ذلك لكي ينتفع به ويكون ذلك الجواب مصلحة له، وحينئذ قد ينقل عن المفتي ذلك الجواب ويقول: إنني لا أنقل عن شخص عاديٍّ، بل أنقل لكمْ عن العالِمِ الفُلاني، وإنني أتعبَّد الله بجوابه، وما كان - والله - يقصد ذلك، ولم يسأل لأجل إبراء الذمة، فيكون الدليل قائده، والبرهان رائده، بل يهمه أثناء سؤاله الرخصة في الأمر، والتساهل والتمييع بحجَّة (الدين يُسر)! فيسأل عالمًا أو عالمين أو ثلاثة، والمهم أن يحصل على فتوى تجيز له وتبيح ما يتغيَّاه ويقصده من ملابسة أمرٍ، قد يكون هو أول من يعلم أنَّ فيه شبهةً، ولربما يكون مُحرَّمًا لأنه سيستخدمه فيما لا يجوز، فيلجأ إلى مثل أولئك الشيوخ والعلماء؛ فيفتونه بما يرجحونه، حتى يعثر على بغيته أو مراده، أو أن يركب فتوى عالم من العلماء على فتوى آخر، ويحضر لنفسه المقاس الذي يريده من فتح كوَّة الإباحة على معاملته التي يريد، وبعد ذلك يقارفها باسم الدين والتديُّن، وهو يعلم في حقيقة الأمر أنَّه ما أخذ ذلك الأمر لأجل الله، بل لأجل هوى نفسه ومبتغاها!
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "إنَّ الحقَّ إذا لُبس بالباطل يكون فاعلُه قد أظهَرَ الباطلَ في صورةِ الحقِّ، وتكلَّم بلفظٍ له مَعنَيَان: معنى صحيح، ومعنى بَاطِل، فيتوهَّم السامعُ أنه أرادَ المعنى الصّحيح، ومُرادُه في الحقيقةِ هو المعنى الباطِل)([8]).