الشيخ محمد بن عبد الوهاب
مجتمع رجيم / بهم نقتدى
كتبت :
~ عبير الزهور ~
-
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
د - خالد سعد النجار
لا يعد الإمام «محمد بن عبد الوهاب» زعيم حركة إسلامية سلفية فحسب، وإنما يعد أحد رواد الإصلاح الديني، ومجدد نبع الإسلام الصافي، الذي كادت تكدر صفوه تلك البدع والأوهام التي شاعت بين كثير من الناس في العصر الحديث، والتي وصفها بعض العلماء بوثنية العصر الحديث.
النشأة
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي سنة “1115هـ) الموافق سنة “1703م) في بلدة العيينة في نجد، الواقعة شمال الرياض، في بيت علم وفضل ودين وقضاء، فأبوه قاض فقيه، وعالم كبير، من أسرة آل مشرف التي تنتهي بنسبها إلى بني تميم، وكذلك كانت أمه امرأة فاضلة ذات عقل ودين، ومن عشيرته الأقربين، وهكذا كانت ولادته، ونشأته في بيئة متدينة، تعنى بالعلم، وتخرج العلماء الذين يتوارثون العلم كابراً عن كابر.
فجده الشيخ سلمان بن علي هو رئيس علماء نجد، وأوسعهم علماً، وأشدهم تمسكاً بأهداب هذا الدين، حتى صار مرجعهم جميعاً، وله كتاب مشهور في المناسك، هو المعتمد في باب المناسك عن الحنابلة، وكذلك كان عمه إبراهيم بن سلمان عالماً جليلاً، وكذلك كان أخوه سليمان وخاله من علماء نجد، وكان ابن عمه عبد الرحمن بن إبراهيم من العلماء المعدودين، وهو بالتالي ورث أبناء وحفدته حب العلم، فكان أبناؤه الخمسة وكثير من حفدته من علماء شبه الجزيرة العربية.
ونشأ الشيخ في حجر أبيه عبد الوهاب في تلك البلدة في زمن إمارة عبدا لله بن محمد بن حمد بن مُعمَّر، وكان سباقاً في عقله وفي جسمه، حادّ المزاج، فقد استظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وبلغ الاحتلام قبل إتمام الإثنتي عشرة سنة، قال أبوه:رأيته أهلاً للصلاة بالجماعة، وزوجته في ذاك العام.
طلبه للعلم
درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، وكان في صغره، مكباً على كتب التفسير والحديث والعقائد، وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم - رحمهما الله -، ويكثر من مطالعتها،
ثم غادر البلاد قاصداً حج بيت الله الحرام، وبعد أدائه الفريضة أم المدينة المنورة، وقصد المسجد النبوي، وزار إمام المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته الأبرار المخلصين.
وكان فيما إذ ذاك من العلماء العاملين، الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف النجدي، كان رأساً في بلد المجمعة، فأخذ عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيراً من العلم، وأحبه الشيخ عبد الله، وكان به حفياً، وبذل جهداً كبيراً في تثقيفه وتعليمه، وكان من عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة توافق أفكاره ومبدئه مع تلميذه في عقيدة التوحيد، والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد باطلة، وأعمال زائفة.
واستفاد الشيخ من مصاحبته فوائد عظيمة، وأجازه الشيخ عبد الله بالحديث المشهور والمسلسل بالأولية (( الراحمون يرحمهم الرحمن)) من طريقين:
أحدهما: من طريق ابن مفلح عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وينتهي إلى الإمام أحمد.
والثاني: من طريق عبد الرحمن بن رجب عن العلامة ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام، وينتهي أيضاً إلى الإمام أحمد.
كما أجازه الشيخ بكل ما في ثبت الشيخ عبد الباقي الحنبلي شيخ مشايخ وقته، قراءة وعلماً وتعليماً، صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وصحيح مسلم وشرح الصحيحين، وسنن الترمذي والنسائي، وأبي داود، وابن ماجة ومؤلفات الدارمي، وبسنده المتصل إلى المؤلف، ومسند الإمام الشافعي، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، إلى غير ذلك مما ثبت في ثبت الشيخ عبد الباقي.
ثم وصل الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف حبل الشيخ محمد، بحبل المحدث الشيخ محمد حياة السندي، وعرَّفه به وبما هو عليه من عقيدة صافية، وبما تجيش به نفسه من مقت الأعمال الشائعة في كل مكان من البدع، والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة في طلب العلم، وسعياً إلى الاستزادة من السلاح الديني القوي، الذي يعينه على ما هو مصمم عليه من القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله.
وممن أخذ عنهم الشيخ أيضا وانتفع بمصاحبتهم الشيخ على أفندي الداغستاني، والشيخ إسماعيل العجلوني، والشيخ عبد اللطيف العفالقي الاحسائي، الشيخ محمد العفالقي الاحسائي.
وقد أجازه الشيخان الداغستاني والاحسائي بمثل ما أجازه الشيخ عبد الله إبراهيم بما في ثبت أبي المواهب، ثم توجه إلى نجد، ثم البصرة، قاصداً الشام، ليستزيد من العلوم النافعة.
فأقام مدة بالبصرة، ودرس العلم فيها على جماعة من العلماء، فمنهم الشيخ محمد المجموعي، وقرأ الكثير من النحو اللغة والحديث، كما كتب كثيراً في تلك الإقامة من المباحث النافعة والكتب القيمة، ونشر علمه النافع وآراءه القيمة حول موضوع البدع والخرافات، وإنزال التضرع والحاجات بسكان القبور من عظام نخرة، وأوصال ممزقة، وعزز كلامه بالآيات الساطعات، والبراهين الواضحات،
فقابلوه بالتكذيب والأذى، وأخرج من البلاد وقت الهجيرة وأنزلوا بعض الأذى بشيخه المجموعي، فقصد الزبير في وقت الصيف وشدة الرمضاء، وكان ماشياً على رجليه، وكاد يهلك من شدة الظمإ، فساق الله إليه رجلاً من بلد الزبير يسمى أبا حميدان، فرآه من أهل العلم والصلاح، فحلمه على حماره، حتى أوصله إلى بلد الزبير.
وتوجه إلى الشام راجلاً لينهل من مناهل العلماء، ويتغذى من الثقافات الدينية، مستزيداً.
غير أنه قلت نفقته، فقفل راجعاً، فأتى الإحساء، فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي، وقرأ عنده ما شاء الله أن يقرأ.
ثم توجه إلى حريملا، قرية من نجد، وذلك لأن والده الشيخ عبد الوهاب قد انتقل إليها، ولما آب الشيخ من رحلته الطويلة وراء العلم والتحصيل، لازم أباه، واشتغل عليه في علم التفسير والحديث وغيرهما،
وعكف على كتب الشيخين: الشيخ ابن تيمية، والعلامة ابن القيم - رحمهما الله -، فزادته تلك الكتب القيمة، علماً ونوراً وبصيرة، ونفخت فيه روح العزيمة.
ورأى الشيخ بثاقب نظره ما بنجد وما بالأقطار التي رحل إليها من العقائد الضالة، والعادات الفاسدة، فصمم على القيام بالدعوة.
حالة نجد الدينية قبل الدعوة
ذكرنا آنفا، أن الشيخ - رحمه الله - زار الحجاز والإحساء والبصرة والزبير ليروي ظمأه من مناهل العلوم الدينية ويتفهم أصول الدين وشرائعه القويمة، ويقف على أحوال أولئك الأقوام وعقائدهم وعلومهم، بعدما شاهد في نجد وطنه ما شاهد من المنكرات الأثيمة والشركيات القبيحة الذميمة القاتلة لمعني الإنسانية.
وكان أيام تحصيله يقرر لسامعيه ومخالطيه ما فهمه من الدين والتوحيد، ويبين قبائح ما تأتيه العامة وأشباه العامة من أدعياء العلم.
عندما كان في المدينة المنورة يسمع الاستغاثات برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاءه من دون الله، فكان مرجل غيظه ينفجر، فقال للشيخ محمد حياة السندي: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟ فأجابه على الفور: ( إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 139]
درس أحوال نجد وأهل البلدان التي زارها، ورأى ما هم فيه من بُعدٍ عن الدين، ولاسيما نجد، ماذا رأى؟..رأى نجداً كما يحدثنا المؤرخون السالفون لنجد، كابن بشر، وابن غنام، والآلوسي والمعاصرون كـ «حافظ وهبة» وغيره، مرتعاً للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافي مع أصول الدين الصحيحة.
فقد كان فيها كثير من القبور تنسب إلى بعض الصحابة، يحج الناس إليها ويطلبون منها حاجاتهم، ويستغيثون بها لدفع كروبهم، فقد كانوا في الجُبيلة، يؤمون قبر زيد بن الخطاب، ويتضرعون لديه، ويسألونه حاجاتهم، وكذلك في الدرعية، كان قبر لبعض الصحابة كما يزعمون، وأغرب من ذلك، توسلهم في بلد المنفوحة بفحل النخل، اعتقادهم أن من تؤمّه من العوانس تتزوج، فكانت من تقصد تقول: “يا فحل الفحول، أُريد زوجاً قبل الحول”، وفي الدرعية، كان غار يقصدونه، بزعم أنه كان ملجأً لإحدى بنات الأمير التي فرت هاربة من تعذيب بعض الطغاة، وفي شعب غبيرا، قبر “ضرار بن الأزور”، كانوا يأتون لديه من الشرك والمنكر ما لعل مثله، لا يتصور.
ورأى في الحجاز، من تقديس قبور الصحابة وأهل البيت والرسول - صلى الله عليه وسلم -، مالا يسوغ إلا مع رب الأرباب، كما رأى في البصرة والزبير، وسمع عن العراق والشام ومصر واليمن من الوثنية الجاهلية ما لا يستسيغه العقل، ولا يقره الشرع.
كما سمع عن العيدروس في «عدن» والزيلعي في اليمن الشيء الكثير.
رأى ما رأى، وسمع ما سمع، وتحقق، ووازن تلك الأفعال المنكرة بميزان الوحيين كتاب الله المبين وسيرة الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المتقين، فرآهم في بُعدٍ عن منهج الدين وروحه.
رآهم لم يعرفوا لماذا بعث الله الرسل؟
ولماذا بعث الله محمداً للناس كافة؟
ورأى أنهم لم يعرفوا حالة الجاهلية، وما كان فيها من الوثنية الممقوتة، رآهم غيروا وبدلوا أصول الدين وفروعه، إلا القليل، هذه حالتهم في دينهم وعبادتهم.
حالة نجد السياسية
أما حالتهم السياسية، فكما جاء في كتاب «جزيرة العرب في القرن العشرين»، رأى أنه ليس هناك قانون ولا شريعة إلا ما قضت به أهواء الأمراء وعمالهم، وكانت نجد متقسمة إلى ولايات عديدة، يحكم كل واحدة منها أمير، لا تربطه وجاره أية رابطة.
ومن أهم هؤلاء الأمراء بنو خالد في الإحساء، وآل معمر في العيينة، والأشراف في الحجاز، وعدا هؤلاء، أمراء لا يعبأ بذكرهم.
وقد كان أولئك الأقوام في حروب دائمة، لاسيما مع البادية، وكان الأمير على قدم الاستعداد، عندما تسنح الفرص، ليعتدي على جيرانه إذا بدا من هؤلاء الجيران ضعف أو عدم استعداد. انتهى.
هكذا كانت حالة بلاد العرب عند إياب الشيخ من رحلته العلمية.
بدء نهضة الشيخ في الإصلاح الديني
وبعد أن ثبت لديه وتحقق حالتهم السيئة في دينهم ودنياهم ورأى إقرار العلماء في الحجاز وفي نجد وسائر الأقطار، على تلك المنكرات والمبتدعات إلا القليل منهم ممن كان لا يتجاسر أن يبوح بمقت ما فعلوا، وأيقن أنهم قد أدخلوا في أصول الإسلام العليا ما يأباه القرآن، وما تأباه السنة المحكمة، وكان يقوي عقيدته بخطئهم وركونهم إلى البدع ما يقرؤه من الروايات القائلة بأن المسلمين لابد أن يغيروا، وأن يسلكوا مسالك الذين من قبلهم كالحديث الصحيح: (( لتتبعُن سنن من كان قبلكم))[1]، وكحديث: (( لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان))[2]، وحديث: (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ))[3]، حينئذ صمم الشيخ أن يعالن قومه بأنهم قد ضلوا الطريق السويّ، وزاغوا عن منهج الصواب.
يقول بعض الكتاب: حقاً إن الموقف دقيق حرج، يحتاج إلى شجاعة ماضية، وإلى إيمان لا يبالي بالأذى في سبيل إرضاء الله وإرضاء الحق الذي اقتنع به، وسبيل إنقاذ البشرية المعذبة، كما يحتاج إلى عدة كافية من قوة اللسان، وإصابة البرهان، ليواجه ما يجابهه من شبهات واعتراضات، لابد منها، ثم إلى مؤازر قوي يحمي ظهره، ويدافع عن دعوته.
دعوته لقومه
ابتدأ الشيخ - رحمه الله -، دعوته لقومه في بلدة “حريملا” وبين لهم أن لا يدعى إلا الله، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار، من الاستغاثة بها، وصرف النذور إليها، واعتقاد النفع والضر منها، ضلال وزور، وبأنهم في حالة لا ترضي، فلابد من نبذ ذلك.
وعزز كلامه بآي من كتاب الله المجيد وأقوال الرسول وأفعاله، وسيرة أصحابه، فوقع بينه وبين الناس نزاع وجدال، حتى مع والده العالم الجليل، لأنه كان مغتراً بأقاويل المقلدين السالكين تلك الأفعال المنكرة في قوالب حب الصالحين.
فاستمر الشيخ يجاهد بلسانه وقلمه وإرشاده، وتبعه أُناس من أهل تلك البلدة، حتى انتقل أبوه عبد الوهاب إلى رحمة الله سنة “1153هـ”.
والظاهر أن والده اقتنع بأقوال ابنه ومبادئه، كما اقتنع أخوه سليمان بعدما وقع بينه وبينه نزاع وردود.
وبعد وفاة والده، جاهر قومه بالدعوة والإنكار على عقائدهم الضالة، ودعا إلى متابعة الرسول في الأقوال والأفعال، وكان في تلك البلدة قبيلتان، وكل يدعي الزعامة، وليس هناك من يحكم الجميع، ويأخذ حق الضعيف، ويردع السفيه، وكان لإحدى القبيلتين، عبيد يأتون بكل منكر وفساد، ولا يحجمون عن التعدِّي على العباد، فصمم الشيخ على منعهم وردعهم، ولما أحسَّ أولئك الأرقاء بما صمم عليه الشيخ، عزموا أن يفتكوا به خفية، فتسوروا عليه من وراء الجدار، فشعر بهم بعض الناس، فصاحوا بهم وهربوا.
عندها غادر الشيخ “حريملا” إلى “العيينة” مسقط رأسه، وموطن آبائه، وحاكمها إذ ذاك عثمان بن حمد بن معمر، فتلقاه بكل إجلال وإكرام، وبين الشيخ له دعوته الإصلاحية المباركة، القائمة على دعائم الكتاب والسنة المطهرة وشرح له معني التوحيد، وأن أعمال الناس اليوم وعقائدهم منافية للتوحيد، وتلا عليه الآيات والأحاديث النبوية، ورجا له من الله إن قام بنصر «لا إله إلا الله» أن ينصره الله ويعلي كلمته، وتكون له السيادة والزعامة على نجد وغيرها، وله السعادة الأبدية إن شاء الله.
فقبل عثمان، ورحب بما قال الشيخ، فعالن الشيخ بالدعوة إلى الله، ولإفراد العبادة لله - تعالى -، والتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقطع الشيخ الأشجار المعظمة هناك، وهدم قبة زيد بن الخطاب، بمساعدة عثمان الأمير، وأقام الحد على امرأة اعترفت بالزنا مراراً، بعد ما تأكد من صحة عقلها وكمال حواسها.
فاشتهر أمر الشيخ، وذاع صيته في البلدان، فبلغ خبره “سليمان بن محمد بن عريعر” حاكم الإحساء وبني خالد، فبعث هذا الجاهل الظالم إلى عثمان بن معمر كتاباً جاء فيه: إن المطوع الذي عندك، قد فعل ما فعل، وقال ما قال، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله، قطعنا خراجك الذي عندنا في الإحساء.
فعظم على عثمان الأمر، وكبر عليه مخالفة ابن عريعر، وغاب عن ذهنه عظمة رب العالمين، وكانت النتيجة من جراء ذلك الكتاب وضعف إيمان ابن معمر أن أمر بإخراج الشيخ من بلده.
ولم يفد فيه وعظ الشيخ ونصحه، وأنه لابد للداعي والمصلح من أن يناله الأذى، ولابد أن تكون العاقبة للمتقين، فخرج الشيخ - رحمه الله - يمشي على رجليه موكلاً به فارس يمشي من خلفه، وليس مع الشيخ إلا المروحة في أشد وقت الحر من الصيف، فهم الفارس بقتل الشيخ، وكان بإيعاز من ابن معمر، فارتعدت يده وكفى الله شره.
وكان الشيخ في مشيه لا يفتر عن ذكر الله، ويردد قوله - تعالى -: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2-3] ونزل الشيخ بالدرعية وقت العصر سنة “1158هـ) ضيفاً على عبد الرحمن بن سويلم، وابن عمه أحمد بن سويلم، وخاف ابن سويلم على نفسه من الأمير محمد بن سعود، لأنه كان يعلم حالة الناس، وأنهم لا يقبلون ما أتى به هذا العالم الجليل، ويقابلون ذلك بالأذى، ولاسيما من بيده الأمر، ولكن الشيخ الممتلئ إيماناً وثقة بالله، سكن جأشه، وأفرغ عليه من العظات وملأه رجاءاً وعدةً بأنه لابد من أن يفرج الله وينصره نصراً مؤزراً.
فعلم به الخواص من أهل الدرعية، فزاروه خفية، فشرح لهم معاني التوحيد وما يدعو إليه، وكان للأمير أخوان مشاري وثنيان وزوجة كانت لبيبة عاقلة، فبين الأخوان بعدما نهلا من مناهل الشيخ لأخيهما الأمير، أن الشيخ محمداً نازل ضيفاً على ابن سويلم، وأن هذا الرجل غنيمة ساقه الله إليك، فاغتنم ما خصك الله به، ورغبوه في زيارة الشيخ، فامتثل وزار الشيخ.
فدعاه الشيخ إلى التوحيد، وأن التوحيد هو ما بعثت من أجله الرسل، وتلا عليه آيات من الذكر الحكيم، فيها البيان ببطلان عبادة غير الله ولفت نظره إلى ما عليه أهل نجد من الشرك والجهل والفرقة، والاختلاف وسفك الدماء، ونهب العباد.
وبالجملة بين له ضعف دينهم ودنياهم، وجهلهم بشرائع الإسلام، ورجاه أن يكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، ويكون له الملك والسيادة، ومن بعده في ذريته.
عند ذلك شرح الله صدر محمد بن سعود وأحبه، واقتنع بما دعاه إليه الشيخ، وبشر الأمير الشيخ بالنصرة وبالوقوف معه على من خالفه، وشرط الأمير على الشيخ شرطين:
«الأول»: أن لا يرجع الشيخ عنه إن نصرهم الله ومكنهم.
«والثاني»: أن لا يمنع الأمير من الخراج الذي ضربه على أهل الدرعية وقت الثمار.
فقال الشيخ: أما الأول: الدم بالدم، والهدم بالهدم.
وأما الثاني: فلعل الله يفتح عليك الفتوحات، وتنال من الغنائم ما يغنيك عن الخراج.
فبايع الأمير الشيخ على الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، والتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الشعائر الدينية.
وبعد استقراره في الدرعية، أتى إليه من كان ينتسب إليه، ومعتنقاً مبادئ دعوته، من رؤساء المعامرة وغيرهم، وأخذت الوفود تأتي من كل حدب لما علموا أن الشيخ في دار منعة، عند ذلك، سمع عثمان بن معمر الذي أخرج الشيخ من بلده أن محمد بن سعود - رحمه الله - قد بايع الشيخ، وأنه ناصره وأهل الدرعية له مؤيدون، ومعه قائمون ومجاهدون، فندم عثمان على ما سلف منه في حق الشيخ، فأتي إليه ومعه ثلة من الرجال من رؤساء البلاد وأعيانها، واعتذر، وطلب منه الرجوع.
فعلق الشيخ الأمر على رضاء الأمير محمد بن سعود، فرفض الأمير السماح ورجع عثمان خائباً، وشدت إلى الشيخ الرحال، وكثر الوافدون، ليرتووا من مناهله العذبة الصافية النقية من الخرافات والوثنية، وكانت الحالة الاقتصادية للأمير والبلاد، لا تقوي على القيام بمؤن أولئك الوافدين الطالبين، فكان بعضهم من شغفه وحبه للعلم يحترف بالليل بالأجرة، وفي النهار يحضر الدروس إلى أن وسع الله عليهم وأتي بالفرج واليسر، بعد الشدة والعسر.
وثابر الشيخ باذلاً جهده ووسعه في إرشاد الناس وتعليمهم، وبيان معني “لا إله إلا الله” وأنها نفي وإثبات، فـ “لا إله” تنفي جميع المعبودات، و(إلا الله” تثبت العبادة لله، وشرح لهم معني الألوهية بأن الإله: هو الذي تأله القلوب محبة وخوفاً وإجلالاً ورجاءاً، وعلمهم الأصول الثلاثة، وبفضل تعاليمه الرشيدة، تنورت أذهانهم، وصفت قلوبهم، وصحت عقائدهم، وزادت محبة الشيخ في قلوب الوافدين إليه.
ثم أخذ يراسل رؤساء البلدان النجدية وقضاتهم، ويطلب منهم الطاعة والانقياد، ونبذ الشرك والعناد، فمنهم من أطاعه، ومنهم من عصاه، واتخذه سخرياً، واستهزأ به، ونسبه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأمور منكرة، هو منها بريء، قاتل الله الجهل والتقليد الأعمى.
ولو كان لأولئك عقل، لعقلوا أن الجاهل لا يستطيع إقامة الأدلة الصحيحة على مطالبه... الجاهل لا يستطيع أن يبارز العلماء الأجلاء ببراهين عقلية وحجج سمعية، تقسر السامع على الخضوع... الساحر لا يأمر بخير، لا يأمر بمعروف، ولا ينهي عن منكر... ولكن لا عجب، فقد قيل سابقاً للمرسلين ولجميع المصلحين، مثل هذا الكلام.
واصل الشيخ ليله ونهاره، في نشر الدعوة والوعظ، وكتابة الرسائل العلمية مكتفياً بهذه الوسيلة السلمية، والأمير “محمد بن سعود” يؤازره حسب مقدرته، ولكن خصوم الدعوة كانوا يعملون على تأليف القلوب لمحاربة الدعوة بكل الوسائل، والاعتداء على الداخلين في الدعوة، فلم ير الشيخ محمد والأمير بداً من الاستعانة بالسيف بجانب الدعوة الدينية واستمرت الحروب الدينية سنين عديدة.
وكان النصر حليف ابن سعود في أغلب المواقف، وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى بيده، ودخل البعض في الطاعة بالاختيار والرغبة، لما عرف حقيقة الأمر.
وبعد فتح الرياض واتساع ملكهم وانقياد كل صعب لهم، فوض الشيخ أموال الناس وأموال الغنائم إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود الأمير، وتفرغ الشيخ للعلم وللعبادة وإلقاء الدروس، وكان محمد وابنه عبد العزيز لا يتصرفان في شيء إلا بعد أن يعلماه، ليعلمهما الحكم الشرعي، ولا ينفذان حكماً إلا عن أمره ورأيه.
وما زال الشيخ على هذه الحالة الحسنة والسيرة الطيبة الطاهرة حتى انتقل إلى جوار ربه في ذي القعدة سنة “1206هـ” - رحمه الله - وأسكنه فسيح الجنان.
موقف العثمانيون
توفي الإمام «محمد بن عبد الوهاب»، بعد أن قويت دعوته، وانتشرت بين القبائل، وظلت الدعوة بعد وفاة مؤسسها تنمو ويتسع نفوذها ويزداد أتباعها، وبلغ نفوذ الوهابيين أقصاه، وامتد سلطانهم من أقصى الجزيرة إلى أقصاها، وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يقترب منها، وأن الحجاز يوشك- في ظل هذه الدعوة الفتية- أن يخرج من قبضتها، وهو أمر في غاية الخطورة والحساسية بالنسبة للدولة العثمانية، فالحجاز يمثل السيادة الروحية على العالم الإسلامي كله؛ نظرًا لوجود الحرمين الشريفين فيه، وفقده يعني زوال تلك السلطة الروحية والسيادة والزعامة الدينية التي يتمتع بها الخلفاء العثمانيون.
فاستنجد العثمانيون بمحمد علي باشا- والي مصر- وطلبوا منه تجهيز جيش لمحاربة الوهابيين “على حد تعبيرهم”، وصار القتال بين الجنود المصرية والتركية ومن معهم وبين آل سعود في نجد، والحجاز، سجالا مدة طويلة من عام “1226 هـ إلى عام 1233هـ” سبع سنين كلها قتال ونضال بين قوى الحق وقوى الباطل.
حروب الإمام محمد بن سعود
كانت أولى المعارك التي خاضتها الدولة السعودية الأولى هي معارك الرياض التي بدأت عندما أخذ دهام بن دواس، أمير الرياض، ومعه كثير من مؤيديه ومن سكان القرى المجاورة يهاجمون القرى المؤيدة للإمام محمد، فبدأت الحروب بين الدولة السعودية الأولى، ومعارضيها في الجزيرة العربية.
ووفقا لكتاب "البعثة إلى نجد" لمؤلفه هاري سانت جون فليبي فإن الحرب استمرت مع أمير الرياض قرابة 20 سنة، وعلى الرغم من التعاهد على وقف الحرب إلا أنه كثير ما كان ينقض العهد، ويتم إعلان الحروب مرة أخرى.
وخلال تلك الحروب بين أمير الدرعية وأمير الرياض، كانت الدولة السعودية الأولى تواصل انتصاراتها في كثير من القرى والبلدان المجاورة للدرعية مثل: العيينة وحريملاء، وثادق، وبعض من مقاطعات سدير والوشم.
أما ثاني أكبر المعارك التي شهدتها الدولة السعودية فكانت مع عريعر بن دجين شيخ قبائل بني خالد وأمير الإحساء الذي خوفه ما أحرزته الدولة السعودية الأولى من انتصارات، ومن إقبال الناس على الانضواء تحت لوائها، فجمع جموعاً كبيرة وسار بها حتى وصل بلدة الجبيلة على مقربة من الدرعية، ولما هاجمت قواته البلدة تصدت لها القوات السعودية، مجبرة إياها على التراجع والعودة من حيث قدمت دون تحقق غايتها.
وفاة الإمام محمد بن سعود
توفي الإمام محمد بن سعود سنة 1179هـ، بعد أن شاهد قبل موته امتداد الدولة السعودية وانتشار الدعوة الوهابية في الكثير من بلدان نجد ومقاطعتها، فيما كانت نهاية الدولة السعودية الأولي على يد محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا الذي قاد عدة حملات إلى وسط الجزيرة العربية استطاعت الوصول إلى الدرعية عاصمة الدولة وتدميرها.
الدولة السعودية الثانية
أثمر غياب السيطرة العثمانية عن المسرح السياسي في الجزيرة العربية وعدم رغبة الباب العالي بتعزيز مواقع الدولة على ساحل الخليج العربي، عن تهيأ الظروف لنشوء دولة سعودية ثانية على مساحة محدودة من أراضي إمارة الدرعية عاصمتها حيث لعب تركي بن عبد الله الدور الأكبر في إنشائها، ولكنها انتهت عام 1891 على يد محمد العبد الله الرشيد حاكم حائل.
الدولة السعودية الثالثة
خاض الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود منذ عام 1902 م معارك لتوحيد المملكة العربية السعودية التي نجح في الإعلان عن قيامها عام 1932 م، فكان أول ظهور لاسم السعودية.
وتبدأ قصة بن سعود من حريملاء، حيث دعا إلى توحيد المملكة العربية السعودية وذلك باستعادة الرياض أولا من آل رشيد أمراء حائل، وهي عاصمة آل سعود السابقة وكانت تسمى ذلك الوقت بـ العارض وذلك في اليوم الخامس من شهر شوال 1319 هـ الموافق 17 يناير 1902م، ثم بسط عبد العزيز نفوذه على نجد وملحقاتها "الإحساء وجبل شمر وعسير وتهامة" ثم الحجاز ليصبح عبد العزيز في الثامن من يناير 1926 ملكاَ للحجاز، وعرفت المملكة بعد ذلك باسم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها.
وصدر في 23 سبتمبر 1932م - 21 جمادي الثانية 1351 هـ المرسوم الملكي بتوحيد مقاطعات الدولة التي تحولت بمقتضى هذا المرسوم إلى "المملكة العربية السعودية" ليصبح هذا التاريخ فيما بعد اليوم الوطني للمملكة، ويصبح عبد العزيز آل سعود أول ملك عليها.
لقد كانت دعوة الشيخ وحركته كما وصفها الشيخ مناع القطان: “بدء يقظة كاملة في العالم الإسلامي، تعمل على سيادة مبادئ الإسلام الصحيحة، والقضاء على البدع وأوضاع الحياة الفاسدة، وتأسيس دولة إسلامية، وتكوين حكومة صالحة تحكم بمبادئ الإسلام، وتنفذ أحكامه، ونقيم حدوده”.
وكما قال الأستاذ أنور الجندي: “كانت حرباً على الاستبداد والجمود، والتقليد، في مختلف ميادين السياسة والاجتماع والدين”.
وكما قال الأستاذ علال الفاسي: “كانت ترمي إلى تطهير الدين من الخرافات، والعودة إلى روح السنة المطهرة، من أجل تربية الشخصية الإسلامية على المبادئ التي جاء بها الإسلام المتكفل بصلاح الأمة في دينها ودنياها”
تعليقات بعض الكتاب والمؤرخين على انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ببعض البلدان
يقول العقاد: “ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثا في الجزيرة العربية ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقة إلى مغربه، فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجاز، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأدرك المسلمون أن علة الهزائم التى تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وأنهم خلفاء أن يستردوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه” [4]
ويقول العقاد أيضا: “سرعان ما ظهرت دعوة ابن عبد الوهاب بجزيرة العرب حتى تردد صداها في البنغال سنة 1804م واتبعها طائفة الفرائضية بنصوصها الحرفية، فاعتبرت الهند دار حرب إلى أن تدين بحكم الشريعة، ثم تردد صدى الدعوة الوهابية بعد ذلك بزعامة السيد أحمد الباريلي في البنجاب، وأوجب على اتباعه حمل السلاح لمحاربة السيخين وتقدمهم في القتال حتى الموت” [5]
يقول « أرنولد » في كتابه «الدعوة إلى الإسلام»: “وفي القرن العشرين نشطت حركة الدعوة إلى الإسلام في البنغال نشاطا ملحوظا، وأرسلت طوائف كثيرة ينتمي أهلها إلى تأثير الحركة الوهابية الإصلاحية، دعاتهم يتنقلون في هذه المناطق، ويطهرون البلاد من بقايا العقائد الهندوكية بين الكفار” [6]
وظهر في اليمن الشيخ على الشوكاني المتوفي سنة “1250هـ”، ودعا بما يشبه دعوة الشيخ بن الوهاب وتقلد بابن تيمية وألف كتاب “نيل الأوطان” لشرح كتاب شيخ الإسلام “منتقى الأخبار” [7]
وفي العراق نجد أسرة “الألوسي” التي بذلت حياتها لتعميق التربية الإسلامية في العراق وقد كتبوا عن الشيخ ودعوته ونافحوا عنها. [8]
في الجزائر كان من أول من حمل راية الدعوة السلفية هو المؤرخ الجزائري “أبو رواس الناصري” الذي قدر له أن يجتمع بتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الحج، وذاكرهم في أمور إلى أن انتهى به الأمر بالاقتناع، وكان ذلك بحضور وفد حجيج كان يرأسه ولي عهد المغرب آنذاك. [9]
كذلك تأسست “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” الوجه السلفي بزعامة عبد الحميد بن باديس “1305-1359هـ” الذي أطلع على مبادئ الدعوة السلفية عندما ذهب للحج في مكة المكرمة، ودعا إلى إصلاح عقائد الجزائريين من البدع والخرافات، ودعا إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد الأعمى والجمود الفكري وذلك بالتعمق بدراسة القرآن الكريم والسنة النبوية. [10]
أما في السودان فيقول السير أرنولد: “وحول نهاية القرن الثامن عشر ظهر من بين جماعة الفلبي رجل معروف يدعى الشيخ عثمان دانفودو، عرف أنه مصلح ديني وداع ومحارب، وقد ذهب من السودان إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعاد من هناك مليئا بالحماس والغيرة من أجل الإصلاح والدعوة للإسلام، وتأثر بالوهابية الذين كانت قوتهم آخذة في النماء، فأنكر الصلاة على روح الميت، وتعظيم من مات من الأولياء، وأستنكر من بالغ في تمجيد محمد نفسه، وهاجم شرب الخمر وفساد الأخلاق اللتين كانتا منتشرتين” [11]
وفي مصر نجد الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا تبنيا مبادئ دعوة محمد بن عبد الوهاب، ودافعا عنها في مؤلفاتهم، وكذلك عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ مصر، وهو من أشد المتأثرين بدعوة بن عبد الوهاب، وكان يرى أن الأتراك قد ارتكبوا خطأ كبيرا عندما حاربوا دعوة الشيخ وأنصارها [12]
في المغرب تأثر بها “سيدي محمد بن عبد الله” الذي حارب الصوفية متأثر بكتب وأراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكذلك “مولاي سليمان” الذي قام ضد الزوايا ودعا إلى التوحيد. [13]
ومما سبق نلاحظ أن انتشار الدعوة السلفية الإصلاحية المباركة في العالم الإسلامي تنتشر بشدة وتقوم بالمجتمعات التى تصلها حركات إصلاحية هدفها نشر الإسلام وتطهيره من البدع والشوائب والخرافات وتصحيح أوضاع الحياة الفاسدة، ثم محاولة تأسيس دولة إسلامية وتكوين حكومة إسلامية صالحة.
علم الشيخ وصفاته
كان الشيخ - رحمه الله تعالى -علماً من الأعلام، ناصراً للسنة وقامعاً للبدعة، خبيراً مطلعاً، إماماً في التفسير والحديث والفقه وأصوله، وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفاً بأصول عقائد الإسلام وفروعها، كشافاً للمشكلات، حلالاً للمعضلات، فصيح اللسان، قوي الحجة، مقتدراً على إبراز الأدلة وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأبينها تلوح على محياه علامات الصلاح وحسن السير، وصفاء السريرة، يحب العباد ويغدق عليهم من كرمه ويصلهم ببره وإحسانه، ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة، قلما يفتر لسانه من ذكر الله.
وكان يعطي عطاء الواثق بربه، ويتحمل الدَّين الكثير لضيوفه ومن يسأله، وكان عليه أبهة العظمة، تنظره الناس بعين الإجلال والتعظيم مع كونه متصفاً بالتواضع واللين، مع الغني والفقير، والشريف والوضيع، وكان يخص طلبة العلم بالمحبة الشديدة، وينفق عليهم من ماله، ويرشدهم على حسب استعدادهم.
وكان يجلس كل يوم، عدة مجالس ليلقي دروسه في مختلف العلوم، من توحيد، وتفسير، وحديث، وفقه، وأُصول وسائر العلوم العربية، وكان عالماً بدقائق التفسير والحديث، وله الخبرة التامة في علله ورجاله، غير ملول ولا كسول من التقرير والتحرير، والتأليف والتدريس.
وكان صبوراً عاقلاً، حليماً، لا يستفزه الغضب إلا أن تنتهك حرمة الدين أو تهان شعائر المسلمين، فحينئذ يناضل بسيفه ولسانه، معظماً للعلماء، منوهاً بما لهم من الفضائل، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، غير صبور على البدع، ينكر على فاعليها بلين ورفق، متجنباً الشدة والغضب والعنف، إلا أن تدعو إليه الحاجة.
والخلاصة أن الشيخ - رحمه الله تعالى -كان ذا شخصية نادرة في قوتها، وصلابتها في إيمانها، وعملها فقد حمل الشيخ أعباء الدعوة بأثقالها أكثر من خمسين سنة، وواجه بها الأعاصير التي كانت تريد أن تعصف به وبها، وتقتلعهما من جذورهما، ولكنه صمد، ولم يطأطئ لتلك الأعاصير هامته، ولم يحن لها ظهراً، وبهذا وتلك، حق له أن يكون من أبرز رجال الإصلاح والفكر في العصر الحديث.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
د - خالد سعد النجار
لا يعد الإمام «محمد بن عبد الوهاب» زعيم حركة إسلامية سلفية فحسب، وإنما يعد أحد رواد الإصلاح الديني، ومجدد نبع الإسلام الصافي، الذي كادت تكدر صفوه تلك البدع والأوهام التي شاعت بين كثير من الناس في العصر الحديث، والتي وصفها بعض العلماء بوثنية العصر الحديث.
النشأة
ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي سنة “1115هـ) الموافق سنة “1703م) في بلدة العيينة في نجد، الواقعة شمال الرياض، في بيت علم وفضل ودين وقضاء، فأبوه قاض فقيه، وعالم كبير، من أسرة آل مشرف التي تنتهي بنسبها إلى بني تميم، وكذلك كانت أمه امرأة فاضلة ذات عقل ودين، ومن عشيرته الأقربين، وهكذا كانت ولادته، ونشأته في بيئة متدينة، تعنى بالعلم، وتخرج العلماء الذين يتوارثون العلم كابراً عن كابر.
فجده الشيخ سلمان بن علي هو رئيس علماء نجد، وأوسعهم علماً، وأشدهم تمسكاً بأهداب هذا الدين، حتى صار مرجعهم جميعاً، وله كتاب مشهور في المناسك، هو المعتمد في باب المناسك عن الحنابلة، وكذلك كان عمه إبراهيم بن سلمان عالماً جليلاً، وكذلك كان أخوه سليمان وخاله من علماء نجد، وكان ابن عمه عبد الرحمن بن إبراهيم من العلماء المعدودين، وهو بالتالي ورث أبناء وحفدته حب العلم، فكان أبناؤه الخمسة وكثير من حفدته من علماء شبه الجزيرة العربية.
ونشأ الشيخ في حجر أبيه عبد الوهاب في تلك البلدة في زمن إمارة عبدا لله بن محمد بن حمد بن مُعمَّر، وكان سباقاً في عقله وفي جسمه، حادّ المزاج، فقد استظهر القرآن قبل بلوغه العشر، وبلغ الاحتلام قبل إتمام الإثنتي عشرة سنة، قال أبوه:رأيته أهلاً للصلاة بالجماعة، وزوجته في ذاك العام.
طلبه للعلم
درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، وكان في صغره، مكباً على كتب التفسير والحديث والعقائد، وكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم - رحمهما الله -، ويكثر من مطالعتها،
ثم غادر البلاد قاصداً حج بيت الله الحرام، وبعد أدائه الفريضة أم المدينة المنورة، وقصد المسجد النبوي، وزار إمام المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وصحابته الأبرار المخلصين.
وكان فيما إذ ذاك من العلماء العاملين، الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف النجدي، كان رأساً في بلد المجمعة، فأخذ عنه الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيراً من العلم، وأحبه الشيخ عبد الله، وكان به حفياً، وبذل جهداً كبيراً في تثقيفه وتعليمه، وكان من عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة توافق أفكاره ومبدئه مع تلميذه في عقيدة التوحيد، والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد باطلة، وأعمال زائفة.
واستفاد الشيخ من مصاحبته فوائد عظيمة، وأجازه الشيخ عبد الله بالحديث المشهور والمسلسل بالأولية (( الراحمون يرحمهم الرحمن)) من طريقين:
أحدهما: من طريق ابن مفلح عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وينتهي إلى الإمام أحمد.
والثاني: من طريق عبد الرحمن بن رجب عن العلامة ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام، وينتهي أيضاً إلى الإمام أحمد.
كما أجازه الشيخ بكل ما في ثبت الشيخ عبد الباقي الحنبلي شيخ مشايخ وقته، قراءة وعلماً وتعليماً، صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وصحيح مسلم وشرح الصحيحين، وسنن الترمذي والنسائي، وأبي داود، وابن ماجة ومؤلفات الدارمي، وبسنده المتصل إلى المؤلف، ومسند الإمام الشافعي، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد، إلى غير ذلك مما ثبت في ثبت الشيخ عبد الباقي.
ثم وصل الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف حبل الشيخ محمد، بحبل المحدث الشيخ محمد حياة السندي، وعرَّفه به وبما هو عليه من عقيدة صافية، وبما تجيش به نفسه من مقت الأعمال الشائعة في كل مكان من البدع، والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة في طلب العلم، وسعياً إلى الاستزادة من السلاح الديني القوي، الذي يعينه على ما هو مصمم عليه من القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله.
وممن أخذ عنهم الشيخ أيضا وانتفع بمصاحبتهم الشيخ على أفندي الداغستاني، والشيخ إسماعيل العجلوني، والشيخ عبد اللطيف العفالقي الاحسائي، الشيخ محمد العفالقي الاحسائي.
وقد أجازه الشيخان الداغستاني والاحسائي بمثل ما أجازه الشيخ عبد الله إبراهيم بما في ثبت أبي المواهب، ثم توجه إلى نجد، ثم البصرة، قاصداً الشام، ليستزيد من العلوم النافعة.
فأقام مدة بالبصرة، ودرس العلم فيها على جماعة من العلماء، فمنهم الشيخ محمد المجموعي، وقرأ الكثير من النحو اللغة والحديث، كما كتب كثيراً في تلك الإقامة من المباحث النافعة والكتب القيمة، ونشر علمه النافع وآراءه القيمة حول موضوع البدع والخرافات، وإنزال التضرع والحاجات بسكان القبور من عظام نخرة، وأوصال ممزقة، وعزز كلامه بالآيات الساطعات، والبراهين الواضحات،
فقابلوه بالتكذيب والأذى، وأخرج من البلاد وقت الهجيرة وأنزلوا بعض الأذى بشيخه المجموعي، فقصد الزبير في وقت الصيف وشدة الرمضاء، وكان ماشياً على رجليه، وكاد يهلك من شدة الظمإ، فساق الله إليه رجلاً من بلد الزبير يسمى أبا حميدان، فرآه من أهل العلم والصلاح، فحلمه على حماره، حتى أوصله إلى بلد الزبير.
وتوجه إلى الشام راجلاً لينهل من مناهل العلماء، ويتغذى من الثقافات الدينية، مستزيداً.
غير أنه قلت نفقته، فقفل راجعاً، فأتى الإحساء، فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي، وقرأ عنده ما شاء الله أن يقرأ.
ثم توجه إلى حريملا، قرية من نجد، وذلك لأن والده الشيخ عبد الوهاب قد انتقل إليها، ولما آب الشيخ من رحلته الطويلة وراء العلم والتحصيل، لازم أباه، واشتغل عليه في علم التفسير والحديث وغيرهما،
وعكف على كتب الشيخين: الشيخ ابن تيمية، والعلامة ابن القيم - رحمهما الله -، فزادته تلك الكتب القيمة، علماً ونوراً وبصيرة، ونفخت فيه روح العزيمة.
ورأى الشيخ بثاقب نظره ما بنجد وما بالأقطار التي رحل إليها من العقائد الضالة، والعادات الفاسدة، فصمم على القيام بالدعوة.
حالة نجد الدينية قبل الدعوة
ذكرنا آنفا، أن الشيخ - رحمه الله - زار الحجاز والإحساء والبصرة والزبير ليروي ظمأه من مناهل العلوم الدينية ويتفهم أصول الدين وشرائعه القويمة، ويقف على أحوال أولئك الأقوام وعقائدهم وعلومهم، بعدما شاهد في نجد وطنه ما شاهد من المنكرات الأثيمة والشركيات القبيحة الذميمة القاتلة لمعني الإنسانية.
وكان أيام تحصيله يقرر لسامعيه ومخالطيه ما فهمه من الدين والتوحيد، ويبين قبائح ما تأتيه العامة وأشباه العامة من أدعياء العلم.
عندما كان في المدينة المنورة يسمع الاستغاثات برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاءه من دون الله، فكان مرجل غيظه ينفجر، فقال للشيخ محمد حياة السندي: ما تقول يا شيخ في هؤلاء؟ فأجابه على الفور: ( إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 139]
درس أحوال نجد وأهل البلدان التي زارها، ورأى ما هم فيه من بُعدٍ عن الدين، ولاسيما نجد، ماذا رأى؟..رأى نجداً كما يحدثنا المؤرخون السالفون لنجد، كابن بشر، وابن غنام، والآلوسي والمعاصرون كـ «حافظ وهبة» وغيره، مرتعاً للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافي مع أصول الدين الصحيحة.
فقد كان فيها كثير من القبور تنسب إلى بعض الصحابة، يحج الناس إليها ويطلبون منها حاجاتهم، ويستغيثون بها لدفع كروبهم، فقد كانوا في الجُبيلة، يؤمون قبر زيد بن الخطاب، ويتضرعون لديه، ويسألونه حاجاتهم، وكذلك في الدرعية، كان قبر لبعض الصحابة كما يزعمون، وأغرب من ذلك، توسلهم في بلد المنفوحة بفحل النخل، اعتقادهم أن من تؤمّه من العوانس تتزوج، فكانت من تقصد تقول: “يا فحل الفحول، أُريد زوجاً قبل الحول”، وفي الدرعية، كان غار يقصدونه، بزعم أنه كان ملجأً لإحدى بنات الأمير التي فرت هاربة من تعذيب بعض الطغاة، وفي شعب غبيرا، قبر “ضرار بن الأزور”، كانوا يأتون لديه من الشرك والمنكر ما لعل مثله، لا يتصور.
ورأى في الحجاز، من تقديس قبور الصحابة وأهل البيت والرسول - صلى الله عليه وسلم -، مالا يسوغ إلا مع رب الأرباب، كما رأى في البصرة والزبير، وسمع عن العراق والشام ومصر واليمن من الوثنية الجاهلية ما لا يستسيغه العقل، ولا يقره الشرع.
كما سمع عن العيدروس في «عدن» والزيلعي في اليمن الشيء الكثير.
رأى ما رأى، وسمع ما سمع، وتحقق، ووازن تلك الأفعال المنكرة بميزان الوحيين كتاب الله المبين وسيرة الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المتقين، فرآهم في بُعدٍ عن منهج الدين وروحه.
رآهم لم يعرفوا لماذا بعث الله الرسل؟
ولماذا بعث الله محمداً للناس كافة؟
ورأى أنهم لم يعرفوا حالة الجاهلية، وما كان فيها من الوثنية الممقوتة، رآهم غيروا وبدلوا أصول الدين وفروعه، إلا القليل، هذه حالتهم في دينهم وعبادتهم.
حالة نجد السياسية
أما حالتهم السياسية، فكما جاء في كتاب «جزيرة العرب في القرن العشرين»، رأى أنه ليس هناك قانون ولا شريعة إلا ما قضت به أهواء الأمراء وعمالهم، وكانت نجد متقسمة إلى ولايات عديدة، يحكم كل واحدة منها أمير، لا تربطه وجاره أية رابطة.
ومن أهم هؤلاء الأمراء بنو خالد في الإحساء، وآل معمر في العيينة، والأشراف في الحجاز، وعدا هؤلاء، أمراء لا يعبأ بذكرهم.
وقد كان أولئك الأقوام في حروب دائمة، لاسيما مع البادية، وكان الأمير على قدم الاستعداد، عندما تسنح الفرص، ليعتدي على جيرانه إذا بدا من هؤلاء الجيران ضعف أو عدم استعداد. انتهى.
هكذا كانت حالة بلاد العرب عند إياب الشيخ من رحلته العلمية.
بدء نهضة الشيخ في الإصلاح الديني
وبعد أن ثبت لديه وتحقق حالتهم السيئة في دينهم ودنياهم ورأى إقرار العلماء في الحجاز وفي نجد وسائر الأقطار، على تلك المنكرات والمبتدعات إلا القليل منهم ممن كان لا يتجاسر أن يبوح بمقت ما فعلوا، وأيقن أنهم قد أدخلوا في أصول الإسلام العليا ما يأباه القرآن، وما تأباه السنة المحكمة، وكان يقوي عقيدته بخطئهم وركونهم إلى البدع ما يقرؤه من الروايات القائلة بأن المسلمين لابد أن يغيروا، وأن يسلكوا مسالك الذين من قبلهم كالحديث الصحيح: (( لتتبعُن سنن من كان قبلكم))[1]، وكحديث: (( لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان))[2]، وحديث: (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ))[3]، حينئذ صمم الشيخ أن يعالن قومه بأنهم قد ضلوا الطريق السويّ، وزاغوا عن منهج الصواب.
يقول بعض الكتاب: حقاً إن الموقف دقيق حرج، يحتاج إلى شجاعة ماضية، وإلى إيمان لا يبالي بالأذى في سبيل إرضاء الله وإرضاء الحق الذي اقتنع به، وسبيل إنقاذ البشرية المعذبة، كما يحتاج إلى عدة كافية من قوة اللسان، وإصابة البرهان، ليواجه ما يجابهه من شبهات واعتراضات، لابد منها، ثم إلى مؤازر قوي يحمي ظهره، ويدافع عن دعوته.
دعوته لقومه
ابتدأ الشيخ - رحمه الله -، دعوته لقومه في بلدة “حريملا” وبين لهم أن لا يدعى إلا الله، ولا يذبح ولا ينذر إلا له، وأن عقيدتهم في تلك القبور والأحجار والأشجار، من الاستغاثة بها، وصرف النذور إليها، واعتقاد النفع والضر منها، ضلال وزور، وبأنهم في حالة لا ترضي، فلابد من نبذ ذلك.
وعزز كلامه بآي من كتاب الله المجيد وأقوال الرسول وأفعاله، وسيرة أصحابه، فوقع بينه وبين الناس نزاع وجدال، حتى مع والده العالم الجليل، لأنه كان مغتراً بأقاويل المقلدين السالكين تلك الأفعال المنكرة في قوالب حب الصالحين.
فاستمر الشيخ يجاهد بلسانه وقلمه وإرشاده، وتبعه أُناس من أهل تلك البلدة، حتى انتقل أبوه عبد الوهاب إلى رحمة الله سنة “1153هـ”.
والظاهر أن والده اقتنع بأقوال ابنه ومبادئه، كما اقتنع أخوه سليمان بعدما وقع بينه وبينه نزاع وردود.
وبعد وفاة والده، جاهر قومه بالدعوة والإنكار على عقائدهم الضالة، ودعا إلى متابعة الرسول في الأقوال والأفعال، وكان في تلك البلدة قبيلتان، وكل يدعي الزعامة، وليس هناك من يحكم الجميع، ويأخذ حق الضعيف، ويردع السفيه، وكان لإحدى القبيلتين، عبيد يأتون بكل منكر وفساد، ولا يحجمون عن التعدِّي على العباد، فصمم الشيخ على منعهم وردعهم، ولما أحسَّ أولئك الأرقاء بما صمم عليه الشيخ، عزموا أن يفتكوا به خفية، فتسوروا عليه من وراء الجدار، فشعر بهم بعض الناس، فصاحوا بهم وهربوا.
عندها غادر الشيخ “حريملا” إلى “العيينة” مسقط رأسه، وموطن آبائه، وحاكمها إذ ذاك عثمان بن حمد بن معمر، فتلقاه بكل إجلال وإكرام، وبين الشيخ له دعوته الإصلاحية المباركة، القائمة على دعائم الكتاب والسنة المطهرة وشرح له معني التوحيد، وأن أعمال الناس اليوم وعقائدهم منافية للتوحيد، وتلا عليه الآيات والأحاديث النبوية، ورجا له من الله إن قام بنصر «لا إله إلا الله» أن ينصره الله ويعلي كلمته، وتكون له السيادة والزعامة على نجد وغيرها، وله السعادة الأبدية إن شاء الله.
فقبل عثمان، ورحب بما قال الشيخ، فعالن الشيخ بالدعوة إلى الله، ولإفراد العبادة لله - تعالى -، والتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقطع الشيخ الأشجار المعظمة هناك، وهدم قبة زيد بن الخطاب، بمساعدة عثمان الأمير، وأقام الحد على امرأة اعترفت بالزنا مراراً، بعد ما تأكد من صحة عقلها وكمال حواسها.
فاشتهر أمر الشيخ، وذاع صيته في البلدان، فبلغ خبره “سليمان بن محمد بن عريعر” حاكم الإحساء وبني خالد، فبعث هذا الجاهل الظالم إلى عثمان بن معمر كتاباً جاء فيه: إن المطوع الذي عندك، قد فعل ما فعل، وقال ما قال، فإذا وصلك كتابي فاقتله، فإن لم تقتله، قطعنا خراجك الذي عندنا في الإحساء.
فعظم على عثمان الأمر، وكبر عليه مخالفة ابن عريعر، وغاب عن ذهنه عظمة رب العالمين، وكانت النتيجة من جراء ذلك الكتاب وضعف إيمان ابن معمر أن أمر بإخراج الشيخ من بلده.
ولم يفد فيه وعظ الشيخ ونصحه، وأنه لابد للداعي والمصلح من أن يناله الأذى، ولابد أن تكون العاقبة للمتقين، فخرج الشيخ - رحمه الله - يمشي على رجليه موكلاً به فارس يمشي من خلفه، وليس مع الشيخ إلا المروحة في أشد وقت الحر من الصيف، فهم الفارس بقتل الشيخ، وكان بإيعاز من ابن معمر، فارتعدت يده وكفى الله شره.
وكان الشيخ في مشيه لا يفتر عن ذكر الله، ويردد قوله - تعالى -: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2-3] ونزل الشيخ بالدرعية وقت العصر سنة “1158هـ) ضيفاً على عبد الرحمن بن سويلم، وابن عمه أحمد بن سويلم، وخاف ابن سويلم على نفسه من الأمير محمد بن سعود، لأنه كان يعلم حالة الناس، وأنهم لا يقبلون ما أتى به هذا العالم الجليل، ويقابلون ذلك بالأذى، ولاسيما من بيده الأمر، ولكن الشيخ الممتلئ إيماناً وثقة بالله، سكن جأشه، وأفرغ عليه من العظات وملأه رجاءاً وعدةً بأنه لابد من أن يفرج الله وينصره نصراً مؤزراً.
فعلم به الخواص من أهل الدرعية، فزاروه خفية، فشرح لهم معاني التوحيد وما يدعو إليه، وكان للأمير أخوان مشاري وثنيان وزوجة كانت لبيبة عاقلة، فبين الأخوان بعدما نهلا من مناهل الشيخ لأخيهما الأمير، أن الشيخ محمداً نازل ضيفاً على ابن سويلم، وأن هذا الرجل غنيمة ساقه الله إليك، فاغتنم ما خصك الله به، ورغبوه في زيارة الشيخ، فامتثل وزار الشيخ.
فدعاه الشيخ إلى التوحيد، وأن التوحيد هو ما بعثت من أجله الرسل، وتلا عليه آيات من الذكر الحكيم، فيها البيان ببطلان عبادة غير الله ولفت نظره إلى ما عليه أهل نجد من الشرك والجهل والفرقة، والاختلاف وسفك الدماء، ونهب العباد.
وبالجملة بين له ضعف دينهم ودنياهم، وجهلهم بشرائع الإسلام، ورجاه أن يكون إماماً يجتمع عليه المسلمون، ويكون له الملك والسيادة، ومن بعده في ذريته.
عند ذلك شرح الله صدر محمد بن سعود وأحبه، واقتنع بما دعاه إليه الشيخ، وبشر الأمير الشيخ بالنصرة وبالوقوف معه على من خالفه، وشرط الأمير على الشيخ شرطين:
«الأول»: أن لا يرجع الشيخ عنه إن نصرهم الله ومكنهم.
«والثاني»: أن لا يمنع الأمير من الخراج الذي ضربه على أهل الدرعية وقت الثمار.
فقال الشيخ: أما الأول: الدم بالدم، والهدم بالهدم.
وأما الثاني: فلعل الله يفتح عليك الفتوحات، وتنال من الغنائم ما يغنيك عن الخراج.
فبايع الأمير الشيخ على الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، والتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الشعائر الدينية.
وبعد استقراره في الدرعية، أتى إليه من كان ينتسب إليه، ومعتنقاً مبادئ دعوته، من رؤساء المعامرة وغيرهم، وأخذت الوفود تأتي من كل حدب لما علموا أن الشيخ في دار منعة، عند ذلك، سمع عثمان بن معمر الذي أخرج الشيخ من بلده أن محمد بن سعود - رحمه الله - قد بايع الشيخ، وأنه ناصره وأهل الدرعية له مؤيدون، ومعه قائمون ومجاهدون، فندم عثمان على ما سلف منه في حق الشيخ، فأتي إليه ومعه ثلة من الرجال من رؤساء البلاد وأعيانها، واعتذر، وطلب منه الرجوع.
فعلق الشيخ الأمر على رضاء الأمير محمد بن سعود، فرفض الأمير السماح ورجع عثمان خائباً، وشدت إلى الشيخ الرحال، وكثر الوافدون، ليرتووا من مناهله العذبة الصافية النقية من الخرافات والوثنية، وكانت الحالة الاقتصادية للأمير والبلاد، لا تقوي على القيام بمؤن أولئك الوافدين الطالبين، فكان بعضهم من شغفه وحبه للعلم يحترف بالليل بالأجرة، وفي النهار يحضر الدروس إلى أن وسع الله عليهم وأتي بالفرج واليسر، بعد الشدة والعسر.
وثابر الشيخ باذلاً جهده ووسعه في إرشاد الناس وتعليمهم، وبيان معني “لا إله إلا الله” وأنها نفي وإثبات، فـ “لا إله” تنفي جميع المعبودات، و(إلا الله” تثبت العبادة لله، وشرح لهم معني الألوهية بأن الإله: هو الذي تأله القلوب محبة وخوفاً وإجلالاً ورجاءاً، وعلمهم الأصول الثلاثة، وبفضل تعاليمه الرشيدة، تنورت أذهانهم، وصفت قلوبهم، وصحت عقائدهم، وزادت محبة الشيخ في قلوب الوافدين إليه.
ثم أخذ يراسل رؤساء البلدان النجدية وقضاتهم، ويطلب منهم الطاعة والانقياد، ونبذ الشرك والعناد، فمنهم من أطاعه، ومنهم من عصاه، واتخذه سخرياً، واستهزأ به، ونسبه إلى الجهل وعدم المعرفة، ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأمور منكرة، هو منها بريء، قاتل الله الجهل والتقليد الأعمى.
ولو كان لأولئك عقل، لعقلوا أن الجاهل لا يستطيع إقامة الأدلة الصحيحة على مطالبه... الجاهل لا يستطيع أن يبارز العلماء الأجلاء ببراهين عقلية وحجج سمعية، تقسر السامع على الخضوع... الساحر لا يأمر بخير، لا يأمر بمعروف، ولا ينهي عن منكر... ولكن لا عجب، فقد قيل سابقاً للمرسلين ولجميع المصلحين، مثل هذا الكلام.
واصل الشيخ ليله ونهاره، في نشر الدعوة والوعظ، وكتابة الرسائل العلمية مكتفياً بهذه الوسيلة السلمية، والأمير “محمد بن سعود” يؤازره حسب مقدرته، ولكن خصوم الدعوة كانوا يعملون على تأليف القلوب لمحاربة الدعوة بكل الوسائل، والاعتداء على الداخلين في الدعوة، فلم ير الشيخ محمد والأمير بداً من الاستعانة بالسيف بجانب الدعوة الدينية واستمرت الحروب الدينية سنين عديدة.
وكان النصر حليف ابن سعود في أغلب المواقف، وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى بيده، ودخل البعض في الطاعة بالاختيار والرغبة، لما عرف حقيقة الأمر.
وبعد فتح الرياض واتساع ملكهم وانقياد كل صعب لهم، فوض الشيخ أموال الناس وأموال الغنائم إلى عبد العزيز بن محمد بن سعود الأمير، وتفرغ الشيخ للعلم وللعبادة وإلقاء الدروس، وكان محمد وابنه عبد العزيز لا يتصرفان في شيء إلا بعد أن يعلماه، ليعلمهما الحكم الشرعي، ولا ينفذان حكماً إلا عن أمره ورأيه.
وما زال الشيخ على هذه الحالة الحسنة والسيرة الطيبة الطاهرة حتى انتقل إلى جوار ربه في ذي القعدة سنة “1206هـ” - رحمه الله - وأسكنه فسيح الجنان.
موقف العثمانيون
توفي الإمام «محمد بن عبد الوهاب»، بعد أن قويت دعوته، وانتشرت بين القبائل، وظلت الدعوة بعد وفاة مؤسسها تنمو ويتسع نفوذها ويزداد أتباعها، وبلغ نفوذ الوهابيين أقصاه، وامتد سلطانهم من أقصى الجزيرة إلى أقصاها، وشعرت الدولة العثمانية بالخطر يقترب منها، وأن الحجاز يوشك- في ظل هذه الدعوة الفتية- أن يخرج من قبضتها، وهو أمر في غاية الخطورة والحساسية بالنسبة للدولة العثمانية، فالحجاز يمثل السيادة الروحية على العالم الإسلامي كله؛ نظرًا لوجود الحرمين الشريفين فيه، وفقده يعني زوال تلك السلطة الروحية والسيادة والزعامة الدينية التي يتمتع بها الخلفاء العثمانيون.
فاستنجد العثمانيون بمحمد علي باشا- والي مصر- وطلبوا منه تجهيز جيش لمحاربة الوهابيين “على حد تعبيرهم”، وصار القتال بين الجنود المصرية والتركية ومن معهم وبين آل سعود في نجد، والحجاز، سجالا مدة طويلة من عام “1226 هـ إلى عام 1233هـ” سبع سنين كلها قتال ونضال بين قوى الحق وقوى الباطل.
حروب الإمام محمد بن سعود
كانت أولى المعارك التي خاضتها الدولة السعودية الأولى هي معارك الرياض التي بدأت عندما أخذ دهام بن دواس، أمير الرياض، ومعه كثير من مؤيديه ومن سكان القرى المجاورة يهاجمون القرى المؤيدة للإمام محمد، فبدأت الحروب بين الدولة السعودية الأولى، ومعارضيها في الجزيرة العربية.
ووفقا لكتاب "البعثة إلى نجد" لمؤلفه هاري سانت جون فليبي فإن الحرب استمرت مع أمير الرياض قرابة 20 سنة، وعلى الرغم من التعاهد على وقف الحرب إلا أنه كثير ما كان ينقض العهد، ويتم إعلان الحروب مرة أخرى.
وخلال تلك الحروب بين أمير الدرعية وأمير الرياض، كانت الدولة السعودية الأولى تواصل انتصاراتها في كثير من القرى والبلدان المجاورة للدرعية مثل: العيينة وحريملاء، وثادق، وبعض من مقاطعات سدير والوشم.
أما ثاني أكبر المعارك التي شهدتها الدولة السعودية فكانت مع عريعر بن دجين شيخ قبائل بني خالد وأمير الإحساء الذي خوفه ما أحرزته الدولة السعودية الأولى من انتصارات، ومن إقبال الناس على الانضواء تحت لوائها، فجمع جموعاً كبيرة وسار بها حتى وصل بلدة الجبيلة على مقربة من الدرعية، ولما هاجمت قواته البلدة تصدت لها القوات السعودية، مجبرة إياها على التراجع والعودة من حيث قدمت دون تحقق غايتها.
وفاة الإمام محمد بن سعود
توفي الإمام محمد بن سعود سنة 1179هـ، بعد أن شاهد قبل موته امتداد الدولة السعودية وانتشار الدعوة الوهابية في الكثير من بلدان نجد ومقاطعتها، فيما كانت نهاية الدولة السعودية الأولي على يد محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا الذي قاد عدة حملات إلى وسط الجزيرة العربية استطاعت الوصول إلى الدرعية عاصمة الدولة وتدميرها.
الدولة السعودية الثانية
أثمر غياب السيطرة العثمانية عن المسرح السياسي في الجزيرة العربية وعدم رغبة الباب العالي بتعزيز مواقع الدولة على ساحل الخليج العربي، عن تهيأ الظروف لنشوء دولة سعودية ثانية على مساحة محدودة من أراضي إمارة الدرعية عاصمتها حيث لعب تركي بن عبد الله الدور الأكبر في إنشائها، ولكنها انتهت عام 1891 على يد محمد العبد الله الرشيد حاكم حائل.
الدولة السعودية الثالثة
خاض الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود منذ عام 1902 م معارك لتوحيد المملكة العربية السعودية التي نجح في الإعلان عن قيامها عام 1932 م، فكان أول ظهور لاسم السعودية.
وتبدأ قصة بن سعود من حريملاء، حيث دعا إلى توحيد المملكة العربية السعودية وذلك باستعادة الرياض أولا من آل رشيد أمراء حائل، وهي عاصمة آل سعود السابقة وكانت تسمى ذلك الوقت بـ العارض وذلك في اليوم الخامس من شهر شوال 1319 هـ الموافق 17 يناير 1902م، ثم بسط عبد العزيز نفوذه على نجد وملحقاتها "الإحساء وجبل شمر وعسير وتهامة" ثم الحجاز ليصبح عبد العزيز في الثامن من يناير 1926 ملكاَ للحجاز، وعرفت المملكة بعد ذلك باسم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها.
وصدر في 23 سبتمبر 1932م - 21 جمادي الثانية 1351 هـ المرسوم الملكي بتوحيد مقاطعات الدولة التي تحولت بمقتضى هذا المرسوم إلى "المملكة العربية السعودية" ليصبح هذا التاريخ فيما بعد اليوم الوطني للمملكة، ويصبح عبد العزيز آل سعود أول ملك عليها.
لقد كانت دعوة الشيخ وحركته كما وصفها الشيخ مناع القطان: “بدء يقظة كاملة في العالم الإسلامي، تعمل على سيادة مبادئ الإسلام الصحيحة، والقضاء على البدع وأوضاع الحياة الفاسدة، وتأسيس دولة إسلامية، وتكوين حكومة صالحة تحكم بمبادئ الإسلام، وتنفذ أحكامه، ونقيم حدوده”.
وكما قال الأستاذ أنور الجندي: “كانت حرباً على الاستبداد والجمود، والتقليد، في مختلف ميادين السياسة والاجتماع والدين”.
وكما قال الأستاذ علال الفاسي: “كانت ترمي إلى تطهير الدين من الخرافات، والعودة إلى روح السنة المطهرة، من أجل تربية الشخصية الإسلامية على المبادئ التي جاء بها الإسلام المتكفل بصلاح الأمة في دينها ودنياها”
تعليقات بعض الكتاب والمؤرخين على انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ببعض البلدان
يقول العقاد: “ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثا في الجزيرة العربية ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقة إلى مغربه، فقد تبعه كثير من الحجاج وزوار الحجاز، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية، وأدرك المسلمون أن علة الهزائم التى تعاقبت عليهم إنما هي في ترك الدين لا في الدين نفسه، وأنهم خلفاء أن يستردوا ما فاتهم من القوة والمنعة باجتناب البدع، والعودة إلى دين السلف الصالح في جوهره ولبابه” [4]
ويقول العقاد أيضا: “سرعان ما ظهرت دعوة ابن عبد الوهاب بجزيرة العرب حتى تردد صداها في البنغال سنة 1804م واتبعها طائفة الفرائضية بنصوصها الحرفية، فاعتبرت الهند دار حرب إلى أن تدين بحكم الشريعة، ثم تردد صدى الدعوة الوهابية بعد ذلك بزعامة السيد أحمد الباريلي في البنجاب، وأوجب على اتباعه حمل السلاح لمحاربة السيخين وتقدمهم في القتال حتى الموت” [5]
يقول « أرنولد » في كتابه «الدعوة إلى الإسلام»: “وفي القرن العشرين نشطت حركة الدعوة إلى الإسلام في البنغال نشاطا ملحوظا، وأرسلت طوائف كثيرة ينتمي أهلها إلى تأثير الحركة الوهابية الإصلاحية، دعاتهم يتنقلون في هذه المناطق، ويطهرون البلاد من بقايا العقائد الهندوكية بين الكفار” [6]
وظهر في اليمن الشيخ على الشوكاني المتوفي سنة “1250هـ”، ودعا بما يشبه دعوة الشيخ بن الوهاب وتقلد بابن تيمية وألف كتاب “نيل الأوطان” لشرح كتاب شيخ الإسلام “منتقى الأخبار” [7]
وفي العراق نجد أسرة “الألوسي” التي بذلت حياتها لتعميق التربية الإسلامية في العراق وقد كتبوا عن الشيخ ودعوته ونافحوا عنها. [8]
في الجزائر كان من أول من حمل راية الدعوة السلفية هو المؤرخ الجزائري “أبو رواس الناصري” الذي قدر له أن يجتمع بتلاميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الحج، وذاكرهم في أمور إلى أن انتهى به الأمر بالاقتناع، وكان ذلك بحضور وفد حجيج كان يرأسه ولي عهد المغرب آنذاك. [9]
كذلك تأسست “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” الوجه السلفي بزعامة عبد الحميد بن باديس “1305-1359هـ” الذي أطلع على مبادئ الدعوة السلفية عندما ذهب للحج في مكة المكرمة، ودعا إلى إصلاح عقائد الجزائريين من البدع والخرافات، ودعا إلى الاجتهاد ومحاربة التقليد الأعمى والجمود الفكري وذلك بالتعمق بدراسة القرآن الكريم والسنة النبوية. [10]
أما في السودان فيقول السير أرنولد: “وحول نهاية القرن الثامن عشر ظهر من بين جماعة الفلبي رجل معروف يدعى الشيخ عثمان دانفودو، عرف أنه مصلح ديني وداع ومحارب، وقد ذهب من السودان إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعاد من هناك مليئا بالحماس والغيرة من أجل الإصلاح والدعوة للإسلام، وتأثر بالوهابية الذين كانت قوتهم آخذة في النماء، فأنكر الصلاة على روح الميت، وتعظيم من مات من الأولياء، وأستنكر من بالغ في تمجيد محمد نفسه، وهاجم شرب الخمر وفساد الأخلاق اللتين كانتا منتشرتين” [11]
وفي مصر نجد الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا تبنيا مبادئ دعوة محمد بن عبد الوهاب، ودافعا عنها في مؤلفاتهم، وكذلك عبد الرحمن الجبرتي مؤرخ مصر، وهو من أشد المتأثرين بدعوة بن عبد الوهاب، وكان يرى أن الأتراك قد ارتكبوا خطأ كبيرا عندما حاربوا دعوة الشيخ وأنصارها [12]
في المغرب تأثر بها “سيدي محمد بن عبد الله” الذي حارب الصوفية متأثر بكتب وأراء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكذلك “مولاي سليمان” الذي قام ضد الزوايا ودعا إلى التوحيد. [13]
ومما سبق نلاحظ أن انتشار الدعوة السلفية الإصلاحية المباركة في العالم الإسلامي تنتشر بشدة وتقوم بالمجتمعات التى تصلها حركات إصلاحية هدفها نشر الإسلام وتطهيره من البدع والشوائب والخرافات وتصحيح أوضاع الحياة الفاسدة، ثم محاولة تأسيس دولة إسلامية وتكوين حكومة إسلامية صالحة.
علم الشيخ وصفاته
كان الشيخ - رحمه الله تعالى -علماً من الأعلام، ناصراً للسنة وقامعاً للبدعة، خبيراً مطلعاً، إماماً في التفسير والحديث والفقه وأصوله، وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفاً بأصول عقائد الإسلام وفروعها، كشافاً للمشكلات، حلالاً للمعضلات، فصيح اللسان، قوي الحجة، مقتدراً على إبراز الأدلة وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأبينها تلوح على محياه علامات الصلاح وحسن السير، وصفاء السريرة، يحب العباد ويغدق عليهم من كرمه ويصلهم ببره وإحسانه، ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة، قلما يفتر لسانه من ذكر الله.
وكان يعطي عطاء الواثق بربه، ويتحمل الدَّين الكثير لضيوفه ومن يسأله، وكان عليه أبهة العظمة، تنظره الناس بعين الإجلال والتعظيم مع كونه متصفاً بالتواضع واللين، مع الغني والفقير، والشريف والوضيع، وكان يخص طلبة العلم بالمحبة الشديدة، وينفق عليهم من ماله، ويرشدهم على حسب استعدادهم.
وكان يجلس كل يوم، عدة مجالس ليلقي دروسه في مختلف العلوم، من توحيد، وتفسير، وحديث، وفقه، وأُصول وسائر العلوم العربية، وكان عالماً بدقائق التفسير والحديث، وله الخبرة التامة في علله ورجاله، غير ملول ولا كسول من التقرير والتحرير، والتأليف والتدريس.
وكان صبوراً عاقلاً، حليماً، لا يستفزه الغضب إلا أن تنتهك حرمة الدين أو تهان شعائر المسلمين، فحينئذ يناضل بسيفه ولسانه، معظماً للعلماء، منوهاً بما لهم من الفضائل، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، غير صبور على البدع، ينكر على فاعليها بلين ورفق، متجنباً الشدة والغضب والعنف، إلا أن تدعو إليه الحاجة.
والخلاصة أن الشيخ - رحمه الله تعالى -كان ذا شخصية نادرة في قوتها، وصلابتها في إيمانها، وعملها فقد حمل الشيخ أعباء الدعوة بأثقالها أكثر من خمسين سنة، وواجه بها الأعاصير التي كانت تريد أن تعصف به وبها، وتقتلعهما من جذورهما، ولكنه صمد، ولم يطأطئ لتلك الأعاصير هامته، ولم يحن لها ظهراً، وبهذا وتلك، حق له أن يكون من أبرز رجال الإصلاح والفكر في العصر الحديث.