الأخلاق الزوجية .. الشيخ على بن عمر بادحدح
مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت :
~ عبير الزهور ~
-
الأخلاق الزوجية .. الشيخ على بن عمر بادحدح
الأخلاق الزوجية .. الشيخ على بن عمر بادحدح

الأخلاق الزوجية .. الشيخ على بن عمر بادحدح
وصية الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين في كل آن وحين وإلى قيام يوم الدين تقواه سبحانه وتعالى رب العالمين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
إخوة الإيمان:
القمة الأخلاقية، جوهر قرآننا وهدي نبينا وبرهان إيماننا وشعار إسلامنا، إن لم نرقى إليها وبقينا في الهوة السحيقة من الأخلاق الذميمة فلم نرق لمستوى إيماننا ولم نكن جديرين بتمثيل إسلامنا ولم نكن تحققنا بادعائنا في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوة حياتنا وأن القرآن هو دستور حياتنا.
ولعل الحديث اليوم في جانب من أكثر الجوانب امتحاناً واختباراً لتلك الأخلاق؛ لأنه يتعلق بالجانب الأكثر التصاقاً واقتراباً ومعاملة في كل لحظة وآن.
وأبتدئ بما يكشف عن ذلك في قوله جل وعلا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [البقرة: 187]، الأخلاق الزوجية، تلك التي لا يمكن فيها التصنع لوقت قصير ولا الادعاء بالمظهر بل هي التي تسفر عن حقيقة الجوهر.
الله جل وعلا جعلها من آياته وعدها من نعمه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فالأساس هو السكن والسكينة والراحة والطمأنينة، والقاعدة هي المحبة والمودة هي استمداد من نبع وفيض هذه المشاعر التي ترطّب كل جاف في هذه الحياة المادية، وتيسر كل عسير من صعوبات الحياة اليومية، وتجعل للمرء في حياته فيئا يتظلله من حر الهجير في هذه الحياة الصاخبة بكل ما فيها من الرذائل والقبائح.
كيف نمتحن أنفسنا؟
فلننظر إلى حقيقة الجوهر في هذه الأخلاق الزوجية، ومن عجائب بلاغة القرآن إعجازه في إيجازه، وأحسب أن شطراً من آية قرآنية يكفي أن يكون عنواناً يصبغ هذه الحياة بقمة سامية عالية من الأخلاق الفاضلة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، والمعروف كما يقول أهل العلم: "اسم جامع لكل أنواع البر والخير القولية والفعلية"، كل شيء!
كل أمر حسن.
ومن هنا أفاض المفسرون في عباراتهم الجميلة بياناً لهذه العشرة، فابن كثير يقول: "طيّبوا أقوالكم لهن، وحسّنوا أفعالكم وهيآتكم بحسب قدرتكم كما تحبّ ذلك منها فافعل أنت بها معه"، وهذا أمر في غاية الروعة، والمعاشرة المخالطة التي فيها امتزاج وامتحان تمر فيها لحظات الصفاء وأوقات الكدر وفسحة من الرخاء وأوقات من الضيق والشدة، هنا تمتحن الأخلاق!
هنا تظهر أصالة المعدن الخُلقي!
هل يبقى المعروف معروفاً والكلمة الطيبة هي الحاكمة والفعل الحسن هو الذي يصبغ الحياة؟
أم أن ذلك يخرج إلى أمور نعرفها ونسمع عنها ونراها؟!
وإليكم الاختبار الذي يقدّمه لنا قدوتنا وإمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفاظ وجيزة وبليغة حيث يقول: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)
الراوي: عائشة و أبو هريرة المحدث:الألباني - المصدر: الإيمان لأبي عبيد - الصفحة أو الرقم: 28
خلاصة حكم المحدث: صحيح
ثم يُتبع ذلك بتخصيصٍ كأنما يقول: من نجح فيه فهو الناجح ومن رسب فيه فقد لا يحقق نجاحاً في غيره كذلك، (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)، تطبيق عملي، نموذج مخصص محدد، رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن.
وإذ انتقلنا حينئذ فسننظر إلى القمة في آفاق ومدارج عالية في بعض الومضات التي يتيحها لنا الوقت من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكلكم يحفظ الحديث الذي قاله عن نفسه وامتدح فيه خلقه مع أهله عندما قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما عند الترمذي في سننه بسند صحيح.
أظننا لن نستطيع أن نحصي ولكننا نمثّل، وأضرب أمثلة ببعض ما ثبت من هديه عليه الصلاة والسلام في معاملة أزواجه فحسب؛ لأن لنا مع غير ذلك وقفات أخرى بعون الله.
يقولون لنا اليوم.. هناك مدارس للحب والرومانسية!
ويكثرون علينا من الروايات الأدبية!
والأفلام السينمائية!
والمسلسلات التلفزيونية، التي يريدون بها أن يعلمونا الحب كما يزعمون!
وإذا بهم يفسدون ولا يصلحون!!
ويسيئون ولا يحسنون!!.
وإليكم الحب الأمثل والرومانسية الأعظم في بعض ومضات من هديه وحياته عليه الصلاة والسلام: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تخبر فتقول: كنتُ أشرب في الإناء ثم أمرره -يعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه في موضع فيّ -يعني يضع فمه في الموضع الذي وضعته حينما كانت تشرب- وقالت كنت أتعرّق العرق -يعني تأخذ العظم- فتأكل منه فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع فيْه في موضع فيّ كما قالت رضي الله عنها.
أي شيء في هذا الفعل هل هو خطير؟ هل هو عظيم؟
هل هو متعب؟
هل هو مرهق؟
لا، ولكنه مرهف الحساسية، ولكنه خبير بطبيعة النفس الإنسانية في فطرة المرأة التي تأسرها اللفتة وتدخل إليها السرور الكلمة والحركة واللفتة اليسيرة، فإذا به يشرب في الموضع الذي شربت منه أو يضع فمه في موضع وضعت فيه فمها في أكل عظم أو لحم أو نحو ذلك.
والإطراء.. وما أدراك ما الإطراء والمدح والثناء، كم يدخل السرور أيضاً على نفس المرأة والزوجة، وأنت تنتفع بها وتستفيد من خدماتها ولا تكاد تسمع منك كلمة ثناء أو إطراء واحدة، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعلنها بكل وضوح: (إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)
الراوي: أنس بن مالك و أبو موسى الأشعري و عائشة المحدث:الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 2117
خلاصة حكم المحدث: صحيح
لو قلت ذلك لأم أبنائك لقالت: لا أريد منك مالاً ولا كساء، تكفيني هذه الكلمة، ستكون نفقة لي لعام أو ربما أكثر، ما الذي أخرجت من جيبك؟
لا شيء، ما الذي عسُر عليك واجتهدت في تحمله؟
لا شيء، إنما هي سماحة النفس وحسن الخلق وطيب القول، والمدخل الذي لا بد من معرفته للنفوس عموماً ولنفس المرأة والزوجة خصوصاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصرح ويعلن الحب، ففي صحيح مسلم عندما رُوجع صلى الله عليه وسلم في شأن ذكره لخديجة رضي الله عنها وإهدائه لأصحابها وصويحباتها بعد موتها قال: (إني رزقتُ حبها)، ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أحب الناس إليه قال: (عائشة)، فقيل له: "من الرجال؟" قال: (أبوها)، فصرّح أول ما صرح بحب زوجته، وليس في ذلك من عيب بل هذا هو عين الذي تتمكن به المحبة وتتجذر به المودة وتعظم به الرحمة وتفيض به المشاعر فتظلل الأسرة بظلال من السكينة التي وردت في آيات الله ونعمه كما قدمنا.
"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من الليل سار مع عائشة يتحدث" رواه البخاري، هذه النزهة والمرح وإدخال السرور والأخذ ببعض وسائل الترفيه المباح، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سابق عائشة فسبقته فلما حملت اللحم سابقها فسبقها قال: (هذه بتلك)، واليوم قطعاً كثيرون منا قد يجدون في ذلك غضاضة أو يتنزهون منه، الرسول فعله وأعلنه وذكره؛ لأن هذا في ما بين الزوج وزوجه ليس مباحاً فحسب بل مرغوباً فيه لإيجاد تلك المحبة والمودة.
وفي يوم مجيء الحبشة إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يزفنون بحرابهم ويقدمون عرضاً عسكرياً جميلاً بهيجاً وتريد أم المؤمنين عائشة أن تشاهد، لم يزجرها ولم يمنعها، بل وقف ساتراً لها تنظر من وراء كتفه عليه الصلاة والسلام، ثم يسألها: (هل فرغت؟)، تقول: "لا"، فينتظر حتى تكون هي التي تقول: "قد فرغت" أي من هذه المشاهدة.
أقول في موقف سأذكره اسرح بخيالك في مواقفك، وقل هل يمكن أن أقف مثل هذا الموقف أو قد وقفته من قبل أم لا؟
حتى ندرك أن القمة الخلقية تحتاج إلى مجاهدة وتربية وتزكية حتى نرتفع إليها ونسمو إلى ذروتها، وليس هو مجرد الادعاء بالاقتداء، أو مجرد القول بالمحبة، ثم لا يكون الأمر كما هو في هدي وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان إذا ذبح الشاة يقول: (أرسلوا إلى صويحبات خديجة)
الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث:مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2435
خلاصة حكم المحدث: صحيح
انظروا إلى هذا الوفاء وهذا الحب الممتد رغم انتهاء الحياة! رغم توالي الأعوام!
رغم مرور الزمن؛ لأن هذا هو الأصل اللائق بالخلق الكريم للزوج الرحيم.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم في كل هذه الأحوال ينصف ويدخل السرور ويجعل أموراً عجيبة فريدة في حياته الزوجية لا يمكن لأحد أن يتصور أن هناك أرقى أو أسمى منها بحال من الأحوال.
وانظروا إلى رهافة الحس ورقّة الشعور عندما كان يلتفت وينتبه ويلاحظ أي أمر في زوجه من غضب أو من عتب فيقول لأم المؤمنين: (إني لأعلم إن كنت عني راضية أم غضبى)، وكيف تغضب عليه؟!
تلك سنة الحياة من أمور تجري ومن مواقف تحصل، قالت: "وكيف يا رسول الله؟"
قال: (إن كنت عليّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، وإن كنت راضية قلت: لا ورب محمد)، قالت: "نعم يا رسول الله، لا أهجر إلا اسمك"، ونحن نقول كثيرة هي الرسائل التي قد ترسلها لنا الزوجة أن لها عتباً وثانية ورسالة ثالثة وبالتصريح وبالتلميح وبالكتابة أحياناً وكأن أذناً لا تسمع وعيناً لا ترى وعقلاً لا يفكر مع أن من أدقّ وأرقّ الأمور الالتفات إلى اليسير مما يكون من الزوجة؛ لأن هذا يعظّم شأنها عند زوجها ويفرحها ويدخل السرور بها.
ومرة كان بينها -أي عائشة رضي الله عنها- وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فقال: (أترتضين حكماً؟)، قالت: "فمن؟" قال: (عمر بن الخطاب)، قالت: "لا"، قال: (أترضين بأبيك؟)، قالت: "نعم"، انظروا النبي صلى الله عليه وسلم تغضب منه فيدخل من يتوسط، ولم يقل وهو عليه الصلاة والسلام النبي المعصوم صاحب الخلق العظيم، وهذا مما ورد في الأحاديث الصحيحة.
وهذا كثير في التلطف والتعطف فقد روى النسائي في سننه أن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها كانت في سفر فحملها النبي صلى الله عليه وسلم على بعير وكان بطيئاً فلما وصلت وصلت متأخرة فكانت تبكي، قالتك "حملتني على بعير بطيء"، فجعل يسكّنها ويمسح دمعها، ماذا سنقول نحن؟ أو كيف سنفعل؟
ونحن نقول كما تقولون ونعرف كما تعرفون أقوالاً وأفعالاً ليس هذا المقام مقام ذكرها.
ولذلك ما الذي يكون فيه أغلب ما يكون عندنا هو الجوانب المادية وننسى الجوانب المعنوية، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتحبب ويتلطف إلى أم المؤمنين عائشة فيناديها بأسماء مختلفة جميلة محببة فمرة يقول: (يا عائش)، وهذا من أسلوب الترخيم الذي تستخدمه العرب في التلطف في النداء، وثبت أيضاً أنه كان يناديها: (يا حميراء)، والحميراء أي اللون الأبيض المشرب بحمرة فهو صفة جمال، وكنى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأم عبدالله وهي ليست بذات ولد وإنما أيضاً لإدخال السرور عليها وتوقيرها وتكريمها، فكل ذلك كان منه عليه الصلاة والسلام.
وانظروا الآن إلى مواطن الغضب والمواقف الساخنة كيف كان يفيض عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم من فيض خلقه المتدفق فيطفئ النار المشتعلة ويهدئ النفوس الثائرة ويستل الغضبة الثائرة في وقتها.
وهاهنا مواقف كثيرة منها أن أم سلمة أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً وهو عند عائشة في يومها، فلما رأت ذلك ضربت الصحفة فسقطت وكُسرت وتناثر الطعام، غضب جاء في لحظة انفعال، كيف تُهدي إليه زوجة أخرى طعاماً في وقتها ويومها؟
فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
لم يزد على أن قال: (غارت أمكم غارت أمكم) وتبسم وجمع الطعام ووضعه في صحفة أخرى.
وفي موقف آخر لطيف رواه النسائي أيضاً وبعض أصحاب السنن قالت: جاءت إلينا سودة تزورنا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم رجله في حجرها ورجله الأخرى في حجري، فقمت فصنعت لها حريرة وقلت: "كلي"، قالت: "لا أريد"، قالت: "كلي أو لألطخنّ وجهك"، فقالت: "لا أريد"، فلطّخت وجهها، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه عن حجرها ليمكّنها لتستقيم، فأخذت شيئاً فلطخت وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، لم تثر داحس والغبراء، ولم تكن هناك معركة ولا محاكمة بل هذا بعض ما قد يجري من أمور طريفة ولطيفة وتكون في دائرة من تلك المودة والمحبة.
وأما الجانب المادي الذي يسيطر على حياة الناس في أكثر جوانبها وفي كثير من أفرادها إلا من رحم الله فإنه أيضاً معالج، وإنه أيضاً مأتي به ومذكور على سبيل الحق والشرع ولكن أيضاً على سبيل الود والحب: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته له بها أجر)
الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث:البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4409
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
ليس المقصود هنا فحسب أنه أنفق ولكن ليفعل ذلك ليضع في فم زوجته نوع من التحبب والتلطف قد تكون هذه اللقمة ألذ وأكثر شبعاً من وجبة كاملة شهية؛ لأنها من يد الزوج أو كانت أيضاً من يد الزوجة.الأخلاق الزوجية .. الشيخ على بن عمر بادحدح

الأخلاق الزوجية .. الشيخ على بن عمر بادحدح
وصية الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين في كل آن وحين وإلى قيام يوم الدين تقواه سبحانه وتعالى رب العالمين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1].
إخوة الإيمان:
القمة الأخلاقية، جوهر قرآننا وهدي نبينا وبرهان إيماننا وشعار إسلامنا، إن لم نرقى إليها وبقينا في الهوة السحيقة من الأخلاق الذميمة فلم نرق لمستوى إيماننا ولم نكن جديرين بتمثيل إسلامنا ولم نكن تحققنا بادعائنا في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوة حياتنا وأن القرآن هو دستور حياتنا.
ولعل الحديث اليوم في جانب من أكثر الجوانب امتحاناً واختباراً لتلك الأخلاق؛ لأنه يتعلق بالجانب الأكثر التصاقاً واقتراباً ومعاملة في كل لحظة وآن.
وأبتدئ بما يكشف عن ذلك في قوله جل وعلا: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [البقرة: 187]، الأخلاق الزوجية، تلك التي لا يمكن فيها التصنع لوقت قصير ولا الادعاء بالمظهر بل هي التي تسفر عن حقيقة الجوهر.
الله جل وعلا جعلها من آياته وعدها من نعمه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، فالأساس هو السكن والسكينة والراحة والطمأنينة، والقاعدة هي المحبة والمودة هي استمداد من نبع وفيض هذه المشاعر التي ترطّب كل جاف في هذه الحياة المادية، وتيسر كل عسير من صعوبات الحياة اليومية، وتجعل للمرء في حياته فيئا يتظلله من حر الهجير في هذه الحياة الصاخبة بكل ما فيها من الرذائل والقبائح.
كيف نمتحن أنفسنا؟
فلننظر إلى حقيقة الجوهر في هذه الأخلاق الزوجية، ومن عجائب بلاغة القرآن إعجازه في إيجازه، وأحسب أن شطراً من آية قرآنية يكفي أن يكون عنواناً يصبغ هذه الحياة بقمة سامية عالية من الأخلاق الفاضلة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، والمعروف كما يقول أهل العلم: "اسم جامع لكل أنواع البر والخير القولية والفعلية"، كل شيء!
كل أمر حسن.
ومن هنا أفاض المفسرون في عباراتهم الجميلة بياناً لهذه العشرة، فابن كثير يقول: "طيّبوا أقوالكم لهن، وحسّنوا أفعالكم وهيآتكم بحسب قدرتكم كما تحبّ ذلك منها فافعل أنت بها معه"، وهذا أمر في غاية الروعة، والمعاشرة المخالطة التي فيها امتزاج وامتحان تمر فيها لحظات الصفاء وأوقات الكدر وفسحة من الرخاء وأوقات من الضيق والشدة، هنا تمتحن الأخلاق!
هنا تظهر أصالة المعدن الخُلقي!
هل يبقى المعروف معروفاً والكلمة الطيبة هي الحاكمة والفعل الحسن هو الذي يصبغ الحياة؟
أم أن ذلك يخرج إلى أمور نعرفها ونسمع عنها ونراها؟!
وإليكم الاختبار الذي يقدّمه لنا قدوتنا وإمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألفاظ وجيزة وبليغة حيث يقول: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)
الراوي: عائشة و أبو هريرة المحدث:الألباني - المصدر: الإيمان لأبي عبيد - الصفحة أو الرقم: 28
خلاصة حكم المحدث: صحيح
ثم يُتبع ذلك بتخصيصٍ كأنما يقول: من نجح فيه فهو الناجح ومن رسب فيه فقد لا يحقق نجاحاً في غيره كذلك، (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم)، تطبيق عملي، نموذج مخصص محدد، رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن.
وإذ انتقلنا حينئذ فسننظر إلى القمة في آفاق ومدارج عالية في بعض الومضات التي يتيحها لنا الوقت من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكلكم يحفظ الحديث الذي قاله عن نفسه وامتدح فيه خلقه مع أهله عندما قال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما عند الترمذي في سننه بسند صحيح.
أظننا لن نستطيع أن نحصي ولكننا نمثّل، وأضرب أمثلة ببعض ما ثبت من هديه عليه الصلاة والسلام في معاملة أزواجه فحسب؛ لأن لنا مع غير ذلك وقفات أخرى بعون الله.
يقولون لنا اليوم.. هناك مدارس للحب والرومانسية!
ويكثرون علينا من الروايات الأدبية!
والأفلام السينمائية!
والمسلسلات التلفزيونية، التي يريدون بها أن يعلمونا الحب كما يزعمون!
وإذا بهم يفسدون ولا يصلحون!!
ويسيئون ولا يحسنون!!.
وإليكم الحب الأمثل والرومانسية الأعظم في بعض ومضات من هديه وحياته عليه الصلاة والسلام: أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تخبر فتقول: كنتُ أشرب في الإناء ثم أمرره -يعني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيضع فاه في موضع فيّ -يعني يضع فمه في الموضع الذي وضعته حينما كانت تشرب- وقالت كنت أتعرّق العرق -يعني تأخذ العظم- فتأكل منه فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع فيْه في موضع فيّ كما قالت رضي الله عنها.
أي شيء في هذا الفعل هل هو خطير؟ هل هو عظيم؟
هل هو متعب؟
هل هو مرهق؟
لا، ولكنه مرهف الحساسية، ولكنه خبير بطبيعة النفس الإنسانية في فطرة المرأة التي تأسرها اللفتة وتدخل إليها السرور الكلمة والحركة واللفتة اليسيرة، فإذا به يشرب في الموضع الذي شربت منه أو يضع فمه في موضع وضعت فيه فمها في أكل عظم أو لحم أو نحو ذلك.
والإطراء.. وما أدراك ما الإطراء والمدح والثناء، كم يدخل السرور أيضاً على نفس المرأة والزوجة، وأنت تنتفع بها وتستفيد من خدماتها ولا تكاد تسمع منك كلمة ثناء أو إطراء واحدة، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يعلنها بكل وضوح: (إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)
الراوي: أنس بن مالك و أبو موسى الأشعري و عائشة المحدث:الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 2117
خلاصة حكم المحدث: صحيح
لو قلت ذلك لأم أبنائك لقالت: لا أريد منك مالاً ولا كساء، تكفيني هذه الكلمة، ستكون نفقة لي لعام أو ربما أكثر، ما الذي أخرجت من جيبك؟
لا شيء، ما الذي عسُر عليك واجتهدت في تحمله؟
لا شيء، إنما هي سماحة النفس وحسن الخلق وطيب القول، والمدخل الذي لا بد من معرفته للنفوس عموماً ولنفس المرأة والزوجة خصوصاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصرح ويعلن الحب، ففي صحيح مسلم عندما رُوجع صلى الله عليه وسلم في شأن ذكره لخديجة رضي الله عنها وإهدائه لأصحابها وصويحباتها بعد موتها قال: (إني رزقتُ حبها)، ولما سُئل عليه الصلاة والسلام عن أحب الناس إليه قال: (عائشة)، فقيل له: "من الرجال؟" قال: (أبوها)، فصرّح أول ما صرح بحب زوجته، وليس في ذلك من عيب بل هذا هو عين الذي تتمكن به المحبة وتتجذر به المودة وتعظم به الرحمة وتفيض به المشاعر فتظلل الأسرة بظلال من السكينة التي وردت في آيات الله ونعمه كما قدمنا.
"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من الليل سار مع عائشة يتحدث" رواه البخاري، هذه النزهة والمرح وإدخال السرور والأخذ ببعض وسائل الترفيه المباح، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم سابق عائشة فسبقته فلما حملت اللحم سابقها فسبقها قال: (هذه بتلك)، واليوم قطعاً كثيرون منا قد يجدون في ذلك غضاضة أو يتنزهون منه، الرسول فعله وأعلنه وذكره؛ لأن هذا في ما بين الزوج وزوجه ليس مباحاً فحسب بل مرغوباً فيه لإيجاد تلك المحبة والمودة.
وفي يوم مجيء الحبشة إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يزفنون بحرابهم ويقدمون عرضاً عسكرياً جميلاً بهيجاً وتريد أم المؤمنين عائشة أن تشاهد، لم يزجرها ولم يمنعها، بل وقف ساتراً لها تنظر من وراء كتفه عليه الصلاة والسلام، ثم يسألها: (هل فرغت؟)، تقول: "لا"، فينتظر حتى تكون هي التي تقول: "قد فرغت" أي من هذه المشاهدة.
أقول في موقف سأذكره اسرح بخيالك في مواقفك، وقل هل يمكن أن أقف مثل هذا الموقف أو قد وقفته من قبل أم لا؟
حتى ندرك أن القمة الخلقية تحتاج إلى مجاهدة وتربية وتزكية حتى نرتفع إليها ونسمو إلى ذروتها، وليس هو مجرد الادعاء بالاقتداء، أو مجرد القول بالمحبة، ثم لا يكون الأمر كما هو في هدي وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان إذا ذبح الشاة يقول: (أرسلوا إلى صويحبات خديجة)
الراوي: عائشة أم المؤمنين المحدث:مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2435
خلاصة حكم المحدث: صحيح
انظروا إلى هذا الوفاء وهذا الحب الممتد رغم انتهاء الحياة! رغم توالي الأعوام!
رغم مرور الزمن؛ لأن هذا هو الأصل اللائق بالخلق الكريم للزوج الرحيم.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم في كل هذه الأحوال ينصف ويدخل السرور ويجعل أموراً عجيبة فريدة في حياته الزوجية لا يمكن لأحد أن يتصور أن هناك أرقى أو أسمى منها بحال من الأحوال.
وانظروا إلى رهافة الحس ورقّة الشعور عندما كان يلتفت وينتبه ويلاحظ أي أمر في زوجه من غضب أو من عتب فيقول لأم المؤمنين: (إني لأعلم إن كنت عني راضية أم غضبى)، وكيف تغضب عليه؟!
تلك سنة الحياة من أمور تجري ومن مواقف تحصل، قالت: "وكيف يا رسول الله؟"
قال: (إن كنت عليّ غضبى قلت: لا ورب إبراهيم، وإن كنت راضية قلت: لا ورب محمد)، قالت: "نعم يا رسول الله، لا أهجر إلا اسمك"، ونحن نقول كثيرة هي الرسائل التي قد ترسلها لنا الزوجة أن لها عتباً وثانية ورسالة ثالثة وبالتصريح وبالتلميح وبالكتابة أحياناً وكأن أذناً لا تسمع وعيناً لا ترى وعقلاً لا يفكر مع أن من أدقّ وأرقّ الأمور الالتفات إلى اليسير مما يكون من الزوجة؛ لأن هذا يعظّم شأنها عند زوجها ويفرحها ويدخل السرور بها.
ومرة كان بينها -أي عائشة رضي الله عنها- وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فقال: (أترتضين حكماً؟)، قالت: "فمن؟" قال: (عمر بن الخطاب)، قالت: "لا"، قال: (أترضين بأبيك؟)، قالت: "نعم"، انظروا النبي صلى الله عليه وسلم تغضب منه فيدخل من يتوسط، ولم يقل وهو عليه الصلاة والسلام النبي المعصوم صاحب الخلق العظيم، وهذا مما ورد في الأحاديث الصحيحة.
وهذا كثير في التلطف والتعطف فقد روى النسائي في سننه أن أم المؤمنين صفية رضي الله عنها كانت في سفر فحملها النبي صلى الله عليه وسلم على بعير وكان بطيئاً فلما وصلت وصلت متأخرة فكانت تبكي، قالتك "حملتني على بعير بطيء"، فجعل يسكّنها ويمسح دمعها، ماذا سنقول نحن؟ أو كيف سنفعل؟
ونحن نقول كما تقولون ونعرف كما تعرفون أقوالاً وأفعالاً ليس هذا المقام مقام ذكرها.
ولذلك ما الذي يكون فيه أغلب ما يكون عندنا هو الجوانب المادية وننسى الجوانب المعنوية، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يتحبب ويتلطف إلى أم المؤمنين عائشة فيناديها بأسماء مختلفة جميلة محببة فمرة يقول: (يا عائش)، وهذا من أسلوب الترخيم الذي تستخدمه العرب في التلطف في النداء، وثبت أيضاً أنه كان يناديها: (يا حميراء)، والحميراء أي اللون الأبيض المشرب بحمرة فهو صفة جمال، وكنى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأم عبدالله وهي ليست بذات ولد وإنما أيضاً لإدخال السرور عليها وتوقيرها وتكريمها، فكل ذلك كان منه عليه الصلاة والسلام.
وانظروا الآن إلى مواطن الغضب والمواقف الساخنة كيف كان يفيض عليها المصطفى صلى الله عليه وسلم من فيض خلقه المتدفق فيطفئ النار المشتعلة ويهدئ النفوس الثائرة ويستل الغضبة الثائرة في وقتها.
وهاهنا مواقف كثيرة منها أن أم سلمة أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً وهو عند عائشة في يومها، فلما رأت ذلك ضربت الصحفة فسقطت وكُسرت وتناثر الطعام، غضب جاء في لحظة انفعال، كيف تُهدي إليه زوجة أخرى طعاماً في وقتها ويومها؟
فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
لم يزد على أن قال: (غارت أمكم غارت أمكم) وتبسم وجمع الطعام ووضعه في صحفة أخرى.
وفي موقف آخر لطيف رواه النسائي أيضاً وبعض أصحاب السنن قالت: جاءت إلينا سودة تزورنا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم رجله في حجرها ورجله الأخرى في حجري، فقمت فصنعت لها حريرة وقلت: "كلي"، قالت: "لا أريد"، قالت: "كلي أو لألطخنّ وجهك"، فقالت: "لا أريد"، فلطّخت وجهها، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم قدمه عن حجرها ليمكّنها لتستقيم، فأخذت شيئاً فلطخت وجهي ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، لم تثر داحس والغبراء، ولم تكن هناك معركة ولا محاكمة بل هذا بعض ما قد يجري من أمور طريفة ولطيفة وتكون في دائرة من تلك المودة والمحبة.
وأما الجانب المادي الذي يسيطر على حياة الناس في أكثر جوانبها وفي كثير من أفرادها إلا من رحم الله فإنه أيضاً معالج، وإنه أيضاً مأتي به ومذكور على سبيل الحق والشرع ولكن أيضاً على سبيل الود والحب: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فم زوجته له بها أجر)
الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث:البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4409
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وهكذا أيضاً يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أطعم إذا طعمت واكس إذا اكتسيت)
خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن
وأخبر أيضاً أن: (من حقهنّ أن تطعموهن مما تطعمون وتكسوهنّ مما تكسون)
الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث:الألباني - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 3303
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
وهذا كله لكي تستكمل الحياة جوانبها، فإذا انتقلنا إلى الجانب الآخر عندما يأتي أمر الخلاف والنزاع وعندما تأتينا المصطلحات الشرعية التي يفهمها بعض الناس فهماً خاطئاً ويستخدمونها استخداماً سيئاً لا يتفق مع الشرع في شأن القوامة في شأن التوجيه والتربية والإرشاد، في شأن معالجة الأخطاء، وذلك أمر قد يطول الحديث فيه ولكننا نوجز القول مرة أخرى في القمة السامقة لخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)
الراوي: أبو هريرة المحدث:مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1469
خلاصة حكم المحدث: صحيح
لا يفرك أي لا يبغض، لا تبغض زوجتك لأمر فعلته أو لخطأ وقع منها فإنك إن فعلت وكان ذلك حقاً فإن هناك كثير مما فعلته ترضيك به.
وكنت ولا زلت أقول: تذكر كم من وجبة أكلتها من طبخها؟
وكم من ثياب لبستها من غسلها؟
وكم من بيت تهيأ وترتب بجهدها؟
وكم من فضل وعمل لك ولأبنائك تقوم به ليلها ونهارها؟
فإن أخطأتْ في مرة أو تجاوزتْ في أخرى فينبغي ألا يكون ذلك مهدراً لكل تلك الفضائل ولا منسياً لكل تلك المحاسن بل العدل وفوق العدل الفضل هو المطلوب.
ومن عجائب ما ذكر أهل التفسير في قوله جل وعلا: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]، قالوا هذه الدرجة كما نصّ على ذلك الطبري في تفسيره: "هي أن يعفو عن هفوتها ويتجاوز عن خطيئتها"، لأنه مطالب بذلك بحكم ما هو عليه من قوة في ضبط النفس وحكمة في رشد العقل كما هو الشأن المطلوب الذي ينبغي أن يكون.
وأما القوامة فإن معناها هي القيام بحق الشيء ورعايته وحمايته وتوفير ما يلزم له، وليست القوامة أمراً يضيق الواسع ولا كرباً يحيط بأجواء الأسرة كلها والزوجة خصوصاً وكأنه سيف مسلط أو سلاح مشهر وهذا ما لا يتفق مع السكينة ولا هو من نبع المودة والرحمة بحال من الأحوال.
ويكفينا أن نقول هنا إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ما ضرب امرأة قط ولا بهيمة قط عليه الصلاة والسلام، وأما ما يقال في هذا الشأن في التفسير الذي في قوله جل وعلا عند علاج النشوز: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]، فأول أمر أن هذا لا يأتي إلا بعد تلك الوسائل فهي متدرجة مترتبة فأين وعظك وتلطفك؟
وأين هجرك وتربيتك؟
ثم {وَاضْرِبُوهُنَّ} ثبت عن ابن عباس في التفسير قال: "بالمسواك ونحوه" أو "بالسواك ونحوه"، فأي ضرب بهذا السواك؟
إنه ليس المقصود به الضرب وإنما إبداء العتب وإبداء ما يقتضي الانتباه إلى التجاوز، وذكر الرازي في تفسيره قال: "بالمنديل ونحوه"، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما ذُكر له أن بعضهم وقع منهم الضرب لأزواجهم، قال: (ليس أولئك بخياركم)، وأيضاً قال: (اجتنب الوجه ولا تقبّح)، فنحن أمام حالة محدودة في ظرف بعد مراحل معينة وعلى صفة من الأدب والتنبيه ليست كما يظن البعض أو نسمع ونرى كأننا انتقلنا إلى حلبة مصارعة أو ملاكمة، فيد تضرب في الوجه ورجل تضرب في البطن وإذا بنا نرى إصابات ومستشفيات وكأنّ هذا بحال من الأحوال لا يمثل شيئاً من كل ما ذكرناه بل هو أبعد ما يكون عن مثل هذه القمة وتلك وجوه من الهوة السحيقة التي عندما ابتعدنا عن تلك القمة تدرجنا في الهبوط والهوي إليها حتى صارت كما يقولون أخلاقنا الزوجية أو صارت أخلاق بعضنا الزوجية ليست هي نموذج السكن بل هي نموذج النكد والهم والغم الذي جعل البيوت جحيماً يفرّ منها الرجال وتفر منها النساء ويضيع فيها الأبناء.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلا، وكما حسّن خلقنا أن يحسّن أخلاقنا، وأن يجعل عشرة أزواجنا بالمعروف، وأن يجعلنا قائمين بالحق والواجب من الخلق الفاضل والمعاملة الحسنة.
الخطبة الثانية:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإنها أعظم زاد يقدم بها العبد على مولاه.
ولعلنا وقد أخذنا ومضات من هذه القمة الأخلاقية في الحياة الزوجية ندرك تماماً ونعرف يقيناً أن هناك هوة سحيقة قد مضت إليها كثير من أسرنا وأزواجنا رجالاً ونساء، ومن أعظم ما يمكن أن نضع له عناوين رئيسة في ذلك هو عدم القيام بشرع الله والتزامه بشكل عام، وعدم الاقتداء والاقتفاء لأثر رسوله صلى الله عليه وسلم في معاملة أزواجه بشكل خاص.
وأحرّج هنا وأذكّر بأمرين اثنين عظيمين أولهما: الكلمة الجارحة التي هي مفتاح -والعياذ بالله- لكل شر وموقدة لكل ضغينة وباعثة لكل كراهية تفسد أجواء هذه الحياة الزوجية، أقل تقدير إن لم تحسن أن تقول الكلمة الطيبة من المدح والإطراء ومن الحب والإغراء فأمسك عن تلك الكلمات التي يعفّ الإنسان عن ذكرها في هذا المقام، من كلمات يتجرأ بها الزوج على زوجته ويصفها بأوصاف قبيحة وبكلمات بذيئة وهو لا يدرك أنه كأنما يسبّ نفسه ويقبّح نفسه فتلك هي زوجه وأم أبنائه.
وأما الثانية والحديث قد يطول فإنها التعدي وتجاوز اللفظ القولي إلى التعدي الفعلي، والضرب على أي وجه من الوجوه باستثناء النادر اليسير على الوصف الشرعي المذكور إنما هو نوع من قلة المروءة عند الرجل، ونوع من فقد النبل والشهامة إذ كيف يضرب زوجه ضرباً مبرحاً
وكم رأينا من قصص في هذا كثيرة؟!
ولعل حديثنا قد يتجدد مرة أخرى بين هذه القمة السامية من الأخلاق الرفيعة العالية وبين الهوة التي قد وقعنا فيها أو وقع فيها بعضنا بقدر كثير أو قليل فجعلتنا بعيدين عن هذا الخلق العظيم الذي هو عنوان مدح الله سبحانه وتعالى لرسولنا صلى الله عليه وسلم وسمت وصبغة وعنوان رسالة الإسلام التي أوجزها المصطفى صلى الله عليه وسلم بتتميم مكارم الأخلاق.
فنسأل الله سبحانه وتعالى كما حسّن خلقنا أن يحسّن أخلاقنا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأعذنا اللهم من سيء الأخلاق فإنه لا يعيذنا منها إلا أنت، أرنا اللهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا اللهم الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.