من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر

مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر
من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر




8urkacdbomxo21mvt78d



من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم الصبر
الشيخ على بن عمر بادحدح


مع خلة عظيمة وخصلة حميدة، وخلق نفيس نادر من شمائله عليه الصلاةوالسلام، وهو خلق عظيم يحتاج إليه كل أحد وذلكم هو خلق الصبر.
سيكون حديثنا عن الصبر ومعناه وأقسامه، والأمر به والحث عليه وثمرته وما يلحق بذلك، ثم نفرد الحديث عن صبر سيد الخلق عليه الصلاة والسلام بمشيئة الله تعالى.
معاني الصبر:
الصبر في لغة العرب: بمعنى الحبس، فإن قلت صبرت نفسي عن كذا: أي حبستها عنه وإذا قال الإنسان: صبرت عن الطعام أي: حبست نفسي فلم آكل ولم أطعم.
وقد خوطب النبي عليه الصلاةوالسلام بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ} (الكهف: الآية 28).

أي: احبس نفسك معهم، وكن ملازماً لهم غير مفارق.
وأما في المعنى الاصطلاحي: فالصبر هو: "حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع" لأن العاقل بعقله المجرد يصبر ويترك أموراً؛ لأنه يدرك أن فيها مضرة وأن عاقبتها وخيمة، وأن نهايتها مضرة، والشرع هو الحاكم والفاصل في هذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بأن بيّن لنا المآلات، وعرّفنا بالغايات محمودها ومذمومها، فما كان محموداً أمرنا به وما كان مذموماً نهانا عنه.
وخلق الصبر يعد من أصول الأخلاق والشمائل؛ لأنه تتفرع منه وتتبعه صفات وأخلاق لازمة له ومنبثقة عنه، فالحلم خلق مستقل، وهو من الشمائل النبوية كذلك، لكن الحلم نوع من الصبر أو فرع من فروعه، وكظم الغيظ أمر آخر، وهو ضرب من ضروب الصبر أيضا، وله به صلة.

أقسام الصبر:
ينقسم الصبر إلى:
1- صبر قوي متمكن يغلب نوازع النفس التي قد تدعو إلى ضعف العزيمة فتضعف أمام الشهوات، أو تضعف أمام المغريات، فإذا كان الصبر قوياً متمكناً كان هو الغالب على هذه النوازع.
2- صبر ضعيف تغلبه الشهوات، ويذهب به الفساد والمغريات، فبعض الناس عنده صبر، لكن صبره ضعيف بمجرد أن يتعرض إلى الإغراء أو غيره، يضعف وينساق ولا يستطيع أن يحبس نفسه.
وهذا واقع كثير من الناس لسببين اثنين:

أولهما: متعلق بضعف الإيمان، وضعف اليقين، والإيمان بأن من ترك شيئاً لله عز وجل يعوضه خيرا منه.

الثاني: عدم المصابرة بين الصبر وتمكنه أو الصبر وذهابه كما يقال: إنما النصر صبر ساعة، ما معنى ذلك؟ هو لا يثبت في أول الأمر ولو ثبت لوجد أنه قد اجتاز مرحلة مهمة.
لماذا يضعف صبر بعض الناس؟
يقول: لا أستطيع، ولو أنه قاوم مرة واحدة، لوجد أنه يستطيع، ثم سيكسبه ذلك قوة ويقوى صبره، لكن المشكلة هي كما قال عليه الصلاةوالسلام: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
مجرد أن تتجاوز المرحلة الأولى انتهى كل شيء، مثال بسيط: نأكل ونشرب، فإذا جاء رمضان كان أول يوم يوما شديدا، وبدأنا بتغيير لم نكن قد تعودنا عليه، لكن بعد اليوم الأول ثم الثاني، كأنما قد نُسي الطعام والشراب، ولم يعد الإنسان أصلاً يفكر فيه، حتى يشعر أحياناً بشيء من شدة في جوع أو عطش.


ينقسم الصبر من جهة ما يتعلق به إلى ثلاثة أقسام:

1- صبر على الطاعات: القيام بالطاعات فيه شيء من المشقة التي تحتاج إلى جهد، فترك النوم على الفراش الوثير مع الهواء العليل والتعب الكثير؛ ليؤدي الفجر صعب.
2- الصبر عن المحرمات والمناهي: الصبر عن أخذ المال من غير حله، والنفس داعية إلى ذلك ومرغبة فيه، الصبر عن قضاء الشهوة من غير طريق مشروع النفس تدعو إليها والشهوات والمغريات تزينها، واللذة والمتعة تغري بها، وهذا يحتاج إلى صبر أيضاً ولجم للنفس وكبح لجماحها، ومنع لها عن الانسياق مع ميولها ورغباتها وفطم لها عن شهواتها:

والنفس كالطفل إن تتركه شب على ***** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

الصغير عند الفطام يرضى بالفطام سريعاً، فلابد أن نعطيه الصبر، وأن نمنعه، وأن نتركه يبكي حتى يجتاز مرحلة معينة، ثم هو بعد ذلك لو عرض عليه الرضاع يأبى .
3- الصبر على ما يجري به القضاء من البلاء: قد يُبتلى الإنسان بمرض، وقد يبتلى بخوف، وقد يبتلى بأمور كثيرة كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة:156،155) وأعظم ما يبتلى به الناس: زوال هاتين النعمتين نعمة الأمن ونعمة الرزق.

وأكثر ما منّ الله به على العباد عموماً، وعلى أهل البلاد المقدسة في الحرمين خصوصاً نعمة الأمن والرزق: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} (القصص: لآية57).
وقال الله عز وجل: {وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: من الآية67)، فإذا سلبت نعمة الأمن حل الخوف.
سئل أحد الحكماء العلماء: ما السرور؟
قال: الأمن، فإني لم أر لخائف نعيماً.

ما فائدة أن يكون عندك مال وأنت لا تأمن عليه، أو لا تأمن على روحك أو عرضك؟!!!.
ليس هناك أي أثر لأي نعمة، إذا سلبت نعمة الأمن نسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا أمننا وأماننا.

وأيضاً نعمة الرزق ووفرته، وقد استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من الجوع وقال: (وإنه بئس الضجيع)، الضجيع يعني الذي يكون معك تضطجع فهو معك، فإذا كان الجوع معك لا شك أنه لا يجعل الإنسان يستطيع أن يفكر، ولا أن يهنأ ولا أن يسعد، ولا أن تتعلق أيضاً نفسه وقلبه حتى بطاعة الله على الوجه المطلوب.
الإنسان إذا ضاقت عليه أسباب الرزق عظم همه، وانشغل فكره واضطرب حاله وضاق صدره، ولم يكن عنده شيء مما يحتاج إليه من الطمأنينة والاستقرار، ولذلك من أعظم الأسباب على مواجهة البلاء هو الصبر والرضا بالقضاء.

ولذلك يتنوع الصبر في أحكامه ليشتمل على الأحكام الخمسة كلها:
1- صبر واجب: وهو الصبر عن المحرمات، والصبر على الواجبات المفروضة.
2- صبر مندوب: وهو الصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات من النوافل والسنن والتطوعات.
3- صبر محرم: وهو أن يصبر على ما فيه هلاكه، كأن يترك الطعام والشراب حتى يهلكَ أو حتى يصيبه الضرر وهذا لا يجوز.
4- صبر مباح: والمباح يعني في الأمور التي يستوي فيها الطرفان كما يقولون.

منزلة الصبر:

وللصبر منزلة عظيمة في كتاب الله، وقد ذكر كثيرا،ً وذكر في حالات سنرى مدى أهميتها ونفعها وسنحاول أن نذكر بها في واقعنا خصوصاً وواقع المسلمين عموماً.
أمر الله عز وجل بالصبر، وأمر به رسله وأنبياءه، وأمر به صفوتهم وخاتمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه} (النحل: الآية 127)
وقال له سبحانه وتعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (يونس: 109).
ونلاحظ هنا أن الأمر بالصبر مرتبط إيقاعه ووجوده وتحققه بعون الله عز وجل، فنحن نصبر لله يعني لوجه الله، ونصبر بالله يعني بإعانة الله لنا على الصبر، نحن نقول: صبر لله، وبالله، وعلى الله.
ثم جاء الأمر بالصبر ليس بهذه الصيغة فقط، بل جاء بالأمر بأشد أنواع الصبر، يعني عند وجود الشدة العظيمة جاء الأمر بالصبر أيضاً كما في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: الآية 132).
ما قال: (واصبر) بل قال: (واصطبر) وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى كما يقول أهل اللغة، يعني يحتاج هذا الأمر إلى زيادة صبر، ولذلك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا واتقوا الله} (آل عمران: الآية 200).
وجاء الأمر بالصبر على سبيل بيان أنه مما يعين، ويخفف عن الإنسان وطأة ما يعارضه، أو يعرض له يقول الحق عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } (البقرة: الآية 153).
وقدم الصبر لأنه بداية، والصلاة كأنها تعين على هذا الصبر كما ذكر الوحي في الأمر السابق وكما ذكر: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه} (النحل: الآية 127).
ابدأ أنت بعزيمتك وقوتك وإرادتك وسوف يأتيك المدد والعون من الله تثبيتاً وتقوية وإعانة على ملازمة الصبر، وتحتاج إلى قوة معنوية وإلى مدد رباني فهذه الصلاة تمدك بذلك.
ثم ننظر إلى مسألة ثالثة وهي مهمة، فالآيات قرنت بين الصبر وبين غيره من المقامات العظيمة، وكل ربط في هذا الصبر سنجد فيه معنى عظيماً، وأعظم هذه المعاني التي ارتبط بها الصبر وهي من أجل ما هو متعلق بحياة الناس (اليقين).
قال ابن القيم: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.


والدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).

وجعلت صيغ وألفاظ أخرى تؤدي معنى الصبر، فالثبات من الصبر: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (الأنفال: الآية45)، فالثبات هو نوع من الصبر.

وأخبر الله سبحانه وتعالى، أن الأمر بالصبر أمر بترك ضده، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (الأحقاف: الآية 35).

عكس الصبر هو الجزع والسرعة التي يريد بها الإنسان أن يحقق النتائج، وأن تنتهي المعضلة التي يواجهها، والله عز وجل يمحص ويبتلي ويختبر، ويجعل من هذا البلاء سبباً لظهور ما في الخفاء.
لكن كيف يظهر ما في هذا الخفاء؟
يظهر إذا وجد البلاء، والابتلاء حينئذ وعند هذه المواقف سوف يظهر الصادق من الكاذب، ومن سيثبت ومن سيتقاعس، فالمخلص سيصر ويمضي ويعمل ويبقى في طاعة الله عز جل، والمنافق سوف يتخلى ويبتغي غير وجه الله عز وجل، فالبلاء فيه خير:


{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (آل عمران: الآية179).
والله عز وجل قال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 141).

الله عز وجل يعلم أن هؤلاء منافقين، لكن كيف ينزل بهم العذاب أو الابتلاء والعقاب والناس يقولون: مستحقين؟

كما قال الله عز وجل:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: الآية 42). وهذا من أسرار هذا المعنى.

وحتى يثبت هذا الصبر وتتعلق به القلوب وتطلبه النفوس، لابد من جزاء فالنفوس مفطورة على ذلك، والله عز وجل يعلم طبائع النفوس فجعل على الصبر ثواباً جزيلاً وعطاء عظيماً، وخص الصبر بأن جزاءه غير محدود لا نهاية له كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: الآية 10).

وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر).

بمعنى أنه أعظم شيء يعطى؛ لأنه يفسح لك في كثير من الأعمال والخيرات، إذا كنت صابراً أديت الفرائض والطاعات، ولم تكن ثقيلة عليك ولم تتقاعس عنها، إذا كنت صابراً زدت من التطوعات والنوافل وغير ذلك، إذا كنت صابراً تركت المحرمات، إذا كنت صابراً فتحت لك أبواب من الخير عظيمة تنال بها أجراً عظيماً.

مثل الطالب أيام الامتحانات، فإنه يتعب عندما يذاكر ويشدد على نفسه فيترك مألوفاته من كثرة النوم إلى قلة النوم، ومن كثرة الطعام إلى قلة الطعام، ومن كثرة مخالطة الناس إلى الانعزال وحده.

ألا يشق ذلك عليه؟
فماذا يقول؟
صبر أيام وبعدها ينال النتيجة، ويحصل على الجائزة، ويرقى إلى الدرجات العالية، ولذلك يفكر العاقل دائما بأن الصبر له ثمرة ونتيجة، يقول سبحانه وتعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}(النساء: الآية 125)
لأن الناس قد يرون في ظاهر الصبر صعوبة أو مضرة، {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لهم} الحجرات: الآية 5).

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128،127).
فالصبر عاقبته محمودة إلى أقصى حد دنيوية كانت وأخروية، ويظهر أثره في الحياة الدنيا في عدة جوانب من أعظمها: الإمامة في الدين: لماذا قلنا بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؟
وما سر ربط الصبر باليقين؟

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ} (التوبة: من الآية 52)، ما هي إحدى الحسنيين؟

إما النصر وإما الشهادة، ففي كلا الأمرين هناك مكسب وربح.
وربط الله الصبر بالتوكل فقال: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل: 42).
والتوكل هو الاعتماد على الله، ولا يمكن أن تصبر إلا إذا وجد هذا الاعتماد والثقة بالله سبحانه وتعالى، وتفويض الأمر إليه، نحن ماذا نقول عندما تحل بنا مصيبة أو تواجهنا صعوبة؟
نقول (إنا لله وإنا إليه راجعون) هل تفكرنا في معناها؟
إنا لله: نحن لله، نحن من الله، والعاقبة في آخر الأمر، وإنا إليه راجعون: يعني نحن منه بأمره وقدره ونعمته وجدنا وسننتهي إليه، إذن ما الذي يخيفنا؟.
ألا ينزل هذا برد اليقين على قلوبنا؟

ألا ندرك أن المتصرف في الأمور هو الله سبحانه وتعالى وأنه لا يقع في ملكه إلا ما أراده، وأن كل قوى الأرض إن جاءت فإنها لا تستطيع أن تلحق ضرا أو تعطي نفعا إذا لم يكن ذلك بقضاء الله وقدره.

ويرتبط الصبر بذكر الله عز وجل، لأن الذكر يفيض الطمأنينة ويقوي العزيمة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (الطور: 48).
وكما قال عز وجل:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} (غافر: 55).
الذكر يجعلك تتذكر الله عزوجل فتقول: أنا أصبر لله راجيا ثواب الله، عندما تذكر الله سبحانه وتعالى يتحقق لك ذلك.
ولا يرتبط الصبر باللسان أو القول فقط، بل يرتبط بالأعمال الصالحة كذلك، كما قال عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (هود: من الآية 11).
ويرتبط الصبر بالتقوى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل عمران: من الآية 120)، وكما قال عزوجل في قصة يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: من الآية 90).
بين الصبر والتقوى معان متقاربة {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} فكيد الأعداء ومكرهم وقوتهم وبطشهم إذا وجد معه الصبر والثبات، ووجد معه تقوى الله باحتساب الأجر والإخلاص له سبحانه وتعالى وابتغاء مثوبته وبيان أن هذا الصبر إنما هو لإعزاز دينه ولرفع رايته أو للذود عن حرماته، فإن هذا هو أقوى وأعظم ما يصرف الكيد ويبطله، وما يجعل أهل الإسلام والإيمان في قوة لا يستطيع الأعداء أن ينالوا منها، وفي ثبات لا يمكن زعزعته، وفي رسوخ لا يمكن نقضه أو خلعه.

ورد في القرآن وصف الصبر بأنه جميل، كما قال عز وجل: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: من الآية 18).
ما الصبر الجميل؟

هو الصبر الذي لا شكوى معه، بعض الناس بعد أن تأتي المصيبة يتسخط ويتشكى، وفي الأخير يقول: أمرنا لله نصبر، هذا صبر بعد شكوى ولا يكون صبرا جميلا.

صبر أيوب:
الناس يقولون دائما صبر أيوب، فهل صبر أيوب أعظم أم صبر بعض الأنبياء غيره؟
هذا من المشتهرات التي ليست موافقة للصواب، صبر نوح عليه السلام على سبيل المثال أعظم من صبر أيوب، لماذا؟
ليست المدة وليس لأنه لم يدع، ولكن لأن صبر أيوب كان صبر اضطرار لا صبر اختيار، ابتلي بالمرض فلم يكن أمامه إلا الصبر، أما نوح عليه السلام فكان صبره صبر اختيار، كان يمكنه أن يترك العمل ويترك الدعوة خاصة بعد أن طالت المدة ألف سنة إلا خمسين عاما، شيء عجيب جدا، صبر هائل وضخم وعظيم.

صبر أيوب لاشك أنه كذلك، لكن انظروا أدب الأنبياء، لم يدع مباشرة، قالوا: كان دعاؤه بعد مرور سبع سنوات، وعندما دعا قال: {رب إَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (الأنبياء: من الآية83).

من الذي أصابه بالضر؟
الله سبحانه وتعالى، لكنه لم يقل ذلك أدبا مع الله قال: {رب إَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، هذا حالي أصابني المرض والضر وأنت أرحم الراحمين.

هذا من أعظم حسن الأدب مع عظمة الثناء على الله عز وجل وحسن المسألة.
إذا نظرنا إلى هذا الصبر وجدنا أثره عظيما في حياة الناس والحاجة إليه ملحة، ونختم بما كان من حال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من حديث خباب بن الأرت لما جاء إلى النبي عليه الصلاةوالسلام بعد أن اشتد الأذى والبلاء يقول للرسول: ألا تدعو لنا؟
ألا تستنصر لنا؟
فماذا قال الرسول؟

وافقه؟ قال: (إنه كان فيمن كان قبلكم يوضع المنشار في مفرق رأسه ثم ينشر حتى يفلق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه، وإنه كان في من قبلكم يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه لا يصده ذلك عن دينه) ثم قال: (والله ليسيرن الراكب من صنعاء إلى لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون).
الراوي: خباب بن الأرت المحدث:البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6943
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]




العجلة ضد الصبر، وهي نوع من جزع كأنه لم يطق أن يصبر فجاء يريد ذلك والله عز وجل قال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).

قريب ليس معناه أنه غدا أو بعد غد لكنه قريب بالمعنى الإيماني وبالمعنى الإجمالي في طول عمر الزمان، النبي عليه الصلاة والسلام أوذي في مكة وأعرض عنه كفار قريش ولم يؤمن معه إلا نفر قليل، وذهب إلى الطائف ووجد صدا وإعراضا وبقي ثلاثة عشر عاما على هذا الحال، ثم انتقل إلى المدينة وبقي فيها عشر سنوات، هذه ثلاثة وعشرون عاما كم هي في عمر الزمان، لم ينتقل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن دانت الجزيرة كلها، وكان المسلمون بقيادة من ولاهم النبي عليه الصلاة والسلام الجيوش قد وصلت إلى بلاد الروم، ثم في قلة من الزمان بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أكمل أصحابه، فإذا هم في وقت قصير قد عم نور الإسلام شرق الأرض وغربها، وكما قال لكنكم قوم تستعجلون.
النبي عليه الصلاة والسلام طاف في يوم عمرة القضاء في العام السابع من الهجرة في شهر ذي القعدة بناء على اتفاقية صلح الحديبية، ورجع وقالوا: ترجع العام القادم وتعتمر، عندما اعتمر أين كانت الأصنام؟

حول الكعبة، وموجودة في مكة، الرسول عليه الصلاة والسلام رسول الإسلام وداعية التوحيد يطوف والكعبة حولها الأصنام، ماذا قال؟
هل قام وكسرها؟

هل ورد أنه شتمها؟
هل بصق عليها؟
هل يعني ذلك أنه مقر بها؟
صبر وضبط نفسه حتى يأتي الأوان بقدر الله الذي يسعى له أهل الإيمان والإسلام بأعمالهم، بعد عام واحد في شهر رمضان في العام الثامن من الهجرة كان فتح مكة، هذه الأصنام نفسها جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها بعد عام واحد فقط أو أقل من عام ومعه عصاه يضرب بها هذه الأصنام، وتتهاوى وتتحطم وهو يقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81).

نحن قد نرى شيئا من الباطل لابد أن ننهيه الآن، وليست الأسباب متوفرة وليست العدة مناسبة، وليس ما يترتب على هذا الإنكار أو التغيير خير، بل قد يكون فيه ما هو أكثر شرا وضرا منه، ومع ذلك الجزع وعدم الصبر وعدم القدرة على كظم الغيظ وعدم معرفة أن مواجهة الأعداء، وأن تغيير المجتمعات، وأن الدعوة تحتاج إلى صبر نوح عليه السلام تسعمائة وخمسين عام، نوح عليه السلام في آخر الأمر لما دعا قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} (نوح: من الآية 26).

تغيير النفوس ودعوة الناس هي من أشق وأعظم الأمور صعوبة، ليست أمرا سهلا.
ومغالبة الأعداء كذلك ليست في جولة ولا في دولة ولا في ميدان واحد بل في ميادين شتى، والنبي عليه الصلاة والسلام واجه قريش لما كانت تكذب، ولما كانوا يرجفون الأراجيف، ولما كانوا يقصون القصص، ولما كانوا يصدون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا له إنه ساحر.
إنه كذا إنه كذا، ثم واجههم يوم قاتلوه، ثم واجههم وهم يكيدون من داخل المجتمع في المدينة، ويبثون الفرقة والنزاع بين المسلمين كل هذا لا بد أن نستحضره، ونعلم أن عدتنا فيه الصبر: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} (آل عمران: من الآية 120).

{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: الآية 9) يوسف عليه السلام بيّن أنه صبر، صبر على ظلمة الجب، وصبر على ظلمة السجن، وصبر على نكاية الإخوة، وصبر على فتنة الإغراء بالنساء، وصبر على فتنة الملك والقدرة والسلطان، صبر على كل ذلك، واتقى الله فكانت عاقبته عاقبة حميدة.




كتبت : ~ عبير الزهور ~
-



مع شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم وحديث عن صبر النبي صلى الله عليه وسلم

ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس صبراً، وأثبتهم قلباً، وأربطهم جأشاً، وأحلمهم في سياسة نفسه عليه الصلاة والسلام.
لكن الصبر كما قلنا بتنوعه يدل على ذلك الوجه أو تلك الوجوه المتنوعة التي قد تعرض للإنسان في حياته، فله عليه الصلاة والسلام صبر على طاعة الله، وله صبر على ما قدره الله عز وجل من الابتلاء وما كتب عليه من الإيذاء، وكان له صبر مع أصناف مختلفة من الناس:
صبر على المشركين، صبر على المنافقين، صبر على اليهود، وكانت له عليه الصلاة والسلام في جملة حياته صور كثيرة من الصبر، حتى قال الماوردي في أعلام النبوة مصوراً ما تعرض له من الأذى: "تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لما يشيب له النواصي، ويهد الصياصي، وكان مع ذلك صابراً صبر المستعلي ثابتاً ثبات المستولي عليه الصلاة والسلام".
ونذكر هنا وجوهاً من أنواع الصبر التي ظهرت في سيرته النبي صلى الله عليه وسلم، ونبدأ بالصبر على البلاء والإيذاء في أنواع مختلفة.

النوع الأول: الصبر على الاستهزاء والسخرية:
ومع أنه عليه الصلاة والسلام أشرف الخلق وأرفعهم، وخاتم الأنبياء وأفضلهم فقد لقي من قومه وخصومه أشد أنواع السخرية وأقذع أنواع الاستهزاء، ونحن نعرف أن الإنسان بطبعه إذا اعتدي عليه بالقول سخرية واستهزاء يكون ذلك من أشق ما يكون على النفس، فكيف إذا كان شريفاً أو إذا كان وجيهاً في الناس، فكيف إذا كان هو أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم فقد لقي من ذلك ما هو معلوم مما جاءت به آيات القرآن: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} (الحجر:6).

وقال الله عز وجل: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (صّ:4).

وقال الله عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم:51).

وكانوا يتضاحكون عندما يرون النبي عليه الصلاةوالسلام مع أصحابه: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ *وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (المطففين:29،30).

وكل ذلك مما يؤلم النفس ويوجد الحزن لكنه عليه الصلاة والسلام كان يستعلي على ذلك، فيصبر ويحتسب أجره عند ربه سبحانه وتعالى، ورفعة درجاته في الآخرة عند مولاه، وكان عليه الصلاة والسلام يكظم غيظه ولا يقابل هذا بمثل ما يقابلونه به عليه الصلاة والسلام، فقد كان عف اللسان كريم النفس سمح التعامل غضاً عمن يخطئ عليه.

النوع الثاني: التشويه والافتراء:
لم تكن سخرية فحسب، بل كانوا يشوهون الحقائق، ويفترون ويكذبون ويختلقون، ويقلبون الأمور رأساً على عقب حتى يصدوا الناس عن دين الله عز وجل ويصرفوهم عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، كانوا يبثون الدعايات الكاذبة وينشرون الشبهات الباطلة، ويوردون الإيرادات الواهية، كانوا يصرفون الناس بتنفير نفوسهم، وبإضلال عقولهم، وقالوا عما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام أقوالا كثيرة، وقالوا كما أخبر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: الآية 4).
قالوا عن كلام الله الذي بلّغه إنه إفك اختلقه من عند نفسه، وأعانه عليه آخرون، وكذلك قالوا: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان:5).
وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (النحل: الآية 103).
ورد الله عز وجل عليهم ذلك كله، لكن الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر على ذلك، ويثبت عليه؛ لأننا نريد أن ندرك أن هذه الوجوه التي نذكرها الآن يتعرض لها المسلمون عموما، ويتعرض لها الدعاة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
النوع الثالث: المعارضة والإيهام:
لم يكتفوا بسخرية، ولم يكتفوا بافتراء، بل جاءوا بمعارضة، وما معنى المعارضة؟
هذه قضية خطيرة أن يأتوا بشيء يعارض ما يأتي به، يقولون: أنت تقول قولا وعندك أخبار، وعندك أقوال، نحن نأتي بشيء مثله نصرف به الناس عنك، يعني إذا جاء بشيء جاءوا بشيء مثله يريدون أن يوجدوا للناس بديلا عما يأتي به رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه قضية خطيرة، لأن واقع الناس اليوم وواقع المسلمين يدل على أن أعداءهم جاؤوا بألوان من الباطل كثيرة تلهيهم وتشغلهم، فإذا كان هناك قرآن كان هناك غناء، وإذا كان هناك حق جاءوا بباطل، وإذا كان هناك تأثير جاؤوا بالأساليب الترغيبية، رغبوا في الشر، وإذا كان هناك أساليب ترهيبية رهبوا من الخير وجعلوا هذه الأساليب كلها كما فعل كفار قريش.

كان أحد زعمائهم، واسمه النضر بن الحارث يقول: يا معشر قريش والله لقد نزل بكم أمر ما أوتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة حتى إذا رأيتم في صدغه الشيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم كاهن لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم شاعر لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هجزه ورجزه، وقلتم مجنون لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش فانظروا في شأنكم فإنه والله قد نزل بكم أمر عظيم.
يعني لا يكفي أن تسخروا، ولا يكفي أن تقولوا هذا باطل، ماذا يريد هذا؟
نتوقع أن يقول: خذوا إذن بالحق، ووافقوا محمدا واتبعوه، وآمنوا بما جاء به، كلا.. ذهب هو إلى الحيرة وتعلم بها أحاديث وأخبار وقصص ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار وكذا، ثم جاء وقال: الآن جئتكم بالحل، فكان إذا جلس النبي صلى الله
عليه وسلم يحدث الناس جلس هو بجواره، يقول: هلموا إليّ عندي خير مما عند محمد، أعطيكم أحسن مما يقول محمد عليه الصلاة والسلام، فجاء بذلك، ثم كان يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، ويحدثهم بهذه القصص والأخبار، أراد أن يأتي بأمر عملي يقدمه للناس يسد فراغهم أو يعطيهم شيئا يصرفهم عن الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كيد أكبر، ومكر أعظم، وخطورة أشد؛ لأنهم لو قالوا: كلامه باطل فقط، فإن الناس ربما يرون أنه حق، لكنهم كانوا يقولون: هذا باطل، وتعال أعطيك شيئا أحسن منه أو خيرا منه، ولذلك فعل النضر بن الحارث ذلك، ومما فعله كما ذكر ذلك ابن عباس في روايته، قال: اشترى النضر بن الحارث قينات، وكان لا يسمع برجل يميل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو يريد أن يستمع له إلا بعث عليه واحدة منهن تطعمه وتسقيه، وتغني له حتى تلهيه، فما عاد يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا، وكان عليه الصلاة والسلام يرى ذلك ويسمعه، وهو ماض صابر محتسب عليه الصلاة والسلام.


النوع الرابع: المساومة والإغراء:

جاءوا للنبي عليه الصلاة والسلام من هذا الطريق أيضا، والحديث الطويل الذي جاء به الوليد لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إن كان ما أتيت به تريد مالا جمعنا لك مالا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد الباه اخترنا لك أحسن نسائنا حتى تتزوج ولو شئت عشرا، وأغروا في ذلك وأسرفوا والنبي صلى الله عليه وسلم لا يوافق.
وقال الله عز وجل أيضا: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم:9).
قالوا نعطيك، نساومك، اعبد إلهنا عاما ونعبد إلهك عاما، مفاوضات ومساومات، بعض الناس أو بعض الدعاة ربما يغترون بها ولا يصبرون، قد يصبرون عندما يواجهون بالمعارضة أو بذلك الاستهزاء، ولكن إذا جاءتهم هذه الإغراءات نعطيك كذا وكذا وتفعل وتخدم الدعوة ثم يكون ذلك مزلقا من هذه المزالق.
والرسول صلى الله عليه وسلم نزلت عليه آيات القرآن كما نعرف: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون:1،2).
وروى ابن إسحاق في سيرته أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعترضه الأسود ابن المطلب وهو يطوف بالكعبة ومعه جمع من الناس وكانوا من ذوي الأسنان، قال: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، يعني نخلط فيما بيننا وبينك، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه.

النوع الخامس: التضييق والإيذاء:

وهو الوجه الأظهر والذي أكثرنا ربما يتحدث عنه عندما يتحدث عن الصبر، وقد لقي النبي عليه الصلاة والسلام كما لقي أصحابه من ذلك شيئاً كثيراً، ولقي عليه الصلاة والسلام صنوفاً من الأذى الحسي المباشر الذي وقع من كفار قريش، وكان أول من صنع ذلك وابتدأه عمه أبو لهب.
فقد روى الترمذي أنه منذ أول يوم دعا فيه النبي عليه الصلاة والسلام قومه من بني هاشم، وكان قد دعاهم على الصفا، وورد أن أبا لهب أخذ حجراً بيده ليضرب به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبناء أبي لهب عتبة وعتيبة متزوجين ببنات النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر أبناءه أن يطلقوا بنات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما مات ابن النبي عليه الصلاة والسلام وهو عبدالله، استبشر أبو لهب وذهب يقول للناس: قد صار محمد أبتر يعني ليس له نسل يحفظ نسبه، وغير ذلك من هذه الوجوه.
ثم أيضاً كانت أم جميل، وهي زوجة أبي لهب تضع الشوك أمام بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وتضع القاذورات في طريقه وأمام بابه حتى تؤذيه عليه الصلاة والسلام وهو صابر محتسب، وفيها وفي زوجها نزلت سورة المسد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1).
ولما نزلت هذه الآيات أخذت أم جميل معها حجراً كبيراً وذهبت تبحث عن النبي عليه الصلاة والسلام حتى تضربه بذلك الحجر، فلقيت أبا بكر قالت: أين صاحبك فإني قد سمعت أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر، ثم صرفها الله عز وجل عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ذاك كان مع أبي بكر وهي تخاطب أبا بكر ولا ترى النبي عليه الصلاةوالسلام كما ورد في سيرة ابن هشام، وقال أبو بكر: يا رسول الله أما تراها رأتك؟
قال: (ما رأتني أخذ الله بصرها عني).

ولقي النبي صلى الله عليه وسلم الأذى عندما بصق عقبة بن أبي معيط في وجهه عليه الصلاةوالسلام، وعندما وضع صناديد قريش سلا الجزور على رقبته وهو ساجد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك وهو صابر محتسب.
حتى عندما جاءت فاطمة، وأزالت عنه الأذى وبكت رضي الله عنها صبّرها النبي عليه الصلاة والسلام.
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما وقعت هذه الحادثة دعا على أولئك القوم، وكلهم كما ورد في الرواية كانوا من قتلى بدر استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.

النوع السادس: المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية:

وكانت هذه من أشد أنواع الأذى الذي مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
في القصة المعروفة عندما اجتمعت قريش في خيف بني كنانة في وادي المحصب، وتحالفوا على بني هاشم وبني عبدالمطلب ألا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يجالسوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلقوها في الكعبة، ودام هذا الحصار ثلاث سنوات كاملة.
أخبر الصحابة رضوان الله عليهم ببعض ما جرى في ذلك قالوا: حتى قرحت أشداقنا يعني تشققت، وقالوا: حتى أكلنا ورق الشجر، وقال سعد: ذهبت أقضي حاجتي وأتبول، فسمعت قعقعة فالتفتُ فإذا هي شن، يعني قطعة من جلد قاسية قال: فأخذتها فدققتها فكانت قوتي أياماً، من شدة ما لقي النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من الصحابة لم يصدهم ذلك عن دينهم ولم يلينوا في مواقفهم، ولم يوافقوا أعداءهم، بل كان للنبي عليه الصلاة والسلام ولأصحابه صبر عظيم تجاوزوا به هذه المحن كلها، وثبتوا في دين الله عز وجل.
وكان هذا جملة ما لقي النبي عليه الصلاة والسلام من المشركين في الفترة المكية.
أما في الفترة المدنية فقد لقي منهم أموراً كثيرة احتاجت منه إلى صبر عظيم منها:
الأولى: صبره عليه الصلاة والسلام على الهجرة وشدتها وصعوبتها، وفراق أرضه وداره وأهله وسكناه، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً وهيناً، فصبر النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك واحتسب.
الثاني: صبره عليه الصلاة والسلام في المعارك والقتال الذي تعرض فيه للقتل ولإرادة قتله من أولئك الكافرين، كما فعلوا عندما كان في مكة تآمروا على قتله، لكن الله عز وجل نجاه منهم.

وكانوا في المعارك يقصدونه، ويريدون قتله عليه الصلاةوالسلام ففي يوم أحد: عندما شج وجهه عليه الصلاة والسلام، وسال دمه على وجنتيه، وكسرت رباعيته ودخلت حلقتا المغفر في وجنتيه، وانتزعهما بعض الصحابة، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
وغاية ما قاله عليه الصلاة والسلام في ذلك الظرف الشديد قال: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟).
لم يقل عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك، لم يدع عليهم حتى في هذا الوقت الذي أرادوا قصده.
وفي قصة أبي بن خلف الذي كان يبحث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ويقول: أين محمد لا نجوت إن نجا، كان يقصد قتل النبي صلى اللهعليهوسلم فأراد الصحابة أن يتعرضوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حربته ورماه بها، فأصابه وكان مقتله بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقي النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً شدة عظيمة في يوم الأحزاب كان حصاراً عظيماً اجتمع فيه شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد، حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأحجار على بطونهم من شدة الجوع.
قال جابر: فكشفتُ عن بطن النبي صلى الله عليه وسلم فإذا على بطنه حجرين من شدة ما كان من جوع ألم بهم في حصار جاء في وقت عصيب وشديد ، ومع ذلك كان صبر النبي عليه الصلاة والسلام عظيماً، وكان رضاه بقدر الله سبحانه وتعالى كبيراً وكان انتظاره وارتقابه وأمله في فرج الله سبحانه وتعالى كبيراً وثبت حتى حقق الله عز وجل له وللمؤمنين النصر والظفر: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: الآية25).
وأخبر بالعاقبة التي آلت إليها هذه الحادثة العصيبة قال عز وجل: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا} (الأحزاب: الآية27).
وجعل الله عز وجل الخير لمن صبروا وثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عندما نتحدث الآن عن مجاعة أو جوع شديد قد نتأثر لكننا لا نتأثر تأثر من مرت به مثل تلك الظروف ومرت به مجاعة شديدة، ورأى فيها ما رأى من الأذى والشدة والقسوة ونحو ذلك، فليس الخبر كالمعاينة.
وعندما نتحدث عن الأمن عندما يحصل انفراط للأمن، أو لا يكون الناس في أمن ويقع الخوف، من جرب ذلك وعرفه وكانت معرفته بأثره وبضرره وبخطره وبعظمه أكثر ممن لم يعرف ذلك، ولم يلقه أو يمر به في حياته.
ولذلك عندما نقرأ ذلك أو نتحدث عنه ينبغي أن نصوره ذلك التصوير الذي جاء على أكمل وأعظم صورة في آيات القرآن، وكذلك فيما وصف به الصحابة رضوان الله عليهم تلك الأحوال التي مرت.
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} (الأحزاب:10،11).
سماه الله عز وجل زلزالا شديدا {وزلزلوا زلزالاًْ} تأكيد بمفعول مطلق، ثم وصف بالشدة ليبلغ الأمر مداه.
ولذلك حذيفة رضي الله عنه عندما قال له بعض التابعين: كيف كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كنا نجهد، يعني نتعب قال: لو أدركناه لما تركناه يمشي على الأرض فقال حذيفة: لو كنت معنا يوم الأحزاب، يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم:(من يذهب ويأتي بخبر القوم؟)، فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر فقال: (من يأتي بخبر القوم وأضمن له العودة؟)، فلم يقم أحد، وفي القوم أبو بكر وعمر،( من يأتي بخبر القوم وله الجنة)، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قم يا حذيفة) فلم أجد من ذلك بداً.
هذا الموقف يدل على أن الصبر ليس مجرد كلمات خصوصا عندما يكون الأمر عظيماً.
لكن دعونا نأخذ المثال الذي قال عليه الصلاة والسلام أنه من أعظم ما مر به من الشدة.
هذا الموقف روته عائشة رضي الله عنها وهو حديث في الصحيح عند البخاري ومسلم.
سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله عليه الصلاة والسلام قالت: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال:{لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا}.
متى كانت هذه الحادثة؟
هذه الحادثة التي خرج فيها النبي صلى اللهعليهوسلم من مكة إلى الطائف ليدعو أهلها، خرج بعد صد مكة وإعراضها، وبعد ما لقي فيها من الإيذاء، فخرج بأمل وذهب إلى أولئك القوم.
نأتي بالروايات الأخرى لهذه الحادثة في سياق روايات السيرة وفيها بعض التفصيل أكثر مما ورد هنا.
انتهى النبي عليه الصلاةوالسلام إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف كانوا يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم يعني: أعقل القوم وأحسنهم وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو وأخواه مسعود وحبيب، فجلس إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فانظروا ماذا كان الجواب؟
قال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، يعني: إن كان الله أرسلك فأنا أشقق أستار الكعبة بمعنى ليس فقط عدم القبول وإنما السوء الشديد في الرد، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم قدرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت كاذباً على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام الرسول صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، هؤلاء أحسن الناس الذين الأمل فيهم أكبر، فخرج النبي صلى اللهعليهوسلم، فقال لهم: {إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني} كره النبي عليه الصلاة والسلام أن يبلغ قومه هذا الخبر وأن يشمتوا بما وقع له عليه الصلاة والسلام، فلم يفعلوا، وأشاعوا خبره وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، ويرمون الحصى حتى دميت أقدامه الشريفة عليه الصلاة والسلام.
موقف في غاية الشدة، ولذلك اعتبره النبي أشد ما لقي، وجاءت الآيات تصف مثل هذا الموقف في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} (الكهف:6).
{باخع نفسك} يعني مهلك نفسك، وأنت تريد إسلامهم، وتريد هدايتهم وهم يعرضون ويردون بمثل هذه الردود.
فالنبي عليه الصلاة والسلام لقي شيئاً شديداً، فذهب وخرج من الطائف ومضى كما قال عليه الصلاة والسلام: {يهيم على وجهه حتى استفاق في قرن الثعالب}.
في هذه الحادثة تعرفون أنه مكث عند حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة ودعا بذلك الدعاء العظيم:
(اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو أن يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).
منتهى الصبر والاحتمال وعدم اليأس، لقد كان بحق أعظم المواقف التي صبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو أعظم أنواع الصبر لأنه صبر في ميدان الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وهو أعظم ميدان؛ لأنه الميدان الذي حمله ويحمله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من بعده: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108).
(العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) كما قال عليه الصلاةوالسلام.
الراوي: أبو الدرداء المحدث:الألباني - المصدر: صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 6297
خلاصة حكم المحدث: صحيح



وهناك صور أخرى من الأذى الذي احتمله النبي عليه الصلاةوالسلام، ومن ذلك:
أذى المنافقين:
والمنافقون كان أذاهم دائماً في المكر والكيد والطعن من الظهر، وكانوا يرسلون الأقاويل، ويرجفون بالأراجيف، ويشيعون الشائعات، ويجوسون خلال الصفوف المؤمنة من داخلها، وكان هذا أيضاً أمر عظيم حتى جاء بعض الصحابة يستأذن في قتل عبدالله بن أبي؛ لأنه قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، وقال: ما نحن وأصحابنا أولئك إلا كقول القائل: سمن كلبك يأكلك، يعني أعطيناهم ديارنا وآويناهم وأطعمناهم، ثم يريدون أن يفعلوا بنا ما يفعلون، حتى جاء عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال: يا رسول الله إن كنت آمراً أحداً أن يقتله فمرني حتى لا أرى قاتل أبي، فتأخذني حمية فأقتله، فقال عليه الصلاةوالسلام: {لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، نحسن صحبته مادام فينا}.

الراوي:جابر بن عبدالله المحدث:الألباني - المصدر: صحيح الترمذي - الصفحة أو الرقم: 3315
خلاصة حكم المحدث: صحيح

وهذا تشريع، لكنه كذلك كان صبراً.
ونعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير مرة مع بعض أصحابه، ومعه أسامة بن زيد، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم راكباً على حمار، وأردف وراءه أسامة، وذهب ليعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، فمر بمجلس فيه أخلاط من المسلمين، وفيهم بعض المشركين وبعض اليهود، وفيهم عبدالله ابن أبي وعبدالله بن رواحة، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله ابن أبي: لا تغبروا علينا، يريد النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف الرسول، ونزل ودعاهم إلى الله وقرأ القرآن، فقال عبدالله بن أبي يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المرء لا أحسن من هذا، إن كان ما تقوله حق فلا تؤذنا في مجالسنا فمن جاءك منا فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، حتى استب المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يثبوا قال: فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويخفضهم حتى سكنوا.
كيد اليهود:
بالرغم من أنهم أهل كتاب إلا أنهم من أول قدوم النبي عليه الصلاة والسلام كذبوه عليهم لعنة الله، وذهبوا في فترة من الفترات بعد ذلك إلى قريش، وقالوا: أنتم أحسن ديناً من دين محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل كتاب.
وقالوا بعد بدر: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت أقواماً أغراراً لا علم لهم بالحرب، فلئن لقيتنا لعرفت أنا نحن الرجال.
وهم بينهم وبينه عهد وميثاق، ومع ذلك يقولون هذا القول.

وسعوا كما هو معلوم إلى قتل النبي عليه الصلاة والسلام في بني النضير عندما ذهب يطلبهم في إعانته على دية اثنين قتلهما عمرو بن أمية الضمري بالخطأ وهو عندهم، أرادوا أن يغدروا به، وصعد أشقاهم بعد ائتمارهم حتى يلقي حجر الرحى فوق النبي عليه الصلاة والسلام فيقتله، قالوا: لن تجد الرجل في حال أحسن مما هو عليه بين أظهركم، فقام أشقى القوم وهو عمرو بن جحاش، فصعد حتى يلقي بالرحى فوق النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الله سبحانه وتعالى، وأنزل عليه الوحي فخرج من بين أظهرهم، ثم حاصرهم وأجلاهم.
وأيضاً كان منهم ما كان من تأليب الأحزاب، ومر الموقف العصيب بتأليب اليهود وهو قد ذكرناه.
ثم كان لليهود سبب بقدر الله عز وجل في موت رسول الله عليه الصلاة والسلام في القصة المشهورة قصة السم الذي وضعته المرأة اليهودية للنبي عليه الصلاة والسلام في الذراع، وكان أحب شيء إليه الذراع فنهس منها نهسة واحدة وقال عليه الصلاةوالسلام: (إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم).
وكان البراء بن المعرور قد أكل من هذا اللحم فمات بذلك، وأما النبي عليه الصلاة والسلام فنجا، لكنه عند موته كما ورد في أحاديث كثيرة قال: (ما زالت أكلة خيبر تعاودني أو تعادني فهذا أوان انقطاع أبهري).
والأبهر: هو العرق الذي هو سبب أو يكون بعده الموت.

وهنا نرى كما قلنا تنوع ما مر بالنبي عليه الصلاة والسلام من كل هذه الأنواع، وبقي أن نشير إلى أمر واضح جلي لم يبلغ أحد فيه مبلغ رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو:

الصبر على الطاعات:
من الصبر، الصبر على الطاعات، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويقرأ بما يقرأ من البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة، وكان يصوم وربما سرد الصوم يومين وثلاثة، وكان ما ابتدأ عبادة إلا بقي مواظباً عليها لا يتركها حتى وفاته عليه الصلاةوالسلام، ولم يكن أحد أبلغ منه في مثل هذا ولا أكثر عبادة ولا خشوعاً ولا أصبر على مثل هذه العبادات وأكثر تعلقاً بها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما أعظم صبره، وما أكبر احتماله، وما أوسع حلمه، وما أجل شجاعته عليه الصلاة والسلام، فالصبر خلق مهم لابد أن نحرص فيه على الاقتداء برسولنا عليه الصلاة والسلام.

كتبت : صفاء العمر
-
جزاك الله خير
ولا حرمك الله الاجر
كتبت : Hayat Rjeem
-
اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد

كتبت : دكتورة سامية
-
كتبت : سنبلة الخير .
-
صلى الله عليه وسلم

جزاك الله خير الجزاء غاليتي

سلمت يداكِ على اطروحاتك الهادفة

اسال الله ان يجعلها في موازين حسناتكِ

بوركتِ
الصفحات 1 2 

التالي

من شمائل وخصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التواضع

السابق

شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم واخلاقه

كلمات ذات علاقة
الله , الرسول , الصبر , شمائل , صلى , عليه , وحشائش , وسلم