الحفرة في الطريق العام للشيخ على بن عمر بادحدح
مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت :
~ عبير الزهور ~
-
الحفرة في الطريق العام للشيخ على بن عمر بادحدح
الحفرة في الطريق العام للشيخ على بن عمر بادحدح

الحفرة في الطريق العام للشيخ على بن عمر بادحدح
وصية الله للأولين والآخرين تقواه في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
إخوة الإسلام:
حفرة في الطريق العام إذا كانت كبيرة فإنها ستضر من يقع فيها وربما تعطب السيارات التي تمر بها ليس هناك من حل إلا ردم هذه الحفرة وتسوية الطريق من جديد أو على أقل تقدير وضع لوحة تنبه وتحذر وتصرف عن الوقوع فيها لكي يكون هناك طريق سالم وآمن، ذلك ما نعرفه!
ذلك ما نراه!.
دعونا نأخذ صورة أخرى، لو كانت الحفرة في فناء بيت أحدهم فإن الأمر ليس فيه كبير خطر ولا عظيم ضرر وإن صاحبها يعرف بوقوعها وإن وقع فيها فهو الذي يتحمل مسئوليته، والحفرة في الطريق العام لا نتصور سهولة وقوعها، من الذي يحفرها؟
من الذي يأتي في طريق الناس وأمام أعينهم ويقوم بذلك؟!
ومن هنا ننتقل إلى هذه الصورة المهمة في واقع الحياة اليومية لننظر إليها بمنظار مماثل وصورة مطابقة لكنها في أمر أعظم وأجلْ وأكثر خطراً وضرراً من تلك الحفرة في الطريق العام.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: (كل أمتي معافىً إلا المجاهرين)، قالوا: "ومن المجاهرين؟"، قال: (الذي يعمل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستر الله عليه ويقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره الله جلّ وعلا)، (كل أمتي معافى) أي من العافية وهي على معنيين ذكرهما شرّاح الحديث: إما أنه يعفو الله سبحانه وتعالى عنه ما دام الذنب بينه وبين خالقه مستوراً لم يطّلع عليه أحد، أو أنه ما دام لم يعلن ذنبه فحقه أن يستر عليه ولا تجوز غيبته وهتك ستره، أما المستثنى من ذلك وهم المجاهرون فهم أصحاب الحفرة في الطريق العام، فعلوا المنكر إما علانية أمام الناس وإما أعلنوا عن فعلهم الذي لم يره أحد من الناس وحينئذ كانت حفرتهم في الطريق العام سيقع فيها كثيرون.
ولننظر إلى بعض المخاطر والأضرار التي تترتب على تلك المجاهرة والتي نفهم من خلالها هذا الاستثناء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أعظم هذه المخاطر والعياذ بالله التهوين من قدر الله جلّ وعلا؛ لأن المجاهرة بالمعصية ضرب من ضروب المحادة لله ولرسوله ولون من ألوان إعلان الحرب الذي ورد في قول الحق جلّ وعلا في آيات الربا: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وهذا في غاية الخطر؛ لأن الحق جلّ وعلا قد بيّن أن تعظيم الحق سبحانه وتعالى وتعظيم شرعه وتعظيم كل أمر متصل به هو جوهر الإيمان والتوحيد، ولذا جاء القرآن معاتباً ومحذراً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]
وجاءت الآيات في سورة نوح: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]، قال ابن عباس: "لا تعظمون الله حق تعظيمه"، فالمعصية تهوين من تعظيم الله لكنها إن كانت معلنة كان هذا هو الخطر في الحفرة في الطريق العام.
وأمر آخر وضرر آخر وهو تهوين الصلاح والإصلاح وفي ذلك تعريض حتى برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يصف نفسه وسيرته تحقق ذلك بتنزهه عن كل أمر فيه مخالفة صغيراً كان أو كبيرا، والصالحون من الصحابة والتابعين والسلف الصالح والأئمة والعلماء والأخيار والأبرار والأطهار عبر الزمن إنما مُدحوا بتلك الطاعات وإنما أثني عليهم بتجنب المعاصي والسيئات: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]
{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35]
إنما جعلوا قدوات لامتثال الأوامر واجتناب النواهي فإذا جاء الإعلان بالمعصية فكأنه يقول إنما مسلك هؤلاء ليس حسناً أو خذوا هذا المسلك وهو ظاهر أمامكم مع ما فيه كما نعلم من الترغيب في الشهوات والإغراء بالملذات والإغواء بتلك البهارج والمظاهر وما فيها من الفتن والتأثير على العواطف والمشاعر.
وخطر ثالث أيضاً وهو خطر تلبيس الدين وعدم معرفة الحق من الباطل لدى بعض الناس؛ لأنه إذا كان المنكر معلناً ثم استمر ودام ثم لم يكن له إنكار ثم لم يأت عليه منع فإن بعض الناس من الجهل قد يظن ذلك صواباً وقد لا يرى فيه غضاضة خاصة إذا تكلمت الألسنة بتبريره وتسويغه أو تلبيس الحق بالباطل فيقال عن العري فناً!!
ويقال عن الخمر مشروبات روحية!!
ويقال عن الربا المحرم فوائد بنكية!!
فيلتبس الأمر على الناس ويختلط، وهذا يقع وإن كان في قلة من الناس ومن هنا جاء خطر الإعلان لتلك المعاصي على هذا الوجه الذي ورد في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وخطر رابع وهو المعاندة وإظهار المصادمة فالمجتمع بين الفضيلة التي أساسها راسخ في الإيمان والإسلام والخُلق والقيم الفاضلة لكنها لم تجد قوة لتعلن عن نفسها وإن كان أغلب الناس يأخذ بها لكن يأتي الإعلان المواجه بتلك المعصية وكأنه يتحدى الناس ويستفزهم ويثير حفائظهم ويعلن أنه رغم إنكارهم باق ورغم عدم رضاهم مستمر وهذا شرخ يقع في المجتمعات وقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه فيما يتعلق بترك المنكرات وعدم الإنكار عليها وما يترتب عليه من العقوبة، ومن ذلك حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه أوشك الله أن يعمّهم بعقاب من عنده)
الراوي: قيس بن أبي حازم المحدث:الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4338
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وذلك معلوم ظاهر.
وتلك قضايا كثيرة فيها تلك المخاطر التي أشرنا إليها في مثل الحفرة.
وثمة خطر هو من أجلّ الأخطار ولا يكاد يبرأ من أثره أحد حتى الذي ينكر ولا يرضى وهو أثر إضعاف الحياء في نفوس الناس ولست أعني الحياء فيما يتعلق بكشف العورات أو الدعوة إلى تلك المفاسد والفواحش وإنما كل أمر تقع فيه المخالفات المعلنة يحصل به قلة الحياء؛ لأن الحياء كما بيّنه نبينا صلى الله عليه وسلم إنما هو استشعار مراقبة الله ومطالعته للعبد فيستحيي أن يراه في معصية ومخالفة حتى وإن لم تكن من هذا الباب.
وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وهذا خطر جدير بأن يكون من المخاطر التي يعتنى بها.
روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعل رجلاً يأتي بالليل أهله ولعل امرأة تفضي إلى زوجها ثم يصبح يكشف سترها)
يعني يخبر بما جرى حتى في الأمر المباح المشروع؛ لأن في الإسلام رفعة وذوقاً وحياء وإيماناً يمنع من مثل ذلك، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء بنت يزيد إلى ذلك قال: (لعل أحدكم يذكر ما يكون مع أهله ولعل زوجة تذكر ما كان بين زوجها فأرمّ القوم) أي سكتوا، فقالت: "إي يا رسول الله، إنهن ليفعلن وإنهم ليقولون" يعني يحصل شيء من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك كمثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)، مرة أخرى عدنا إلى المشهد العام إلى الحفرة في الطريق العام، إلى خدش الحياء، إلى إشاعة الفاحشة؛ وذلك ما حذر الله عز وجل منه وتوعّد عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
حتى الأمر الذي هو مباح مشروع ثمة نهي عن ذلك؛ لئلا تشيع تلك الصور والعلاقات فيكون منها ترويج لأمر غير مباح ولفاحشة ولقلة الذوق والحياء في مجتمعات المسلمين: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41]، وهذا ضرب أيضاً من ضروب الآثار نصّت عليه الآيات؛ لأن تلك من سبل الله عز وجل، كيف يكون ظهور الفساد في البر والبحر؟ تلك صورة تكشف عن تكراره، كثرته، إعلانه، أي هذا الفساد لم يعد مخفياً!
لم يعد قليلاً!
لم يعد منقطعاً!
بل كانت له هذه الصورة حتى صار ظاهراً، والتعبير القرآني البليغ يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والفساد بأل التعريف لدليل التعميم أي كل أنواع الفساد سمّه فساداً إدارياً سمّه فساداً خلقياً سمّه فساداً عقدياً سمّه فساداً سياسياً سمّه فساداً اقتصادياً كل أنواع الفساد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} فذلك من أشر كسبهم وفعلهم من ما يفعلون ومن من قد يرضون ويمالئون ويعينون وممن قد يسكتون ويقبلون وممن وممن حتى يعمّ الأمر كل الناس والعياذ بالله فتأتي الآثار على هذا النحو: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال أبو العالية من التابعين: "من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة"، فكل معصية إسهام في الفساد في الأرض: {ظَهَرَ الْفَسَادُ } كما قال الحق جلّ وعلا، وقال ابن كثير: "إن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي"، صور عامة وسنن ماضية.
ولعلنا هنا نأتي إلى تصوير نبوي في غاية السمو التربوي، وفي غاية التعليم والتهذيب الخلقي، عندما قال صلى الله عليه وسلم كما عند الحاكم في مستدركه بسند صحيح: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله)، إنها قاذورات!
هل ترون أحداً يأتي إلى بعض القاذورات ويتلطخ بها؟!
هل ترون أحداً إذا جاءت فيه بعض هذه القاذورات وهو يمشي في الطريق جاءت سيارة فجاءه بعض الأذى منه أو شيء من ذلك يرضى بأن تبقى عليه؟!
أم يبادر إلى التطهير مباشرة وبعد التطهير يزيد عطراً حتى يزيل أثر تلك القاذورات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
والتصوير الذي أشرت إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى المعاصي قاذورات؛ لأن النفوس تعافها ولأن الناس يشمئزون منها فإن كنت على سبيل المثال أسير وفي ثوبي قاذورات لم يجلس الناس بجواري سوف يزكم أنوفهم تلك الروائح ويبتعدون عني فكيف نرى عكس ذلك؟!
نرى المتلطخين بالقاذورات أو المعاصي والناس حولهم مجتمعون!
وعليهم متكالبون!
وإليهم قادمون أو يريدون!
ونحو ذلك، هنا نلتفت إلى هذا.
ورواية هذا الحديث عند الإمام مالك في موطئه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس قد آن أن تنتهوا عن حدود الله فمن أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله) وهنا يفترق الناس وبين من فعل منكراً: (وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، من استتر بمعصيته فإن ذلك دليل على إيمان حيّ في قلبه وعلى أنه ليس ممن قد تجاوز الحدود فجهر بمعصيته أمام الناس أو أعلن عن فعلها بالفم المليان كما نقول، فهذا له عند الله في الدنيا والآخرة شأن غير الشأن الآخر.
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر عند البخاري ومسلم أن الله جلّ وعلا يوم القيامة يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ثم يقرره فيقول: (أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟) والعبد يقرّ ويقول: نعم يا الله، ويخشى أن يأخذه الله بذنبه، فيقول الحق جلّ وعلا: (سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) فيعطى كتاب حسناته، وقد يكون فعل مثل الآخر لكنه كان مستتراً، لكنه استسلم لضعفه البشري ولم يجهر ولم يحاد الله عز وجل، ولم يعلن مخالفته لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يزعج ويغيظ الصالحين في استقامتهم بأن يعلن لهم المخالفة والمعصية على رؤوس الأشهاد، وأما الآخر فحسبنا أن نذكر ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به عن حاله في الدنيا: (من دعا إلى ضلالة فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا).
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذني وإياكم من الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن وأن يعصمنا من الشرور والمآثم والسيئات وأن لا يجعلنا من المجاهرين وأن يعافينا ويعفو عنا، أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه وإن من أعظم التقوى اجتناب المجاهرة بالمعاصي والعياذ بالله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97-99].
لا ينبغي أن يكون هذا الأمر وتلك الصورة، الحفرة في الطريق إن لم تردم إن لم تأت جهة مختصة لتحذر الناس أو تجعل إشارة لطريق آخر، ماذا يكون؟ نرى الناس يقومون ويضعون شيئاً أو يسدون أو يبادرون؛ لأنهم يعلمون أن الأثر الوخيم حاصل، وأنهم ربما يقعون هم بأنفسهم في هذه الحفرة، ولذلك لا ينبغي أن تكون الألسن خرساء والأعين عمياء والآذان صماء، فكأنها لا ترى منكراً فتنكره بالقلب أو تشير إلى حكمه باللسان أو تبين للناس خطره وضرره أو تسعى بالسعي الصحيح إلى تغييره وتبديله وفق الحكمة والشرع ومن الطريق الصحيح فإن مثل ذلك كما قلت تعمّ آثاره وتنتشر أضراره ويصبح كحفرة في الطريق العام سوف يكون أثرها خطيراً.
وهذا المثل أداره وتكلم عنه أديب مسلم غيور أجراه في حوار مع امرأة أجنبية غير مسلمة فشبّه في آخر الحوار أن كشف العورات الذي تقوله بأنه حرية شخصية كالحفرة العامة، قال: إذا كانت المرأة متهتكة متبرجة كاشفة عن كل عورتها وتقول هذه حريتي!
فنقول إنها حفرة فإما أن تردموها -أي تستروها- وإما أن تعلنوا الخطر حتى يجتنبها الناس وذلك في صور كثيرة شتى.
ولعلي هنا أختم في هذا المقام بالصور الأساسية والخطيرة وهي التي تأخذ صفة ذات استمرارية دائمة وإقرار عملي بصحتها وكثير من ذلك ظاهر في الأمور المتصلة بالإعلام ووسائل الإعلام الذي ينشر المنكر ويعيده ويكرره ويؤسس له وينفق عليه ويسعى في نشره ويدعو الناس إليه ويتأثر الناس به وكأن شيئاً لا يوجد عندنا له حرمة لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويزداد الأمر -أيها الإخوة- في مثل هذه الحالات عندما يكون مثل هذه المنكرات واللهو والعبث وانتشار تلك الصور في وقت تسفك فيه دماء إخواننا وتدمر بيوتهم وتهدم مساجدهم في سوريا وفي بورما وفي غيرها ونحن نستدعي كثيراً من هذه الصور ونعلنها ونشيعها بين الناس وفي بلد قريب مجاور يستضيفون من يستضيفون ويعلنون ذلك على رؤوس الأشهاد وينقلونه عبر الشاشات ويفعلون كثيراً من الأمور التي هي في تصوري أكبر صورة لتلك المجاهرة وأعظم مشهد يمكن أن يكون للمحادة لله ولرسوله أعاذنا الله وإياكم.
ولذلك نعيد مرة أخرى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، أعاذنا الله وإياكم من الشرور والفتن ومن البلايا والمحن.
الحفرة في الطريق العام للشيخ على بن عمر بادحدح

الحفرة في الطريق العام للشيخ على بن عمر بادحدح
وصية الله للأولين والآخرين تقواه في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
إخوة الإسلام:
حفرة في الطريق العام إذا كانت كبيرة فإنها ستضر من يقع فيها وربما تعطب السيارات التي تمر بها ليس هناك من حل إلا ردم هذه الحفرة وتسوية الطريق من جديد أو على أقل تقدير وضع لوحة تنبه وتحذر وتصرف عن الوقوع فيها لكي يكون هناك طريق سالم وآمن، ذلك ما نعرفه!
ذلك ما نراه!.
دعونا نأخذ صورة أخرى، لو كانت الحفرة في فناء بيت أحدهم فإن الأمر ليس فيه كبير خطر ولا عظيم ضرر وإن صاحبها يعرف بوقوعها وإن وقع فيها فهو الذي يتحمل مسئوليته، والحفرة في الطريق العام لا نتصور سهولة وقوعها، من الذي يحفرها؟
من الذي يأتي في طريق الناس وأمام أعينهم ويقوم بذلك؟!
ومن هنا ننتقل إلى هذه الصورة المهمة في واقع الحياة اليومية لننظر إليها بمنظار مماثل وصورة مطابقة لكنها في أمر أعظم وأجلْ وأكثر خطراً وضرراً من تلك الحفرة في الطريق العام.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أنه قال: (كل أمتي معافىً إلا المجاهرين)، قالوا: "ومن المجاهرين؟"، قال: (الذي يعمل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستر الله عليه ويقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره الله جلّ وعلا)، (كل أمتي معافى) أي من العافية وهي على معنيين ذكرهما شرّاح الحديث: إما أنه يعفو الله سبحانه وتعالى عنه ما دام الذنب بينه وبين خالقه مستوراً لم يطّلع عليه أحد، أو أنه ما دام لم يعلن ذنبه فحقه أن يستر عليه ولا تجوز غيبته وهتك ستره، أما المستثنى من ذلك وهم المجاهرون فهم أصحاب الحفرة في الطريق العام، فعلوا المنكر إما علانية أمام الناس وإما أعلنوا عن فعلهم الذي لم يره أحد من الناس وحينئذ كانت حفرتهم في الطريق العام سيقع فيها كثيرون.
ولننظر إلى بعض المخاطر والأضرار التي تترتب على تلك المجاهرة والتي نفهم من خلالها هذا الاستثناء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، من أعظم هذه المخاطر والعياذ بالله التهوين من قدر الله جلّ وعلا؛ لأن المجاهرة بالمعصية ضرب من ضروب المحادة لله ولرسوله ولون من ألوان إعلان الحرب الذي ورد في قول الحق جلّ وعلا في آيات الربا: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]، وهذا في غاية الخطر؛ لأن الحق جلّ وعلا قد بيّن أن تعظيم الحق سبحانه وتعالى وتعظيم شرعه وتعظيم كل أمر متصل به هو جوهر الإيمان والتوحيد، ولذا جاء القرآن معاتباً ومحذراً: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]
وجاءت الآيات في سورة نوح: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13]، قال ابن عباس: "لا تعظمون الله حق تعظيمه"، فالمعصية تهوين من تعظيم الله لكنها إن كانت معلنة كان هذا هو الخطر في الحفرة في الطريق العام.
وأمر آخر وضرر آخر وهو تهوين الصلاح والإصلاح وفي ذلك تعريض حتى برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يصف نفسه وسيرته تحقق ذلك بتنزهه عن كل أمر فيه مخالفة صغيراً كان أو كبيرا، والصالحون من الصحابة والتابعين والسلف الصالح والأئمة والعلماء والأخيار والأبرار والأطهار عبر الزمن إنما مُدحوا بتلك الطاعات وإنما أثني عليهم بتجنب المعاصي والسيئات: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]
{فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} [الأحقاف: 35]
إنما جعلوا قدوات لامتثال الأوامر واجتناب النواهي فإذا جاء الإعلان بالمعصية فكأنه يقول إنما مسلك هؤلاء ليس حسناً أو خذوا هذا المسلك وهو ظاهر أمامكم مع ما فيه كما نعلم من الترغيب في الشهوات والإغراء بالملذات والإغواء بتلك البهارج والمظاهر وما فيها من الفتن والتأثير على العواطف والمشاعر.
وخطر ثالث أيضاً وهو خطر تلبيس الدين وعدم معرفة الحق من الباطل لدى بعض الناس؛ لأنه إذا كان المنكر معلناً ثم استمر ودام ثم لم يكن له إنكار ثم لم يأت عليه منع فإن بعض الناس من الجهل قد يظن ذلك صواباً وقد لا يرى فيه غضاضة خاصة إذا تكلمت الألسنة بتبريره وتسويغه أو تلبيس الحق بالباطل فيقال عن العري فناً!!
ويقال عن الخمر مشروبات روحية!!
ويقال عن الربا المحرم فوائد بنكية!!
فيلتبس الأمر على الناس ويختلط، وهذا يقع وإن كان في قلة من الناس ومن هنا جاء خطر الإعلان لتلك المعاصي على هذا الوجه الذي ورد في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وخطر رابع وهو المعاندة وإظهار المصادمة فالمجتمع بين الفضيلة التي أساسها راسخ في الإيمان والإسلام والخُلق والقيم الفاضلة لكنها لم تجد قوة لتعلن عن نفسها وإن كان أغلب الناس يأخذ بها لكن يأتي الإعلان المواجه بتلك المعصية وكأنه يتحدى الناس ويستفزهم ويثير حفائظهم ويعلن أنه رغم إنكارهم باق ورغم عدم رضاهم مستمر وهذا شرخ يقع في المجتمعات وقد أشرنا مراراً وتكراراً إلى ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه فيما يتعلق بترك المنكرات وعدم الإنكار عليها وما يترتب عليه من العقوبة، ومن ذلك حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه أوشك الله أن يعمّهم بعقاب من عنده)
الراوي: قيس بن أبي حازم المحدث:الألباني - المصدر: صحيح أبي داود - الصفحة أو الرقم: 4338
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وذلك معلوم ظاهر.
وتلك قضايا كثيرة فيها تلك المخاطر التي أشرنا إليها في مثل الحفرة.
وثمة خطر هو من أجلّ الأخطار ولا يكاد يبرأ من أثره أحد حتى الذي ينكر ولا يرضى وهو أثر إضعاف الحياء في نفوس الناس ولست أعني الحياء فيما يتعلق بكشف العورات أو الدعوة إلى تلك المفاسد والفواحش وإنما كل أمر تقع فيه المخالفات المعلنة يحصل به قلة الحياء؛ لأن الحياء كما بيّنه نبينا صلى الله عليه وسلم إنما هو استشعار مراقبة الله ومطالعته للعبد فيستحيي أن يراه في معصية ومخالفة حتى وإن لم تكن من هذا الباب.
وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وهذا خطر جدير بأن يكون من المخاطر التي يعتنى بها.
روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لعل رجلاً يأتي بالليل أهله ولعل امرأة تفضي إلى زوجها ثم يصبح يكشف سترها)
يعني يخبر بما جرى حتى في الأمر المباح المشروع؛ لأن في الإسلام رفعة وذوقاً وحياء وإيماناً يمنع من مثل ذلك، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسماء بنت يزيد إلى ذلك قال: (لعل أحدكم يذكر ما يكون مع أهله ولعل زوجة تذكر ما كان بين زوجها فأرمّ القوم) أي سكتوا، فقالت: "إي يا رسول الله، إنهن ليفعلن وإنهم ليقولون" يعني يحصل شيء من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك كمثل شيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)، مرة أخرى عدنا إلى المشهد العام إلى الحفرة في الطريق العام، إلى خدش الحياء، إلى إشاعة الفاحشة؛ وذلك ما حذر الله عز وجل منه وتوعّد عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
حتى الأمر الذي هو مباح مشروع ثمة نهي عن ذلك؛ لئلا تشيع تلك الصور والعلاقات فيكون منها ترويج لأمر غير مباح ولفاحشة ولقلة الذوق والحياء في مجتمعات المسلمين: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41]، وهذا ضرب أيضاً من ضروب الآثار نصّت عليه الآيات؛ لأن تلك من سبل الله عز وجل، كيف يكون ظهور الفساد في البر والبحر؟ تلك صورة تكشف عن تكراره، كثرته، إعلانه، أي هذا الفساد لم يعد مخفياً!
لم يعد قليلاً!
لم يعد منقطعاً!
بل كانت له هذه الصورة حتى صار ظاهراً، والتعبير القرآني البليغ يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} والفساد بأل التعريف لدليل التعميم أي كل أنواع الفساد سمّه فساداً إدارياً سمّه فساداً خلقياً سمّه فساداً عقدياً سمّه فساداً سياسياً سمّه فساداً اقتصادياً كل أنواع الفساد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} فذلك من أشر كسبهم وفعلهم من ما يفعلون ومن من قد يرضون ويمالئون ويعينون وممن قد يسكتون ويقبلون وممن وممن حتى يعمّ الأمر كل الناس والعياذ بالله فتأتي الآثار على هذا النحو: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال أبو العالية من التابعين: "من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة"، فكل معصية إسهام في الفساد في الأرض: {ظَهَرَ الْفَسَادُ } كما قال الحق جلّ وعلا، وقال ابن كثير: "إن النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي"، صور عامة وسنن ماضية.
ولعلنا هنا نأتي إلى تصوير نبوي في غاية السمو التربوي، وفي غاية التعليم والتهذيب الخلقي، عندما قال صلى الله عليه وسلم كما عند الحاكم في مستدركه بسند صحيح: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها فمن ألمّ بشيء منها فليستتر بستر الله)، إنها قاذورات!
هل ترون أحداً يأتي إلى بعض القاذورات ويتلطخ بها؟!
هل ترون أحداً إذا جاءت فيه بعض هذه القاذورات وهو يمشي في الطريق جاءت سيارة فجاءه بعض الأذى منه أو شيء من ذلك يرضى بأن تبقى عليه؟!
أم يبادر إلى التطهير مباشرة وبعد التطهير يزيد عطراً حتى يزيل أثر تلك القاذورات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
والتصوير الذي أشرت إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى المعاصي قاذورات؛ لأن النفوس تعافها ولأن الناس يشمئزون منها فإن كنت على سبيل المثال أسير وفي ثوبي قاذورات لم يجلس الناس بجواري سوف يزكم أنوفهم تلك الروائح ويبتعدون عني فكيف نرى عكس ذلك؟!
نرى المتلطخين بالقاذورات أو المعاصي والناس حولهم مجتمعون!
وعليهم متكالبون!
وإليهم قادمون أو يريدون!
ونحو ذلك، هنا نلتفت إلى هذا.
ورواية هذا الحديث عند الإمام مالك في موطئه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس قد آن أن تنتهوا عن حدود الله فمن أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله) وهنا يفترق الناس وبين من فعل منكراً: (وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، من استتر بمعصيته فإن ذلك دليل على إيمان حيّ في قلبه وعلى أنه ليس ممن قد تجاوز الحدود فجهر بمعصيته أمام الناس أو أعلن عن فعلها بالفم المليان كما نقول، فهذا له عند الله في الدنيا والآخرة شأن غير الشأن الآخر.
في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر عند البخاري ومسلم أن الله جلّ وعلا يوم القيامة يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ثم يقرره فيقول: (أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟) والعبد يقرّ ويقول: نعم يا الله، ويخشى أن يأخذه الله بذنبه، فيقول الحق جلّ وعلا: (سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم) فيعطى كتاب حسناته، وقد يكون فعل مثل الآخر لكنه كان مستتراً، لكنه استسلم لضعفه البشري ولم يجهر ولم يحاد الله عز وجل، ولم يعلن مخالفته لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يزعج ويغيظ الصالحين في استقامتهم بأن يعلن لهم المخالفة والمعصية على رؤوس الأشهاد، وأما الآخر فحسبنا أن نذكر ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به عن حاله في الدنيا: (من دعا إلى ضلالة فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا).
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذني وإياكم من الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن وأن يعصمنا من الشرور والمآثم والسيئات وأن لا يجعلنا من المجاهرين وأن يعافينا ويعفو عنا، أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه وإن من أعظم التقوى اجتناب المجاهرة بالمعاصي والعياذ بالله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97-99].
لا ينبغي أن يكون هذا الأمر وتلك الصورة، الحفرة في الطريق إن لم تردم إن لم تأت جهة مختصة لتحذر الناس أو تجعل إشارة لطريق آخر، ماذا يكون؟ نرى الناس يقومون ويضعون شيئاً أو يسدون أو يبادرون؛ لأنهم يعلمون أن الأثر الوخيم حاصل، وأنهم ربما يقعون هم بأنفسهم في هذه الحفرة، ولذلك لا ينبغي أن تكون الألسن خرساء والأعين عمياء والآذان صماء، فكأنها لا ترى منكراً فتنكره بالقلب أو تشير إلى حكمه باللسان أو تبين للناس خطره وضرره أو تسعى بالسعي الصحيح إلى تغييره وتبديله وفق الحكمة والشرع ومن الطريق الصحيح فإن مثل ذلك كما قلت تعمّ آثاره وتنتشر أضراره ويصبح كحفرة في الطريق العام سوف يكون أثرها خطيراً.
وهذا المثل أداره وتكلم عنه أديب مسلم غيور أجراه في حوار مع امرأة أجنبية غير مسلمة فشبّه في آخر الحوار أن كشف العورات الذي تقوله بأنه حرية شخصية كالحفرة العامة، قال: إذا كانت المرأة متهتكة متبرجة كاشفة عن كل عورتها وتقول هذه حريتي!
فنقول إنها حفرة فإما أن تردموها -أي تستروها- وإما أن تعلنوا الخطر حتى يجتنبها الناس وذلك في صور كثيرة شتى.
ولعلي هنا أختم في هذا المقام بالصور الأساسية والخطيرة وهي التي تأخذ صفة ذات استمرارية دائمة وإقرار عملي بصحتها وكثير من ذلك ظاهر في الأمور المتصلة بالإعلام ووسائل الإعلام الذي ينشر المنكر ويعيده ويكرره ويؤسس له وينفق عليه ويسعى في نشره ويدعو الناس إليه ويتأثر الناس به وكأن شيئاً لا يوجد عندنا له حرمة لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويزداد الأمر -أيها الإخوة- في مثل هذه الحالات عندما يكون مثل هذه المنكرات واللهو والعبث وانتشار تلك الصور في وقت تسفك فيه دماء إخواننا وتدمر بيوتهم وتهدم مساجدهم في سوريا وفي بورما وفي غيرها ونحن نستدعي كثيراً من هذه الصور ونعلنها ونشيعها بين الناس وفي بلد قريب مجاور يستضيفون من يستضيفون ويعلنون ذلك على رؤوس الأشهاد وينقلونه عبر الشاشات ويفعلون كثيراً من الأمور التي هي في تصوري أكبر صورة لتلك المجاهرة وأعظم مشهد يمكن أن يكون للمحادة لله ولرسوله أعاذنا الله وإياكم.
ولذلك نعيد مرة أخرى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، أعاذنا الله وإياكم من الشرور والفتن ومن البلايا والمحن.