الإدراك بأسباب الهلاك

مجتمع رجيم / عــــام الإسلاميات
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
الإدراك بأسباب الهلاك
الإدراك بأسباب الهلاك




الإدراك 8urkacdbomxo21mvt78d



الإدراك بأسباب الهلاك


صلاح عامر قمصان

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم.
روى البخاري وأحمد، عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُوبِقَاتِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ".



وفي الصحيحين من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ".


وفي "الحلية" لأبي نعيم، عن حذيفة: انه قيل له في يوم واحد تركت بنوا إسرائيل دينهم. قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء فعلوه، حتي انسخلوا من دينهم، كما ينسلخ الرجل من قميصه.


ومن ههنا قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر، كما ان القبلة بريد الجماع، والغناء بريد الزنا، والنظر بريد العشق، والمرض بريد الموت.


وفي الحلية أيضا عن ابن عباس أنه قال: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ، لَا تَأْمَنَنَّ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَلِمْتَهُ، فَإِنَّ قِلَّةَ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ، وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ، أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَفَرَحُكَ بِالذَّنْبِ إِذَا ظَفَرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَحُزْنُكَ عَلَى الذَّنْبِ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا ظَفَرْتَ بِهِ، وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ، وَيْحَكَ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَابْتَلَاهُ اللهُ تَعَالَى بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ؟
إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظُلْمٍ يَدْرَؤُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُعِنْهُ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَعْرُوفٍ وَيَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِ هَذَا الْمِسْكِينِ.


وقال الإمام أحمد حدثنا الوليد قال سمعت الأوزاعي يقول سمعت هلال بن سعد يقول لا تنظر الى صغر الخطيئة ولكن أنظر إلى من عصيت.


وقال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله. وقيل أوحي الله تعالى إلى موسي: "يا موسى إن أول من مات من خلقي إبليس، وذلك لأنه أول من عصاني، وإنما أعد من عصاني من الأموات".


وفي المسند وجامع الترمذي من حديث أبي صالح عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "قَالَ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ فَإِنْ زَادَ زَادَتْ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"[1].
إهلاك الكافرين:
قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾ [الطلاق: 8-9].


وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [غافر: 21-22].


وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [الأعراف: 100].


وقال تعالى عن إهلاكه لقوم لوط: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴾[هود: 82-83].
وقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأحقاف: 21-25].
وقال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾[الأنعام: 25-26].
وقال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ [الأنعام: 6].
وقال تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ * وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ﴾ [الحاقة: 3 -10].


الاختلاف على الأنبياء:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"[2].
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ يَقُولُ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا، قَالَ: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ "[3].
ويقول الإمام أحمد: من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة.[4]
وقال ابن وهب كنا عند مالك فذكرت السنة، فقال مالك: "السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".[5]
وعن الفضيل بن عياض - رحمه الله -: اتبع سبل الهدى، و لا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين[6].
انتهاك السبع الموبقات:
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ"[7].
الشرح: (الموبقات) هي المهلكات. يقال: وبق الرجل يبق ووبق يوبق إذا هلك وأوبق غيره إذا أهلكه.


( المحصنات الغافلات المؤمنات) المحصنات بكسر الصاد وفتحها قراءتان في السبع.


والمراد بالمحصنات هنا العفائف. وبالغافلات الغافلات عن الفواحش وما قذفن به.


وقدور رد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفة والإسلام والنكاح والتزويج والحرية.
الإقبال على كتب العلماء وترك كتاب الله:
عن إبراهيم التيمي، قال بلغ بن مسعود: أن عند ناس كتابًا يعجبون به، فلم يزل بهم حتى أتوه به فمحاه، ثم قال: " إنما هلك أهل الكتاب قبلكم، أنهم أقبلوا على كتب علمائهم، وتركوا كتاب ربهم "[8].
إهلاك المنافقين لأنفسهم بتركهم الجهاد:
قال تعالى: ﴿ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[التوبة: 41، 42].
يقول العلامة السعدي في تفسيره: لو كان خروجهم لطلب العرض القريب، أي: منفعة دنيوية سهلة التناول ﴿ وَ ﴾ كان السفر ﴿ سَفَرًا قَاصِدًا ﴾ أي: قريبًا سهلاً. ﴿ لاتَّبَعُوكَ ﴾ لعدم المشقة الكثيرة، ﴿ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ﴾ أي: طالت عليهم المسافة، وصعب عليهم السفر، فلذلك تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبودية، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقة، فهذا العبد للّه على كل حال.


﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ أي: سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك.
﴿ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾ بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع، ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾.


وهذا العتاب إنما هو للمنافقين، الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في "غزوة تبوك" وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا.
إذا كثر الخبث:
عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا، يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ".[9]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا، بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ، الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ"[10].
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا، وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ، فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: مَا لَكَ! قَالَ: تَأَذَّيْتُمْ بِي، وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ"[11].
إقامة الحد على الضعيف دون الشريف:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[12].
يقول المناوي في "فيض القدير": (إنما أهلك) في رواية هلك (الذين من قبلكم) من بني إسرائيل (أنهم كانوا) بفتح الهمزة فاعل أهلك (إذا سرق فيهم الشريف) أي الإنسان العالي المنزلة الرفيع الدرجة (تركوه) يعني لم يحدوه (وإذا سرق فيهم الضعيف) أي الوضيع الذي لا عشيرة له، ولا منعة (أقاموا عليه الحد) أي قطعوه. قال في المطامح: وهذا جار في عصرنا، فلا قوة إلا بالله، وهذه مداهنة في حدود الله، وتبعيض فيما أمر بنفي التبعيض فيه.
قال ابن تيمية: قد حذرنا المصطفى صلى الله عليه و سلم عن مشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوى بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة، واعلم أن الحصر قد أشكل على كثير لأن الأمم السالفة كان فيهم أشياء كثيرة تقتضي الهلاك غير المحاباة في الحدود، وأجيب إما بمنع اقتضائه الحصر، أو بأن المحصور هلاك خاص باعتبار خاص على حد [إنما أنت نذير] وهو نذير وبشير.


قال ابن عرفة: ويدخل تحت هذا الذم كل من أولى الأمر، أو الخطبة غير أهلها، وغير ذلك من المحاباة في أحكام الدين.
التنافس على الدنيا والشح بها:
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ قَالُوا أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"[13].
وعَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ، أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ"[14].
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ"[15].
ظلم العباد وقطيعة الرحم:
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ "، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: "وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ"[16].
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْعُقُوبَةَ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ"[17].
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ، أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي. فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟
قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَقَالَ لَهَا: " إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ، فَقَالَتْ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَ، أَوْفَى اللَّهُ لَكَ، فَقَالَ: " أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ، لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ "[18].
هلاك الناس بهلاك العلماء:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"[19].
وعن ثَابِت بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا هِلَالٌ هُوَ ابْنُ خَبَّابٍ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مَا عَلَامَةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟.
قَالَ: إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ[20].
هلاك المتنطعون:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ "أَلاَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ". ثَلاَثَ مَرَّاتٍ[21].
الشرح: (هلك المتنطعون) أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
الغلو في الدين:
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ يَحْيَى لَا يَدْرِي عَوْفٌ عَبْدُ اللَّهِ أَوْ الْفَضْلُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ: "هَاتِ الْقُطْ لِي "فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: "بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مَرَّتَيْنِ، وَقَالَ بِيَدِهِ، فَأَشَارَ يَحْيَى أَنَّهُ رَفَعَهَا، وَقَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ"[22].
التفرق والاختلاف غير السائغ والتنازع:
لقوله تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].


ولقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105].
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: "ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ أُرَاهُ قَالَ قَدْ يَذْهَبُ فِيهَا النَّاسُ أَسْرَعَ ذَهَابٍ قَالَ فَقِيلَ أَكُلُّهُمْ هَالِكٌ أَمْ بَعْضُهُمْ قَالَ حَسْبُهُمْ أَوْ بِحَسْبِهِمْ الْقَتْلُ"[23].
الإصرار على الذنوب دون التوبة منها:
عَنْ أَبِى مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، أَوْ مُوبِقُهَا"[24].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، وَاغْفِرُوا يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ، وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ"[25].
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ"[26].
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ قَالَ لِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يَا عَائِشَةُ! إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ طَالِبًا"[27].
وعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ[28].
وعن عاصم بن رجاء بن حيوة قال: كان عمر بن عبد العزيز يخطب فيقول: أيها الناس!

من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد، فليستغفر الله وليتب، فإن عاد، فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وان الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها[29].
اقتراض المسلم من عرض أخيه ظلمًا:
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ قَالَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقَعَدْتُ قَالَ فَجَاءَتْ الْأَعْرَابُ فَسَأَلُوهُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نَتَدَاوَى قَالَ نَعَمْ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ قَالَ وَكَانَ أُسَامَةُ حِينَ كَبِرَ يَقُولُ هَلْ تَرَوْنَ لِي مِنْ دَوَاءٍ الْآنَ قَالَ وَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ هَلْ عَلَيْنَا حَرَجٌ فِي كَذَا وَكَذَا قَالَ عِبَادَ اللَّهِ وَضَعَ اللَّهُ الْحَرَجَ إِلَّا امْرَأً اقْتَضَى امْرَأً مُسْلِمًا ظُلْمًا فَذَلِكَ حَرَجٌ وَهُلْكٌ قَالُوا مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُلُقٌ حَسَنٌ.


وفي رواية ابن ماجة، وابن حبان في "صحيحه": "إِلَّا مَنْ اقْتَرَضَ مِنْ عِرْضِ أَخِيهِ شَيْئًا، فَذَاكَ الَّذِي حَرِجَ".[30]
الهجر على الأمور الدنيوية فوق ثلاث وإيذاء الجار حتى يحمله على الخروج من بيته:
كان ثوبان يقول: ما من رجلين يتصارمان فوق ثلاثة أيام فيهلك أحدهما، فماتا وهما على ذلك من المصارمة، إلا هلكا جميعًا، وما من جار يظلم جاره ويقهره، حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منزله، إلا هلك[31].
مناقشة الحساب:
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ"، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7، 8] قَالَ: "ذَاكَ الْعَرْضُ يُعْرَضُونَ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ"[32].
يقول الإمام بن حجر -رحمه الله- في "فتح الباري": قَوْله (لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ، ثُمَّ قَالَ أَخِيرًا: وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُذِّبَ).


وَكِلَاهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمُرَاد بِالْمُحَاسَبَةِ تَحْرِيرُ الْحِسَابِ فَيَسْتَلْزِمُ الْمُنَاقَشَةَ وَمَنْ عُذِّبَ فَقَدْ هَلَكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي "الْمُفْهِمِ" قَوْله "حُوسِبَ" أَيْ حِسَابَ اِسْتِقْصَاءٍ وَقَوْلُهُ "عُذِّبَ" أَيْ فِي النَّارِ جَزَاءً عَلَى السَّيِّئَاتِ الَّتِي أَظْهَرَهَا حِسَابُهُ، وَقَوْله " هَلَكَ " أَيْ بِالْعَذَابِ فِي النَّارِ. قَالَ: وَتَمَسَّكَتْ عَائِشَةُ بِظَاهِرِ لَفْظِ الْحِسَابِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ.


قَوْله (يُنَاقَش الْحِسَابَ) بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَالتَّقْدِيرُ يُنَاقَشُ فِي الْحِسَابِ.


قَوْله (أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَة اِنْشَقَّتْ مِنْ رِوَايَة يَحْيَى الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي يُونُس بِلَفْظِ "فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاءَك أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى".


قَوْله (إِنَّمَا ذَلِك الْعَرْضُ) فِي رِوَايَة الْقَطَّانِ "قَالَ ذَاكِ الْعَرْضُ تُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ" وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَاهِدًا مِنْ رِوَايَة هَمَّام عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَس رَفَعَهُ "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ" وَقَالَهُ غَرِيب. قُلْت: وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ هَمَّام عَلَى بْن أَبِي بَكْر صَدُوقٌ وَرُبَّمَا أَخْطَأَ، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَى قَوْله "إِنَّمَا ذَلِك الْعَرْضُ" أَنَّ الْحِسَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ أَنْ تُعْرَضَ أَعْمَالُ الْمُؤْمِنِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَتْرِهَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَفِي عَفْوِهِ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي حَدِيث اِبْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى، قَالَ عِيَاضٌ: قَوْله "عُذِّبَ" لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا أَنَّ نَفْسَ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ وَعَرْض الذُّنُوبِ وَالتَّوْقِيف عَلَى قَبِيح مَا سَلَفَ وَالتَّوْبِيخ تَعْذِيب.


وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى اِسْتِحْقَاق الْعَذَابِ، إِذْ لَا حَسَنَةَ لِلْعَبْدِ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِإِقْدَارِهِ عَلَيْهَا، وَتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِ بِهَا وَهِدَايَته لَهَا، وَلِأَنَّ الْخَالِص لِوَجْهِهِ قَلِيلٌ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الثَّانِيَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى " هَلَكَ " وَقَالَ النَّوَوِيّ: التَّأْوِيل الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح لِأَنَّ التَّقْصِير غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ اُسْتُقْصِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَامَحْ هَلَكَ.


وَقَالَ غَيْره: وَجْه الْمُعَارَضَة أَنَّ لَفْظ الْحَدِيث عَامٌّ فِي تَعْذِيب كُلّ مَنْ حُوسِبَ وَلَفْظ الْآيَة دَالٌّ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يُعَذَّبُ؛ وَطَرِيق الْجَمْع أَنَّ الْمُرَاد بِالْحِسَابِ فِي الْآيَة الْعَرْض وَهُوَ إِبْرَاز الْأَعْمَال وَإِظْهَارهَا فَيُعَرِّف صَاحِبهَا بِذُنُوبِهِ ثُمَّ يَتَجَاوَز عَنْهُ، وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ عِنْد الْبَزَّار وَالطَّبَرِيّ مِنْ طَرِيق عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر "سَمِعْت عَائِشَة تَقُول: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْحِسَابِ الْيَسِيرِ قَالَ: الرَّجُلُ تُعْرَضُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ ثُمَّ يُتَجَاوَزُ لَهُ عَنْهَا" وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْم الْقِيَامَة فَيُقَال اِعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَار ذُنُوبه" الْحَدِيثَ وَفِي حَدِيث جَابِر عِنْد اِبْن أَبِي حَاتِم وَالْحَاكِم" مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَمَنْ اِسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ فَذَاكَ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ثُمَّ يَدْخُل الْجَنَّة، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَذَاكَ الَّذِي أَوْبَقَ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا الشَّفَاعَةُ فِي مِثْلِهِ "وَيَدْخُل فِي هَذَا حَدِيث اِبْن عُمَر فِي النَّجْوَى وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّف فِي كِتَاب الْمَظَالِم وَفِي تَفْسِير سُورَة هُود وَفِي التَّوْحِيد وَفِيهِ" وَيَدْنُو أَحَدكُمْ مِنْ رَبّه حَتَّى يَضَع كَنَفَهُ عَلَيْهِ فَيَقُول: أَعَمِلْت كَذَا وَكَذَا؟
فَيَقُول: نَعَمْ فَيُقَرِّرُهُ.
ثُمَّ يَقُول: إِنِّي سَتَرْت عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك الْيَوْمَ".
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَى عَنْ رَبِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَحِيمٌ، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشَرَةً إِلَى سَبْعِ مِائَةٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةً، أَوْ يَمْحُوهَا اللَّهُ، وَلَا يَهْلِكُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا هَالِكٌ"[33].
يقول الإمام النووي-رحمه الله-: وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة)).
فَفِيهِ تَصْرِيح بِالْمَذْهَبِ الصَّحِيح الْمُخْتَار عِنْد الْعُلَمَاء أَنَّ التَّضْعِيف لَا يَقِف عَلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف. وَحَكَى أَبُو الْحَسَن أَقْضَى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيّ عَنْ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّ التَّضْعِيف لَا يَتَجَاوَز سَبْعمِائَةِ ضِعْف، وَهُوَ غَلَط لِهَذَا الْحَدِيث. وَاَللَّه أَعْلَم.


وَأَمَّا قَوْله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَلَنْ يَهْلِك عَلَى اللَّه إِلَّا هَالِك"

فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَاهُ مَنْ حُتِمَ هَلَاكه وَسُدَّتْ عَلَيْهِ أَبْوَاب الْهُدَى مَعَ سِعَة رَحْمَة اللَّه تَعَالَى وَكَرَمه وَجَعْله السَّيِّئَة حَسَنَة إِذَا لَمْ يَعْمَلهَا وَإِذَا عَمِلَهَا وَاحِدَة، وَالْحَسَنَة إِذَا لَمْ يَعْمَلهَا وَاحِدَة، وَإِذَا عَمِلَهَا عَشْرًا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة. فَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ السَّعَة وَفَاتَهُ هَذَا الْفَضْل وَكَثُرَتْ سَيِّئَاته حَتَّى غَلَبَتْ مَعَ أَنَّهَا أَفْرَاد حَسَنَاته مَعَ أَنَّهَا مُتَضَاعِفَة فَهُوَ الْهَالِك الْمَحْرُوم وَاَللَّه أَعْلَم.


قَالَ الْإِمَام أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْحَفَظَة يَكْتُبُونَ أَعْمَال الْقُلُوب وَعَقْدهَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُكْتَب إِلَّا الْأَعْمَال الظَّاهِرَة. وَاَللَّه أَعْلَم.


وَفِي أَحَادِيث الْبَاب بَيَان مَا أَكْرَمَ اللَّه تَعَالَى بِهِ هَذِهِ الْأُمَّة زَادَهَا اللَّه شَرَفًا وَخَفَّفَهُ عَنْهُمْ مِمَّا كَانَ عَلَى غَيْرهمْ مِنْ الْإِصْر وَهُوَ الثِّقْل وَالْمَشَاقّ، وَبَيَان مَا كَانَتْ الصَّحَابَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسَارَعَة إِلَى الِانْقِيَاد لِأَحْكَامِ الشَّرْع.
المجاهرة بالمعاصي:
عَن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ! عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ"[34].
انتهاك العباد للمحرمات حين يخلوا بها:
عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أَنَّهُ قَالَ لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا".[35]
الفقه بمسألة القول هلك الناس:
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"[36].
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا قَالَ الرَّجُل: هَلَكَ النَّاس فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ)
رُوِيَ (أَهْلَكُهُمْ) وَعَلَى وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: رَفْع الْكَاف وَفَتْحهَا، وَالرَّفْع أَشْهَر، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة رَوَيْنَاهَا فِي حِلْيَة الْأَوْلِيَاء فِي تَرْجَمَة سُفْيَان الثَّوْرِيّ (فَهُوَ مِنْ أَهْلَكِهِمْ) قَالَ الْحُمَيْدِيُّ فِي الْجَمْع بَيْن الصَّحِيحَيْنِ: الرَّفْع أَشْهَر، وَمَعْنَاهَا أَشَدّهمْ هَلَاكًا، وَأَمَّا رِوَايَة الْفَتْح فَمَعْنَاهَا هُوَ جَعْلهمْ هَالِكِينَ، لَا أَنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْحَقِيقَة. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ هَذَا الذَّمّ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَالَهُ عَلَى سَبِيل الْإِزْرَاء عَلَى النَّاس، وَاحْتِقَارهمْ، وَتَفْضِيل نَفْسه عَلَيْهِمْ، وَتَقْبِيح أَحْوَالهمْ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَم سِرّ اللَّه فِي خَلْقه. قَالُوا: فَأَمَّا مَنْ قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى فِي نَفْسه وَفِي النَّاس مِنْ النَّقْص فِي أَمْر الدِّين فَلَا بَأْس عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: لَا أَعْرِف مِنْ أُمَّة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا.

هَكَذَا فَسَّرَهُ الْإِمَام مَالِك، وَتَابَعَهُ النَّاس عَلَيْهِ. وَقَالَ: الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَزَال الرَّجُل يَعِيب النَّاس، وَيَذْكُر مَسَاوِيَهُمْ، وَيَقُول: فَسَدَ النَّاس، وَهَلَكُوا، وَنَحْو ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ أَسْوَأ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْحَقهُ مِنْ الْإِثْم فِي عَيْبهمْ، وَالْوَقِيعَة فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْعُجْب بِنَفْسِهِ، وَرُؤْيَته أَنَّهُ خَيْر مِنْهُمْ. وَاَللَّه أَعْلَم.

الهوامش

[1] " الجواب الكافي" للإمام ابن القيم -رحمه الله-

[2] البخاري (7288)، ومسلم (1337)، وأحمد (10029)، والترمذي (2679)، وابن ماجة (2)والنسائي (2619).

[3] صحيح: رواه أحمد (17182) تعليق شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن، وابن ماجة (43)وصححه الألباني.

[4] "مقدمة صفة صلاة النبي "للألباني.

[5] رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (14/9)و، "تاريخ بغداد" (7/336)، والهروي في (ذم الكلام و أهله" (4/124) برقم (885).

[6] الاعتصام " للإمام الشاطبي. ط. التوفيقية (1/87).

[7] البخاري (2766)، ومسلم (89)، وأبو داود (2874) والنسائي (3671).

[8] صحيح موقوف: رواه الدارمي (469، 477) قال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.

[9] البخاري (3346)، ومسلم (2880)، وأحمد (27454) والترمذي (2187)، وابن ماجة (3953).

[10] حسن: رواه ابن ماجة (4019)، والطبراني في "الأوسط" (4671)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3315) وحسنه الألباني.

[11] البخاري (2686)، وأحمد في "المسند" (18395)، والترمذي(2173).

[12] البخاري (3475)، ومسلم (1688)، وأحمد (25366)، والترمذي (1430)، وابن ماجة (2547) والنسائي (4899).

[13] البخاري (3158)، ومسلم (2961)، وأحمد (17273)، والترمذي (2462)، وابن ماجة (3997).

[14] صحيح: رواه أحمد (15822) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير علي بن بحر - وهو ابن بري القطان - فقد روى له البخاري تعليقا وأبو داود والترمذي وهو ثقة، والترمذي (2376) وصححه الألباني.

[15] مسلم (2578)، وأحمد في "المسند" (14501).

[16] البخاري (4686)، ومسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجة (4018).

[17] صحيح: رواه أحمد (20390، 20414) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح، وأبو داود (4902)، والترمذي (2511)، وابن ماجة (4211) وصححه الألباني.

[18] صحيح: رواه ابن ماجة (2426)وصححه الألباني.

[19] البخاري (100)، ومسلم (2673)، وأحمد (6511، 6787)، والترمذي (2652)، وابن ماجة (52).

[20] صحيح موقوف: رواه الدارمي (241) قال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.

[21] مسلم (2670)، ، وأحمد في "المسند" (5)، وأبو داود (4608).

[22] صحيح: رواه أحمد (3248) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم رجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن الحصين فمن رجال مسلم، وابن ماجة (3029)، والنسائي (3057) وصححه الألباني.

[23] حسن: رواه أحمد في" المسند" (1647) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن

[24] مسلم (223)، والترمذي (3517)، والنسائي (2437).

[25] حسن: رواه أحمد (6541) قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.

[26] صحيح: رواه أحمد (22860) إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، والطبراني في" الصغير (904)، و"الكبير"(5872، 10500)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(7267)وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2471)، و"السلسلة الصحيحة"(3102).

[27] رواه أحمد في "المسند" (25218) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، وابن ماجة (4243) قال الشيخ الألباني: صحيح

[28] البخاري (6492)، وأحمد (11008).

[29] "حلية الأولياء"

[30] صحيح: رواه أحمد (18477) تعليق شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى أصحاب السنن، وابن ماجة (3436) وصححه الألباني، وابن حبان (6061).

[31] رواه البخاري في" الأدب المفرد"(127) قال الشيخ الألباني: صحيح.

[32] البخاري (4939)، ومسلم (2876)، وأحمد (24246، 26784)، وأبو داود (3093)، والترمذي (3337).

[33] البخاري (6491)، ومسلم(131)، وأحمد في "المسند"(2519) واللفظ له.

[34] البخاري (6069) واللفظ له، ومسلم (2990).

[35] صحيح: رواه ابن ماجة (4245) وصححه الألباني.

[36] مسلم (2623)، وأحمد (8495) وأبو داود(4983).




كتبت : مامت توتا
-
تسلمى على الطرح كم انتى رائعه

جعله الله فى ميزان حسناتك

تقييمى
كتبت : سنبلة الخير .
-
موضوع رائع

جزاكِ الله خيرا وبارك الله فيكِ

سلمت يمناكِ بما طرحتِ

طرح هادف

جعله الله في موازين حسناتكِ

لاحرمت المثوبة
كتبت : منتهى اللذة
-
طرح لآمس الجمآل
وتسلل إلى الآعمآق
لــ يسقينآ من روعته مآ يكفي
جمال في كل نآحية








التالي

الاسلام | هو الحب ايه غير رضا ربنا

السابق

الوسواس وسبيل الخلاص منه

كلمات ذات علاقة
الهلاك , الإدراك , بأسباب