الاستكبار وعدم الاعتذار - الشيخ على بن عمر بادحداح
مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
الراوي: أنس بن مالك المحدث: الألباني- المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 3139خلاصة حكم المحدث: حسن
وعلى الطريق قمم عظيمة شامخة، رسل وأنبياء، قادة وأصفياء، موسى -عليه السلام- وكز الرجل فقتله في لحظة من غضب واستخدام للقوة، وفي لحظة مباشرة من طبيعة بشرية سوية: (قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) [القصص:15]، ثم توجه إلى الله -سبحانه وتعالى-: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[القصص:16].
يونس في بطن الحوت: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87].
سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- تنزلت الآيات تُعاتبه في أعمى، في ابن أم مكتوم: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى) [عبس:1-2]، فكان إذا جاء عبد الله بن أم مكتوم كان النبي يقول: "مرحباً بمن عاتبني فيه ربي!"، بأبي هو وأمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!.
وعند مسلم من حديث طلحة بن عبيد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان معه، فمروا على قوم في رؤوس النخل يأبرون، قال: "ما يفعل هؤلاء؟"، قال: يلقحونه، يأخذون من الذكر للأنثى فيلقحونه، قال: "ما أظن ذلك يغني عنهم شيئاً"، فتركه الناس، فأُخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فماذا قال عندما عرف طبيعة هذه المهمة؟ قال: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوه، فإني لن أكذب على الله -عز وجل-".
وصور مشرقة يقدمها لنا القرآن في غير دائرة الرسل والأنبياء، من أمثالنا من البشر العاديين، حتى يكون لنا في ذلك عظة وعبرة، ومن أعظم ذلك وأبرزه في سورة فريدة نادرة، وجرأة نفسية قوية، وسمو أخلاقي في لحظة من لحظات الاعتراف والاعتذار، في قصة يوسف -عليه السلام- وامرأة العزيز، عندما تكشفت الأوراق، وظهرت الحقائق؛ فبكل جرأة، ورباطة جأش، وثقة بالنفس، وإقرار بالخطأ، وإحساس بالندم، ورجوع إلى الحق، قالت: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف:51]، هكذا! أمام الملأ في مسالة دقيقة حساسة؛ لأن النفس إذا جاشت فيها معاني الندم وظهور الخطأ تملَّكَها من الجرأة والقوة ما يدفعها إلى اعترافٍ ظاهرٍ بدون مواربة بالخطأ.
وانظروا إلى مشهد في سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، يوم تخلف جمع من المنافقين، ونفر قليل من الأخيار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جاء المنافقون يعتذرون ويلفقون ويكذبون، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقبل منهم ويعرض عنهم.
وجاء كعب بن مالك وقال: والله إني لأعلم إن قلتُ له قولاً أسلَم به لَيُوشِكنَّ الله أن يخبره به فأهلك، والله لا أجد إلا الصدق مخرجاً. فجاء مُقراً معترفاً معتذراً: يا رسول الله! والله ما كنت في يوم أقدر مني على اللحاق بك مني يوم ذاك، ولكني تخلفت. فقالها النبي -صلى الله عليه وسلم- كلمات مشرقة: "أما صاحبكم فصدق، فامضِ حتى يقضي الله فيك"، ودلالة كلمته أن من سبقه كلهم كاذبون، وإن لم يقل ذلك المصطفى تعففاً وترفعاً عن هذا المقام.
وجاءت الأحداث كما تعرفون، وقوطع أولئك النفر، ثم خلّد الله -سبحانه وتعالى- موقفهم وصدقهم، وضمهم في توبتهم مع الرسول والأنصار والمهاجرين، فقال:(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة:118].
كم نحن في حاجة إلى أن نروض أنفسنا على الإقرار والاعتراف بالخطأ؟
وأول دائرة في ذلك دائرة اعتراف العبد لربه، واستغفاره من ذنبه، واعتصامه والتجائه وانطراحه بين يدي ربه، ويكفينا في ذلك أن الله -جل وعلا- دعانا دعوة تيسر لنا هذا الإقبال عليه، والاعتراف بين يديه، والانكسار له: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) [الزمر:53]
هو الذي يدعونا -سبحانه وتعالى-: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].
وهذه دعوة من الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:64].
يوم نبدأ هنا في هذا المسار سوف تتروض نفوسنا أن تذل للحق، وأن تقر بأنه أحق أن يتبع، وأن تذعن لمن معه الحق وإن كان بغيضاً لها، أو موافقاً لها؛ لأن الحقَّ أحقُّ أن يُتَّبع.
ومن هنا -معاشر الإخوة الكرام- إذا نظرنا إلى هذا المعنى وهذه الحادثة وجدنا أن مبدأ الاعتراف بالخطأ، وإعلان الاعتذار، يكاد يكون أمراً قليلاً ضئيلاً، أو منعدماً لا وجود له.
واذكر هنا أيضاً قصة كتبها أحدهم في مقالة، ذكر فيها أنه ذهب إلى اليابان، وأنه كان مع رفيقه الياباني لركوب أسرع قطار في العالم يسمونه: الطلقة، فأخذ التذاكر، ووقفوا في المكان المحدد، وجاء القطار على وقته بالدقة المتناهية، وعندما توقف كانت البوابة متجاوزة ببعض سنتيمترات المكان المخصص لها، تبسم العربي وقال وهو يداعب صاحبه: لماذا تقدم قطاركم ولم يكن في الموقف المحدد! وعندما دخلوا فوجئ بأن الياباني يعتذر له ويقول: هذه حادثة لا أظنها حصلت، ولا بد أن أُكلِّم فيها المسؤولين عن القطار، وبدأ يكلمهم ويأتون إليه ويعتذرون، وعندما وصل إلى المحطة وجد مدير المحطة الأخرى يعتذر له، ويخبره بأنه ستكون هناك مراجعة ومحاسبة ومعرفة للسبب الذي وقع لأجله هذا الخطأ!.
ولا أظنني أحتاج إلى أن أضرب أمثلة، عندما تتأخر الطائرات بالساعات، ولا تجد أحداً يخبرك بتأخرها، فضلاً عن أن يعتذر لك، وإذا استمعت بعد ذلك في الطائرة فإنك تسمع الاعتذار باللغة الإنجليزية، وإذا تحدث بالعربية طوى الاعتذار؛ لأنه يريد أن يوصل اعتذراً لمن يفقهونه، أو لمن يستحقونه على أقل تقدير في نظره!.
ومن هنا نرى المصائب الكبرى في ديارنا وبلادنا، ولا نجد أحداً يعترف بالخطأ أو يعتذر عنه، ونحن نرى أن مسؤولين كباراً، ورؤساء حكومات، ربما يُثار حولهم شيء من الشبهات على مال ربما ننفقه نحن في وجبة في الإفطار أو نحوها، وإذا بالواحد منهم يعتذر ويستقيل من منصبه.
وعلى حد علمي منذ أن ولدت إلى هذا العمر لم أرَ أحداً يستقيل من منصبه في ديارنا وعالمنا العربي إلا أن يكون مكرها! لماذا؟
ونحن الذين علَّمَنا القرآنُ ذلك، وعرفنا كيف نكون أتباعاً للحق، وأن نكون سائرين على النهج، وأن نكون متبعين لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-، وهو الهين اللين الذي كان يدعو الناس أن يذكروا له إن كان تجاوز في حقهم، أو اعتدى عليهم، أو أخطأ، وحاشاه أن يكون كذلك! أو أن يفعل ذلك! صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه؛ وإن من التقوى الرجوع إلى الحق، والاعتراف بالذنب، وطلب الاستغفار من الله، والتحلل من الناس؛ لأن لصاحب الحق مقالاً، وله حق في أن يقتص، إن لم يجد حقه في الدنيا فيكون في الآخرة؛ وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة حادثة الإفك قوله: "فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه".
وكذلكم نفقه هنا مسألة مهمة، وهي أن البيئة والحاشية كثيراً ما تكون سبباً في قطع الطريق على الاعتراف بالخطأ والاعتذار منه، وأنا أحدثكم الآن وأذكر القصص كنت أرى بعضاً منكم يبتسم ويستحضر صوراً أعتقد أن أكثرنا كنا نستحضر صوراً لا تخصنا ولا ترتبط بنا، وكأننا لسنا معنيين بهذا الحديث، ولسنا ممن قد يستكبر عن الاعتراف بالخطأ، ولا يرضى بالاعتذار عنه.
وأقول: في الجملة كلنا ذاك في قليلٍ أو في كثيرٍ، فلا يبرّئ أحد منا نفسه، وإلا كيف نرى كل ذلك فيشؤ مجتمعنا؟ مَن الذي لا يفعل ذلك؟ مَن الذي يستكبر عن ذلك إن كنت أنا وأنت ممن يذعن للحق، ويلين له، ويعطي الناس حقهم، ويعتذر لهم، ويشيع بيننا حتى الأدب الراقي في الاعتذار والأسف ونحو ذلك؟.
نحن اليوم ننتظر موعداً على الساعة المعينة فيأتينا المتأخرون وهم مبتسمون وكأن شيئاً لم يحدث، ولا كلمة للاعتذار عن هذا التأخر، وإن طُولب بالاعتذار فإن هذه جريمة لا تغتفر، سيما إن كان هو المسؤول، وهو الذي سيدير هذا الاجتماع، فله الحق في أن يفعل ما يشاء، وأن لا يُسأل عن شيء بحال من الأحوال!.
وهذه صور كثيرة متكررة، وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في صورة معينة ما يدل على مثل هذا وهو البيئة المحيطة، لو أن كلا منا قال بأدب كلمة حق، ونبّه إلى ضرورة الاعتذار، وإلى ضرورة الاعتراف بالخطأ، فإن ذلك سيكون أمراً شائعاً.
نحن لا نربي أبناءنا على ذلك؛ لأنهم إذا اعترفوا بالخطأ لقوا الويل والثبور، وعظائم الأمور، فصاروا يتقنون فن المراوغة والمجادلة، بل ونعلمهم صنعة الكذب والاحتيال أحياناً؛ ليفروا من العقوبة التي نصنعها نحن ولا نعرف آثارها التربوية.
ومثل ذلك يقع أيضاً في مدارسنا وفي معاهدنا ونحو ذلك، وهنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه:"إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه" وتتمة الحديث في عكس ذلك: "فإنه يكون له وزير كذب، إن نسي لم يذكّره، وإن ذكر لم يُعِنْهُ".
وهذه الحواشي التي نراها ليست عند الحكام والساسة، بل حتى عند المدراء والكبراء والأغنياء والوجهاء، يقطعون الطريق ويمنعون وصول الحقائق، وإن جاء ليتكلم أو ليعتذر أو ليقدم خطوة إيجابية قيل إن ذلك سيُنقِص قدرك، وإن ذلك سيُربِك أمرك، وإن ذلك سيكون له ويكون له...
حتى رأينا ما رأينا ونرى في هذه البلاد الآن من ذلك الظلم والجبروت والقتل الذي يستمر يوماً إثر يوم، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، والتهم جاهزة، والإعلام الكاذب المضلِّل يقدم المبررات، وليس هناك خطأ مطلقاً! وليس هناك إثم ارتكب! بل حتى من يتسبب في القتل يمتطي مرة أخرى منبره ويترحم على أرواح الشهداء الذين قتلهم! ولا يستبعد أيضاً أن يمشي في جنائزهم، وهذا الذي نراه قمة الاستكبار، إنها الصورة الفرعونية الطغيانية: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر:29].
والمسألة تبدأ من أول الخليقة: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]، فمن لم يعترف بذنبه لربه، ومن لم يبك على خطيئته فيما بينه وبين خالقه؛ فإنه لن يكون بحال من الأحوال قادراً على أن يعترف للناس، أو يعتذر منهم، أو يقدم لهم ما يجب أن يقدمه لهم بما جنى عليهم، أو بما تسبب من الضر.