أبشر يا أبا البنات - الشيخ محمد صالح المنجد

مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

أبشر يا أبا البنات - الشيخ محمد صالح المنجد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن الأولاد من الأبناء والبنات، والذرية هم قرة عين للآباء والأمهات، ولهذا ذكر الله تعالى في دعاء عباد الرحمن: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]، وحتى يكون هؤلاء قرة أعين فلا بد من تنشئتهم تنشئة صالحة، ولذلك أمر الله برعاية الأهل والأولاد، وتنشئتهم على خصال الخير والرشاد، وأمر بحفظهم عن كل ما يؤدي إلى الفساد، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].

إنها تربية تنطلق من المسؤولية، إذا علم كل إنسان منا أنه موقوف بين يدي الله ومسؤول: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم". كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحديث في الصحيحين.

وهذه التربية الصالحة للأولاد ينتفع بها الآباء والأمهات في الدنيا والآخرة، وتعود بالبركة على الأسرة بأجمعها، أما في الدنيا فمعلوم، مما يحصل من البر منهم، وكذلك من فعلهم للحسنات وكونهم قدوة في الخير، وشامة بين الناس، يغبطك عليهم الآخرون مما يرون من صلاحهم ودينهم.

وأما في الآخرة فهم حسنات جارية تكتب في صحائف أعمالك، فترتقي بها عند الله، ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث... أو ولد صالح يدعو له"، والولد يشمل الذكر والأنثى، إذًا هذا عمل لا ينقطع ويجري للأب في قبره، أن يكون عنده: "ولد صالح يدعو له"، بل حتى إذا دخل الجنة يستفيد، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟! فيقال: باستغفار ولدك لك".

وهذا كما أن الولد ينتفع بصلاح أبيه في الدنيا، وقد قال تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ) [الكهف:82].

فحفظ الله الذرية بصلاح الأب، وكذلك فإن الرجل الصالح يحفظ في ذريته، وبركته تشمل أولاده من بنين وبنات، فالمنفعة متبادلة بين الأصول والفروع، يستفيد هؤلاء من صلاح هؤلاء، وأولئك من صلاحهم.

عباد الله: إن التربية مهمة صعبة، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمّ فيه الفساد وطمّ، ولا بد من الاهتمام، ولا بدّ من توجيه العناية للذكور والإناث، بل ربما كانت بعض الإناث في بعض الحالات أصعب، وقضية البنات خطيرة ومهمة.

وكانت عادة الجاهلية الأولى كراهية البنات ودفنهن أحياءً في القبور، قال -عز وجل-: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58-59].

ومن الذي ابتدع هذه البدعة؟! قيس بن عاصم التميمي كان بعض أعدائه أغار عليه فأسر بنته فاتخذها لنفسه، ثمّ حصل بينهم صلح، فخيّر ابنته فاختارت زوجها، ولم ترد أباها، فآلى قيس على نفسه أن لا تولد له بنت إلا دفنها حية، فتبعه العرب في ذلك، سبحان الله: "من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها".

ولذلك يروي أحد التائبين المسلمين في العهد الأول حاكياً الحال المؤلم التي كانوا عليها: "إنا كنا أهل جاهلية وعبادة أوثان، فكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي ابنة لي، فلما أجابت وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، أحبّت أباها فكانت تلبي طلباته ونداءه، فدعوتها يوماً فاتبعتني، فمررت حتى أتيت بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فرديت بها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه، يا أبتاه". رواه الدارمي.

ومع ذلك لم يرحم استغاثتها فقذفها في ذلك البئر، وكانوا في صفة الوأد على طريقين، أحدهما: أن يأمر امرأته إذا قرب وضعها أن تطلق طلقات النفاس بجانب حفيرة، فإذا وضعت ذكراً أبقته أي: القابلة تستلمه، وإذا وضعت أنثى طرحتها في الحفيرة مباشرة.

ومنهم من كان إذا بلغت البنت ست سنوات قال لأمها: طيبيها وزينيها لأزور بها أقاربها، ثم يبعد بها في الصحراء حتى يأتي البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويطمها، هكذا كانت قبائل العرب تفعل، عرب بغير إسلام بهائم، بل هم أدنى من ذلك: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان: 44].

وكان بعض العرب فيهم بقية من عقل لا يفعلون ذلك وينهون عنه، بل ربما يفتدون البنات بالمال من آبائهن؛ قال الفرزدق:

وجدي الذي منع الوائدات *** وأحيا الوئيد فلم يوأد

وكان جده قد بقي إلى أن أدرك الإسلام: "أسلمت على ما أسلفت من خير".

ومن المؤسف أن الجاهلية الأولى تطل بقرونها في عصر الحضارة والرقي، فعلى الرغم مما حصل من تقدم الأمم إلا أن هناك فئة غير قليلة، لا زالت تحتقر الأنثى ولا ترغب فيها، حتى في بلاد الصين والهند جريمة الوأد منتشرة، وهذه الصين الذي تحكم بالكفر لا يحق للأسرة إنجاب أكثر من طفل واحد، ولأن الأبوين يريدان ذكراً فإنهما بمجرد أن يعرفا من خلال الأشعة السينية أن الجنين أنثى يقومان بإجهاضه، وإذا ولدت دفنت، قتلت: (وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ) [التكوير: 8-9].

فهكذا يفعل فقراؤهم الذين لا يملكون قيمة إجراء الأشعة لمعرفة جنس الجنين، فإذا وضعتها أمها جعلتها في صندوق وألقتها على قارعة الطريق؛ لئلا تحتسب من العائلة، وهكذا في بعض أنحاء الهند، عادة وأد البنات وإجهاضهن بأساليب متناهية في القسوة، حتى ربما استؤجر قاتل مأجور لكي يخنقها، وبقي عند بعضنا كره البنات، وتعيير الزوجة إذا أتت بأنثى، بل تطليق الزوجة إذا أتت بأنثى، وتهديد الزوجة إذا جاءت بأنثى أخرى، ما ذنب الزوجة في هذه الحال؟! ولذلك قالت القائلة لمن هرب عنها زوجها وتزوج غيرها؛ لأن عندها بنات:

ما لأبي حمزة لا يأتينا *** ينام في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينَ *** تالله مـا ذاك في أيدينا
نحن كالأرض لزارعينا *** ننبت ما قد زرعوه فينا

عباد الله: لا شك أن الذكر أفضل من الأنثى في الجملة، أقوى وأقدر وأعقل، يدبر أمره ويعين أباه إذا كبر، وتبقى البنت عالة، فهي ضعيفة تحتاج إلى من ينفق عليها، بل مصروفها أكبر من مصروف الذكر من الحلي والثياب، وفساتينها أغلى وزواجها مكلف، وإذا طُلِّقت ورجعت إلى أبيها هم وغم كذلك، أو حدثت مشكلات بينها وبين زوجها، فيقولون: هم البنات إلى الممات.

لكن -يا عباد الله-، لما علم الشارع سبحانه أن هذا ثقيل فإنه جعل أجراً يقابله لأجل ثقله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار".
رواه البخاري.
لماذا قال: "ابتُلي"، لماذا سماه ابتلاءً؛ لأن العرب كانوا يكرهون البنات، وجاء الشرع بزجرهم عن هذه الكراهية، ورغّب في إبقائهن وترك قتلهن، فذكر الثواب الموعود به من أحسن إليهن، وجاهد نفسه في الصبر عليهن، إنه ابتلاء، يعني اختبارًا؛ لينظر -عز وجل- ماذا تفعل مع ابنتك، أتحسن إليها أم تسيء إليها، "فأحسن إليهن"، فسَّره في الحديث الآخر، قال: "فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن".

وفي حديث ابن عباس عند الطبراني": "فأنفق عليهن وزوجهن، وأحسن أدبهن"، تربية، وفي حديث جابر عند أحمد: "يؤويهن ويرحمهن ويكفلهن"، وفي حديث أبي سعيد عند الترمذي: "فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن".

عباد الله: القضية الآن واضحة، من الذي ينال الأجر، من الذي يحجب عن نار جهنم، من الذي يوقى عذابها وحرها؟! من الذي يحصل له هذا الشيء العظيم والميزة الكبيرة: "كن له ستراً من النار"، من؟! هذا الذي يحسن بهذا الإحسان، وليست القضية أكلاً، وشرباً، ولبساً فقط، بل أدباً، ورحمة، واتقاءً لله، والكفالة، والتزويج، نجمع ألفاظ الوحي معاً لنعرف ما المقصود، وهذه فائدة جمع الروايات في الحديث.

إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال الحديث السابق: "من ابتُلي"، في قصة جميلة روتها عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل -فقيرة- فلم تجد عندي شيئاً".

الله أكبر!!

بيت النبوة، بيت قائد الأمة وعظيمها ومقدمها لا يوجد فيه شيء، "فلم تجد عندي شيئاً غير تمرة"، هذا كل ما هو موجود في بيت النبوة، القائم على بيت المال، النبي -عليه الصلاة والسلام-، الذي يقسم ليس عنده إلا تمرة، قالت: "فأعطيتها إياها"، وهذا الخليق بعائشة التي تربت في بيت النبوة، أنها تؤثر على نفسها: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9]، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا فأخبرته فقال: "من ابتُلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له ستراً من النار".

عباد الله: إن لفظة الإحسان كما فهم بعض شراح الحديث: "أحسن إليهن"، ليس فقط مقدار الواجب، وإنما الإحسان ما يزيد على الواجب، فهو مزيد اعتناء.

وفي الحديث تأكيد حق البنات لما فيهن من الضعف غالباً عن القيام بمصالح أنفسهن، بخلاف الذكور الذين فيهم قوة البدن، وجزالة الرأي، وإمكان التصرف في الأمور، وهكذا.

سئل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن الإحسان المذكور في الحديث فقال: "الإحسان للبنات ونحوهن يكون بتربيتهن التربية الإسلامية، وتعليمهن، وتنشئتهن على الحق، والحرص على عفتهن، وبعدهن عما حرم الله من التبرج وغيره".

وبذلك يعلم أنه ليس المقصود مجرد الإحسان بالأكل، والشرب، والكسوة فقط، بل المراد ما هو أعم من ذلك من الإحسان إليهن في عمل الدين والدنيا.

عباد الله: القيام على الإناث مسؤولية، ولذلك جاء أجر عظيم بإزائه ومقابله، فروى مسلم عن أنس قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو". وضم أصابعه.

وهكذا في المجاورة وقرب المنزلة من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، من ربى بنتين صغيرتين -سواء كانتا بنتين له مباشرتين، أم حفيدتين، أم أختين- من ربى بنتين صغيرتين وقام بمصالحهما من الكسوة، والنفقة، والتربية، والإحسان، والتأديب، دخل الجنة مصاحباً لي، وكان قريباً مني: "ما من رجل تدرك له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة".

عباد الله: الأجر عظيم لكن لمن؟! لمن أحسن، وليس لمن أساء وأفسد.

قال الحسن -رحمه الله-: "البنات حسنات، والبنون نِعَم، والحسنات مجزي عليها، والنِّعَم محاسب عليها".

عباد الله: إن النظرة الإيجابية للبنت أن تراها من الناحية الأخرى التي لا يراها كثيرون، ولذلك لما ذكرت البنات عند أحد الخلفاء قال أحد الأعراب: دعهن عنك -يا أمير المؤمنين- فإنهن يقربن البعداء، ويلدن الأعداء، فقال له آخر ممن يفقه: "ويحك لا تسمع له -يا أمير المؤمنين-، فوالله ما قام بحق مريض، ولا رحم كبيراً، ولا أعان على نوائب الدهر إلا هنّ".

ولذلك تجد اليوم في المدرسات، والعاملات من تنفق على أبوين شيخين كبيرين ما لا ينفق عليهما الأبناء الذكور، ويتفطن لهما في المرض ما لا يهتم به الذكور.

عباد الله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) [البقرة:216]، وكم من ذكر كان وبالاً على أبويه!!
وكم من بنت كانت رحمة عليهما!!

والإنسان إذا ربى الجميع على الطاعة فالغالب أنه سيحصل على نتيجة طيبة، فالمجتهد له نصيب.

كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يهتم بأمر البنات، فكان يحمل أمامة بنت زينب في الصلاة، هذه بنت ابنته، إذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. رواه البخاري.

يريد عملياً أن يدفع ما كان عند العرب من كراهية البنات، وهكذا خالفهم حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، وكذلك فإن عنده الشفقة والرحمة -صلى الله عليه وسلم-، ماذا كانت سيرته مع ابنته فاطمة، كيف كان احتفاؤه بها؟! عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا تخطئ مشيتها مشيته، فقام إليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، قام إليها وقال: "مرحباً بابنتيثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسرّ إليها حديثاً فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟!
ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزنٍ، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألتها فقالت: أسر إليّ أن "جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي"، فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟!". فضحكت لذلك.

وهكذا كان -عليه الصلاة والسلام- يأتي بنته التي لها ابن على فراش الموت، لما أرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبياً لها في الموت أمر الرسول أن يرجع إليها فيخبرها: "أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب"، وهذه أفضل صيغ التعزية، أن تقول لمن مات له ميت: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فاصبر واحتسب. فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وقال أسامة: انطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنه في شنه، اضطراب الروح في الجسد عند الغرغرة عند الموت، ففاضت عيناه -صلى الله عليه وسلم-، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده...". من هم؟! "الرحماء".

هل انتهت مسؤولية النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ابنته فاطمة لما زوجها ابن عمها؟! انقطعت العلاقة؟! كلا، بل كان يأتيهما، ولما شكت إليه ما تلقى من أثر الرحى فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمها أن تكبر أربعاً وثلاثين، وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وأن هذا خير لها من الخادم، وقال: "إن فاطمة بضعة مني، وإني أكره أن يسوءها". أي أحد، وهكذا عبر لابنته عن شعوره -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقبل شفاعتها حتى فيما شجر بين أزواجه.

عباد الله: إن إكرام البنات والعناية بهن، والقرب منهن، والتأديب، والرعاية، والشفقة عمل عظيم، فأحسن الله إلى من أحسن إليهن، وأكرم الله من أكرمهن، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان!!

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: يا ترى ماذا أنتجت تلك التربية النبوية لفاطمة -عليها السلام-؟!
أنتجت شخصية عظيمة حتى في صغرها، جريئة، فيها عزة الإسلام، ولما سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الكعبة، واقترح أبو جهل ذلك الاقتراح الأثيم: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفي محمد إذا سجد؟!
فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وضعه بين كتفيه، فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض من الضحك والاستهزاء، قال ابن مسعود: وأنا قائم أنظر لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت -وهي جويرية- فطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تشتمهم.

وهكذا تفعل البنت، هذه الصغيرة، هذا الموقف الجريء، وتقبل على عظماء الكفار بهذه القوة -رضي الله عنها-، وهكذا كانت نعم الزوجة لعلي -رضي الله عنه-، وتحملت المشاق وجاءت تشتكي إلى أبيها مرة هذه الخشونة التي بيدها من أثر العمل في البيت، وليس عندها خادم.

أيها الإخوة: هكذا تكون التربية تربية البنت مفيدة لها في المستقبل، معودة لها على تحمل المسؤولية ومشاق العمل، ومن أمثلة ذلك: بنت سعيد بن المسيب، وما أدراك ما بنت سعيد بن المسيب!!
خطبها عبد الملك الخليفة لابنه الوليد من أدبها وجمالها، فأبى عليه سعيد، فلم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصبّ عليه جرة ماء، وألبسه جبة صوف، نوع من التعذيب ليرضخ، فلم يرضخ سعيد، يقول ابن أبي وداعة تلميذ سعيد: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟!

قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها؟!
ثم قال: هل استحدثت امرأة؟!
فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟!
فقال: أنا، فقلت: وتفعل؟!
قال: نعم، ثم حمد وصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وزوجني على درهمين، أو ثلاثة.

وهذا محمول على أن سعيدًا يعلم بأن ابنته سترضى بمن اختاره زوجاً لها، وتعرف أنه يعمل لمصلحتها، فهي لا تعارض أباها، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح؟!
فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين ليكمل الزواج، فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي وكنت وحدي صائماً فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، هذا الموجود، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟!
فقال: سعيد، ففكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، ما خطر بالبال أن يأتي الشيخ وقد قابله قبل قليل، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له، سيتراجع، غير رأيه، فقلت: يا أبا محمد: ألا أرسلت إليّ فآتيك؟!
قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، الفترة بين العقد والدخلة صعبة، زواج مع وقف التنفيذ، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذها بيده فدفعها في الباب ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، أغلقته بإحكام، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لا تراه، لكي لا ترى أن البداية خبز وزيت، ثم صعدت السطح فرميت الجيران فجاؤوني قالوا: ما شأنك؟!

فأخبرتهم ونزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعرفهم بحق زوج.

هذه بنت سعيد، حافظة للكتاب، عالمة بالسنة، عارفة بحق الزوج.

قال: فمكثت شهراً لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، جلس يتعلم من البنت معلومات أبيها، انقطع شهراً مما رأى من العلم، كَفَتْهُ، فسلمت فرد عليَّ السلام ولم يكلمني حتى تقوّض المجلس، فلما لم يبق غيري قال: ما حال ذلك الإنسان؟!
قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا.
فانصرفت إلى منزلي، فوجه إليَّ بعشرين ألف درهم.

اللهم ارحم سعيد بن المسيب، وارحم من يحسن إلى بناته يا رب العالمين.

عباد الله: لم يكن ذلك المجتمع الأول يفرض فقط هذا الحفظ والتعليم الشاق على النفوس دون أن يكون هناك مراعاة للشعور، بل كانت هناك لعب للبنات، وعائشة كان لها لعب، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسرب إليها بنات في مثل سنها ليلعبن معها، وأصلاً عائشة من أين أخذت للزواج؟!
كانت على الأرجوحة، كانت صغيرة.

إذًا كان هناك اهتمام بلعب البنات وحاجة البنات النفسية للعب، كانت على الأرجوحة، قال بعض العلماء: هي مثل التي نعرفها اليوم، وقال بعضهم: هي الخشبة التي تجعل من وسطها على مكان مرتفع يجلسون على طرفيها يحركونها فتنزل من جانب وتصعد من جانب، هذه الأرجوحة.

إذًا كان هناك اهتمام بهذه الحاجة النفسية، لماذا أبيحت اللعب، مع أنها في الأصل ممنوعة في الشرع ذوات الأرواح؟!
لكن هيكل رأس ويدين ورجلين، وهيكل بدون تفاصيل، لماذا؟!
لأجل مراعاة حس الأمومة عند البنات، تنمية غريزة الأمومة عند البنات، تنمية قضية رعاية الأولاد عند البنات الصغيرات؛ لأنها هكذا سيكون لها شأن في المستقبل، تنتج ذرية، وليست تعمل في مصنع، ولا بنشر، ولا تسوق شاحنة كما يريد لها أعداء الله.

عباد الله: الإحسان إلى البنات بعمل ما فيه المصلحة حتى في غرفتها، ترفيه بضوابط شرعية، وتعليم القرآن والسنة، وتعويد على كافة ظروف المعيشة، تاجر يستطيع أن ينزل بناته في فنادق خمسة نجوم ومع ذلك كان ينزلهن أحياناً إذا سافر في فندق متواضع ليعودهن الآن على مواجهة عيش في المستقبل لا يدرى كيف هو، كان بعض المشايخ يقتصر على نوعين من الفاكهة ويقول: أخشى أن يتعودن على الأصناف المتعددة، فتتزوج إحداهن بفقير فتقول: كان أبي يأتي وكان أبي يأتي بكذا، ويشتري كذا وكذا. هذه التربية والتهيئة للمستقبل.

عباد الله: ليست الرحمة بالبنات أن تتركها تذهب إلى السوق مع السائق بمفردها، ليست الرحمة بالبنت أن تتركها مع جوال، ومستقبِل قنوات فضائية، ويعمل بالبطاقات، ليست الرحمة بها أن تتركها تذهب إلى بيت أي صديقة، ليست الرحمة بها أن تمكنها من عمل الحفلات الماجنات، وأن تدعو البنات إلى الفنادق الفخمة والمطاعم لعمل حفلة نجاح، أو عيد ميلاد، ليست الرحمة بها أن تتركها تعبث بالقنوات، وتعجب بالمغنين والمغنيات، والممثلين والممثلات، وتستقبل من رسائل الجوالات من البنات ما يشيب به الرأس اليوم، وتقول لصاحبتها: أسرعي، أسرعي افتحي القناة الفلانية، فيها المغني فلان يقول: إني معجب بالبنات، وتلك تقص شعرها على حسب هذا المغني وتترك حتى في ميزان نقل الأخبار كما يتناقلن اليوم الإشاعات، والخوف، والوجل، والرعب في سفاح الخبر.

اللهم إنا نسألك أن تعيننا على القيام بحقوق عبادك يا رب العالمين، اللهم أعنا على تربية أبنائنا وبناتنا، اللهم إنا نسألك أن تهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن تجعلنا للمتقين إماماً.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، سامحنا فيما قصرنا فيه من حقك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار ما قرب إليها من قول وعمل، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

كتبت : || (أفنان) l|
-


أختي الفاضلة

سلمت يمينكِ على نقل هذه الدرر الثمينة ...
أجزل الله لكِ الأجر والمثوبة
جزيتي من الجنة نصيب ..
عزيزتي
أستمري بالعطـاء يـاقلبي
ودائماًأروي ضمأنا بمثل هذه المواضيع النبيلة ..
دمْتي بـِ طآعَة الله ..}

كتبت : ¯`· شذى ·´¯
-
موضوع رائع
رفع الله قدرك فى الدارين
واجزل لك العطاء
شكرا لطرحك المميز
وانتقائك الهادف
جعله المولى فى موازين حسناتك
بوركت جهودك
كتبت : ام ناصر**
-
چزآگ آلله آلف خير على هذآ آلطرح آلقيم
وچعله آلله فى ميزآن آعملگ ....
دمت پحفظ آلرحمن ....
ودى وشذى آلورود
كتبت : أم رائد
-
جزاك الله خير
طرح مميز
لروحك نسائم الايمان
بانتظار جديدك

التالي

كيف يعيد الله البشر إلى الحق - الشيخ محمد صالح المنجد

السابق

يا حامل القرآن - الشيخ سليمان بن حمد العودة

كلمات ذات علاقة
أبا , أبشر , محمد , المنجد , البنات , الصحى , شامي