ألا أخبركم عن النفر الثلاثة (2)

مجتمع رجيم / النقاش العام
كتبت : كيان انجرح
-
ألا أخبركم عن النفر الثلاثة (2)


عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)

ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به، فبه يطمئن وإليه يسكن وإليه يأوي، وبه يفرح وعليه يتوكل، وبه يثق وإياه يرجو وله يخاف، فذكره قوته وغذاؤه، ومحبته والشوق إليه حياته ونعيمه ولذته وسروره، والالتفاف إلى غيره والتعلق بسواه داؤه، والرجوع إليه دواؤه، فإذا حصل له ربه سكن إليه واطمأن به، وزال ذلك الاضطراب والقلق، وانسدت تلك الفاقة،

فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدا، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل، ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى بفوته حسرة وعقوبة.

قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها.
قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته.
وقال آخر: إنه ليمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
وقال آخر: والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته.
وقال أبو الحسين الوراق: حياة القلب في ذكر الحي الذي لا يموت، والعيش الهني الحياة مع الله تعالى لا غير.

ولهذا كان الفوت عند العارفين بالله أشد عليهم من الموت، لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق، فكم بين الانقطاعين؟
وقال آخر: من قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطع قلبه على الدنيا حسرات.

وقال يحيى بن معاذ: من سر بخدمة الله سرت الأشياء كلها بخدمته، ومن قرت عينه بالله قرت عيون كل أحد بالنظر إليه. (1)

ولما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكيلة على الله تعلى، فإن شعت القلب لا يلمه إلا الإقبال على الله تعالى، وكان فضول الطعام والشراب وفضول مخالطة الأنام وفضول الكلام وفضول المنام مما يزيده أو يعوقه ويوقفه في كل واد ويعطله عن سيره إلى الله تعالى أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعبادة أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة،

وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصود وروحه عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولى عليه بدلها، ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم وهو العشر الأخير من رمضان، ولم ينقل عن النبي أنه اعتكف مفطرا قط، بل قد قالت عائشة -رضي الله عنها-: لا اعتكاف إلا بصوم. ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلا مع الصوم ولا فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا مع الصوم، فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أن الصوم شرط في الاعتكاف وهو الذي يرجحه شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية.

وأما الكلام فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل مالا ينفع في الآخرة، وأما فضول المنام فإنه شرع لهم من قيام الليل ما هو من أفضل السهر وأحمد عاقبة، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ولا يعوق عن مصلحة العبد، ومدار رياضه أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي، ولم ينحرف انحراف الغالين، ولا قصر تقصير المفرطين (2)

ويكفي في الإقبال على الله تعالى ثوابا عاجلا أن الله سبحانه وتعالى يقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه، كما أنه يعرض بقلوبهم عمن أعرض عنه، فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم، فما أقبل عبد على الله بقلبه إلا أقبل الله عز وجل عليه بقلوب عباده، وجعل قلوبهم تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله بكل خير إليه أسرع، وإذا كانت القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله عز وجل كما قال الله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل:53] فلا ألأم ممن شغل قلبه بحب غيره دونه (3)


الهوامش والمصادر


(1) إغاثة اللهفان ج: 1 ص: 71

(2) زاد المعاد ج: 2 ص: 88 ط مؤسسة الرسالة / باب في هدي النبي في الاعتكاف

(3) روضة المحبين ابن قيم الجة ج: 1 ص: 417 بتصرف


جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
صيد الفوائد </ul>