ما هي عمرة القضاء ؟ ومتى كانت ؟

مجتمع رجيم / الأخبار المصورة
كتبت : نورما
-
عمرة القضاء هي العمرة المتفق عليها في صلح الحديبية بين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقريش، وهي العمرة التي تمَّت في أواخر العام السابع من الهجرة وعُرِفَتْ بعمرة القضاء (1).

فقد كان مما أملاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن عمرو، «عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ‏ ‏الْبَيْتِ،‏ ‏فَنَطُوفَ بِهِ». فقال سهيل:‏ والله لا تَتَحَدَّثُ‏ العرب أنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، ولكنْ ذلك من العام المقبل. فكتب (2).

خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ألفين من أصحابه، وحمل معه سلاحًا كثيفًا، وأخذ عُدَّةَ حربٍ كبيرةً تحسُّـبًا لأي خيانة من قريش، ولكنه كان ينوي دخول مكة -كما اتفق مع أهلها العام الماضي- بسلاح المسافر فقط، ورأت عيون قريش الأسلحة فَفَزِعَتْ، وأرسلت وفدًا برئاسة «مِكْرَز بن حفص» ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بطن يأجج (3) بمر الظهران، فقالوا له: يا محمد؛ والله ما عرفناك صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر.. تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطتَ ألاَّ تدخل إلاَّ على العهد، وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها؟!

لقد وصلت قريش إلى حالة من الضعف لا تستطيع فيها أن تُواجه قوَّة المسلمين، فكان هذا الفزع من القوَّة الإسلامية، وكان من الممكن أن يستغل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الفزع والهزيمة النفسية، وكان من الممكن أن يستغلَّ اقترابه من مكة إلى هذه الدرجة، وهو في ألفين من رجاله مدجَّجِينَ بالسلاح، كان من الممكن أن يستغلَّ ذلك كله في غزو مكة بحُجَّة استرداد الحقوق، أو بحُجَّة المعاملة بالمثل جزاء حصار الكفار للمدينة في غزوة الأحزاب؛ كان من الممكن كلُّ ذلك، لو كان القائد غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان الشرع الحاكم غير الإسلام..

إن المسلمين عند عهودهم مهما كانت الظروف؛ ولذلك أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثقة: «لا نَدْخُلُهَا إِلاَّ كَذَلِكَ». وسمع مِكْرَز الكلمة وطار مسرعًا إلى مكة يقول لهم: إن محمدًا لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم(4). لقد قال مِكْرَز هذه الكلمات وهو على يقين من تحقُّقها، وما دام قد قال –صلى الله عليه وسلم- فلا شَكَّ أنه صادق.

ووضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلاح خارج مكة، وترك معه محمد بن مسلمة (5) في مائتي فارس لحمايته، ودخل هو وبقية الصحابة لأداء العمرة بالسيوف في أغمادها كما وَعَدَ.. وكان الاتفاق على أن تُخْلِيَ قريشٌ مكة بكاملها للمسلمين مدَّة ثلاثة أيام كاملة لأداء مناسك العمرة، وقد تمَّ ذلك، ووقف المشركون على رءوس الجبال المحيطة يُشاهدون مناسك العمرة طِبْقًا للشرع الإسلامي.

وتمَّت العمرة المباركة، وارتاحت قلوب المسلمين برؤية الكعبة والطواف حولها، ومرَّت الأيام الثلاثة بسرعة، وفي آخرها تزوَّج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية (6) –رضي الله عنها، وهي خالة خالد بن الوليد من كبار زعماء قريش، وأخت أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عَمِّ الرسول –صلى الله عليه وسلم، ولهذا الزواج بُعْدٌ سياسي واضح؛ فخالد بن الوليد ليس قائدًا هامشيًّا في مكة، بل هو أعظم قُوَّادها العسكريين مُطلقًا، وكان من الواضح أنَّ حِدَّة طباع خالد قد خَفَّتْ مع المسلمين جدًّا بعد وقعة الحديبية؛ لِمَا رآه من أحوالهم، ومن إحساسه أنهم مُؤَيَّدُون بقوَّة خارقة لا يعرفها، حتى إنه يوم الحديبية يصف الرسول –صلى الله عليه وسلم- وجيش المسلمين بقوله: «الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ»(7).

لقد غَيَّرَت الأحداث نفسية وسلوك خالد بن الوليد، وزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خالته سوف يُقَرِّبُ منه أكثر وأكثر، ولو حدث وأسلم خالد فإن هذه ستكون إحدى الضربات القاضية للكفر وللكافرين، وسبحان الله! فقد أسلم خالد -رضي الله عنه- بعد شهور قليلة من عمرة القضاء مُثْبِتًا بذلك عمق نظرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

وبعد انتهاء الأيام الثلاثة المحدَّدة للعمرة جاء سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى موفدين من قِبَل قريش لحثِّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على الخروج؛ فقالوا له بغلظة: إنه قد انقضى أجلك؛ فاخرج عنا. فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يتلطَّف معهم بالرغم من جفائهم، فقال لهم: «وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ (8) بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ؟» (9).

لقد أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون طبيعيًّا تمامًا في تعامله معهم؛ بل أراد أن يكون ودودًا كريمًا مضيافًا يدعوهم إلى طعامه وشرابه واحتفاله بعُرسه، متناسيًا تمامًا تاريخهم الأسود معه.

أراد كل ذلك، وأرادوا هم غير ذلك!

لقد رَدُّوا عليه في جفاء الأعراب: لا حاجة لنا في طعامك، فاخرج عنَّا(10)!

ورغم هذه المعاملة الجافَّة، ورغم قوَّة المسلمين وضعف الكافرين، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احترم عهده وميثاقه، وخرج دون مماطلة، وانطلق دون تباطؤ إلى المدينة المنورة.

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا ينهى المسلمين عن استقبال ذويهم من المشركين، واستضافتهم في المدينة، وقبول هداياهم، كما حدث مع أسماء بنت أبي بكر ب عندما سألتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صلة أُمِّها المشركة، فقال لها –صلى الله عليه وسلم- بإيجازٍ بليغٍ: «صِلِيهَا»(11).

1- ابن هشام: السيرة النبوية، 2/370، وابن كثير: السيرة النبوية 3/428.
2- البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581)، وأحمد (18948)، وابن حبان (4872).
3- بطن يأجج: موضع قرب مكة على بُعد ثمانية أميال منها.
4- ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/121، وانظر: ابن كثير: السيرة النبوية 3/436.
5- هو محمد بن مسلمة بن خالد الأنصاري الأوسي، شهد المشاهد كلها مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلاَّ تبوك؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- استخلفه على المدينة فيها، واستعمله عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- على صدقات جهينة، وكان صاحب العمال أيام عمر، مات بالمدينة (سنة 46 أو 47هـ). انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 3/433، وابن الأثير: أسد الغابة 4/318، وابن حجر: الإصابة الترجمة (7805).
6- ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية زوج النبي –صلى الله عليه وسلم، تزوَّجها سنة 7هـ، تُوُفِّيَتْ (51هـ) بسَرَفٍ في الموضع الذي بنى بها فيه رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم، وصلَّى عليها ابن عباس ب. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة، 6/275، وابن حجر: الإصابة، الترجمة (11772).
7- البيهقي: دلائل النبوة 4/349، وابن كثير: السيرة النبوية، 3/451، والبداية والنهاية 4/272.
8- أعرست: أتممت العرس على ميمونة ل.
9- الحاكم (6796)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية 2/372، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/25.
10- السابق نفسه.
11- البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب الهدية للمشركين (2477)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (1003).

د.راغب السرجاني