( ماهي القضايا التي تناولتها ملحمة كلكامش ؟)

مجتمع رجيم / التنمية البشرية وتطوير الذات
كتبت : علشأنك
-
قضايا الملحمة الرئيسية :




تصرح ملحمة جلجامش بعدد من القضايا الهامة التى ما زالت مطروحة على الإنسانية حتى اليوم، كما أنها تثير قضايا أخرى تستحق الوقوف عندها، والتفكر فيها نظرًا لما تثيره من أسئلة، وتحمله من دلالات. وفيما يلى قائمة بأهم القضايا الكبرى التى تناولتها الملحمة بصورة مباشرة :



1-البطولة .

2-الصداقة .

3-المغامرات ومواجهه الصعاب.

4-الحيلة واستغلال الإغراء.

5-الانتقام .

6-الموت والرثاء.

7-الأحلام وشفافيتها.

8-عقاب الآلهة للبشر.

9-الرغبة فى الخلود.

10-أهوال العالم السفلى.



وحرصًا على الاختصار، سوف أتناول كلا من هذه الأفكار الرئيسية بكلمة بسيطة :



1-البطولة :

تتمثل البطولة بمعناها الخارق فى شخصيتين هما جلجامش وأنكيدو . أما جلجامش فهو إنسان مكون من ثلث بشرى وثلثين من مصدر إلهى ولذلك جاء قوى البنية، مكتمل الخلقة، جميل الطلعة، لكنه حاكم مستبد أذل رعاياه، وكلفهم بناء مدينة أوروك وتحصين أسوارها حتى أصبحت منيعة على كل الأعداء . وتذكر الملحمة أنه لم يترك فتاة لخطيبها، ولا ابنًا لأبيه ! وسوف تظهر قوته الشخصية فى الصراع مع حارس غابة الأرز، وفى ذبح الثور السماوى الذى أرسلته الآلهة للقضاء عليه. كما أنه تغلب على انكيدو القادم من أعماق الغابات، والذى سبق له أن قتل الوحوش الضارية وكانت تخشاه كل حيوانات الغابة. أما جمال جلجامش فهو الذى أغرى الإلهة (عشتار) بكل جمالها وثروتها بطلب الزواج منه، لكنه رفضها بسبب ماضيها الحافل بالقضاء على أزواجها السابقين .





2-الصداقة :

ما أسرع ما تحول الصراع بين جلجامش وأنكيدو المتوحش إلى صداقة عميقة، سوف يتجلى الإخلاص الكامل فيها طوال أحداث هامة من الملحمة! وجدير بالذكر أن أم جلجامش قد باركت هذه الصداقة، بل وأوصت أنكيدو بأن يرعى ابنها فى كل ما يقوم به من أعمال. وقد حقق أنكيدو بأمانة كل ما طلب منه. فصاحب جلجامش إلى قتال حارس غابة الأرز، وكان وحشًا هائلا. كما تعاون معه فى قتل الثور السماوى الذى أنزلته الآلهة للانتقام من جلجامش بسبب رفضه الزواج من الإلهة (عشتار)، وكان هذا العمل سببًا فى غضب الإلهة منه، والإفضاء إلى موته .



أما الصداقة من جانب جلجامش فتتمثل فى الحزن الشديد أثناء مرض صديقه، ورعايته الدائمة له، والسهر بجوار فراشه محاولاً التسرية عنه . وعندما وافته المنية، راح يرثية رثاءً صادرًا من أعماق القلب، وجمع حاشيته لكى تشارك فى تكريمه، وإقامة تمثال له. وظل بعد ذلك يندب حظه على فقده، ويحدث كل من يقابله عن الألم الدفين الذى يعتصره منذ فارقه صديقه أنكيدو .. ومن المؤكد أن وفاة صديقه كانت هى السبب الرئيسى فى مغامرته الأخيرة بحثا عن الخلود، ومحاولته هزيمة الموت .





3ــــ المغامرات ومواجهة الصعاب :


امتلأ قلب جلجامش منذ البداية بحب المغامرة ، والسفر الطويل والمرهق فى سبيل تحقيق بعض رغباته من خلالها . والواقع أن المغامرات لم تبدأ إلا بعد أن عقد أواصر الصداقة الحميمة مع أنكيدو، الذى لم يكن فى الغالب ميالا إليها، نظرًا لحياته السابقة فى الغابات الوحشية ، لكنه مع ذلك كان يستجيب لتحقيق رغبات صديقه، بعد أن يقوم أولا بمعارضته أو نصحه .



وكانت المغامرة الأولى هى السفر لمواجهه (خمبايا) حارس غابة الأرز المعين لمهمته تلك من جانب الآلهة. وقد تعاون الصديقان فى الصراع معه ، وقتله .

وكانت المغامرة الثانية فى تعاونهما معا من أجل قتل (الثور السماوى) الذى أنزلته الآلهة لعقاب جلجامش بسبب رفضه الزواج من عشتار. لكن الصديقين نجحا أيضا فى مقاومته وذبحه .



أما بعد وفاة أنكيدو، فقد انفرد جلجامش بالخروج فى مغامرة كبرى بحثا عن الخلود، ومحاولة هزيمة الموت الذى يلحق بالبشر، بينما تختص الآلهة بعكس ذلك ! وفى هذه المغامرة وصل إلى جيل ماشو، الذى يحرسه (البشر – العقارب)، ومنه إلى (بحر الظلمات)، حتى بلغ (مياه الموت) ومنها إلى (أوتو – نبشتم) الذى أطلعه على بعض الأسرار. ثم حاول العودة بنبتة الخلود ، لكن الحية سرقتها منه فرجع إلى بلده خائب الرجاء.




4 ــــ الحيلة واستغلال الإغراء :

حين فوجئ أحد الصيادين برؤية (انكيدو) فى الغابة، واندهش لقوته ووحشيته وتغلبه على الوحوش، أسرع إلى والده ليقص عليه ما شاهده ، فاقترح عليه الأب أن ينقل ذلك إلى جلجامش حاكم مدينة أوروك، وأن يستخدم الحيلة فى اصطحاب (انكيدو) هذا إلى لقاء جلجامش عن طريق إرسال احدى البغايا لكى تعرض عليه مفاتنها. وبعد أن خضع لها، أغرته بالذهاب معها إلى مدينة أوروك للقاء جلجامش، وتحويله إلى انسان مدنى بدلاً من حياة التوحش الذى يعيشها. وهكذا تمت هذه الحيلة فى اجتذاب (أنكيدو) إلى مدينة أوروك حيث أصبح فيما بعد أخلص أصدقاء جلجامش.



وهناك محاولة أخرى للإغراء، قامت بها الإلهة (عشتار) حين أعجبت ببطولة جلجامش وجماله، فعرضت عليه الزواج منها، فى مقابل الكثير من الهدايا والعطايا، لكنه رفضها رفضا مهينا، مما جعلها تلجأ إلى أبيها لكى ينتقم لها من جلجامش، فأرسل معها (الثور السماوى) لكى يقتله، لكن جلجامش وصديقه الحميم أنكيدو تغلبا عليه، وذبحا



5-الانتقام :


يصدر الانتقام فى ملحمة جلجامش من الآلهة أكثر مما يصدر من البشر. فقد استعانت عشتار بأبيها لكى ينتقم لها من رفض جلجامش الزواج منها، وحديثه معها بإهانة بالغة ، فقام الأب بتسليمها مقود (الثور السماوى) لتنزله معها إلى الأرض، ويقوم بقتل جلجامش.



وحين نجح الصديقان البطلان (جلجامش وأنكيدو) فى التغلب على هذا الثور وذبحاه غضبت الآلهة ، وعقدت اجتماعًا قررت فيه أولاً قتل جلجامش، لكنها عدلت عن ذلك باعتباره يحتوى على عنصر إلهى، لذلك حوّلت انتقامها إلى صديقه (انكيدو) مع أنه مجرد تابع له، وهو برئ كما صرح بذلك أحد الآلهة . لكن القرار صدر بالفعل ضد أنكيدو، الأمر إلى أوقعه فى المرض، ثم الموت.





6-الموت والرثاء :


أصاب الموت أنكيدو تحت سمع وبصر صديقه جلجامش الذى لم يستطع أن يدفع عنه المرض الذى ألزمه الفراش، ولا الألم الذى كان يعتصره. ويبدو بالفعل أن الموت هنا كان جرس انذار لجلجامش لكى يدرك مصير البشر، وأنهم لا محاله مائتون، مهما كانت قوتهم ، أو صلابتهم.



وعلى قدر ضخامة المصيبة بفقد الصديق المخلص، كان حزن جلجامش، ولوعة روحه التى انسابت فى رثاء دامع يهز القلوب، ويدفع للتعاطف مع صاحبه. وقد كرر جلجامش هذا الرثاء أمام كل مَنْ قابلهم سواء من البشر أو الآلهة ، ليس فقط لكى يثبت حزنه على صديقه الحميم ، وإنما أيضا لكى يبرر بحثه الدائب عن سر الخلود، وهزيمة الموت .




7-الأحلام وشفافيتها:


فى ملحمة جلجامش تتعدد الأحلام التى رآها فى النوم كل من الصديقيْن. والواضح أن تلك الأحلام لم تكن أضغاثا، بل إنها كنت بمثابة الرؤى الشفافة للمستقبل، حتى أن معظمها كان يتحقق فى الواقع، وكأنها كانت مثل الكشافات التى يستهدى بها السائر فى الظلمة، فتضىء له معالم الطريق ، وتنبهه إلى ما قد يوجد فيه من عقبات وموانع.



وفى البناء الداخلى للملحمة ، تلعب الأحلام دورًا هامًا بالنسبة للمتلقى، فهى التى تمهد له الأحداث القادمة، وتجعله مهيأ لقبولها.



وأخيرًا فإن الأحلام فى الملاحم بصفة عامة هى التى تملأ المنطقة الواقعة فى الوسط بين الواقع ــــــ وما وراء الواقع ، أو ما فوقه . وباكتمال المناطق الثلاث (الواقع – الوسط – ما فوقه) يصبح الانتقال من منطقة إلى أخرى صعودًا وهبوطًا أمرًا مقبولاً من المتلقى.





8-عقاب الآلهة للبشر بالطوفان :


فى إحدى سورات غضب الآلهة، اجتمعوا فى مدينة (شرباك) وقرروا إغراق أهل الأرض جميعا بطوفان شامل، لا يترك على ظهرها أحدًا منهم. وحين بدأت المياه تغمر الأرض بقوة عارمة، صعد هؤلاء الألهة إلى السماء نجاة بأنفسهم ، غير أن واحدًا منهم اتجه إلى (كوخ القصب) حيث كان يقيم رجل اسمه (أونو – نبشتم) ، وأوصاه بسرعة بناء سفينة ضخمة ، وأن يحشد فيها عددًا من البشر والحيوانات والطيور، لكى تتم نجاتهم . وبالطبع اعتبر باقى الآلهة أن هذه خيانة لهم، لأن السفينة أنقذت تلك الجماعة من الغرق، وبها بدأت أجيال جديدة من البشر. وحين نزل الإله (انليل) ، الذى أصدر الأمر بالطوفان، وشاهد السفينة، دخلها وبارك منشئها مع زوجته، ومنحهما لمسة الخلود التى تستثيهما من الموت ، بشرط أن يعيشا بعيدًا .. عند فم الأنهار . حيث وصل إليهما جلجامش فى مغامرته الأخيرة ، وأقام عندهما لفترة من الوقت.



المهم أن العقاب كان قاسيا للغاية، لكن بطولة (أوتو – نبشتم) كانت رائعة فى إنقاذ الجنس البشرى من الهلاك الشامل. وكذلك طيبة قلب الإله الذى نصحه ببناء السفينة.



وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الدراسات المقارنة قد أجريت حول أوجه الشبه بين هذا الجزء الخاص بالطوفان فى ملحمة جلجامش، وما ورد بعده فى نص نوراة اليهود من حديث تفصيلى عن الطوفان الذى عم الأرض فى زمن الرسول نوح، عليه السلام.




9-الرغبة فى الخلود


هل كان موت انكيدو ، الصديق الصدوق لجلجامش، هو السبب الأساسى فى محاولة القيام بمغامرته الكبرى بحثا عن سر الخلود، ومحاولة هزيمة الموت، أم أن هذه الرغبة كانت كامنة فى نفس البطل الأسطورى الذى كان يتكون من عنصر إلهى إلى جانب العنصر البشرى ؟ أم أن خَلْقه علي تلك الصورة القوية والجميلة، وتوسده سدة الحكم، كل ذلك جعله يرفض الموت الذى يهيل عليه التراب، ويدفنه فى الأرض ؟



إن فكرة رفض الموت قد لازمت الإنسان منذ بدء الخليفة، وربما استمرت معه حتى اليوم. وليس بناء الهياكل الضخمة، والأهرامات الشاهقة، والتماثيل العملاقة سوى محاولة لإبقاء الإنسان حيا، أو مستعدًا لقيامه مرة أخرى فى هذه الحياة.



لكن مغامرة جلجامش من أجل الحصول على سر الخلود وهزيمة الموت كانت أثناء حياته، وقد حاول القيام بها بنفسه، وإن كان فى أحد نصوص الملحمة يشير إلى أنه بعد أن حصل على نبتة الخلود كان سيقدمها أيضا إلى شعبه ! وليس هذا مستغربا، فلأنه حاكم لابد أن يكون له شعب .



أما النهاية فكانت مأساوية. فقد سُرقت منه النبتة فعاد أدراجه موقنا بأن الموت قدر مقدور على بنى الإنسان، وعليه ألا يتطلع إلى محاكاة خلود الآلهة الذين لا يموتون أبدا .




10-أهوال العالم السفلى


ولا تقتصر ملحمة جلجامش على تحديد مصير الإنسان بالموت، لكنها تقفز قفزة أخرى لاستطلاع ما بعد الموت، فى الحياة الأخرى، وهى فى لوحها الثانى عشر، لا تعرض لأهل الجنة، بل إنها تشير إلى أهل الجحيم، الذين هم أشرار هذا العالم الدنيوى.



وفى الحوار الهام الذى دار بين جلجامش، وصديقه انكيدو بعد موته، يحدثه الأخير عما رآه من أهوال. لكن أهم الأسئلة التى أراد جلجامش معرفة إجابتها من المتوفى هى المتعلقة بمن مات ولم ينجب ذرية، سواء كانت ولدًا واحدًا – حتى ثمانية أبناء؟ كما سأل عن الشخص الذى لم تدفن جثته؟ وكذلك الشخص الذى لم يقدم له أهله القرابين بعد وفاته؟ وقد أجابه أنكيدو عن كل هؤلاء، وبالنسبة لهذا الأخير يقول إنه رآه يأكل الفضلات التى تلقى فى المزابل !



هذا ويمكن القول بأن مصر القديمة قد بحثت بكل عمق، وبأدق التفاصيل حالة هذا العالم السفلى، الذى ينزل إليه المتوفى بعد الموت. واعتقدت فى خلود النفس، وفى حتمية الجزاء الأخروى على كل أعمال الإنسان فى هذه الدنيا – والمجال مفتوح للمقارنة فى هذا الصدد مع ما ورد فى ملحمة جلجامش ..