معطف ميشائيل

مجتمع رجيم / الموضوعات المميزة فى العلوم الطبيعية
كتبت : بتول الغلا
-
-2280لم أبحث طويلاً في قصة “المعطف العربي” لميشائيل كليبرغ عن اللبناني المدعو إلى ألمانيا لإلقاء محاضرات عن حوار الحضارات، فقد فهمت فوراً أنه “أنا”، أما الحادثة التي تبدأ بها القصة فقد حدثت لي أو اقترفتها أنا.

في رحلة الشخص ورحلة معطفه داخل المدن الألمانيّة لا نجد فقط متاهة الحوار بين الثقافات، بل نجد امتحاناً كاملاً لسؤال الهويّة. الكائن لا يتغرّب فقط عن نفسه وعن لغته بل يتغرّب أيضاً عن إقامته

لقد كنت أقرأ إذاً عن نفسي، وبينما كنت أطوي الصفحات التي تتكلّم بلساني وتضمّن السطور صورا وعبارات من مجموعتي الشعرية التي كتبتها عن يوميّاتي في برلين، وكان لميشائيل فضل عنونتها “فصل في برلين”، لم أجد أنّ ميشائيل حاد عن الشخصيّة التي إبتكرها لي، بل كنت أعجب من مقدار قربها منّي، لا في المضمون وحده ولكن في الأسلوب أيضاً.

لقد استطاع كليبيرغ أن ينفذ إلى دواخلي وأن يصوغ عني تفاصيل تلبسني. لقد فهمت أن هذا درس فعلي في كتابة القصة، إنّه إبتكار شخصية من وقائع وجمل وحتى من قصائد، حتى تراءى لي أنّني أقرأ لغتي، فهذا النص الألماني في ترجمة سمير جريس له قد أستحال فعلاً عربياً كما لو أنه كتب في الأصل بهذه اللغة.

لم يقف ميشائيل عند الحادثة الحقيقية، فقد حولها إلى فانتازيا يلبس فيها المعطف شخصية صاحبه وكلامه بحيث يغدو”أنا” أخرى، وبحيث يجول في طول ألمانيا وعرضها كما فعلت أنا وميشائيل ذات يوم. هكذا انقسم الراوي إلى شخص ومعطف.

المعطف يحمل إسماً لا يحمله قصداً الشخص، إنّه المعطف العربي. هو هكذا، الهوية التي ليست في نظر ميشائيل سوى معطف، أما الشخص فيبقى ضائعاً في المحطات بلا إسم ولا هوية. إنّه ضياع الكائن البعيد عن كينونته فيما يدّعي هذه الكينونة، من يتخذون منها زيّاً ولقباً.

لا يدعي المثقف الألماني الوطنية ويراها أمراً نافلاً، والأرجح أن ما يهمّ ميشائيل أكثر بكثير، هو حوار الحضارات الذي ضاع بين المحطات والطرقات لكنّه بقي في البحث عن إسم وبلد معبّراً بذلك عن أزمة الحوار وضياعه.

ينفصل الشخص عن إسمه وهويته كما هو الكائن المعاصر. وليس هذا فحسب، فقد سبق له في القصّة أن انفصل عن لغته، ليس عن لغته وحدها ولكن عن أيّ صيغة للتواصل. فاللغة الفرنسيّة وهي اللغة الأجنبية الوحيدة التي يعرفها لم تعد دارجة في ألمانيا، ثم أن مسألة اللغة تلتبس أكثر حين لا يميّز الآخرون بين العربية والتركية. هكذا نجد أنفسنا أمام شىء كمسرح صموئيل بيكيت، هنا لا يعود للكلمات أيّ دور في التواصل ولا تنجح إلاّ في فقدان المعنى وجعله مستحيلاً.

هناك أيضا المتاهة التي تجعل الأمكنة هاربة، ففي رحلة الشخص ورحلة معطفه داخل المدن الألمانيّة لا نجد فقط متاهة الحوار بين الثقافات، بل نجد امتحاناً كاملاً لسؤال الهوية.

الكائن لا يتغرّب فقط عن نفسه وعن لغته بل يتغرب أيضاً عن إقامته. ولا ننخدع بألمانية المكان، فليس المكان هو الغريب بل الشخص، ومن هو في ألمانيا غريب سيكون كذلك في بلده أو في أيّ بلد آخر، فليس الوطن هو الذي يحدد، ولا فرق هنا بين الموطن والمنفى، وبين بلد الولادة وأي مكان آخر.

ومع اغتراب المكان لا يبقى أيّ ثقة وأيّ تواصل بين الكائن والمجتمع والثقافة والدولة، أي أن كلّ الركائز تزول من حالها.

المتاهة وفقدان الإسم والهويّة هما الجواب على حوار الحضارات. يسرني كثيراً أن يكون ميشائيل قد ابتكرني من جديد، فأنا أحوج إلى ذلك، وأن يكون سمير جريس قد عثر على لغتي أو ساعدني وساعد ميشائيل على التحرر منها.