الدولة كرجل.. نموذج شهير للاستعارة السياسية

مجتمع رجيم / الموضوعات المميزة فى العلوم الطبيعية
كتبت : بتول الغلا
-
كرجل.. للاستعارة السياسية -3815 أراد كثير من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع والسياسة أن يقربوا الدولة من الأذهان، فاستعاروا من حياة الإنسان، وتحديداً جسده، كي يقولوا لمن ينصتون إليهم أو يقرأون ما كتبوه إن الدولة كالرجل، أو كدورة حياة أي فرد منا، يكون رغبة أن فكرة مثلما يقول المهاتما غاندي “تولد في مخيلة المثقفين والشعراء” ثم تصير جنيناً ثم يولد ويشب على الطوق، ويصبح فتياً يرفل في صباه وشبابه، ثم لا يلبث أن ينتقل إلى الرجولة فالكهولة والشيخوخة، ثم يصبح أثراً من بعد عين.

وقد حفل التاريخ الإنساني بنماذج عديدة لدول سادت ثم بادت، بعضها راح تكوينه الجغرافي وتآكل بفعل الغزو والتوسع والامتداد، وبعضه ظل حيزه الجغرافي قائماً لكن دولة عرق أو طائفة أو فئة أو أسرة من الأسرات انقضت، وحلت محلها أخرى في المكان نفسه، فراح المؤرخون يتكلمون عن الأسرات التي حكمت مصر القديمة، ثم ظهر الأمر جلياُ بعد دخول مصر في حيز الإمبراطورية الإسلامية حين توالى الحديث عن الدولة الطولونية فالأخشيدية فالفاطمية فالأيوبية فالمملوكية ثم الغزو العثماني فعودة حكم المماليك من الباطن، فأسرة محمد علي التي دخل عليها الاحتلال الإنجليزي وانتهى الاثنان مع حركة الضباط يوليو 1952.

وما جرى لمصر ينسحب على دول كثيرة، وكأن الدولة وفق الخبرة التاريخية، والبحوث العلمية “تشبه جسم الانسان. السلطة المدنية العليا هي الرأس المدبر والمال هو الدم الذي يوصل الغذاء لكل مرافقها والجيش هو عضم الدولة. أما الإدارة فهي جهازها العصبي” وفق إيلي إلياس، ولهذا عمر يطول أو ينقص بقدر كفاءة أهل الحكم وعدلهم ورضا المحكومين عنهم.
وهذه الاستعارة البنيوية قديمة، فحسب ما أورده فؤاد بن أحمد في كتابه العميق “تمثيلات واستعارات ابن رشد” فإنه “يمكن القول إن المقايسة بين البدني والمدني قد جاءت لتنافس تمثيلا كلاسيكيا كان موجودا عند أفلاطون، وورثه عنه وطوره الفلاسفة المسلمون، وهو التمثيل بالنفس، بل يمكن الحديث عن صراع خفي بين هذين التمثيلين من أجل كسب رهان الاعتراف بنجاعة كل واحد منهما في معالجة المسائل المدنية”.

وفي كتابه “الجمهورية” يرى أفلاطون أن الإنسان المثالي هو الذي يسيطر بقواه العقلية على قوتي الغضب والشهوة، لذا فإن نظام الدولة يكون مثاليا، في نظره، إذا سيطرت طبقة الحكام الفلاسفة على طبقتي الجيش والعمال.

وفي قسّم أفلاطون أيضاً شرائح المجتمع إلى ثلاث طبقات مثلما قسم النفس الإنسانية. فالأولى: هي طبقة الحكام والتي تقابلها النفس الناطقة. والثانية: طبقة الكتلة العسكرية وتقابلها النفس الغاضبة. وأخيرا طبقة العمال: وهي تقابل النفس الشهوانية.

وبالنسبة لأفلاطون فإن “مشكلة الدولة الفاضلة، ومشكلة الرجل الفاضل، ليستا إلا وجهين لموضوع واحد، والإجابة على إحداهما يجب أن تكون إجابة عن الأخرى في آن، وينبغي أن تكون الأخلاق خاصة وعامة في نفس الوقت، ولو لم يكن الأمر كذلك، فإن حل مشكلتها يرجع إلى تقويم الدولة، وتحسين مستوى الفرد حتى يتحقق بينهما التناسق المستطاع، وإنه لمما يشك فيه كثيرا أن تجد فيما قيل حتى اليوم مثلا أعلى في الأخلاق أفضل من ذلك القول”.

وقبل أفلاطون حملت محاورة سقراط مع سيمونيدس حول العدل، الذي هو أحد القيم الكبرى التي يجب أن تهتم بها الدولة، ما يدل على الاحتفاء بتلك الاستعارة التي تسحب البدن على الدولة. ففي هذه المحاورة نقرأ ما يلي:

“لو سأل سيمونيدس عن فن الطب، ومن هو ذلك الذي يعطيه الطبيب ما يستحقه وما يلائمه، فبماذا تظنه يجيب؟

ـ سيجيب ولا شك بأن الطبيب يصف الأدوية والغذاء والشراب لأجسام البشر.

ـ وفن الطبخ: لمن يعطي ما هو مستحق وملائم، وما الذي يعطيه؟

ـ إنه يحدد المقادير المناسبة للأطعمة.

ـ وما الذي يعطيه الفن المسمى بالعدالة؟ ولمن؟

ـ لو استرشدنا بالأمثلة السابقة يا سقراط، لكانت العدالة هي الفن الذي يقدم الخير للأصدقاء، ويحلق الشر بالأعداء”.

وتأثر الفليسوف والفقيه العربي الكبير ابن رشد بهذه الاستعارة الإغريقية فراح في كتابه “الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون” يربط بين فضائل النفس وبين الشروط الواجب توافرها في المدينة كي تكون مجتمعا متكاملا، وهنا يقول: “نسبة هذه الفضائل في أجزاء المدينة هي كنسبة القوى النفسانية وأجزاء النفس، فتكون هذه المدينة حكيمة في جزئها النظري الذي به تسود جميع أجزائها على النحو الذي يكون به الإنسان حكيما بجزئه الناطق الذي يسود به على قواه النفسانية الأخرى، أعني المرتبطة بالعقل وهما الجزءان الغضبي والشهواني اللذين منهما تأني الفضائل الخلقية، وذلك بأن يتحرك الإنسان إلى الأشياء التي ينبغي أن يتحرك إليها، وفي الوقت الذي يعينه، فالإنسان يكون شجاعا بالجزء الغضبي في المكان والزمان والمقدار الذي توجبه الحكمة، وكذلك الشأن في فضيلة العفة وفي سائر الفضائل. وبالجملة يكون فاضلا بجميع الفضائل العقلية والخلقية وتكون الرئاسة فيه كرئاسة هذه الفضائل بعضها على بعض”.

وظهر التأثر أيضا فيما خلفه لنا إخوان الصفا في مصنفهم الشامل، حيث قالوا موجهين خطابهم إلى كل من يقرأهم على ما يبدو: “اعلم أن الجسد مسوس، والنفس سائس، فأي نفس ارتاضت في سياسة جسدها كما يجب، أمكنها سياسة الأهل والخدام والغلمان. ومن ساس أهله بسيرة عادلة، أمكنه أن يسوس قبيلة، ومن ساس قبيلة كما يجب، أمكنه أن يسوس الناموس الإلهي، ومن ساس الناموس الإلهي، أمكنه الصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السموات، عالم الدوام ليجازي هناك بما عمل من خير، فإذا الموت حكمة”.

ثم جاء ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع، ليعطي هذه الاستعارة دفعة قوية، وبتشبيه أكثر وضوحا ممن سبقوه على هذا الدرب حين قال في مقدمته ذائعة الصيت: “اعلم أن العمر الطبيعي للأشخاص على ما زعم الأطباء والمنجمون مائة وعشرون سنة، وهي سنون القمر الكبرى عند المنجمين .. وإنما قلنا إن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال، لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظة فيهم، فحدهم مرهف، وجانبهم مرهوب، والناس لهم مغلوبون. والجيل الثاني تحول حالهم بالملك والترفه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به، وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع، ويبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا الجيل الأول وباشروا أحوالهم، وشاهدوا من اعتزازهم وسعيهم إلى المجد، ومراميهم في المدافعة والحماية، فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية، وإن ذهب منه ما ذهب، ويكونون على رجاء من مواجهة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم. وأما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته، بما تفنقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عيالا على الدولة، ومن جملة النساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم، وتسقط العصبية بالجملة، وينسون الحماية والدافعة والمطالبة، ويلبسون على الناس الشارة والزي وركوب الخيل وحسن الثقافة، يموهون بها، هم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها، فإذا جاء المطالب لهم، لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكفر بالموالي، ويصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت”.

وكان ابن خلدون في استعارته تلك يمعن النظر في التجربة التاريخية للإمبراطورية الإسلامية التي حملت اسم “الخلافة”، معتبرا إياها وحدة سياسية أو اجتماعية، حين انتقلت من شظف العيش الذي رافق التوسع والامتداد إلى الطراوة والرخاوة في العصر العباسي الثاني اضطرت إلى الاستعانة بالفرس والأتراك، وفرطت شيئا فشيئا في حدودها المترامية بفعل ضعف القبضة المركزية.

ولم تغادر هذه الفكرة الاستعارية أذهان الفلاسفة المحدثين في الغرب، لنجد الفيلسوف الإنجليزي الشهير توماس هوبز يقول في كتابه العمدة “التنين”: “تدخل ضمن إعاقات الدولة، وفي المرتبة الأولى، تلك الناتجة عن تأسيس ناقص، وهي تشبه أمراض الجسم الطبيعي الناجمة عن إنجاب سيئ .. والحال أشبه بأجساد الأطفال المولودين من أهل مصابين بالأمراض، فإما أن يتوفوا قبل الأوان، وإما أن يتحرروا من الصفات الفاسدة الناتجة عن حملهم الردئ، وولادتهم، عبر الدماميل والخراجات”.

وانتقلت الاستعارة إلى عوالم الأدب، الأكثر احتفاء بهكذا نمط من البلاغة. ففي مسرحية “الملك لير” لشكسبير تم تشبيه الدولة بالجسم، وكل عضو يقوم بوظيفته فيه، وهي فكرة مستقاة بالأساس من مسرحية “كوريلانس” للإغريقي فلوطارخس، فتلك المسرحية تبدأ حين يبلغ الملك الثمانين من عمره، ويصير شيخا طاعنا يعاني من ضعف الجسم، وخطل الرأي، وضعف الإرادة، تملكته شهوة لأن يكون محط إعجاب الآخرين حتى عند ابنتيه، وهو يرفض الحقيقة، لأن الإنسان بطبيعته يتهرب من الحقيقة المؤلمة.

وهذه الاستعارة الداخلة بقوة في درب “البيولوجيا السياسية” طالما تم استخدامها في التحليل السياسي والتنبؤ، بغية الوقوف على طبيعة الأمور، أو تحذير الحكام من الإفراط في أي أعمال تعجل بشيخوخة دولتهم، وهي في الوقت نفسه قد تعطي الأمل للشعوب المقهورة بأن ما هم فيه من استبداد وفساد لن يستمر إلى الأبد، خاصة إن كانوا يدركون تداعي جسد الدولة بعد أن تسكنه الأمراض العضال.