شجاعة النساء

مجتمع رجيم / الموضوعات المميزة فى العلوم الطبيعية
كتبت : بتول الغلا
-
-4211

يوميات “امرأة في برلين” لا تصف حدثاً وقع في زمن مضى وانقضى، وفي مكان آخر، بل تصف حدثاً قابلاً للتكرار، ويتكرر بالفعل. وإذا كان ثمة من ضرورة للخروج بخلاصة عامة، و”قراءة” مختلفة ليوميات “امرأة من برلين” فيمكن، وبقدر ما رأى الأمر، اختزالها في عابرة واحدة: شجاعة النساء

لا يقرأ اثنان نصاً واحداً بالطريقة نفسها، ويصدق، هذا أكثر ما يكون، على النصوص الأدبية، التي تقبل أكثر من قراءة وتأويل. ولعل في سيرة كتاب بعنوان “امرأة في برلين” ما يصلح للتدليل على أمر كهذا. فالكتاب المذكور عبارة عن يوميات دوّنتها امرأة ألمانية، في الثلاثين من عمرها، على مدار ثمانية أسابيع شهدت سقوط برلين، في الحرب العالمية الثانية، واغتُصبت خلالها أكثر من مائة ألف امرأة من جانب جنود الجيش الأحمر السوفياتي، كانت إحداهن صاحبة اليوميات نفسها.

تبدأ اليوميات في العشرين من أبريل (نيسان) وتتوقف في الثاني والعشرين من يونيو (حزيران) 1945، أي مع تقدّم الجنود السوفيات في بعض أحياء العاصمة، وسقوطها بشكل كامل بعد أسابيع من القتال الضاري من شارع إلى آخر، وأحياناً من مبنى إلى آخر.
نُشرت اليوميات، في سويسرا، بعد نهاية الحرب بثماني سنوات، دون ذكر اسم الكاتبة، وقوبلت بامتعاض. فلم تكن جراح الحرب قد اندملت بعد. وعلى الرغم من رواج الكتاب، إلا أن الكاتبة رفضت إصداره في طبعة ثانية، وهي على قيد الحياة. ولم يُنشر في طبعة جديدة إلا في العام 2003، عندما صدر في ألمانيا نفسها، وتصدّر قائمة أكثر الكتب مبيعاً، وفي العام نفسه عُرف اسم الكاتبة، وهي صحافية تدعى مارتا هيلرز توفيت قبل صدور الطبعة الثانية بعامين. ومنذ ذلك التاريخ تعددت طبعات الكتاب، وترجماته إلى لغات مختلفة، كما تحوّل إلى فيلم سينمائي في العام 2008.

لماذا أثارت شهادة امرأة عن الحرب الامتعاض في زمن، والاهتمام معطوفاً على قدر من الإعجاب في زمن آخر؟ لأن للنصوص حياة خاصة ومستقلة، ولأن ذائقة الناس السياسية والأدبية، وحساسيتهم الثقافية، وتحيّزاتهم الأيديولوجية، تختلف من زمن إلى آخر.

لم تكن قضايا النساء مطروحة، بقوّة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كما هي الآن. ولم تكن الصلة بين الحرب وما يقع على النساء من عنف مزدوج جزءاً من السجال العام. ولا كان الاغتصاب بوصفه سلاحاً من أسلحة الحرب مُداناً، بالمعنى الأخلاقي والسياسي، كما هو الآن. ولا كانت الحرب بوصفها لعبة استيهامات ذكورية واضحة كما هي الآن. ولم تكن النساء أنفسهن قد انتزعن، وامتلكن، ما يكفي من الحقوق لإسماع صوتهن الخاص، وبلورة روايتهن الفريدة عن الحرب والسلام، والشجاعة، والشرف، وكل ما تنطوي عليه تعبيرات كهذه من دلالات يملكن الحق، أيضاً، في إعادة صياغتها وتأويلها بشكل جديد ومختلف.

لذا، في هذا ما يُفسّر لماذا عادت يوميات “امرأة في برلين” من مسكوت عنه في الذاكرة إلى متن الكلام عن الحرب والنساء. وفي هذا، أيضاً، وطالما نحن في أجواء الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، ما يستدعي التفكير في حقائق من نوع أن النساء في العالم العربي يدفعن ثمناً مزدوجاً ومُضاعفاً في سياق سلسلة الحروب والانهيارات التي تكاد تفتك بنا. فصور سبايا داعش الأيزيديات، في سورية والعراق، وأسواق الرقيق في ليبيا، ماثلة في الذاكرة، إرغام النساء على بيع أجسادهن في سورية مقابل الحصول على مساعدات غذائية، ماثل في الذاكرة، وفي نشرات الأخبار.

بمعنى آخر، يوميات “امرأة في برلين” لا تصف حدثاً وقع في زمن مضى وانقضى، وفي مكان آخر، بل تصف حدثاً قابلاً للتكرار، ويتكرر بالفعل. وإذا كان ثمة من ضرورة للخروج بخلاصة عامة، و”قراءة” مختلفة ليوميات “امرأة من برلين” فيمكن، وبقدر ما رأى الأمر، اختزالها في عابرة واحدة: شجاعة النساء.

بعد حادثة الاغتصاب الأولى، تصف مارتا هيلرز كيف كرهت جسدها، وتقيأت، وبكت، وحاولت تطهير جسدها بالماء، ولكن في لحظة غيبوبة عابرة شعرت أن كائناً يشبه سحابة بيضاء ينسل من جسدها، يحلّق، ويبتعد عنه وعنها. وتلك كانت لحظة التحوّل، ومنها استمدت أسباب الشجاعة، وإرادة البقاء، فلا أحد يستطيع اغتصاب ذلك الكائن، ولا القبض عليه. وبهذه الروح تمكنت من اختراع ألف حيلة وحيلة للبقاء على قيد الحياة، فلا أحد يستطيع اغتصاب روحها.

ثمة ما لا يندمل من الجراح في أجساد وأرواح الضحايا، بالتأكيد، ولكن ثمة، أيضاً، ما يوحي بضوء يبقى في الروح رغم عتمة المهانة والانتهاك، وفيه ما يكفي للكلام عن شجاعة وقدرة النساء على الصمود والتجدّد والبقاء.