رعاية الأطفال في الصلاة

مجتمع رجيم / عــــام الإسلاميات
كتبت : تالي
-
رعاية الأطفال في الصلاة


أقيمت الصلاة..

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل طفلًا: الحسن أو الحسين..

وضعه على الأرض، ثم كَبَّر ودخل في الصلاة، ومعه المسلمون..

الطفل يلهو صامتًا، والصلاة مستمرَّة..

قيامٌ، فركوع، فسجود..

ولكن طال السجود!

وطال!

وطال..!

وصمتٌ مريب!

وقلقٌ يغزو قلوب الصحابة!

أهو مرضٌ أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع الحراك؟!

أم هو موتٌ -لا قدَّر الله- فاجأ النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؟!

أو لعلَّه وحيٌ من السماء!

أو دعاءٌ ومناجاة!

وكلُّ الصحابة سجودٌ..

إلَّا واحدًا لم يصبر!

شَدَّادُ بنُ الهَادِ رضي الله عنه..

رفع رأسه من سجوده ونظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطمئن!

ما هذا؟!

لا مرضَ ولا موت..

ولا وحيَ ولا دعاء..

إنما فقط...

طفلٌ يركب على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم يلهو!!

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ شَدَّادٍ بن الهاد رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ[1] وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلَاةِ، فَصَلَّى فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِهِ[2] سَجْدَةً أَطَالَهَا. قَالَ أَبِي: فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجِدٌ، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلَاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ. قَالَ: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ»[3].

إن الخشوع في الصلاة لا يعني خروج الإنسان عن بَشَرِيَّته؛ فالبشر لهم أحاسيس ومشاعر لا يمكن تجاهلها بحال، لهذا فلا يؤاخَذ المسلم إذا استجاب لهذه الأحاسيس والمشاعر بشكل غير مبالَغٍ فيه، إنها الموازنة الحميدة التي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعَلِّمنا إياها؛ فالخشوع في الصلاة أمر مطلوب؛ ولكن في الوقت نفسه هناك أمور مهمَّة لا تُؤجَّل؛ منها رعاية الأطفال الصغار؛ فهؤلاء لا يصبرون على انتهاء الصلاة؛ فالشفقة عليهم تُوجب سرعة تلبية احتياجاتهم، ولو كنَّا في الصلاة، كما أن إهمالهم قد يُؤَدِّي إلى البكاء أو الصراخ، وهذا سيقود بنفسه إلى ضياع الخشوع، فيتحقَّق الشَّرَّان معًا: إهمال الطفل، وضياع الخشوع، أمَّا ترك الطفل يلعب على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم برهة -ولو طالت- فهذا سيُسْعِد الطفل ويُطمئنه، وفي الوقت نفسه سيحفظ هدوء المسجد والمُصَلِّين، وبالتالي سيزيد من الخشوع.

وقد يقول قائل: فالأفضل إذن ألَّا يأتي الأطفال أصلًا إلى المسجد؛ لأن رعايتهم ستُقَلِّل حتمًا من خشوع الكبار؛ ولكن هذه في الواقع نظرة قاصرة؛ فقدوم الأطفال إلى المسجد شيء جميل؛ لأنه يُعَوِّدهم على الصلاة، ولم أجد في السُّنَّة النبوية قطُّ ما يدفع الآباء أو الأمهات إلى منع أولادهم -مهما كان سِنُّهم صغيرًا- من قدوم المسجد، كما أنه في كثير من الأحيان يكون قدومهم اضطراريًّا لعدم وجود مَنْ يرعى شئونهم أثناء قدوم الآباء إلى المسجد، فلو مُنِع الأطفال من المساجد فهذا قد يعني منع ذويهم كذلك من حضور الجماعة.

من هذا المنطلق يُمكن أن نفهم مواقف كثيرة في السُّنَّة النبوية تحمل كثيرًا من المعاني اللطيفة؛ التي أبرزت مدى شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك مدى حرصه على شهود الأطفال لصلاة المسلمين..

من هذه المواقف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يكتفي بوضع الطفل أمامه كما في القصة التي ذكرناها منذ قليل؛ إنما كان يحمله أثناء الصلاة! فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلِأَبِي الْعَاصِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا[4]. ولا شكَّ أن حَمْل الطفلة قد يُقَلِّل من الخشوع لحاملها؛ ولكنه يرحم الصغير، ويحفظ خشوع بقية المُصَلِّين، وفي هذا الفعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه للوالدين، وللأمهات خصوصًا، بعدم ترك أطفالهم يبكون أثناء الصلاة؛ سواء كان ذلك في البيت أو في المسجد، بل السُّنَّة تقضي بحملهم، وللوالدين أجر اتِّباع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك إن شاء الله.

ومن مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء عَنِ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَجَاءَتْ جَارِيَتَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ تَشْتَدَّانِ اقْتَتَلَتَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَعَ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، وَمَا بَالَى بِذَلِكَ»[5]. وفي ألفاظ أخرى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أيضًا أَنَّهُ جَاءَتْ جَارِيَتَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَأَخَذَتَا بِرُكْبَتَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَفَرَّعَ بَيْنَهُمَا -أَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا- وَلَمْ يَنْصَرِفْ[6]. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَفُضَّ صراعًا بين طفلتين دون أن يخرج من صلاته!

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلاطف الأطفال إيناسًا لهم وهو يُصَلِّي، وهذا بطبيعة الحال دون كلام، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنها -وَهِيَ خَالَتُهُ- قَالَ: فَاضْطَجَعْتُ عَلَى عَرْضِ الوِسَادَةِ، «وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ -أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ- ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ، فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ العَشْرَ آيَاتٍ خَوَاتِيمَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي». قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، «فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى رَأْسِي، وَأَخَذَ بِأُذُنِي اليُمْنَى يَفْتِلُهَا بِيَدِهِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى جَاءَهُ المُؤَذِّنُ، فَقَامَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الصُّبْحَ»[7]. فهذا الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من وضعه ليده اليمنى على رأس ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وفتله لأذنه، إنما كان في الصلاة، وقد فعل ذلك إيناسًا منه صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما، وإعجابًا منه برغبة الطفل في الصلاة معه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على رعاية شأن الأطفال حتى لو لم يكونوا أحفاده أو من ذوي قرابته؛ فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا؛ فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»[8]. فلم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مانعٌ من تقليل قدر سماع القرآن لكلِّ المُصَلِّين من أجل طفلٍ واحد يبكي!

والجميل أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعتب بعد الصلاة على الأُمِّ التي أحضرت طفلًا صغيرًا إلى الصلاة الذي قد يُشَتِّت انتباه المُصَلِّين، إنما كان يرحمها، ويشعر بألمها، وهذه هي روعة السُّنَّة النبوية.. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}[النور: 54].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ

[1] قال بدر الدين العيني: والمراد من صلاتي العشاء الظهر والعصر، ولا يبعد أن يقال: صلاتي العشاء بالمد، ويكون المراد: المغرب والعشاء. انظر: العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 6/6، وقال محمد بن علي بن آدم: في إحدى صلاتي العشاء: أراد المغرب والعشاء، وفي نسخة: «في إحدى صلاتي العشي». و«العشي»: قيل: ما بين الزوال إلى غروب الشمس، ومنه يقال للظهر والعصر: صلاتا العَشِيِّ. وقيل: هو آخر النهار. وقيل: العشي من الزوال إلى الصباح. وقيل: العشي والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة. انظر: محمد بن علي: ذخيرة العقبى في شرح المجتبى 14/37، وفي رواية أحمد (16076) والحاكم (4775) بلفظ: «إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ». وفي رواية للحاكم (6631) والطبراني: المعجم الكبير (7123) بلفظ: «فِي إِحْدَى صَلَاتَيِ النَّهَارِ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ».
[2] بين ظهراني صلاته؛ أي في أثناء صلاته. حاشية السندي على سنن النسائي 2/230.
[3] النسائي: كتاب التطبيق، هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة (727)، وأحمد (16076)، شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى النسائي. والحاكم (4775)، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن النسائي 1/371 (1140)، وصححه الصوياني، انظر: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة 2/281.
[4] البخاري: أبواب سترة المصلي، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، (494)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، (543).
[5] أبو داود: تفريع أبواب السترة، باب ما يقطع الصلاة (716)، وابن حبان (2356)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وأبو يعلى (2749)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 4/147.
[6] النسائي: كتاب المساجد، ذِكْر مَنْ يقطع الصلاة ومَنْ لا يقطعها إذا لم يكن بين يدي المصلي سترة (830)، وأحمد (2095)، (3167)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن رجاله ثقات. وأبو يعلى (2548)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. والطبراني: المعجم الكبير، (12924)، وابن خزيمة (835).
[7] البخاري: أبواب العمل في الصلاة، باب استعانة اليد في الصلاة إذا كان من أمر الصلاة، (1140)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، (763).
[8] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، (675)، وأبو داود (789)، والنسائي (899)، وابن ماجه (991)، وأحمد (22655). وفي رواية عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأُخَفِّفُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ». البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، (677)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، (470)، واللفظ له.
من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني



التالي
السابق