أحاديث في الحج(2)

مجتمع رجيم / التجارب والحلول المنزلية
كتبت : دانة
-
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :-


[ أحاديث في الحج(2) ]


بَابُ الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ:

7 - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ:" كُنْتُ أطيَبُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ".

معنى الحديث: تقول عائشة رضي الله عنها: " كنت أطيّب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِإحرامه " أي عند إحرامه.

" ولحله " أي وعند تحلله من الاحرام بعد رمي الجمرة.

فقه الحديث:

استدل الجمهور بهذا الحديث على استحباب الطيب عند الإِحرام خلافاً لمالك، حيث منع من ذلك مستدلاً بحديث يعلى بن أمية رضي الله عنه المذكور في الباب السابق، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل المحرم المتطيب اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات، وأجابوا عنه بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا، لأنه كان بالجعرانة سنة ثمان، وحديث عائشة في حجة الوداع.

بَابُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثيابِ والأرْدِيَة والأُزُرِ:

8 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:( انْطَلَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ ورِدَاءَهُ هُوَ وأصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْه عَنْ شَيءٍ مِنَ الأرْدِيَة والأزُرِ تُلْبَسُ إلَّا المُزَعْفَرَةَ التي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى على الْبَيْدَاءِ أهلَّ هُوَ وأصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وذَلِكَ لِخَمْسِ بقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لأرْبَعِ لَيَالٍ خَلَونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وسَعَى بِيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةِ، وَلَمْ يُحِلّ مِنْ أجْلِ بُدْنِهِ، لأنهُ قلَّدَهَا، ثُمَّ نَزَلَ بأعلى مَكَّةَ عِنْدَ الحَجُونِ، وهو مُهِلّ بالحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوافِهِ بِهَا حَتَّى رَجِعَ مِن عَرَفَة، وأمَرَ أصْحَابَهُ أن يَطَّوَّفُوا بالبَيْتِ، وبيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّروا مِنْ رُووسِهِم، ثُمَّ يُحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأتُهُ فهِي لَهُ حَلَال، والطِّيبُ والثَيابُ )

معنى الحديث:

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " انطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة " أي: خرج منها - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم السبت ما بين الظهر والعصر لخمس بقين من ذي القعدة

" بعد ما ترجل " أي سرح شعره

" وادهن " أي تطيب بالمسك

" فلم ينه عن شيء من الأردية والأزرِ تلبس إلاّ المزعفرة " أي المصبوغة بالزعفران

" التي تردع على الجلد " أي تؤثر في بدن لابسها بلونها أو ريحها

" فأصبح بذي الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل " أي حتى اعتدل بناقته على البيداء، رفع صوته بالتلبية، ولم يكن هذا الإِهلال بداية إحرامه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم من مسجد ذي الحليفة، وأهل إهلاله الأوّل من هناك، ثم أهل إهلاله الثاني حين استقلت به ناقته، ثم أهل للمرة الثالثة حين علا شرف البيداء، وهو ما ذكره هنا

" فقدم مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة " أي أنه قدم صبيحة اليوم الرابع منه

" فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة " أي طاف طواف القدوم

" ولم يحل من أجل بدنه " أي ولم يتحلل من إحرامه من أجل أنه قد ساق الهدي

" ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون " وهو جبل مشرف على المحصب على بعد ميل ونصف من البيت

" ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة " أي لشغلٍ منعه من ذلك

" وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يقصّروا من رؤوسهم " أي أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ويتحللوا بالطواف والسعي

" وذلك لمن لم يكن معه بدنة " أي ولكن أمره - صلى الله عليه وسلم - بفسخ الحج إلى العمرة خاص بمن لم يسق الهدي.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على جواز الإِحرام بكل إزار ورداء إلا الثياب المصبوغة بالزعفران، وهو نبت أصفر كالسمسم، له رائحة عطرية، فإنها تحرم، وهي تحرم مطلقاً عند المالكية، ولو لم يكن لها رائحة، وقال الجمهور: تجوز إذا ذهبت رائحتها.

بَابُ الْتَّلْبيَةِ:

9 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:( أنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ إِنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ).

معنى الحديث:

يحدثنا ابن عمر رضي الله عنهما: "أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لبيك ..." أي أن الصيغة التي كان يلبي بها هي" لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " أي أكرر إجابتي لك في امتثال أمرك بالحج، فأنت المستحق للشكر والثناء، لأنك المنفرد بالكمال المطلق، ولأنك المنعم الحقيقي، وما من نعمة إلّا وأنت مصدرها، وأنت المتفرد بالملك الدائم، وكل ملك لغيرك إلى زوال.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على ما يأتي:

أولاً: مشروعية التلبية في الحج، وهي سنة عند الجمهور، واجبة عند مالك، تجبر بالدم، شرط في الإِحرام عند أبي حنيفة.

ثانياً: بيان صيغة التلبية المشروعة المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

بَابُ الإِهْلَالِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ:

10 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:( أنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بذِي الْحُلَيْفَةِ أمَرَ برَاحِلَتِهِ فَرُحِّلَتْ، ثمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ استَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قائماً، ثُمَّ يُلبَي حتَّى يَبْلُغَ الْحَرَمَ، ثم يُمْسِكُ حتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوىً بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغتَسَلَ، وَزَعَمَ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَ ذَلِكَ).

معنى الحديث:

أن ابن عمر رضي الله عنهما: " كان إذا صلى بالغداة بذي الحليفة " أي إذا صلى الصبح بوقت الغداة

" بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت " أي أمر بإعداد دابته فأعدّت، ووضع عليها الرحل

" ثم ركب، فإذا استوت به "، أي فإذا وقفت به

" استقبل القبلة قائماً، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم " أي حتى يصل إلى حدود الحرم

" ثم يمسك " أي ينقطع عن التلبية

" حتى إذا جاء ذا طوى " (بضم الطاء وفتحها وكسرها) وهو موضع عند باب مكة بأسفلها عند مسجد عائشة ويعرف ببئر الزاهر

" بات فيه حتى يصبح فإذا صلى الغداة " أي الصبح " اغتسل " هناك

" وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك " أي وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ما فعلت.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على ما يأتي:

أولاً: استقبال القبلة عند الإِهلال بالتلبية عقب ركوب السيارة من الميقات، لقوله: " فإذا استوت به استقبل القبلة، قائماً ثم يلبي " وهو مستحب للحاج إن أمكنه.

ثانياً: استحباب المبيت بذي طوى، وصلاة الصبح فيها، والاغتسال لدخول مكة وهو سنة، وإنما يستحب المبيت بها لمن كانت في طريقه، كما أفاده النووي.

بَابُ قول اللهِ تعَالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ):

11 - عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:( أشهر الحجِّ شوَالٌ وذو القعدة، وعشرُ من ذي الحجة ).

هذا باب يذكر فيه من الأثار ما يدل على تفسير قوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) فإن الله قد أخبرنا في هذه الآية الكريمة أنه قد جعل للحج أشهراً محددة معينة معروفة عند الناس، وجعل من هذه الأشهر ميقاتاً زمانياً له، فما هي هذه الأشهر التي جعلها الله ميقاتاً زمانياً للحج، هذا ما يوضحه ابن عمر في الأثر المسوق عنه .

يقول ابن عمر رضي الله عنهما: "أشهر الحج" التي شرع الله تعالى الحج فيها وجعلها ميقاتاً زمانياً للحج هي " شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة " يريد رضي الله تعالى عنه أن الأشهر المعلومات، المذكورة في الآية الكريمة، هي الأشهر المعروفة عند العرب بأشهر الحج، وهي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، هذه هي الأشهر المعلومات للحج التي قال الله تعالى فيها: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ).

فقه الأثر:

دل هذا الأثر على ما يأتي:

أولاً: دل هذا الأثر على تفسير الآية الكريمة وبيان الميقات الزماني للحج، وهي الأشهر المذكورة، فمن أحرم فيها فقد أحرم بالحج في وقته، واختلفوا فيمن أحرم قبلها، فقال الشافعي :الإِحرام فيها واجب، لا ينعقد الحج في غيرها، وقال غيره ينعقد في غيرها، ولا يصح شيء من أفعال الحج إلاّ فيها.

ثانياً: دل الأثر على دخول يوم النحر وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة، وقال الشافعي: لا يدخل، وقال مالك: يدخل في أشهر الحج شهر الحج كله.

بَابُ التَّمَتُّعِ والإِقْرانِ والإِفْرَادِ بالحَجِّ وفسخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَديٌ :

12 - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:" كَانُوا يَرَوْنَ أن الْعُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أفْجَرِ الْفُجُورِ في الأرْضِ، وَيَجْعَلُونَ المُحَرَّمَ صَفَراً، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وعَفَا الأَثَرْ، وانْسَلَخَ صَفَرْ حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بالْحَجِّ، فَأمرَهُمْ أن يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عنْدَهُمْ، فَقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: " حِلٌّ كُلُّهُ ".

معنى الحديث:

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: " كانوا " أي العرب في الجاهلية

" يرون أن العمرة في أشهر الحج " أي يعتقدون أن الإِحرام بالعمرة فيها " من أفجر الفجور " أي من أعظم المعاصي، ويحرمون العمرة إلى نهاية محرم

" ويجعلون المحرم صفراً " أي ويتلاعبون في الأشهر الحرم على حسب أهوائهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، وهو النسيء الذي ذمه الله تعالى في قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إلخ

" ويقولون إذا برا " بفتح الباء والراء " الدبر " بفتح الدال والباء، وهو الجرح الذي يكون في ظهر الإِبل، بسبب اصطكاك الأقتاب، أي إذا شفيت الجراحات التي في ظهر الإِبل، والتي تحدث بسبب الحمل عليها، وكثرة احتكاكها في أسفارها الطويلة

" وعفا الأثر " أي اندرست آثار أقدام الإِبل التي تحدثها في سيرها

" وانسلخ صفر " أي وانتهى شهر صفر الذي هو في الحقيقة شهر محرم بسبب النسيء

" حلت العمرة لمن اعتمر " أي فعند ذلك تجوز العمرة لمن أرادها

" قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه " أي دخلوا مكة

" صبيحة رابعه " أي صبيحة يوم الأحد الموافق لليوم الرابع من ذي الحجة.

" فأمرهم أن يجعلوها عمرة " أي أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ويتحللوا بالطواف والسعي

" فتعاظم ذلك عندهم " أي فتعاظم عندهم مخالفة العادة التي كانوا عليها من تأخير العمرة عن أشهر الحج كما قال العيني، وفي رواية: " فكبر ذلك عندهم "، وروي أنّهم قالوا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلّا خَمْسٌ أي إلاّ خمسة أيام أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " قد علمتم بأني أتقاكم لله وأصدقكم وأبركم، ولولا هديي لحللت كما تحلون ". اهـ. كما في حديث جابر.

" فقالوا: يا رسول الله أي الحل " أي ما هي نوعية هذا الحل؟ هل هو تحلل خاص ببعض الأشياء، أو عام في جميعها؟

" قال: حل كله " أي بل هو تحلل عام فيحل لكم كل شيء من الأشياء التي كانت محرمة عليكم أثناء العمرة، بما في ذلك الجماع.

13 - عَنْ حَفْصَهً زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنهَا قَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَأنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَلَمْ تَحْلِلْ أنت مِنْ عُمْرتَكِ! قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لَبَّدْتُ رَأسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيي، فَلا أحلُّ حَتَّى أنْحَرَ".

معنى الحديث:

أن حفصة رضي الله عنها " قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل " وسبب سؤالها هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم مكة أمر من لم يسق الهدي أن يفسخ الحج ويجعلها عمرة، يتحلل منها بالطواف والسعي، ففعلوا ذلك، أما هو - صلى الله عليه وسلم - ومن ساق الهدي فبقوا على إحرامهم، فسألته زوجته حفصة لِمَ حلّ الناس ولَمْ تحلل؟ " قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا بعمرة ولم تحلل " بفتح التاء أي ما المانع لك أن تفعل ما فعلوا، وأن تحل كما حلوا، ما دمت قد أمرتهم به؟ تريد أن تعرف السبب

" قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي " أي أني كنت قارناً -فلبدت رأسي- بالصمغ، وقلدت الهدي وسقته معي، وذلك يمنعني من التحلل قبل نحر الهدي

" فلا أحل حتى أنحر " أي فلا أتحلل من إحرامي حتى أنحر الهدي بمنى.

14 - عَنْ جَابِرٍ بنِ عَبْدِ الله رَضِيَ الله عَنْهُمَا:أنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ، وَقَدْ أَهَلُّوا بالْحَجِّ مُفْرَداً، فَقَالَ لَهُمْ: " أحِلُّوا من إحْرَامِكُمْ بَطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا والْمَرْوَةَ، وَقَصَروا، ثمَّ أقِيمُوا حَلالاً، حتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التروِية، فَأهِلُّوا بالْحَجِّ، وَاجْعَلُوا الَّتِي قدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً "، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ، فَقَالَ: " افْعَلُوا مَا أمَرْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْلا أنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذِّي أمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ".

معنى الحديث:

يحدثنا جابر رضي الله عنه: " أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه " من المدينة إلى مكة في حجة الوداع

" وقد أهلوا بالحج مفرداً " أي أحرموا مفردين بالحج

" فقال لهم " عند قدومهم إلى مكة

" أحلوا من إحرامكم " أي افسخوا الحج إلى العمرة، وتحللوا من عمرتكم بالطواف والسعي،

" ثم أقيموا حلالاً " يحل لكم كل شيء حتى الجماع

" حتى إذا كان يوم التروية " وهو اليوم الثامن من ذي الحجة

" فأهِلوا "، أي أحرموا " بالحج "، وتوجهوا إلى عرفة

" واجعلوا التي قدمتم بها متعة " أي تمتعاً بالعمرة

" قالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج " أي كيف نجعلها تمتعاً وقد نوينا الحج مُفْرداً

" فقال: افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم" أي لفعلت مثل الذي أمرتكم، وفسخت الحج إلى العمرة.

" ولكن لا يحل مني حرام " أي لا يحل في شيء من محظورات الإِحرام

" حتى يبلغ الهدي محله " أي حتى يصل الهدي إلى المكان الذي ينحر فيه بمنى يوم النحر.

فقه الأحاديث الثلاثة السابقة:

دلت هذه الأحاديث على مشروعية الأنساك الثلاثة في الحج: الإِفراد، والقران، والتمتع.

أما الإفراد: فلقول عائشة رضي الله عنها: " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نرى إلاّ أنه الحج، وقول جابر: " وقد أهلوا بالحج مفرداً "، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ".

وأما القران: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، ولهذا قال لحفصة: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ". وهناك أحاديث أخرى صريحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، منها قول أنس " حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله، وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما " أخرجه الشيخان وأبو داود، وحديث عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل عمرة في حجةٍ ". أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجة.

وأما جواز التمتع: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدموا مكة أمر من لم يسق منهم الهدي أن يجعلها عمرة، ويتحلل بالطواف والسعي، وأبطل ما كان يعتقده العرب في الجاهلية من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

واختلفوا أيها أفضل؟ فقال أحمد في المشهور عنه وبعض الشافعية واللخمي من المالكية: التمتع أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به أصحابه، ودعاهم عندما قدموا مكة إلى فسخ الحج إلى العمرة، وتمنى أنه لو يسق الهدي حتى يجعلها عمرة ويتحلل مثلهم، وهو لا يختار فيما يأمر به إلاّ الأفضل

وهو أفضل أيضاً لأنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإِمام أحمد.

واختار مالك الإِفراد وهو المشهور من مذهب الشافعي وغيره من أهل العلم، واحتجوا على أفضليته بأدلة:

أولها : الأحاديث الصحيحة التي تدل على أنه كان مفرداً عن جابر وابن عمر وعائشة وابن عباس، ففي حديث عائشة " وأهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " وهو لا يحتمل إلاّ الإفراد، وفي حديث جابر " أنّه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ساق البدن معه. وقد أهلوا بالحج مفرداً " كما رواه الشيخان، وفي حديث ابن عمر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرداً " وفي حديث ابن عباس: " أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " أخرجه مسلم فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم مفرداً، ورواتها من أضبط الرواة وأصحهم .

ثانيا : أضف إلى ذلك أن المفرد لا دم عليه وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران دليل أفضليته، لأن الكامل في نفسه الذي لا يحتاج إلى جبره بالدم أفضل من المحتاج إليه كما في " أضواء البيان ".

ثالثا : ثم إن الافراد هو الذي عليه الخلفاء الراشدون وهم أفضل الناس وأتقاهم وأشدهم اتباعاً لسنته - صلى الله عليه وسلم -.

رابعا : ومما يدل على أفضليته أيضاً إجماع الأمة على جوازه دون كراهة مع اختلافهم في غيره، فقد كره عمر وعثمان التمتع، كما كره بعضهم القران. اهـ. كما في " أضواء البيان ".

وقال الثوري وأبو حنيفة: القران أفضل، واختاره ابن القيم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج قارناً، وقال ابن تيمية: " القِران أفضل من التمتع إن ساق هدياً، وهو إحدى الروايتين عن أحمد "

قال في " تيسير العلام ": هذا هو الصحيح الذي يسهل رد الأدلة الصحيحة إليه، وقد ساق ابن القيم ما يزيد على عشرين حديثاً صحيحة صريحة في ذلك وكثيرٌ منها في " الصحيحين ". منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج إلى العمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً -ثم قال: - هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم. " وحديث عمر " قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوادي العقيق يقول: " أتاني الليلة آتٍ من ربي عزّ وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة " أخرجه البخاري.

وحديث سراقة بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " قال: وقرن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع "، أخرجه أحمد، وإسناده ثقات. وحديث جابر: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرن الحج والعمرة فطاف لهما طوافاً واحداً " أخرجه أحمد. قال النووي وأما ما جاء في بعض الروايات من أنه - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفرداً فمعناه أنّه أحرم أولاً بالحج مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة، فصار قارناً، فمن روى أنه كان مفرداً وهم الأكثرون اعتمدوا أوّل الإِحرام، ومن روى أنّه كان قارناً اعتمد آخره.

بَابُ مَنْ طَاف بالْبَيْتِ إذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبلَ أنْ يَرْجِعَ إلى بَيْتهِ:

15 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:" أنَّ أَوَّلَ شَيء بَدَأ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - تَوَضَّأ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ حَجَّ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِثْلَهُ ".

معنى الحديث:

تحدثنا عائشة رضي الله عنها " أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم - صلى الله عليه وسلم - مكة " أي أنّ أول عمل فعله النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عند وصوله إلى مكة

" أنه توضأ ثم طاف " أي بدأ بالوضوء والطواف بالبيت، فبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطواف قبل أن يذهب إلى بيته الذي يريد النزول فيه كما قال البخاري

" ثم لم تكن عمرة " أَي: ولم يفسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه الحج إلى العمرة لأنه كان قارناً، وساق الهدي فلم يتمتع بالعمرة كما فعل غيره.

" ثم حج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مثله " أي مثل حج النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أفاده العيني.

فقه الحديث:

دل الحديث على أنّ من السنة لمن قدم مكة أن يبدأ بالطواف أولاً، سواء كان حاجاً أو معتمراً أو لم يكن أحدهما، فإن كان قارناً فطوافه طواف قدوم، وهو سنة، أو طواف ركن على أن عليه طوافين، وسعيين، وهو مذهب أبي حنيفة، وإن كان مفرداً فطوافه طواف قدوم، وهو سنةٌ وإن كان متمتعاً فطوافه طواف عمرة، وهو ركن من أركانها، وإن لم يكن شيئاً من ذلك فطوافه تطوع وتحية للمسجد.

وفي الحديث دليل على أن الوضوء شرط في صحة الطواف، لقولها " أنه توضأ ثم طاف "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الطواف صلاة إلاّ أنّ الله تعالى أحل فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلّا بخيرٍ " أخرجه الترمذي والدارقطني وصححه الحاكم .

قال العثماني الشافعي: ومن شرط الطواف الطهارة وستر العورة عند الثلاثة، وقال أبو حنيفة: ليس بشرط في صحته.

بَابُ الرَّمَلِ في الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ:

16 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:أَنَّهُ قالَ: "فَمَا لَنَا ولِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أهْلَكَهُمُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَا نُحِبُّ أن نَتْرُكَهُ".

معنى الحديث:

يقول عمر رضي الله عنه: "فما لنا وللرَمل" أي الإسراع في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، ما عدا ما بين الركنين. وفي رواية عن زيد بن أسلم: " فيم الرمل والكشْفُ عن المناكب "

"إنما كُنا راءينا به المشركين" أي إنما شرع الرَّمل في الأصل بسبب وهو أن المشركين أشاعوا أن النبي وأصحابه قد أضعفتهم حمي يثرب فأمر النبي أصحابه في عمرة القضاء أن يرملوا في الطواف ليظهروا لهم سلامتهم وصحتهم وقوة أجسامهم تكذيباً لِإشاعتهم الباطلة، أما الآن فقد هزم الله الشرك وأهله، وفتحت مكة وزال السبب الداعي إلى الرمل، ولكنَّهُ بقي سنة مشروعة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفعلها اقتداءً به، وعملاً بسنته، وإحياءً لهذه الذكريات الإِسلامية الخالدة، وهو معنى قوله: " ثم قال: - شيء صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه " أي فنحن الآن وقد أهلك الله تعالى المشركين ولا حاجة لنا بالرمل ، ولكنه شيء صنعه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلا نحب أن نتركه، اتباعاً له، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ثبت أنه رمل في حجته ولا مشرك يومئذ، فعلم أنَّه من مناسك الحج.

فقه الحديث:

دل الحديث على أن الرمل في الطواف من السنن المشروعة فيه، وأن مشروعيته باقية رغم زوال سببه، وهو من الأعمال التي زال سببها وبقى حكمها ومشروعيتها.

قال الخطابي: وقد يحدث شيء من أمر الدين بسبب من الأسباب، فيزول ذلك السبب ولا يزول حكمه، كالعرايا والاغتسال للجمعة.

وقال الطبري : ثبت أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجته ولا مشرك يومئذ يراه، فعلم أنه من مناسك الحج، غير أنا لا نرى على من تركه عامداً أو ساهياً قضاءً ولا فدية، لأن من تركه فليس بتارك العمل، إنما هو تارك لهيئته وصفته كالتلبية التي فيها رفع الصوت، فإن خفض صوته بها كان غير مضيع لها. اهـ.

بَابُ تقْبِيلِ الْحَجَرِ:

17 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:أنهُ سَألهُ رَجُل عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَقَالَ: "رَأيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُ ويُقَبِّلُهُ، فَقَالَ: أرأيْتَ إِنْ غُلِبْتُ قَالَ: اجْعَلْ أرأَيْتَ بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمهُ ويُقَبِّلُهُ".

معنى الحديث:

يحدثنا الراوي "أن ابن عمر سأله رجل عن استلام الحجر" الأسود، وهو وضع اليد عليه عند بداية الطواف

" فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله " وهذا يقتضي أنّ استلامه وتقبيله سنة

" فقال: أرأيت إن غلبت " أي أخبرني إن زاحمني الناس عليه، وحاولت الوصول إليه فعجزت عنه، هل أعذر في ترك استلامه وتقبيله

" قال: اجعل أرأيت باليمن " أي عليك باتباع سنة نبيك، ودع الرأي هناك، وظاهره أنه لا يرى في الزحام عذراً.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على أن من سنن الطواف استلام الحجر وتقبيله وأن ابن عمر لا يرى في الزحام عذراً، لكن الجمهور على أنه إذا عجز عن تقبيله يكفيه أن يضع يده عليه ويقبلها، ومالك قال لا يقبلها، وإنما يضعها على فمه فقط، أما إن عجز عن استلامه بيده، فإنه يستلمه بشيء في يده كالعصا فإن عجز أشار بيده لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس: " طاف على بعير، كلما أَتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده "، وإن لم يشر إليه استقبله مهلِّلاً مكبراً.

18 - عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَّهُ جَاءَ إلى الْحَجَرِ الأسْودِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: " إِنِّي أعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ، لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ولولا إِنِّي رَأيْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ".

معنى الحديث:

أن عمر رضي الله عنه " جاء إلى الحجر الأسود فقبله " اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم –

" فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع " وإنما أراد عمر بقوله هذا: أن تقبيله للحجر لم يكن عن اعتقاد أن له أي تأثير من نفع أو ضر، وإنما فعل ذلك تعظيماً لأوامر الله، واتباعاً لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم –

" ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك " أي إنما قبلتك اقتداءً بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال الطبري: وإنما قال ذلك لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام ، فخشى أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل.

فقه الحديث:

دل الحديث على أن من سنن الطواف تقبيل الحجر الأسود أول الطواف بلا صوت بعد استلامه ولمسه بيده اليمنى أو بكفيه، فإن لم يستطع تقبيله قبَّل يده لقول نافع: " رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله " أخرجه مسلم.

قال النووي: وهذا الحديث محمول على من عجز عن تقبيل الحجر، وإلا فالقادر يقبل الحجر، وهذا الذي ذكرناه من استحباب تقبيل اليد بعد الاستلام للعاجز هو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال القاسم بن محمد التابعي المشهور ولا يستحب التقبيل، وبه قال مالك في أحد قوليه.

بَابُ مَا جَاءَ في زَمْزَمَ:

19 - عن ابْنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: " سَقَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - من زمزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ ".

معنى الحديث:

يقول ابن عباس رضي الله عنهما سقيت رسول الله من ماء زمزم فشرب من ذلك الماء حال كونه قائماً.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على ما يأتي:

أولاً: قال القسطلاني: فيه الرخصة في الشرب قائماً.

ثانياً: دل الحديث على فضل بئر زمزم وشرفها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ذهب إليها ووقف عليها، وشرب منها، وعلى استحباب الشرب من ماء زمزم والتضلع منه اقتداءً بنبينا - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن المنير: وكأنه عنوان عن حسن العهد، وكمال الشوق، فإن العرب اعتادت الحنين إلى مناهل الأحبة، وموارد أهل المودة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صلّوا في مصلى الأخيار، واشربوا من شراب الأبرار، قيل: وما مصلى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب، قيل: وما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.

ويستحب استقبال الكعبة عند شربه، والدعاء بصالح الدعاء، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شرب منه قال: اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داءٍ. وهو ماء مبارك يستفيد الناس منه في قضاء حاجاتهم بإذن الله تعالى، فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ماء زمزم لما شرب له ".

قال ابن القيم: وقد جربت أنا وغيري من الاستشفاء بماء زمزم أموراً عجيبة، واستشفيت به من عدة أمراض فبرأت بإذن الله تعالى، وشاهدت من يتغذى به لأيام ذوات العدد قريباً من نصف الشهر أو أكثر، وأخبرني أنّه ربما بقي عليه أربعين يوماً، وكان له قوة يجامع أهله ويصوم ويطوف مراراً.

بَابُ وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ " وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ الله:

20 - عنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:أنهَا سَألهَا ابْنُ أخْتِهَا عُرْوَةُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فَقَالَ: فَوَاللهِ ما عَلَى أحدٍ جُنَاح أن لا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتُ يا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أولْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ لَا يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ في الأنْصَارِ، كانُوا قَبْلَ أن يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيةِ التي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أنْ يَطوفَ بالصَّفَا والْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أسْلَمُوا سَألوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّج أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فأنزلَ اللهُ تَعَالَى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآيَة قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.

معنى الحديث:

أن عائشة رضي الله عنها " سألها ابن أختها عروة عن قول الله عز وجل (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) "، أي أنّ عروة سأل خالته عائشة عن معنى هذه الآية، وقال: إني فهمت من قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أن السعي غير واجب على الحاج

" قال: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بهما " أي لا إثم على من ترك السعي بينهما

" قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي " أي لقد أخطأت فيما قلت: ولم توفق في فهمك هذا

" إن هذه " الآية " لو كانت كما أوّلتها " أي كما فسرتها

" كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما " أي لكان لفظها كما قالت عائشة لأنّها لا تدل على عدم وجوب السعي إلاّ إذا اقترنت بلا النافية، ثمَّ بينت سبب نزول الآية الكريمة في قولها:

" لكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة " أي يحجون لصنم يسمى مناة عند المُشلَّلِ " بضم الميم، وهي ثنية بين مكة والمدينة تشرف على قديد

" فكان من أهل " أي فكان من حج من الأنصار

" يتحرجٍ أن يطوّف بالصفا والمروة " أي كان يرى في السعي بين الصفا والمروة إثماً عظيماً، لأنّه كان فيهما صنمان يعبدهما غيرهم، وهما " أساف " و" نائلة "، وكانوا يكرهونهما

" فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك " أي عن السعي بينهما هل فيه إثم كما يظنون

" فأنزل الله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فبين لهم أن لا إثم عليهم في السعي بين الصفا والمروة كما كانوا يظنون، لأن السعي بينهما من شعائر الله، أي من مناسك الحج والعمرة

"وقد سنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بينهما" أي وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا السعي بينهما.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على مشروعية السعي بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: هو واجب يجبر بالدم، وذهب ابن عباس وابن الزبير وابن سيرين وأحمد في رواية إلى أنّه سنة، لما جاء في مصحف ابن مسعود (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ورجح ابن قدامة وجوبه، لأن الدليل الذي ورد فيه إنما يدل على مطلق وجوبه لا على أنه لا يتم الواجب إلاّ به. وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله قد كتب عليكم السعي فاسعُوا " رواه الطبراني وهو حديث حسن.

بَابُ مَا جَاءَ في السَّعْي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:

21 - عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ:"كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأوَّلَ خَبَّ ثَلَاثاً، وَمشى أرْبَعاً، وَكَانَ يَسْعَى بَطنَ الْمسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".

معنى الحديث:

يقول ابن عمر رضي الله عنهما: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف الطواف الأول " أي طواف القدوم أو العمرة

" خبَّ ثلاثاً " أي أسرع في الأشواط الثلاثة الأولى، وهو ما يسمى بالرمل " وكان يسعى بطن المسيل "، أي وكان يفعل ذلك الإِسراع المسمى بالرمل أو الخبب وسط المسعى بين الميل الأخضر المعلق بجوار المسجد، والميلين الأخضرين المعلق أحدهما بجوار المسجد، والثاني بدار العباس رضي الله عنه.

ويستفاد منه:

بيان كيفية السعي، وأنه كله مشي إلاّ ما بين الميلين فيستحب الرمل للرجال. والمطابقة: في كون الحديث مبيناً لكيفية السعي.

بَابُ تقضي الْحَائِضُ الْمَنَاسِك كُلَّهَا إلَّا الطَّوَاف بِالبَيْتِ:

22 - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:أنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مكَّةَ وأَنا حَائِضٌ، ولَمْ أطُفْ بالْبَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أن لا تَطُوفِي بالْبَيْتِ حتى تطهُرِي ".

معنى الحديث:

تقول عائشة رضي الله عنها: " قدمت مكة " أي وصلت إلى مكة

" وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة " أي وكنت حائضاً فلم أطف بالكعبة، ولم أسع بين الصفا والمروة، لأنّ الطهارة شرط في الطواف، ولتوقف السعي على الطواف

" فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي شكوت إليه استمرار الحيض وخشيت أن يمنعني من أداء جميع المناسك

" قال: افعلي كما يفعل الحاج " من الوقوف بعرفة ومزدلفة والمبيت بمنى وغير ذلك

" غير أن لا تطوفي بالبيت " أي غير أنّك لا تطوفين بالكعبة طواف الإفاضة

" حتى تطهري " من الحيض.

ويستفاد منه ما يأتي:

أَولاً: أن الحيض يفسد الحج، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لها: " افعلي كما يفعل الحاج " حيث أمرها - صلى الله عليه وسلم - بالاستمرار في أداء مناسك الحج، وهذا يدل على صحة حجها، وعدم فساده بالحيض.

ثانياً: أن الحيض يفسد الطَّواف، لأن من شروط الطواف الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، والحيضُ حدث أكبر، والحائض غير طاهرة فلا يصح طوافها. ولذلك فإن الحائض تفعل كل مناسك الحج غير الطواف والسعي، وهو ما ترجم له البخاري حيث قال: " تقضي الحائض - أي تفعل المناسك كلها إلّا الطواف بالبيت " أي فلا تطوف لأنّه لا يصح طوافها، ولا تسعى، لأن السعي يتوقف على الطواف.

بَابٌ أيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَروية؟:

23 - عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:أَنَّهُ سَألهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أخبِرْنِي بِشَيءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أينَ صَلَّى الظهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التروِيَة؟ قَالَ: بِمِنَى، قَالَ: فَأيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: بِالأبْطَحِ، ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يفعَلُ أُمَرَاؤُكَ.

معنى الحديث:

أن أنساً رضي الله عنه " سأله رجل فقال: أخبرني بشيء عقلته عن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أين صلى الظهر والعصر يوم التروية؟ " أي أخبرني عن شيء كنت قد أدركته مع النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وحضرته معه، وعلمته من النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون واسطة أو رواية شخص آخر عنه

"أين صلى الظهر والعصر؟ " أي في أي مكان صلى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاة الظهر وصلاة العصر

" يوم التروية "؟ وهو اليوم الثامن من ذي الحجة

" قال: بمنى " أي صلاهما في منى لا في مكة.

" قال: أين صلّى العصر يوم النفر؟ " أي: يوم النفر من منى إلى مكة

" قال بالأبطح " أي صلّى العصر يوم النفر في الأبطح بين مكة ومنى. وسيأتي بيانه في موضعه " ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك " في هذه الأعمال.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على ما يأتي:

أولاً: استحباب صلاة الظهر والعصر يوم التروية بمنى والخروج إليها بعد صلاة الصبح والمبيت بها ليلة التاسع من ذي الحجة، وأداء المغرب والعشاء والصبح بها، والخروج إلى عرفة بعد طلوع الشمس، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: " صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر يوم التروية، والفجر يوم عرفة بمنى " أخرجه مسلم.

ثانياً: أنه يستحب للحاج أن يصلي العصر بالمحصب يوم النفر بين الحجون وجبل النور إن تيسر، وإلّا فعليه أن يراعي الظروف، لقول أنس رضي الله عنه: افعل كما يفعلُ أمراؤك.

بَابُ التَّهجِير بالرَّوَاحِ إلى عَرَفَةَ:

24 - عَنْ سَالِم بْنُ عَبْدِ الله بْن عُمَرَ قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ المَلِك إِلَى الحَجَّاجِ أن لا يُخَالِفَ ابن عُمَر فِي الحَجِّ، فَجَاءَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأنا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرادِقِ الْحَجَّاجِ، فخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَالَكَ يا أبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأنْظِرْنِي حتى أُفِيضَ عَلَى رَأسِي ثم أخْرُجَ، فَنَزَلَ حتَّى خَرَجَ الحَجَّاجُ، فسَارَ، فَقَالَ لَهُ سَالِمُ بن عَبْدِ الله وَكَانَ مَعَ أبيهِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ، فَجَعَلَ يَنْظرٌ إلى عبدِ اللهِ، فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ عبد اللهِ قَالَ: صَدَقَ.

هذا باب يذكر فيه أن من السنة التعجيل بالذهاب إلى عرفة في الهاجرة بعد الزوال، وعقب أداء الظهر والعصر في مسجد نمرة ببطن عرنة.

ومعنى الحديث:

أن ابن عمر " أتى يوم عرفة حين زالت الشمس عند سرادق الحَجَّاج " أي صاح منادياً عليه عند مخيمه لأن عبد الملك لما وَلَّى الحجَّاج إمارة مكة أمره أن لا يخالف ابن عمر في المناسك فحج " الحَجَّاجُ " ذلك العام، فلما توجه من مني إلى عرفة نزل في نمرة ونصب سرادقه هناك كما كان يفعل غيره من الأمراء اقتداءً بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما حان وقت الزوال ذهب إليه ابن عمر ليبين له المناسك، فصاح به منادياً عليه

" فخرج وعليه ملحفة معصفرة فقال: ما لك يا أبا عبد الرحمن؟ " يعني ابن عمر

" فقال: الرواح إن كنت تريد السنة " أي عجّل بالذهاب إلى عرفة بعد الزوال. عقب أداء صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً ببطن عُرَنة إن كنت تريد العمل بسنته - صلى الله عليه وسلم –

" قال: فأنظرني حتى أفيض على رأسي ثم أخرج، فنزل حتى خرج الحجّاج فسار فقال له سالم وكان مع أبيه: إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة " أي فاختصر الخطبة وأدِّ صلاتي الظهر والعصر ببطن عرنة قصراً وجمعاً وخففهما

" وعجل بالوقوف " أي وسارع إلى الوقوف بعرفة عقب الصلاة مباشرة لتقف بها في الهاجرة عند منتصف النهار لما في حديث جابر رضي الله عنه قال:

" لما زاغت الشمس أَتى - صلى الله عليه وسلم - بطن الوادي، أي وادي عرنة، فخطب الناس، ثم صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، ثم ركب القصواء (بفتح القاف) وهي ناقته المشهورة، حتى أتى الموقف " إلخ.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على ما يأتي:

أولاً: أن من السنة أن يصلي الإِمام الظهر والعصر قصراً وجمعاً في مسجد نمرة (بفتح النون وكسر الميم) ويقع هذا المسجد ببطن وادي عُرنَة، ومن السنة أيضاً أن يخفف الخطبة والصلاة ويسارع بالذهاب إلى الموقف فيقف هناك في الهاجرة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما ترجم له البخاري، فالتهجير سنة مستحبة، أما الانتقال من عُرنَةَ إلى الموقف من عرفة فهو أمر لا بد منه، ولا يتحقق الوقوف بدونه، لأنّ عُرنة ليست من عَرفة عند الجمهور، فمن اقتصر على الوقوف فيها لا يجزئه ذلك، فهي واد بين العلمين اللذين هما على حد عرنة، والعلمين اللذين هما على حد الحرم فليست من عرفة ولا من الحرم . اهـ. كما ذكره الفاسي في " تاريخه "، وحكى ابن المنذر عن مالك أن عُرَنَةَ من عرفات، وفي صحة ذلك عنه نظر على مقتضى ما ذكره الفقهاء المالكية في كتبهم، ولعل ما حكاه ابن المنذر عن مالك رواية غير مشهورة في المذهب. فقد نص خليل في " مختصره " على أن من وقف في بطن عرنة لا يصح وقوفه بها ولا يجزئه.

وإنما اختلف المالكية في " مسجد نَمِرَةَ " هل هو من عَرَفَةَ أو من عُرنَة؟ فمن قال إنه من عرفة قال يجزىء الوقوف به ومن قال إنه من عُرنة، قال لا يجزىء.

ولذلك اختلفوا في حكمه على خمسة أقوال: الإِجزاء وعدمه والإِجزاء مع وجوب الدم ، والتوقف في حكمه، فقد روى القرافي عن مالك أنه قال: لم يصب من وقف به، فمن فعل لا أدري وخامسها: الإِجزاء مع الكراهة، وهو ما حكاه خليل في " مختصره " حيث قال: " وأجزأ " أي الوقوف " بمسجدها بكُرْهٍ " قال الحطاب يعني أن من وقف بمسجد نمرة فإنه يجزئه وقوفه مع الكراهة، وعند غيرهم لا يجزىء. إذن فالمعتمد عندهم أن الوقوف بمسجد نمرة يجزىء مع الكراهة .

ثانياً: أن من دخل عرفة قبل الصلاة فقد خالف سنة النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأن السنة في ذلك اليوم أن تؤدّى الصلاة ببطن عرنة، ثم يعجل بعد ذلك بالرواح إلى الموقف في عرفة، لقوله: " إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل بالوقوف " وفي حديث جابر الطويل " حتى إذا زاغت الشمس أمر - صلى الله عليه وسلم - بالقصواء فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي، فخطب الناس -إلى أن قال- ثم أذن بلال، ثم أقام، فصلّى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات (بفتح أوَّلِهِ وثانِيه وثالِثه) وهي الأحجار المغروسة في أسفل جبل الرحمة " ومعنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم -: لم يذهب إلى عرفة إلاّ بعد الصلاة، إذن فهذا هو السنة.

بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ:

25 - عَنْ جُبَيْرِ بْن مُطْعِم رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ:" أضْلَلْتُ بَعِيراً، فَذَهَبْت أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأيتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَاقِفَاً بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ مِنَ الْخمْسِ فما شَأنُة هَا هُنَا ".

معنى الحديث:

يقول جبير رضي الله عنه: " أضللت بعيراً لي فذهبت أطلبه يوم عرفة " أي أضعت بعيري في الجاهلية فذهبت أبحث عنه يوم عرفة، حتى وصلت إلى عرفات

" فرأيت النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بعرفة " كسائر القبائل العربية الأخرى غير قريش وما شابهها.

" فقلت: هذا والله من الْخمْسِ " وهم قريش وكنانة وجديلة حموا بذلك لتحمسهم في دينهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - منهم لأنه قرشي.

" فما شأنه ها هنا " أي فما باله يقف ها هنا في عرفات وهو من الحمس، والحصر إنما يقفون بمزدلفة ولا يتجاوزونها إلى عرفة، لئلا يخرجوا عن حدود الحرم، قال الحافظ: والمعتمد أن هذه القصة كانت في الجاهلية عن قبل الإِسلام وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حج في ذلك العهد، فخرج جبير يبحث عن بعيره الضائع، فلقيه مصادفة في عرفة، فتعجب لذلك واستنكره، لما رواه اسحاق عن نافع بن جبير بن مطعم قال: كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة، ويقولون: نحن الخمس، فلا نخرج من الحرم، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على حمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة، فيقف معهم، ويدفع إذا دفعوا وفي رواية: فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك.

فقه الحديث:

دل هذا الحديث على ما يأتي:

أولاً: مشروعية الوقوف بعرفة، وهو رُكن من أركان الحج لا يتم الحج إلاّ به، ولا يجزىء ولا يصح إلّا بفعله إجماعاً لما رواه عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، فجاء نفر من أهل نجد فقالوا: يا رسول الله كيف الحج؟ قال: " الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع - بفتح الجيم وسكون الميم. فقد تم حجه" أخرجه أبو داود وابن ماجة. أي فمن وقف على أرض عرفة ليلة العاشر من ذي الحجة فقد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة.

وقد اختلفوا في وقت الوقوف بعرفة:

فقال الجمهور: وقت الوقوف بعرفة هو ما بين الزوال، زوال الشمس يوم عرفة وطلوع فجر يوم النحر.

وقال أحمد: وقت الوقوف بعرفة ما بين فجر يوم عرفة وفجر يوم النحر. واتفق الجمهور " الحنفية والحنابلة والشافعية " على أن من وقف في أي جزء من هذا الوقت من ليل أو نهار فقد أدّى هذا الركن، وحجه صحيح. إلاّ أنهم قالوا: يجب عليه الوقوف بعرفة إلى الليل ليجمع بين الليل والنهار، فإن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة حتى غابت الشمس - كما في حديث جابر، فإن دفع قبل الغروب فعليه دم لقول ابن عباس: " من ترك نُسكاً عليه دم "

ومشهور مذهب الشافعي أن مدَّ الوقوف إلى الليل سنة فقط ولا دم على من دفع قبل الغروب. وإن لم يعد إليها بعده، لما في الخبر الصحيح " من أَتى عرفة قبل الفجر ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه " ولو لزمه دم لكان حجه ناقصاً، وإنما يسن له " الدم " خروجاً من خلاف من أوجبه.

وقالت المالكية: لا يتحقق هذا الركن إلاّ بالوقوف جزءاً من الليل بعد الغروب، فإن مشهور مذهب مالك أنه لا بد من الوقوف جزءاً من الليل، فلو فاته بطل حجه ولا يكفي الوقوف نهاراً فقط، لقول ابن عمر: " من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " أخرجه مالك، ولهذا قال في " القوانين الفقهية ": " لا يدفع من عرفة إلاّ بعد غروب الشمس فإن دفع قبل الغروب فعليه العود ليلاً وإلّا بطل حجه. وأجاب الجمهور بأن مراد ابن عمر أن الحج يفوت بعدكم الوقوف بعرفة في وقته قبل طلوع فجر يوم النحر لا أنه يفوته بعدم الوقوف ليلاً لأنه أراد بذلك بيان آخر وقت الوقوف، لقول النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " من شهد صلاتنا ووقف معنا حتى ندفع، ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى نسكه " قال: الترمذي حديث صحيح.

واستدل أحمد على أن الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع فجر ذلك اليوم بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ووقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً " قال أحمد فإن لفظ الليل والنهار مطلق يشمل كل النهار والليل، وأجاب الجمهور عنه أن المراد بالنهار ما بعد الزوال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين لم يقفوا إلّا بعد الزوال، ولم ينقل عن أحد منهم خلاف ذلك.
منقول عن شبكة السنة النبوية.
*************

التالي
السابق