رواية ? مات وبجانبه مغلف

مجتمع رجيم / النقاش العام
كتبت : جذور
-
مات وبجانبه مغلف
(الجـــــزء الأول)

على ذلك القطار وفي أحدى مقطوراته كان ياسر ميتا وحيدا وبجانبه مغلف مليئً بالورق .. مليئً بالحزن .. مليئً بالذنوب .. مليئً بالآثــام .. مليئً بالشكوى .. مليئً بما جرى .. مليئً بالصراخ .. مليئً بعدة اسئلة , مغلف كان بداخله الكثير من الأشياء .. الكثير من الورق .. ورقٌ يحمل حكاياتُ اُنــاس عاشوا وأناس ماتوا .. أنــاس عشقوا وأجرموا .. أناس كالبقية من الناس عاشوا في مجتمعاتهم وعلى تقاليدهم وقيمهم ومبادئهم ولكنهم أختلفوا عنهم في اشياء عدة .. أختلفوا في القلوب .. أختلفوا بمجريات الظروف .. أختلفوا في الحب والوداع .. في الشتات والثبات .. في الأبداع والهــوس .. في الأدمان والضياع .

مغلف لم يقرأه بعد أحد , كان بجانب جثته التي لا يدري أحد ما حكايتهـا ؟ ولما مات هكذا ؟ ولما مات وحيدا ؟ ولما على هذا القطار ؟
أوراق المغلف كانت الجواب لكل هذه الأسئلة , فهي ملئية بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة .. مليئة بالنهايات والبدايات .. ملئية بالنفوس المريضة .. مليئة بالصرخات .. مليئة بالأوجاع والآهات .. مليئة بإلغــازً ومعادلاتً لا حل لـها .. ولا جذر فيها .. ولا تقسم على أي الأعداد .. ولا تُضرب ولا تُطرح .

قــصصُ بشرٌ مثلنا نحن ..عايشوها وعاشوها في حياتهم التي لم يسمع عنها أحدا أي شيء من قبل , كان المغلف هو الأثبات .. أثبات على كل الأحداث وكيف حصلت ؟ وكيف كانت المجريــات ؟ وكيف رمت بهـم الأقدار ؟

صفحات قد طويت وفيها الكثير من الأشقياء والسعداء .. من الأموات الأحياء .. فيها الكثير من المشاعر لا الشعور .. أحاسيسً كانت مخبئة خلف دروعً لا قلوب .. بداخل المغلف ذاك صياحاتٌ لم يسمعُهــا أحد .. كلماتٌ لم تُفهم .. فيها الكثير من الأماني والأحلام .

داخل المغلف أناسٌ عالمهم كان مظلم وكل من فيه تائهون يبحثون عن من يبيعهم الأمــل الذي فقدوه .. أناس يبحثون عن من يخفف الآمهم .. أناس أصطدموا بالوهم ولاحقوا السراب في كل أرض لعل ذلك السراب يوصلهم إلى أرض غير أرضهم .

في صفحات المغلف حياة خلدتها الأقلام وبكتها الأحبار .. بداخلها قلوب أقسى من الحجر وأكثر صلابة من الصخر وأكثر عمــق من البحار .. كانت فيها نفوسً مريضة معدومة الغيرة .. فيها من باعوا الغالي بالرخيص .. ومن أشتروا الموت بسعر التراب .. عن مجتمع لا يدري أين النور ولا يدري عن بصيص الأمــل , كانوا منحرفين جُهــال .. طريقهم مخيف مظلم .

رواية بجانب صاحبها الذي رحل مغمض العينين وهو ينظر إليها .. ينظر لمن فيها .. ينظر لعالم عاش فيه وسمعه ورآه وعاصره , رواية كتبهــا قبل ساعات قليلة من موته .. رواية ابتدأ أحداثهــا من النهاية حتى الوسط .. رواية عاش فيها مشرد .. وثم كتب فيها كيف أستقر .. وكيف أدمــن .. وكيف بــاع الآخرين وهم .. وكيف عشق .. وكيف أنتهــى به الأمر في قطــار .

رواية حكى فيها وحكى .. حكى فيها كيف كتب .. وكيف أمسك بالقلم .. وكيف جلد الورق وهل قرأ الآخرين ما كتب , رواية كان هو فيها شخصين لا شخص .. شخصين في عالمً واحد ولكنهم يختلفون عن بعض .. كانا ضدً وند .. أحدهما مدمنٌ والآخر مبدع .. أحدهم يبحث عن أحد والآخــر منعزلٌ عن الجميع .. شخصين كانــا على النقيض تماماً.. أحدهما يضحك والآخر يبكي طوال الليل .. أحدهما يحلم بالوصول للقمة والآخر أكتفى بالقاع .. أحدهما يهرب من الضجة والآخر ملأ عالمه بالضجيج .. أحدهما شَــره والآخر يزهدُ في أكل تمــرة .
رواية كان فيها من يعيشون بأجساد وقلوبهم مثل الجميع وفكرهم ليس ببعيد عن غيرهم ولكنهم أختلفوا في كل شيء .. في النظرة والفكرة .. في السؤال والجواب .. في ماذا ولماذا؟ أناسً اختبأوا خلف اشياء وأظهروا اشياء .. لبدوا الألــم وأظهروأ العكس .. خبأوا الرقة وبرعونة تصرفوا .. خبأوا الطفولة وبدى عليهم الكبر .. خبأوا حبً بداخلهم وكأنهم لا يبالون .. خبأوا وحشةً رأوا فيها النور .. عاشوا كل هذا في عالــمهم وكتبه هو في المغلف .

رواية من كتبها كان تحت نشوة مخدر .. كان في حالة هوس .. كتبها بعد حقنة .. كتبها على نغمات اللحن .. كتبها بعد مجموعة كتابات .. كتبها بعدما أكتفى .. بعدما أكتوى .. بعدما قرر فراق الحياة وتركُ ذكرى , رواية كلها صيحات .. كلها ألعاب أعصاب .. كلها دموع لم تظهر لأحد .. كلها عتب وشجــن وموال .. رواية يلعن فيها نفسه قبل غيره .. يفضح قلبه ويشتم عقله وفكره .. تبرأ فيها من القلم ومما تعاطــاه .. يضع أعذار ويتملص من آثام .. رواية متناقضة .. رواية كتبت بليل .. كتبها يشتكي الويــل .. كتبهـا متحير فيما ولما .. وكيف الخلاص وإلى أيــن ؟

حكاياتٌ لم يعرف أي العناويــن يختار لهــا .. وأحتار في ختامهــا .. وماذا يصنع في أبطالـها ؟ هل يقتلهم جميعا أم ينقذ بعضهم ؟ يبكيهم أم يضحك على آلامهم ؟ يتركهم لمصيرهم أم يكتب أقدارهم ؟ يودعهم أم يكتفي بالنظر ؟ يفرح لهم أم يسخر منهم ؟ يجلعهم ناجحون أم في نظره فاشلون ؟ يعدهم بالنعيم أم يرميهم في الجحيم ؟ يوصلهم إلى القمة أم ينزلهم القاع ؟ يضع حدا لنهايتهم أم يسمح لهم أن يكملون الطريق ؟

(هذا هو عالمــي , وفي عالمي يجب أن تكون قذرً)!
هكذا كتب ياسر على وجه المغلف .. هكذا أختار لها عنوان .. هكذا ختم الكلمات .. وهكذا أنهى القصة .. وهكذا طوى الصفحات وأختصر أوجاع الورق .. وهكذا رفع القلم وأعترف بالألــم .. وهكذا فضل أن يودع الحياة بتلك الرواية .. رحل وتركها للعالم خلفه .. ليقرؤن الضجيج ويسمعون صداه .. يقرؤن كيف عاش يصارعُ مصارع الدنيا التي صفعته باليمين واليسار .. يسمعون ذلك الوسواس الذي همس له مرات ومرات .. كيف خدع وكيف خُــدع ؟ كيف ضحك عليه إبليس وأخضعه؟ وكيف ظن بأن الحياة مع المخدر أكثر متعة؟ وكيف توهم أحلام لم يحلم بهــا؟ كيف أصبح كاتبا وأديب رغم كل هذا العبث الذي أزعجه؟ كيف كتب النثر وسرد القصة؟ كيف عشق من نظرة؟ كيف رتب كل هذه الفوضى؟ كيف بدأ وكيف أنتهى به الأمر جثة؟ فــ كيف وكيف وكيف ؟

فمن ياسر هذا , ومن يكون ؟ وما حكايته .؟ ولما كل هذه التناقضات في حياته ؟ وكيف عاشر هؤلاء وهو منعزل ؟ كيف يكون مبدع وفي ذات الوقت مــدمن ؟ كيف شخصين وهو شخص ؟ وهل كان لديه جمهور ؟ هل كان مشهور ؟ من أحب ؟ ومما تـــألم ؟ وفي أي المجتمعات عاش ؟ وأي الألــحان أطربته ؟ وبأي الأقلام كتب ؟ وبأيهما خلد الذكريات ؟ وفي أي صفحة صرخ ؟ هل بكــى أم أبكى ؟ هل صاح أم صاحوا عليه ؟ جرحهم أم مزقوه جروح ؟ ودعهم أم لوح بيديه ورحل ؟ أين أسرته أين نــاسه ؟ هل أشتكى لـهم أم شكوه ؟ أين أمه أين أبيه ؟ أين رفاقه المتعاطون ؟ أين عنه الطيبون ؟ هل كان يصلي أو يصوم ؟ منطوي على نفسه أم مرميٌ في السجون ؟ هرب أم تلبد ؟ كاذب أم صادق فيما يقول ؟ هل شعر يوم بالسكينة أم كان مسكون ؟ هل جف منه الحبر أم تدفق ؟ نادى بعالِ صوته أم صمت ؟ عاقل كان أم مجنون ؟ جارت عليه الأقدار أم قهرته الظروف ؟ كان مستمتعا أم مجبور ؟ هل رأى بصيص نور أم طوال حياته مظلوم ؟ عاش على الأمل أم السراب خدعه ؟ توهم الواقع أم أيقن أنه كابوس ؟ سار في الدرب حتى النهاية أم طول الطريق أرعبه ؟ تقدم خطوة أم لم يحرك ساكنً ؟ هل بحث عن ناس أو عن أحد ؟ أكان يدري أم لا ؟ وجد الدواء أم أصابه الداء ؟ فمن ياسر هذا ؟ ومــن يكون ؟ رواية – مات وبجانبه مغلف