مُونولوج فَوق مسرحِ الأيَّام ..

مجتمع رجيم / النقاش العام
كتبت : جذور
-
} .. اقتباس


لا ينبغي لك أبدًا أن تظل هنا طويلاً. كُنْ من البُعد بحيث لا يقدرون أن يجدوك، لا يقدرون أن يدركوك ليشكِّلوك، يقولبوك. كُنْ بعيدًا جدًّا، كالجبال، كالهواء غير الملوث؛
كُنْ من البُعد بحيث لا يبقى لك أهلٌ ولا علاقاتٌ ولا عائلةٌ ولا وطن؛ كُنْ من البُعد بحيث لا تعرف حتى أنت أينك. لا تدعْهم يجدونك؛ لا تحتك بهم احتكاكًا لصيقًا جدًّا.
ابْقَ بعيدًا حيث لا تقدر حتى أنت أن تجد نفسك؛ أبْق على مسافة لا يمكن عبورُها أبدًا؛ حافِظْ على ممرٍّ مفتوح دومًا لا يستطيع أحدٌ أن يأتي عبره.
لا تغلقْ الباب – إذ لا باب أصلاً، بل ممرٌّ مفتوح لا نهاية له؛ إذا أغلقتَ أيَّ باب سيكونون قريبين جدًّا منك، وإذ ذاك فأنت ضائع. ابْقَ بعيدًا حيث لا تصلك أنفاسُهم – وأنفاسُهم
تسافر بعيدًا جدًّا وعميقًا جدًّا؛ لا تدعْ عدواهم تصيبك، عدوى كلامهم، حركاتهم، معرفتهم العظيمة؛ عندهم معرفة عظيمة، لكنْ كُنْ بعيدًا جدًّا عنهم حيث لا تقدر حتى أنت أن تجد نفسك.
ذلك أنهم ينتظرونك، عند كلِّ زاوية، في كلِّ بيت، ليشكِّلوك، يقولبوك، يقطِّعوك إربًا، ثم يعيدوا تجميعك على صورتهم. آلهتُهم – الصغيرة والكبيرة – هي صورٌ عن أنفسهم،
نَحَتَها ذهنُهم أو نحتتْها أيديهم. إنهما في انتظارك، رجل الدين والشيوعي، المؤمن والملحد، وكلاهما سيان: إنهما يظنان أنهما مختلفان، لكنهما ليسا كذلك، لأن كلاهما يغسل دماغك،
حتى تصير منهم، حتى تكرِّر كلماتهم، حتى تتعبَّد لقدِّيسيهم، القدماء منهم والحديثين؛ عندهم جيوش تذود عن آلهتهم وعن أوطانهم، وهم خبراء في القتل. ابْقَ بعيدًا؛ لكنهما في انتظارك،
المربِّي ورجل الأعمال: أحدهما يدرِّبك على تطويع الآخرين لمتطلبات مجتمعهم، وهو شيء مميت – عندهم شيء اسمه المجتمع والأسرة: هذان هما إلهاهم الحقيقيان،
الشبكة التي ستقع في شِراكها. سيجعلان منك عالِمًا، مهندسًا، خبيرًا في كلِّ شيء تقريبًا، من الطبخ إلى العَمار إلى الفلسفة. ابْقَ بعيدًا، بعيدًا جدًّا؛ إنهما في انتظارك، السياسي والمصلح:
الأول يسحبك إلى الأسفل حتى البالوعة، وعندئذٍ يصلحك الثاني؛ إنهما يتلاعبان بالكلمات، ولسوف تتوه في قَفْرهما. ابْقَ بعيدًا؛ إنهما في انتظارك، الخبير في الله ورامي القنابل:
الأول سوف يقنعك والآخر [يدلك] كيف تقتل – وما أكثر الطرق لإيجاد الله، وما أكثر طُرُق القتل، ما أكثرها! ولكن إلى جانب هؤلاء جميعًا، هناك جحافل من الآخرين لتلقينك
ما تفعل وما لا تفعل؛ ابْقَ بعيدًا عنهم جميعًا، بعيدًا إلى حدِّ ألا تقدر أن تجد نفسك ولا أحدًا سواك. أنت أيضًا تود أن تلعب مع جميع هؤلاء الذين ينتظرونك، لكن اللعبة تصير
حينذاك من التعقيد والتسلية بحيث تضيِّعك. لا ينبغي لك أن تظل هنا طويلاً؛ كُنْ من البُعد بحيث لا تقدر حتى أنت أن تجد نفسك.


*ج. كريشنامورتي