حكاية ?( حلم سميرة )

مجتمع رجيم / النقاش العام
كتبت : جذور
-
نشأت سميرة في جو مروع , حالك الظلمة ملبد بالغيوم . جو

عاصف لا تعرف الهدوء سماؤه , ولاتنفذ إليه أشعة واحدة من نور .

لم تكد تشب وتترعرع وتبلغ السادسة عشر من عمرها حتى

أنعمت النظر , فألفت الحياة ثقيلة . والبيت جحيما ,وأقرب الناس

إاليها يتناحرون ويتناهشون كالوحوش .

لم تر والدها إلا غاضبا . ولم تشهد والدتها إلا ثائرة ساخطة . ولم

تبصر جدتها العمياء إلا منتحبة باكية . كانت المنازعات البيتية تقع على

مرأى منها ومسمع . وكانت والدتها لاتنفك تصرخ ,و والدها لايفتأ

يصيح . وكانت أكواب الماء وأواني المائده ومختلف التحف الفنية تتحطم

وتتطاير في كل عراك عنيف ينشب بين الزوج وزوجه أمام الفتاة وأمام

الجدة العمياء وأمام الخدم وأمام الجيران مجتمعين ..

ولم يكن في وسع سميرة أن تفهم السر في كل هذا الجنون , ولم يكن في

وسعها أن تفهم شخصية أمها , وماذا تطلب , وكيف تعيش في الخارج

ولم يكرههازوجها, وأيه جريمة ارتكبتها , كي تصرخ تلك الصرخات

المزعجة مدافعة عن نفسها , ومتهمة زوجها بالغيرة والانانيه والاستبداد

والظلم ؟

وكانت سميرة تحب والدتها أعظم الحب , وتعجب بها أشد

الإعجاب , ولكنها كانت تخافها في نفس الوقت .

كانت تراها أنيقة متبرجة ساحرة الجمال تبتسم وتضحك وتفيض رقة

وعذوبة وحنانا , ثم تراها متجهمة الوجة شاحبة اللون منقبضة التقاطيع

متبرمة حاقدة يدوي صوتها في أرجاء البيت ويشوه الحنق جمالها فتستحيل

إلى مخلوق أغبر دميم يبعث الاشمئزاز في النفس ويلقي الذعر في القلوب .

أرادت الفتاة أن تفهم .

أرادت أن تمزق تلك السحب المنعقدة حول خيالها , والمتكاثفة في

ذهنها , فتولد في نفسها حب الاستطلاع . ونما حب الاستطلاع هذا

وتطور إلى دقة شديدة في الملاحظة , ثم تطورت هذه الدقة أيضا

واستحالت إلى مكر ودهاء ,وقدرة عجيبة على المراقبة و التجسس

والتسمع خلف الأبواب .

كان لايلبث والدها أن يخلو بأمرأته في مخدعه , حتى تسرع سميرة

فتقدم بخطى حذرة , وتلتصق بالباب وتظل اللحظات الطوال مرهفة

أذنيها ,تلتقط الحديث وتتأمله , وتقلبه على شتى وجوهه , وتستخلص

منه الحقائق الهائله التي فتحت عينيها وحركت هامد عواطفها وأضرمت

نار الحيرة والقلق في نفسها ,وأماطت اللثام فجأة عن حقيقة وجه

الحياة ! ..

أدركت أن، والدتها كانت فيما مضى امرأة ساقطة ,وكانت تحب

رجلا غير زوجها وكانت تترك بيتها وتذهب إليه ,وكانت على وشك

أن تغادر مدينتها وتفر معه إلى حيث يعمل وحيث يقيم ..

وأدركت سميرة أن والدها لم ينس الجريمة التي ارتكبتها امرأته ,ولم

يستطع أن ينساها , لم يستطع أن يعيش بدونها, فهو لاينفك يذكر

زوجته بعارها , ويسبها ويلعنها , وتعصف به الغيرة فيهذي ويصيح

ويحطم كل مايصادفه . ثم يهدأ أو يصطنع الهدوء ثم يدعو امرأته إلى

مخدعه ويوصد الباب ,وهناك يطلق العنان لحقده فيضربها وهي تقاوم

وتناضل دون أن تذرف عيناها الجميلتان دمعة !..

وكانت سميرة تحدق إليهما من ثقب الباب فتبصر والدها بعد إذ يهدأ

من ثورته ينحني ويجثو أمام امرأته ويقبل قدميها كمعتوه ويضرب صدره

بقبضتيه ثم يسترحم ويستغفر ويبكي بكاء الأطفال . أشفقت سميرة على

والدها !

وأدركت للمرة الأولى معنى الشر !

فهمت ماهو الحب . فارتاعت واختبل وجدانها وحارت أيجدر بها

أن تبغض والدتها أم أن تشفق عليها وتصفح عنها ؟

وتعاقبت تلك المشاهد , وترادفت المنازعات ,ولم يكن في مقدور

الزوج التحرر من سلطان خياله ,ولا في مقدور الزوجة أن تمحو عارها

القديم من ذهن الرجل الذي يعبدها و الذي كان في مطلع زواجه يرا فيها

مثال الطهر والعفة والوفاء ..

وشعرت سميرة أن ليس في طاقتها الحياة في ذلك البيت ,وأن لا أحد

يهتم بها ,وأن كيانها نفسه قد أخذ يتبدل تحت تأثير ماترى وما تسمع.

وكانت تسمع ألفاظا شائنة غليظه لا عهد لها بها ,وعبارات غامضة

مبهمة ترمز إلى أسرار منكرة . وكانت ترى من الحركات والإشارات ما

يثير في نفسها الأنفة والكبرياء, فبدأت تشعر شعورا خفيا غريبا أنها تحتقر

والديها ,وتستنكر حياتهما ,وتود أن تبرأ من الانتساب إليهما , وتتمنى

لو أنها خلقت بائسة فقيرة في محيط بائس وضيع من أبوين يؤلف بينهما

الحب المتبادل وتجمع بين قلبيهما رابطة الكرامة و الإخلاص .

نما هذا الشعور في صدر الفتاة فذعرت .

خيل إليها أن العزلة اكتنفتها ,وأن هناك قوة غاشمة تباعد بينها وبين

أحب الناس إليها وتدفع بها إلى اليأس والتمرد والفوضى . فتمهلت

واستجمعت أفكارها وكبحت جماح عواطفها ثم وطنت العزم على

الجهاد في سبيل التوفيق بين والديها ورد الوئام والصفاء إلى هذا البيت

المهدم المتداعي !..

وكانت ترى بيوت الغير يشيع فيها الهدوء والصفاء فيحترق فؤادها

أسفا ومرارة ولوعة .

وكانت تدخل بيوت الغير فتحس الراحة والطمأنينة وسحر الملجأ

الفاتر العذب القرير , فتصمت وترتجف وتنصرف وهي تبكي . كانت

ترى الأزواج متعاطفين متفاهمين ,والأبناء سعداء طائعين ,والحياة

رقيقة جميلة , تنحدر في سلام إلى حيث تنتهي بسلام , فتدهش ويستولي

عليها شبه ذهول .

وكان السلام هو حلم سميرة .

حلمها النابع من روحها , حلمها المتفجر من خيالها وقلبها ,

والمنعكس على الكون ومافيه من حي وجماد .

كان لاد لها من السلام لتحيا نفسها , ويزدهر بدنها ,وتؤتي حياتها

أبرك الثمرات .

ولقد أرادت أن تقر السلام في بيتها , وتحقق هذا الحلم الرائع مهما

كلفها !

وفي ذات ليلة , وقد خرج والدها عن رشده , واستبدت به غيرته ,

وألهبه جنون الذكرى ,فانطلق يسب امرأته ,ويعيرها بماضيها ويحقرها

في عين نفسها ,ويعذبها ماشاء له حبه الخائب المحموم ,ودخلت عليهما

سميرة فجأة ولبثت صامتة تحدق إليهما , والدموع تنهمر على خديها

وتكاد تخنقها .

هم الوالد بطرد ابنته . ولكنها تحدته وأبت أن تنصرف , ثم صارحته

والحسرة تمزق فؤادها أنها تعرف كل شيء .

تعرف أن والدتها كانت امرأة غادرة , وأنها منحت جسمها لرجل آخر .

وتعرف أن والدها يحب , وأن الحب يوشك أن يجعل منه مجرما .

تعرف أنه مسكين , وأن والدتها مسكينة أيضا .

ولما حاولت الإضافة في الحديث واجتهدت في تقريب مسافة الخلاف

بين أبويها , أستنكر الوالد موقفها وانترها فلم تتراجع ,فصارحته بأنه

مادام قد قبل امرأته في بيته وعفا عنها ولم يطلقها ,فلا حق له الآن في

اضطهادها والعمل على إذلالها .

بهت الوالد وكبر عليه أن تقف ابنته منه موقف الحكم , فأراد أن

يؤدبها ويلزمها حدها ,ولكن سميرة استرسلت في البكاء والتمست

وتوسلت , ومازالت تقبل يدي والدها ,وتقرب إليه امرأته , وتفيض

عليهما من حبها وطيبتها وسماحة قلبها ,حتى هدأت العاصفة وصفا الجو

ورفرفت السعادة في تلك الليلة على البيت لأول مرة !..

…………………..
heart2 heart2 heart2 heart2