زهرةُ نرجسٍ عَفِنة

مجتمع رجيم / منتديات الصور
كتبت : وفاء
-

~ *


زهرةُ نرجسٍ عَفِنة


" تحكي أسطورة ناركسوس اليونانية عن شاب حسن المظهر جماله يفوق جمال أي شخصٍ آخر،
أحبه الكثيرون بسبب جماله إلا أن أحدهم لم يرُق له فقد كان متعالياً بنفسه كثيراً، لأنه كزهرة التي كانت رمزاً للجمال.
وفي يومٍ ما، وبينما كان نركسوس عائداً لمنزله، اشتد ظمأه فرأى بحيرة واتجه لها لينتبه لصورته المنعكسة على مياهها الصافية فوقع بحبها وبات يجيء ليلاً ونهاراً
ليرى تلك الصورة التي سلبت قلبه وعقله وحرمته لذة النوم والراحة إلا أنه لم يعلم أن تلك الصورة ما هي إلا صورته المنعكسة إلا بعد فوات الآوان، فكُلما تحدث، رأى الصورة تتحدث،
وكُلما لوح بيده لها، لوَّحت له، وكُلما ابتسم، قابلته بالابتسامة. لقد وقع بحب نفسه وأراد بكُل السبل أن يحصل عليها فرفض مغادرة البحيرة بل ظلّ بجانب صورته حتى مات جوعاً. "

بقيَّ السيد فينْلي صامتاً يُنصتُ لحديث السيدة أميليا بتركيز، في حين أكملت هي بعد أن التفتَ إليه: مَفادُ هذه الحكاية يا سيد فينْلي أن تنصح زوجتك الشابة بألا تغتر بنفسها كثيراً، على الأقل قبل فوات الآوان.
قالت جُملتها الأخيرة بنظرة أشارت إليه أنها تحذيرية أكثر من كونها مُجرد نصيحة من امرأةٍ عجوز لشاب لم يتعلم من الحياة إلا القليل.
كُلها عِدة ثوانٍ حتى سمعها تُتمتم: أو ربما فاتَ الآوانُ بالفعل؟
كان يشعر بالأمان لكونه استطاع الاحتماء من المطر وعتمة الليل لكنه الآن وبعد حواره معها، تمنى لو يأتي أخوه بأسرع وقتٍ ممكن ليخرجهما من هنا.

سيد فينْلي...
...
سيد فينْلي، أتسمعني؟
آه، نعم!
أشارت بيدها ناحية باب المطبخ: زوجتك تُنادي عليك، ألن تذهب إليه
أجل، أجل بالتأكيد.

خرج من المطبخ على عجلٍ ليتجه نحو زوجته التي كانت ترمق رفوفاً وُضعت خلف الأريكة التي كانا يجلسان عليها، إذ امتلأت بمختلف التماثيل القبيحة فأردفت حالما انتبهت لعودة زوجها.
كُنتُ أظن أن جارتنا السيدة صوفيا هي الوحيدة ذات الذوق الغريب بامتلاكها أبشع التُحف، لكنني الآن غيرتُ رأيي. انظر لمدى بشاعة هذه التماثيل يا فينْلي! هذه العجوز مثيرة للريبة...
تمتمَ موافقاً كما لو أنه يُحادثُ نفسه: هي مُثيرةٌ للريبة فعلاً...
لم أشعر بالارتياح تجاهها مُنذ البداية!
لم أكن كذلك، حتى هذه اللحظة.
ماذا لو كانت سفاحة؟ أو تستمتع بقتل الناس أمثالن

التفتَ إليها بذعرٍ فجأةً بعد تفكيرٍ مطولٍ مع نفسه: عزيزتي، أظن أنَّ بقائنا في السيارة أفضل، ما رأيكِ؟
نظرت إليه بصدمة، ثم ما لبثت أن عادت لتجلس على الأريكة وهي تُحادثه بانفعالٍ واضح: لابد أن تِلك الشوكولاتة التي قدمتها لنا العجوز فاسدة بالفعل، إذ أفسدت عقلك بالتأكيد!
قلتُ بأنها مريبة لكنني لن أخرج حيثُ المطر يهطل بغزارة فقط لأنها لا تُشعرنا بالراحة.
تحركت قدماه سريعاً خائفاً من عودة العجوز من المطبخ وهو يحادثها بترجي: عزيزتي، لن نقف تحت المطر كما تعلمين، ثم إن أخي لن يتأخر كثيراً، و...
اهتز هاتفه مُعلناً قدوم اتصال فأخرجه من جيبه بعجلٍ ونظراتُ زوجته ترمقهُ بترقبٍ شديد أملةً أن تسمع منه رداً مُفرحاً.
أجل جوزيف... نعم... أنت تمزح بلا شك! لكن لا يُمكننا... حسناً... وداعاً.
حالما أنهى المكالمة، انقضت عليه زوجته بوابلٍ من الكلمات والصدمة تملئ وجهها.

لا تقل لي أنه لا يستطيعُ القدوم!
اكتفى بإيماءةٍ من رأسه جعلت زوجته تصيحُ به: مستحيل! هل سنبقى هنا حتى انتهاء العاصفة؟!
حتى الصباح، أجل.
نهضت من مقعدها فتخيل أنها ستبقى في هذا الكوخ الصغير حتى الصباح رُغم أنها الثامنةُ مساءً قد تسبَّبَ بنوبة قشعريرة مريرة أرغمتها على النهوض لتتحرك في أرجاء المكان في غير راحة.
غيرُ معقول، غير معقول، غيرُ معقول.
اهدئي يا بيلا.
توقفت فجأةً عن الحراك مُحدقةً إليه بصمت، ثم ما لبثت أن عادت للأريكة حتى تلتقطَ حقيبتها.
انسَ الأمر، سأذهبُ مشياً!
نهضَ من مكانه في انفعال: جُننتِ بالتأكيد!
بل سأُصبح مجنونة لو مكثتُ في هذا المكان! انظر لما حصل لفستاني، لقد تلطخ بالطين بالكامل!
وشعري أصبح في حالةٍ يُرثى لها كما أن هذا المكان الصغير النتن لن يُساعد فلابد أن الجراثيم تطيرُ هنا وهناك، أخشى على وجهي الجميل من الحساسية.
لم أتوقع إطلاقاً أن خروجي لحفل أخيك كان غلطة، حتى الآن

اقتربَ منها بهدوء ليضع يديه على كتفيها وبدأ يُحادثها برفق: قال جوزيف أنه سيُحاول القدوم حالما تُتاح له الفرصة. بالتأكيد لن يتأخر، ولا تقلقي فأنا معك...
صرخت به مُقاطعة: ههْ، بالطبع! لابد أنه يُراقصُ مجموعة فتيات في هذه اللحظة بينما نحنُ نتعفنُ هنا! انسَ الأمر، سأخرج فقد يمرُ أحدهم من هنا ويُقلنا لأعلى التل.
لا يأتي أحدٌ إلى هنا في هذا الوقت من الليل.

كمجموعة قِططٍ بوغتت بشكلٍ مفاجئ انطلقت عينيها لترمق السيدة أميليا الواقفة على بُعد ثلاث خطواتٍ منهما.
ما أشعرهما بالفزع هو أنهما لم يشعرها بقدومها إطلاقاً كما لو أنها حلقت من المطبخ حتى هذه البقعة.
مشَت للأمام مُتجهةً نحو كُوبيّ الشوكولاتة لتحملهما وهي تُكلمهما بنبرةٍ هادئة:
أظنكما ستبقيان حتى الصباح. أعطيتكما البطانيات، قد لا تشعرا بالراحة لكَون الأريكة قاسيةً نوعاً ما، ولكن تحمَّلا حتى قُدوم من سيُقلكما.

وصلت لباب المطبخ فتوقفت عن المشي لتلتفتَ ناحيتهما وتقول: إن احتجتما طعاماً فيُمكنكما تناول ما في الثلاجة. سأذهب للنوم فهذا وقتُ نومي.
ابتسمت لهما كجدةٍ تبتسم لأحفادها لكن فشل السيد فينْلي وزوجته برؤية هالة الطيبة التي أطبقت على العجوز بسبب غِشاء الزيف الذي علَاها.
ليلة سعيدة.

~*

~ *

اشتد صوتُ زخاتِ المطر وارتبطَ صوتُ الرعد معه ليُعلن بدء هذه المسرحية الغامضة، حيثُ وقفت صاحبةُ الدور الرئيس على بعد خطوةٍ من البحيرة
مُبحلقةً بانعكاسِ صورتها في الماء غير مُكترثةً بحمل تلك المظلة التي رمتها جانباً. امرأة شابة بشعرٍ كستنائي طويلٍ ومُموجٍ بقسماتِ وجهٍ ناعمة وجميلة.
لن يُناسب هذا الوجه الملائكي إلا ابتسامةً عذبة ونظرةً بريئة لكنَ ما ظهر على ملامحه كان غير ذلك تماماً. كانت تنظرُ بفزعٍ نحو صورتها المثالية في الماء،
وعينيها على أقصى درجةٍ من الاتساع إثر واقعةٍ ألمَّت بها فجعلتها مُندهشةً هكذا.
سمِعت اقتراب خُطوات من كانت تقفُ خلفها بعدةِ أمتار والتي تلعبُ دور –الشخص الغامض في هذه المسرحية فالتفتت بفزعٍ لتلتقي عينيها مع عينيّ العجوز. تدفقت الكلماتُ من شفتيها كينبوعٍ ساخن:
أهذه هي؟ البحيرة التي تحدثتِ عنه
أجل. إنها البحيرة الأسطورية التي ستمنحكِ جمالاً أبدياً.

التفتت مُجدداً لتُقابل صورتها في الماء، وازدردت ريقها بحيرة.
لماذا خُلقت داخلها أمنية كتلك، ولماذا حَمَت تلك الأمنية بروحها وحافظت على تغذيتها بالأمل فغدت كبيرة في غضون وقتٍ قصير؟
أسئلةٌ كهذه لم تجد إجابةً قط بل ظلَّت تطفو في أغوار قلبها مُسببة معاناةً لصاحبتها. غمرها الخوف فجأة، فالتفتت مُجدداً غير واثقةٍ من خيارها التي قررت تطبيقه قبل قليل.
أحقاً ستمنحني جمالاً أبدياً؟
ابتسمت العجوز لها بطيب، وحرَّكت قدماها لتتجه صوب الفتاة القلقة مما هي مُقبلةٌ عليه وحالما وصلت لحيثُ تقف، علَّقت بصرها على مياه البُحيرة الراكدة.
كثيرٌ من الفتياتِ أمثالكِ قد حصلوا على الجمال الأبدي بسبب هذه البحيرة.
توقفت عن نسج المزيد من الكلمات مُستخدمةً الأحرف بسبب تذكرها أمراً ما، مما تسبب بتطاير أحرفها التي أرادت نسجَ المزيد من الكلمات منها واختفت تلك الابتسامة، لكنها سُرعان ما استرجعت ما فقدته لتُكمل حديثها.
من ضمنهم حفيدتي.
لم تعد الشابة قادرةً على سماع المزيد فصرخت بوجهها.
لم أسألكِ عما يدور في حياتك أيتها العجوز، أجيبي على سؤالي اللعين! هل حقاً سأحظى بالجمال الأبدي إن فعلتُ ما قلتِ؟!
هزت رأسها إيجاباً دون أن تُعلق على تصرفها السيء ثم أكملت:
لكن لكُل شيءٍ ثمن يا عزيزتي، وما ستدفعينه من ثمنٍ باهضٌ جداً، فهل أنتِ قادرةٌ على تحمله؟
لم تُجب عليها بل حدقت للبحيرة بصمت والذُعر يلتهمها حية. أخيراً، عزمت أمرها، وقررت أن تُحقق أمنيتها التي طال انتظارها.
مشَت باتجاه البحيرة ببطءٍ في محاولةٍ منها للسماح لضميرها بأن يُناقشها للمرة المليون في أن تعدل قرارها
لكنها قررت مُسبقاً أنها لن تفعل وكأنها بذلك كانت ترغب فحسب بالسخرية من منظره وهو يترجاها ألا تفعل ما أرادت فعله لحظتها.

~

استيقظَ فزعاً وهو يلفظُ أنفاسه بصعوبة حتى استوعب أنه ما زال في غرفة المعيشة حيثُ طرقَ مسامعه صوتُ كصيص الحطب في المدفأة إضافة لزخات المطر الصاخبة في الخارج.
كابوسٌ خياليٌ كهذا قد كان قادراً على إبقاءه حبيساً بداخله ليتجرع المعاناة غير الحقيقية لولا أن برودة الغرفة قد كانت كفيلةً بإيقاظه وبالتالي إنقاذه.
مرَّ أمام عينيه شريطُ مُجريات ما حصل، بدءً بانفجار إطار سيارتهما أثناء توجُهِهما نحو أعلى التل
مروراً برؤيتهما كوخ العجوز التي وافقت على بقائهما حتى قدوم من سيُقلهما للقصر انتهاءً بتلك النصيحة المُلطخة بعلاماتٍ تحذيرية بشأن زوجته وتعاليها الشديد بجمالها ونفسها من قِبل العجوز.
اعتدل جالساً على الأريكة ليتحرى الأجواء حوله ثم تنبَّه أخيراً أن زوجته لم تكن موجودة رُغم أنه كان واثقاً من أنهما اتفقا على أن يناما حتى الصباح، فنهضَ قلقاً وبدأ يُنادي اسمها في أرجاء الكوخ.
كانت الساعة تُشير للثالثة صباحاً ولم يرى أي اتصالٍ واردٍ من أخيه عندما تفقد هاتفه النقال. أعاده لجيبه واتجه صوب المطبخ باحثاً عنها إلا أنها لم تكن هناك.
كُلها لحظات حتى سمع صوت الباب الرئيس للكوخ وهو يُفتح وتفاجأ برؤية العجوز عنده والتي من المُفترض أن تكون نائمة، أو هكذا ظن.

أغلقت مظلتها وعلَّقتها خلف الباب ثم نزعت حذائها وعبرت الممر الضيق مُتجهةً نحو الأريكة المُقابلة للمدفأة وجلست بصمتٍ مُطبق.
إحساسٌ غريب قد غمَر السيد فينْلي حينها، ثم تلا ذلك الإحساس شعور الرهبة الذي أحسَّ به عندما حادث العجوز سابقاً في المطبخ فاندفع اتجاهها ليسأل:
هل رأيتِ زوجتي يا سيدة أميلي
لم يسمع جواباً، وكان هذا دافعاً لتكراره السؤال مُجدداً.
في كُل مرةٍ يسمعُ فيها الصمت إجابةً على سؤاله الذي تكرر كثيراً، يغرقُ قلبه أكثر في قاعٍ أبدي لا نهاية له ويملئ ذلك القاع الخوفَ وحده.
قرر أخيراً أن يقف أمام العجوز ليقطع تأملها بالنار ويسألها مُجدداً مُخمناً بسخافة أن تركيزها الشديد بالمدفأة قد كان كالعازل ما بينها وبين كلماته.
سيدة أميليا، استيقظتُ ولم أجد بيلا، إنها ليست هنا. هل رأيتهǿ
تنهدت بحزن بعد عِدة لحظاتٍ تذوق فيها السيد فينْلي جُرعة أخيرة من الصمت، ثم رمقته بأسفٍ وأردفت:
مِثلها مثل البقية، تلك المسكينة.
ماذا
قلتُ لها أن الثمن غالٍ، ولكنها فضَّلت الجمال في النهاية
صاح بها: عن ماذا تتحدثين؟!

حدقت إليه بنظرة خالية من أي تعبير:
زوجتك يا سيد فينْلي، كانت زهرة نرجسٍ عفنة، وتوجبَ اقتلاعها.


~~~*~~~
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ق1
كيفكم من جديد ؟
رجعتلكم بقصه كتبتها قبل سنة او سنتين ،، ساعدتني شوية اختي فيها و2
اتمنى ان تروقَ لكم ،، بانتظار ارائَكم كوب1