هارون الرشيد.. الوجه الآخر
مجتمع رجيم / قسم التاريخ الاسلامى
كتبت :
زهره الاسلام
-
هارون الرشيد.. الوجه الآخر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد..الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبيه وعبده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيراً.
فإن المتأمل في تاريخنا الإسلامي يجده زاخرا بالوقائع المنيرة والحوادث المثيرة، والذكريات العطرة التي يستأنس بها المسلم على مر العصور.
هذا وإن الله سبحانه اختص أناسا بالفضل والإحسان والبركة، فكانوا في حياتهم نبراسا للخير ودعاة للهدى، وأعقبهم بعد وفاتهم بالثناء والذكر الحسن.
وإن من هؤلاء النفر، الإمام الفاتح المجاهد الذي دانت له البلدان واندحرت أمامه الشجعان: أميرُ المؤمنين هارون الرشيد رحمه الله، الذي كان يغزو عاما ويحج عاماً، حتى قال فيه القائل:
فمن يطلب لقاءك أو يرده فبالحرمين أو أقصى الثغور
وما حاز الثغور سواك خلق من المستخلَفين على الأمور
فقد خلّف ذكرا حسناً، وتاريخا مجيدا هو بالحق مفخرة لكل مسلم.
كان من أحسن الناس سيرة، في نفسه ورعيته، فكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وكان سريع العطاء جزيله، يحب الفقهاء والشعراء ويعطيهم، لا يضيع لديه بر ولا معروف، وكان يصلي في كل يوم مائةَ ركعة تطوعا إلى أن فارق الدنيا، إلاّ أن تعرض له علة، وإذا حج أحج معه مائةً من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة التامة، حتى قال فيه القائل:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمةً فلما ولي هارونُ أشرق نورها
فلما نقضت الروم الصلحَ الذي كان بينهم وبين المسلمين، وملّكوا عليهم النقفور وكان شجاعاً، كتب نقفور إلى الرشيد كتاب، قال فيه: "من نقفور ملك الروم إلى هارونَ ملكِ العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلى، حملت إليك من أموالها ما كنْت حقيقا بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقِهن فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلىّ ما حملتْه إليك من الأموال، وافتدِ نفسك به وإلا فالسيف بيننا وبينك".
فلما قرأ هارون الرشيد كتابه، أخذه الغضبُ الشديدُ حتى لم يتمكنْ أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبَتَه، وأشفق عليه جلساؤه خوفا منه ثم استدعى بالقلم، وكتب على ظهر الكتاب:
"بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام ".
ثم نهض من حينه وسار حتى نزل بباب هرقلة، ففتحها واصطفى ابنة ملكها وغنم من أموالهم شيئا كثيرا وخرب ديارهم.
وقد اتسعت رقعة الخلافة الإسلامية في عصره، حتى بلغت مشارق الأرض ومغاربها، وكانت الأموال تحمل من جميع الأقاليم ـ بعد تكفية الجيوش ـ إلى بيت المال على بعد المسافة، وكان يستلقي على قفاه وينظر إلى السحابة، فيقول: اذهبي إلى حيثُ شئت، خراجُك يأتيني يإذن الله.
وكان يخضع للكبار ويتأدب معهم، ويتواضع لأهل العلم والدين، ويحب مجالسةَ العلماءِ والصالحين..
قال أبو معاوية الضرير:
استدعاني الرشيد إليه ليسمع مني الحديث، فما ذكرت عنده حديثا إلا قال: صلى الله وسلم على سيّدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى، وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يديّ، فصب الماء علىّ وأنا لا أراه، ثم قال يا أبا معاوية: أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا. قال: يصب عليك أميرُ المؤمنين. قال: أبو معاوية فدعوت له.
فقال: إنما أردت تعظيم العلم.
وكان كثيرَ البكاء من خشية الله تعالى سريعَ الدمعة عند الذكر محباً للمواعظ، قال منصور بن عمار: ما رأيت أغزرَ دمعا عند الذكر من ثلاثة، الفضيلِ بن عياض، وأبي عبد الرحمن الزاهد، وهارون الرشيد.
ودخل عليه الإمام الشافعي رحمه الله، فقال له: عِظني.
فقال: اعلم أن من أطال عنان الأمل في الغِرَّة طوى عنان الحذر في المهلة، ومن لم يعول على طريق النجاة خسر يوم القيامة إذا امتدت يدُ الندامة. فبكى هارون.
وقال الفضيل: قال لي هارون: عِظني.
فقلت: يا حسن الوجه حِساب الخلق كلهم عليك، فجعل يبكي ويشهق، فرددت عليه وهو يبكي.
وبعث هارون الرشيد إلى ابن السماك، فدخل عليه وعنده يحيى بن خالد، فقال يحيى: إن أمير المؤمنين أرسل إليك لما بلغه من صلاح حالك في نفسك وكثرة ذكرك لربك عز وجل ودعائك للعامة، فقال ابنُ السماك أما ما بلغ أميرَ المؤمنين من صلاحنا في أنفسنا فذلك بستر الله علينا، فلو اطلع الناس على ذنب من ذنوبنا لما أقدم قلبٌ لنا على مودة ولا جرى لسانٌ لنا بمدحة، وإني لأخاف أن أكون بالستر مغرورا وبمدح الناس مفتونا وإني لأخاف أن أهلك بهما وبقلة الشكر عليهما.
وطلب الرشيد ماء ليشرب، ثم قال لابن السماك : عِظني.
فقال له: بالله يا أمير المؤمنين لو مُنعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال بنصف ملكي، قال: لو مُنعت خروجَها بكم كنت تشتريه؟ قال بنصف ملكي الآخر، فقال إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه، فبكى هارون.
وقال له ابن السماك يوماً: إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك، فاحذر المقامَ بين يدي الله عز وجل والوقوفَ بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكَظَم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبةٌ تقبل ولا عثرةٌ تُقال، ولا يقبل فداءٌ بمال.
فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة فقام فخرج من عنده وهو يبكي.
قال الفضيل: استدعاني الرشيد يوما وقد زخرف منزله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها ثم استدعى أبا العتاهية، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال:
عش ما بدا لك سالمــا في ظل شاهقة القصور
تجري عليك بما اشتهيـت من الرواح إلى البكـور
فإذا النفوس تقعقعت عن ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ما كنت إلا في غرور
قال فبكى الرشيد بكاء كثيرا شديداًـ فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين لتسرَّه فأحزنته، فقال له الرشيد: دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى.
و قال ذات مرة لأبي العتاهية عِظني بأبيات من الشعر وأوجز، فقال:
لا تأمن الموتَ في طرف ولا نفس ولو تمتعت بالحُجَّاب والحرس
واعلم بأن سهام الموت صائبةٌ لكل مدَّرعٍ منها ومترس
ترجو النجاة ولم تسلك مَسالكها إن السفينة لا تجري على اليَبَس