قصه التتار

مجتمع رجيم / تاريخ الامم والاحداث التاريخية
كتبت : زهره الاسلام
-
الاجتياح التترى الثالث


منذ تولى منكوخان زعامة دولة التتار وهو يفكر في إسقاط الخلافة العباسية واجتياح العراق، ثم بعد ذلك اجتياح الشام ومصر، وكان منكوخان قائدًا قويًّا حازمًا، لكن ساعده بصورة أكبر إخوته الثلاثة الذين كانوا عونًا له في تحقيق أحلامه، فأحد إخوته وهو (أرتق بوقا) ظلَّ معه في (قراقورم) العاصمة؛ ليدير معه الإمبراطورية الواسعة، وأما الأخ الثاني (قبيلاي) فقد أوكل إليه إدارة الأقاليم الشرقية التي تضم الصين وكوريا وما حولها من أقاليم، وأما الأخ الثالث (هولاكو) فقد أصبح مسئولاً عن إدارة إقليم فارس وما حوله؛ مما يجعله في مواجهة الخلافة الإسلامية مباشرة، ولا شك أن الجميع قد سمع عن اسم هولاكو قبل ذلك!!



ومنذ تسلَّم هولاكو قيادة قطاع فارس وهو يُعِدُّ العُدَّة لإسقاط الخلافة العباسية. والحق أن إعداده كان باهرًا عظيمًا، بقدر ما كان ردُّ فعل المسلمين لهذا الإعداد تافهًا حقيرًا، وإذا كان الوضع كذلك فلا بد أن ينتصر هولاكو على مناوئيه وإن كانوا مسلمين؛ ذلك لأن لله U سننًا لا تتبدل ولا تتغير، والذي يأخذ بأسباب النصر من أهل الدنيا يعطيه الله U وإن كان كافرًا، والذي لا يُعِدُّ نفسه ليوم اللقاء لا بد أن ينهزم وإن كان مسلمًا،{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15].



وهكذا أراد هولاكو حياته الدنيا، وأعدَّ لها إعدادًا جيدًا، فأخذ نصيبه من الدنيا، ولم يبخس منه شيئًا.



لقد بدأ هولاكو عمله في سنة 649هـ/ 1251م بحميَّة شديدة وسرعة فائقة، ومع ذلك فإنه كان يتحلى بالصبر والأناة والإتقان في كل خطوة؛ فقد ظلَّ يُعِدُّ العدة في صبر حتى مرت خمس سنوات كاملة من سنة 649هـ/ 1251م إلى سنة 654هـ/ 1256م، وهو يعمل في نشاط لكي يكون جاهزًا تمامًا.



لقد عمل هولاكو في أربعة محاور رئيسية، وبصورة متناسقة:

المحور الأول: الاهتمام بالبنية التحتية، وتجهيز مسرح العمليات، وضمان استمرارية وسيولة الإمداد والتموين؛ فقام بإصلاح كافة الطرق المتجهة من الصين إلى العراق، وأقام الجسور الكثيرة والكبيرة على الأنهار التي تعترض طريق الجيوش، كما جهَّز مجموعة ضخمة من الناقلات العملاقة صنعت خِصِّيصَى لحمل أدوات الحصار الكبيرة من الصين إلى بغداد.



المحور الثاني: الاستعداد السياسي والدبلوماسي؛ فقد بدأ التتار في محاولة عقد بعض الأحلاف السياسية مع بعض الأطراف وموازين القوى المختلفة؛ وذلك لضمان نجاح المهمة الكبيرة، وهو تغيُّر كبير في السياسة التترية التي ما عرفت قبل ذلك تحالفًا ولا دبلوماسية.

وقد وصل هولاكو في تحالفاته إلى كبير الوزراء في الخلافة العباسية، وهو الشخصية الثانية في الدولة بعد الخليفة، وهو الوزير (مؤيد الدين العلقمي الشيعي)!!



كان مؤيد الدين رجلاً فاسدًا خبيثًا رافضيًّا (يرفض خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما)، وكان شديد التشيُّع، كارهًا للسُّنَّة ولأهل السنة. ومن العجب أنه يصل إلى هذا المنصب المرموق وهو على هذه الصفة، وفي دولة سنية تحمل اسم الخلافة!




والأسوأ من ذلك أن هذا الوزير لم يبق في مكانه شهرًا أو شهرين أو عامًا أو عامين، وإنما بقي في مكانه أربع عشرة سنة كاملة، من سنة 642هـ/ 1244م إلى سنة 656هـ/ 1258م عندما سقطت بغداد، وإذا مرت كل هذه الفترة دون أن يدرك الخليفة خطورته، فلا شك أن هذا دليل واضح على خِفَّة عقل الخليفة.



لقد اتصل هولاكو بمؤيد الدين العلقمي الشيعي، مستغلاًّ فساده وتشيُّعه وكراهيته للسنة، واتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد، والمساعدة بالآراء الفاسدة، والاقتراحات المضللة التي يقدمها للخليفة العباسي المستعصم بالله، وذلك في مقابل أن يكون له شأن في (مجلس الحكم) الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة، والتخلص من الخليفة. وقد قام الوزير الفاسد بدوره على أكمل ما يكون، وكان له أثر بارز على قرارات الخليفة، وعلى الأحداث التي مرت بالمنطقة في تلك الأوقات.



المحور الثالث: الحرب النفسية على المسلمين؛ إذ كانت لهولاكو أكثر من وسيلة لشنِّ هذه الحرب المهولة على المسلمين، ومن هذه الوسائل مثلاً: القيام ببعض الحملات الإرهابية في المناطق المحيطة بالعراق، والتي لم يكن لها غرض إلا بث الرعب، وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة التي وقعت في السابق في عهود جنكيزخان وأوكيتاي.



المحور الرابع: إضعاف جيوش الخلافة العباسية؛ فقد عمد هولاكو إلى أن يطلب من الوزير الفاسد مؤيد الدين العلقمي أن يقنع الخليفة العباسي المستعصم بالله أن يخفض من ميزانية الجيش، وأن يقلِّل من أعداد الجنود، وألاَّ يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح والحرب، بل يُحوِّل الجيش إلى الأعمال المدنية من زراعة وصناعة وغيرها. والجميع يرى اليوم اشتغال الجند في بعض بلاد المسلمين بزراعة الخضراوات، وبناء الجسور، وأعمال المخابز والنوادي!! دون كبير اهتمام بالتدريب والقتال والسلاح والجهاد!! وقد قام بذلك فعلاً الوزير العميل مؤيد الدين العلقمي، وهذا لا يستغرب من مثله، ولكن الذي يستغرب فعلاً أن الخليفة قَبِل هذه الأفكار المخجلة، وذلك كما أشار عليه الوزير الفاسد حتى لا يثير حفيظة التتار؛ وليثبت لهم أنه رجل سلام ولا يريد الحروب!!


لقد قام الخليفة فعلاً بخفض ميزانية التسليح، وقام أيضًا بتقليل عدد الجنود، حتى أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام المستنصر بالله والد المستعصم بالله وذلك في سنة 640هـ/ 1242م، أصبح هذا الجيش لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة 654هـ/ 1256م!!



وبدراسة مسرح العمليات وجد هولاكو أن طائفة الإسماعيلية الشيعية التي تتمركز في الجبال في غرب فارس وشرق العراق سوف تمثِّل خطورة على الجيش التتري، هذا إضافةً إلى ثأر قديم كان بين التتار والإسماعيلية، فقد قتلت الإسماعيلية ابنًا من أبناء جنكيزخان اسمه (جغتاي)، وذلك أيام حملة جنكيزخان على فارس منذ أكثر من ثلاثين سنة. كل هذا دفع التتار إلى العزم على التخلص من الإسماعيلية نهائيًّا، وصدرت الأوامر من قراقورم بمنغوليا بإبادة هذه الطائفة من على الوجود.



وهكذا تم في خلال سنة 655هـ/ 1257م استئصال شأفة الإسماعيلية في هذه المنطقة كلها تقريبًا، ولم ينجُ منهم إلا الشريد الذي كان يعيش في الشام أو العراق، وبذلك أصبح الطريق آمنًا مفتوحًا إلى بغداد، وبدأت الجيوش المغولية الرابضة في فارس تزحف ببطء -ولكن بنظام- في اتجاه عاصمة الخلافة، ووضح للجميع أن اللحظات المتبقية في عمر العاصمة الإسلامية أصبحت قليلة، بل قليلة جدًا[33].


[33] د/مصطفى طه: محنة الإسلام الكبرى ص151، 152
كتبت : زهره الاسلام
-
سقوط بغداد

اجتمع هولاكو مع كبار مستشاريه في مجلس حرب يُعَدُّ من أهم مجالس الحرب في تاريخ التتار، لقد أخذ القرار بغزو العاصمة (بغداد)، وكان مجلس الحرب معقودًا في مدينة همدان الفارسية (في إيران حاليًا)، وهي تقع على مسافة حوالي 450 كيلو مترًا من بغداد إلى الشمال الشرقي، وقرر هولاكو في هذا المجلس أن يقسِّم جيشه إلى ثلاثة أقسام: القلب، وسيقوده هولاكو بنفسه، والجناح الأيسر، وسيقوده (كتبغا) أفضل قواد هولاكو، أمّا الجيش الثالث؛ فكان هو الجيش التتري الرابض على أطراف الأناضول (في شمال تركيا الآن)، وعلى رأسه القائد التتري الكبير (بيجو).
ولم ينتبه الخليفة ولا قادته إلى تحركات التتار إلا بعدما صارت جيوشهم على مسافة خمسين كيلو مترًا من بغداد بعد أن سارت تلك الجيوش آلاف الكيلو مترات داخل الأراضي الإسلامية دون أن تتعرض لهجوم، أو مضايقات، أو حتى لاستطلاع المخابرات الإسلامية التي يبدو أنها لم يكن لها وجود.

وتم الحصار، وحَارَ الخليفة: ماذا يفعل وهو لم يعتد تلك المواجهات؟!!

وأشار عليه الوزير الخائن مؤيَّد الدين العلقمي الشيعي بالتسليم، ولكن في هذه اللحظة قام رجلان من خاصَّة الخليفة، وأشارا عليه بالجهاد، ووافق الخليفة رغم عدم سابق خبرته بالجهاد، ولا تفكيره فيه فضلاً عن استعداده له.

وكانت الهزيمة القاسية، والإبادة شبه الكاملة هي مصير تلك القوة الهزيلة التي تمكن مجاهد الدين أيبك من جمعها، ولم يصبح أمام الخليفة الذي لم يتعود الجهاد، ولم يعرف معنى العزة والكرامة إلا أن يستسلم لمن أوردوه المهالك؛ فاستجاب لنصيحة ابن العلقمي الغادرة بأن يذهب بنفسه لمفاوضة هولاكو.

خرج الخليفة للقاء هولاكو الذي اشترط استقدام العلماء والقادة والأئمة والتجار وسائر الأعيان وأبناء الخليفة؛ فجاءوا معًا، فلما أتوا أُخِذوا جميعًا للقتل عدا الخليفة وسبعة عشر من الوفد منهم ابن واحد للخليفة؛ حيث قُتِل له ولدان أمام عينيه، وسيق الخليفة المستعصم مقيدًا ليدلَّ التتار على أماكن الأموال والذخائر والنفائس في القصور، ثم أصدر هولاكو أمره باستباحة بغداد أربعين يومًا كاملة، قتل فيها الرجال، وسُبِيت النساء واغتُصِبن، وقُتِل الرُّضَّع، ونُهِبت الأموال، وكان حصاد تلك الاستباحة مليون قتيل!! نَعَمْ مليون قتيل!!
وأمر هولاكو بعد ذلك بقتل الخليفة رفسًا بالأقدام؛ لتكون نهايته مهينة كما كانت حياته. وبعد ذلك اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة، وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، وجمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.

لقد ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في دجلة، حتى تحول لون مياه دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى!![34].

هذه جريمة ليست في حق المسلمين فقط، بل في حق الإنسانية كلها!!

وبعد ذلك خرج الجيش التتري بكامله من
بغداد لكيلا يصاب بالطاعون نتيجة الجثث المنتشرة في كل مكان، وأُعْلِن في بغداد أمان حقيقي، فلا يُقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يومًا، وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم. كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيَّد الدين العَلْقمي الشيعي رئيسًا على مجلس الحكم المعين من قِبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه -بلا شك- وصاية تترية.

ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للرئيس الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتحطيم نفسيته، فلا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر!!

وقد رأته امرأة مسلمة وهو يركب على دابته، والجنود التتر ينتهرونه ليسرع بدابته، ويضربون دابته بالعصا، فقالت له المرأة المسلمة الذكية: "أهكذا كان بنو العباس يعاملونك؟!".

وقد وقعت كلمات المرأة المسلمة الفطنة في نفس مؤيد الدين العلقمي، فانطلق إلى بيته مهمومًا مفضوحًا، واعتكف فيه، وركبه الهم والغم والضيق. ولم يستطع الوزير الخائن أن يتحمل الوضع الجديد، فبعد أيام من الضيق والكمد، مات ابن العلقمي في بيته!![35].

مات بعد شهور قليلة جدًّا من نفس السنة التي دخل فيها التتار بغداد، سنة 656هـ/ 1258م، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة!! وليكون عِبْرة بعد ذلك لكل خائن،{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

وولَّى التتار ابن مؤيد الدين العلقمي على بغداد، فالابن قد ورث الخيانة من أبيه، لكنه مات في نفس السنة التي سقطت فيها بغداد سنة 656هـ/ 1258م!!

ترك هولاكو حامية تترية حول بغداد، وبدأ يفكر بجدية في الخطوة التالية، والخطوة التالية بعد العراق - لا شك- أنها ستكون سورية (الشام)، فبدأ هولاكو في دراسة الموقف في هذه المنطقة.
وبينما هو يقوم بهذه الدراسة، ويحدِّد نقاط الضعف والقوة في هذه المناطق الإسلامية، بدأ بعض الأمراء المسلمين يؤكدون على ولائهم للتتار، وبدأت الوفود الإسلامية الرسمية تتوالى على زعيم التتار تطلب عقد الأحلاف والمعاهدات مع (الصديق) الجديد، رجل الحرب والسلام: هولاكو!!

ومع أن دماء المليون مسلم الذين قتلوا في بغداد لم تجِفّ بعدُ، إلا أن هؤلاء الأمراء لم يجدوا أي غضاضة في أن يتحالفوا مع هولاكو؛ فالفجوة -كما يقولون- هائلة بينهم وبين هولاكو، والأفضل -في اعتباراتهم- أن يفوزوا بأيِّ شيء أفضل من لا شيء، أو على الأقل يحيِّدون جانبه، ويأمنون شره، {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72].

ولا شك أنه كان هناك أيضًا من العلماء الوصوليين من يؤيِّدون خطواتهم، ويباركون تحركاتهم، ويحضون شعوبهم على اتباعهم، والرضا بأفعالهم.
وجاء الزعماء الأشاوس يجددون العهد مع (الصديق) هولاكو:
- الأمير بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.
- الأمير كيكاوس الثاني، والأمير قلج أرسلان الرابع من منطقة الأناضول (وسط وغرب تركيا).
- الأمير الأشرف الأيوبي أمير حمص.
- الأمير الناصر يوسف (حفيد صلاح الدين الأيوبي) أمير حلب ودمشق.
وهؤلاء الأمراء يمثلون معظم شمال العراق وأرض الشام وتركيا. إذن لقد حُلَّت المشاكل أمام هولاكو، لقد فتحت بلاد المسلمين أبوابها له دون أن يتكلف قتالاً.

ولكن كان هناك أحد الأمراء الأيوبيين الذي رفض أن يرضخ له، ورفض أن يعقد معاهدات سلام مع التتار، هذا الأمير المسلم الذي ظل محتفظًا بمروءته وكرامته ودينه هو الأمير الكامل محمد الأيوبي -رحمه الله- أمير منطقة مَيَّافارِقين.
و(مَيَّافارِقين) مدينة تقع الآن في شرق تركيا إلى الغرب من بحيرة (وان)، وكانت جيوش الكامل محمد -رحمه الله- تسيطر على شرق تركيا، إضافةً إلى منطقة الجزيرة، وهي المنطقة الواقعة بين ي دجلة والفرات من جهة الشمال. أي أنه يسيطر على الشمال الغربي من العراق، وعلى الشمال الشرقي من سورية؛ لذا أصبح إخضاع إمارة ميافارقين بالقوة أصبح لازمًا.

ومن هنا سيَّر هولاكو جيشًا بقيادة ابنه أشموط لحصار ميافارقين؛ فضرب عليها حصارًا كاملاً، ووقف الكامل محمد وشعبه وقفة المجاهدين، واستبسلوا في المقاومة، وفي الوقت الذي أرسل فيه الكامل محمد يطلب النجدة من أمراء المسلمين، لم يُجِبه منهم أحد، بل كان منهم من يقاتل في صفوف هولاكو ضده.

وظلَّت المدينة مستبسلة مدةَ ثمانية عشر شهرًا حتى سقطت، فقتل السفَّاح أشموط كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمرها تدميرًا، ولكنه احتفظ بالأمير الكامل محمد -رحمه الله- حيًّا ليزيد من عذابه، وذهب به إلى أبيه هولاكو وهو في حصار مدينة حلب.

واستجمع هولاكو كل شره في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فأمسك به وقيده، ثم أخذ يقطع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه!! وظلَّ به على هذا التعذيب البشع إلى أن أذن الله U للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها.

وسقطت حلب بعد ذلك، بعد وعد بأمان زائف؛ فتح الأهالي على إثره أبواب المدينة لهولاكو، ولكنه أبادهم على بكرة أبيهم. وبينما كان جيش التتار يستعد للتوجه إلى حماة، جاء إلى هولاكو وفدٌ من أعيان حماة وكبرائها يقدِّمون له مفاتيح المدينة، ويسلمونها له دون قتال، وذلك برغبتهم وإرادتهم الذاتية، ودون طلب من هولاكو!! وقَبِل منهم هولاكو المفاتيح، وأعطاهم الأمان، ولكنه كان في هذه المرة أمانًا حقيقيًّا؛ وذلك ليشجِّع غيرهم على أن يحذوا حذوهم.

وجاء الدور على دمشق التي يحكمها الناصر يوسف الخائن، الذي أعلن الجهاد ضد التتار عندما طلب منه هولاكو أن يستسلم له استسلامًا كاملاً؛ فخشي على حياته، وأعلن الجهاد، ولكنها كانت دعوة زائفة من رجل اعتاد الخيانة، ولم يعتد حمل السيف. وقد انتهت تلك الدعوة الزائفة بالفرار عندما جاءت جيوش هولاكو، ووقع أهل دمشق في حيرة كبيرة، ماذا يفعلون؟!

وهنا اجتمع أعيان دمشق وكبراؤها، واتفقوا على أن يفعلوا مثلما فعل أهل (حماة)، فيأخذوا مفاتيح المدينة، ويسلموها إلى هولاكو، ثم يطلبوا الأمان منه، ولم يخالف هذا الرأي إلا قلة من المجاهدين قرروا التحصُّن في قلعة دمشق، والدفاع حتى النهاية.

وصدق ظن هولاكو عندما أعطى الأمان الحقيقي لأهل حماة؛ فإن ذلك دفع غيرهم من أهل المدن الكبرى لأن يفعلوا مثلهم. وخرج وفد من أعيان دمشق يستقبل جيش هولاكو، ويسلمه مفاتيح المدينة ومقاليد الحكم في دمشق.

في هذه الأثناء حدث أمر لم يكن في حسبان هولاكو في هذا التوقيت، لقد مات (منكوخان) زعيم دولة التتار، وجاءت الأخبار بذلك إلى هولاكو قبل أن يصل إلى دمشق؛ فلم يتردد هولاكو في أن يترك جيشه، ويسرع بالعودة إلى (قراقورم) عاصمة التتار للمشاركة في عملية اختيار خليفة منكوخان، وترك هولاكو على رأس جيشه أكبر قواده وأعظمهم (كتبغا نوين)، وهو كما ذكرنا قبل ذلك من التتار النصارى.

وأسرع هولاكو بالعودة، حتى إذا وصل إلى إقليم فارس جاءته الرسل من (قراقورم) بأنه قد تم اختيار أخيه (قوبيلاي) خاقانًا جديدًا للتتار. ومع أن الأمر كان صدمة كبيرة لأحلام هولاكو، وكان على خلاف توقعاته، بل وعلى خلاف قواعد الحكم التي وضعها جنكيزخان قبل ذلك، إلا أنه تقبل الأمر بهدوء، وآثر أن يمكث في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وقد رأى الخيرات العظيمة في هذه المناطق، لكنه لم يرجع مرة أخرى إلى الشام، بل ذهب إلى تبريز (في إيران حاليًا)، وجعلها مركزًا رئيسيًّا لإدارة كل هذه الأملاك الواسعة. وتبريز إضافةً إلى حصانتها وجوها المعتدل، فإنها تتوسط المساحات الهائلة التي دخلت تحت حكم هولاكو حتى الآن، فهو يحكم بدايةً من أقاليم خوارزم التي تضم كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان وأفغانستان وباكستان، ومرورًا بإقليم فارس وأذربيجان، وانتهاءً بأرض العراق وتركيا والشام.
قرر القائد كتبغا أن يحتل فلسطين، فأرسل فرقة من جيشه، فاحتلت نابلس، ثم احتلت غزة، ولم تقترب الجيوش التترية من الإمارات الصليبية الأوربية المنتشرة في فلسطين، كما لم يقتربوا من إمارات الصليبيين في سورية ولبنان، وبذلك قُسِّمت فلسطين بين التتار والصليبيين.
وبهذا الاحتلال الأخير لفلسطين يكون التتار قد أسقطوا العراق بكامله، وأجزاء كبيرة من تركيا، وأسقطوا أيضًا سورية بكاملها، وكذلك أسقطوا لبنان، ثم فلسطين!! وقد حدث كل ذلك في عامين فقط!!

ووصل التتار في فلسطين إلى غزة، وأصبحوا على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلو مترًا فقط من سيناء، وبات معلومًا للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي احتلال مصر!!
أمَّا عن الوضع في مصر؛ فقد كانت تحت حكم المماليك، وكانت تعيش فترة اضطرابات في الحكم؛ فقد قُتِلَ الملك المعز عز الدين أيبك، وقُتِلت بعده زوجته شجرة الدر، ثم تولَّى الحكم السلطان الطفل المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك، وتولَّى سيف الدين قطز الوصاية على السلطان الصغير.

أحدث صعود الطفل نور الدين إلى كرسيِّ الحكم اضطرابات كثيرة في مصر، وكان أكثر الاضطرابات تأتي من قِبل بعض المماليك البحرية الذين مكثوا في مصر، ولم يهربوا إلى الشام مع من هرب منها أيام الملك المعز عز الدين أيبك، وقد قبض قطز على بعض رءوس الثورات المختلفة، فأسرع بقية المماليك البحرية إلى الهرب إلى الشام؛ وذلك ليلحقوا بزعمائهم.

وقطز -رحمه الله- وإن كان يدير الأمور فعليًّا في مصر، لكن الذي يجلس على الكرسيِّ سلطان طفل، ولا شك أن هذا كان يُضعِف من هيبة الحكم في مصر، ويزعزع من ثقة الناس بملكهم، ويقوِّي من عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلاً.
وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، واضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين؛ اتخذ قطز القرار الجريء، وهو عزل السلطان الطفل نور الدين علي، واعتلاء قطز بنفسه عرش مصر.

حدث هذا الأمر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657هـ/ 1259م، أي قبل وصول هولاكو إلى حلب بأيام. ومنذ أن صعد قطز -رحمه الله- إلى كرسيِّ الحكم وهو يُعِدُّ العُدَّة للقاء التتار.

[34] د/فؤاد عبد المعطي: المغول في التاريخ 1/263- 270. د/مصطفى طه: محنة الإسلام الكبرى ص177، 178.
[35] ابن كثير: البداية والنهاية 13/246.
كتبت : زهره الاسلام
-
قطز ... وخطوات التغيير

الخطوة الأولى التي حرص عليها قطز -رحمه الله- هي استقرار الوضع الداخلي في مصر، وقطع أطماع الآخرين في كرسي الحكم الذي يجلس عليه؛ فجمع الأمراء وكبار القادة وكبار العلماء وأصحاب الرأي في مصر، وكل هؤلاء من المحرِّكين الفعليين لطوائف الشعب المختلفة، وقال لهم في وضوح: "إني ما قصدت (أي ما قصدت من السيطرة على الحكم) إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتَّى ذلك بغير مُلك، فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو، فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة مَن شئتم"[36]؛ فهدأ معظم الحضور ورضوا بذلك.



أما الخطوة الثانية لقطز رحمه الله في إعداده للتتار فكانت خطوة في منتهى الروعة والحكمة، وأبرزت الأخلاق الرفيعة جدًّا لقطز رحمه الله؛ لقد أصدر قرارًا بالعفو العام (الحقيقي) عن كل المماليك البحرية!!




أما الخطوة الثالثةله فكانت حرصه على الاستقرار (الخارجي) مع جيران مصر من المسلمين؛ كالناصر يوسف الأيوبي رغم خيانته، لكن الناصر يوسف لم يستجب لهذه النداءات النبيلة من قطز، وآثر التفرق على الوحدة، ولم يكتفِ قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر.

وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تمامًا لقطز، وفضَّل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار!!



وأما الأخير وهو الملك السعيد (هذا لقبه!) حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضًا قاطعًا، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين!!

ولكن إذا كان هذا هو الوضع بالنسبة للسلطة الحاكمة وبالنسبة للجيش، فماذا كان الوضع بالنسبة للشعب في ذلك التوقيت؟




الواقع أن الشعب في تلك الآونة كان يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، والأزمات الاقتصادية عادة ما تؤثِّر كثيرًا في حياة الشعوب، فيفقدون الطموح في أي شيء، ولا يرغبون إلا في الحصول على لقمة العيش، إلا إذا جاء القائد الذي يعظِّم عندهم الموت في سبيل الله، ويرفع عندهم قيمة الدين، فعندها تهون المشاكل المادية والأزمات الاقتصادية إلى جانب الهدف الأعلى: (الجهاد في سبيل الله)، وعندها يصبح الموت في سبيل الله أمنية.



كان لزامًا على قطز رحمه الله أن يوجِّه اهتمامًا خاصًّا لتربية شعبه على معاني الجهاد والتضحية والبذل والعطاء والفداء للدين، والحميَّة للإسلام. وإن كانت هذه المهمة شاقة، فقد حفظ الله تعالىالقيمة الأولى لشعب مصر في ذلك الوقت قيمتين عظيمتين سَهَّلتا نسبيًّا من مهمة قطز رحمه الله: أما التي حُفظت في مصر في ذلك الوقت فهي قيمة العلوم الشرعية وعلماء الدين.

أما القيمة الثانية -بعد قيمة العلم والعلماء- التي كانت محفوظة في مصر، فهي قيمة الجهاد في سبيل الله؛ لقد كان المسلمون في مصر في تلك الآونة يؤمنون إيمانًا عميقًا بحتمية الجهاد في سبيل الله للأمة التي تريد أن تعيش.




وبينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو وهي تحمل رسالة تقطر سمًّا، وتفيض تهديدًا ووعيدًا وإرهابًا، لا يقوى على قراءتها إلا من ثبته الله U، جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتر، وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:



"باسم إله السماء الواجب حقه، الذي ملكنا أرضه، وسلطنا على خلقه، الذي يعلم به الملك المظفر الذي هو من جنس المماليك، صاحب مصر وأعمالها، وسائر أمرائها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصاغرها، أنَّا جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حلَّ به غيظه، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وسلِّموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطأ، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب.



فأي أرض تأويكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ وأي ذلك ترى؟ ولنا الماء والثرى؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص؛ فخيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال!



فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع؛ لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن ردِّ السلام، وخنتم الأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان، فأبشروا بالمذلة والهوان (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تعملون)، (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).



وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة، وقد سلَّطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لملوككم علينا من سبيل؛ فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا ردَّ الجواب، قبل أن تضطرم الحرب نارها، وتوري شرارها، فلا تجدون منا جاهًا ولا عزًّا، ولا كتابًا ولا حرزًا؛ إذ أزَّتكم رماحنا أزًّا، وتُدْهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية؛ فقد أنصفناكم إذ أرسلنا إليكم، ومننَّا برسلنا عليكم"[37].



وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلانًا صريحًا بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولا بد أن يكون التسليم مذلاًّ، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.



عقد قطز رحمه الله مجلسًا استشاريًّا أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فورًا في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، والخيارات محدودة جدًّا، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط.



أما قطز -رحمه الله- فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جدًّا من الفقه والفَهْم. فكيف يتصرف القائد الحكيم مع مثل هذا الموقف؟! كيف ينزع الخوف والرهبة من القلوب؟



لقد سلك قطز طريقي: (التربية بالقدوة)، فقال للأمراء: "أنا ألقي التتار بنفسي"[38].



أما الطريق الثاني فهو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها نعيش على الأرض، لقد قال لهم قطز في صراحة:



"يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجِّهٌ، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين (عن القتال)"[39].



ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول: يا أمراء المسلمين، مَن للإسلام إن لم نكن نحن[40].



ووقعت الكلمة في قلوب الأمراء، فضجوا جميعًا بالبكاء!! وقام بعض الأمراء وتكلموا بخير، فقام البقية يعلنون موافقتهم على الجهاد، وعلى مواجهة التتار مهما كان الثمن! وهكذا نجح قطز رحمه الله في خطوة هي من أصعب خطوات حياته، وهي في ذات الوقت من أعظم خطوات حياته؛ ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمرًا يقطع به خط الرجعة تمامًا على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط!!


[36] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق محمد عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418هـ- 1997م، 1/508.
[37] السابق نفسه 1/514.
[38] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/515.
[39] السابق نفسه، الصفحة نفسها.
[40] السابق نفسه 1/516.

كتبت : زهره الاسلام
-
ماذا قرر قطز ؟!!!


لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلِّق رءوسهم على باب زويلة في القاهرة؛ وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب. وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردَّ العنيف سيكون إعلانًا للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيرًا عن الأقوام الذين قابلوهم من قبلُ، وهذا قد يؤثِّر سلبًا في التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئًا من الرعب أو التردد.




وبعد قتل الرسل، بدأ قطز رحمه الله في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جدًّا لحظة المواجهة.



والمشكلة الجديدة التي أمام قطز الآن هي (المشكلة الاقتصادية)!!



ومن جديد جمع قطز رحمه الله مجلسه الاستشاري، ودعا إليه -إلى جانب الأمراء والقادة- العلماء والفقهاء، وعلى رأسهم سلطان العلماء الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله، واقترح قطز رحمه الله أن تفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية، ولا بد من وجود سند شرعي يبيح ذلك، وإلا صارت الضرائب مكوسًا، وفارض الضرائب بغير حق عقابه أليم عند الله U؛ روى الإمام أحمد وأبو داود -رحمهما الله- عن عقبة بن عامر t قال: سمعت رسول الله r يقول: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ"[41].



إلا أن الشيخ العزّ بن عبد السلام كان عنده تحفظ خطير على هذا القرار، فلم يوافق عليه إلا بشرطين، والشرطان عسيران جدًّا!! قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله:

إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم (أي العالم الإسلامي)، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم (أي فوق الزكاة) بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء. هذا هو الشرط الأول، أما الشرط الثاني فكان أصعب!! قال الشيخ العزُّ بن عبد السلام رحمه الله: وأن تبيعوا ما لكم من الممتلكات والآلات (أي يبيع الحكام والأمراء والوزراء ما يمتلكون)، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة؛ وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا!![42].



فتوى في منتهى الجرأة!! وإن كانت هذه الفتوى عجيبة في جرأتها، فإن استجابة قطز رحمه الله كانت أعجب!!



لقد قَبِل قطز رحمه الله كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة!! وبدأ بنفسه، فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك!! فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية.

وجاء وقت إعداد الخطة، وقام قطز رحمه الله بإلقاء بيانه الذي يوضِّح فيه رأيه في الخطة العسكرية، وبمجرَّد أن ألقى برأيه، قام المجلس العسكري ولم يقعد!!




لقد أراد قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار في (فلسطين)!!
واعترض أغلب الأمراء، لقد أراد الأمراء أن يبقى قطز في مصر ليدافع عنها، فمصر -في رأي الأمراء- هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى!! لقد نظر الأمراء إلى القضية نظرة قومية بحتة، بمعنى أنه لو لم يدخل التتار مصر فإننا نكون قد تجنَّبنا لقاءً دمويًّا هائلاً، أما إذا ذهبنا نحن إليهم فلا خيار حينئذٍ سوى المعركة.



وبدأ قطز رحمه الله يناقش الأمراء ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، واقتنع الأمراء برأي قطز، وهكذا ترجحت كفة الانتقال إلى فلسطين، واقتنع الحضور في المجلس العسكري الأعلى الذي عقده قطز رحمه الله برأيه الموفَّق، وبدأ قطز رحمه الله في إعداد الجيش وتجهيزه التجهيز المناسب لعبور سيناء وللقاء التتار.



وبدأ تجمُّع الجيش المسلم في منطقة الصالحية (بمحافظة الشرقية الآن)، ثم أعطى قطز رحمه الله إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين.

كان هذا التحرُّك في أوائل شهر شعبان سنة 658هـ، وهذا يوافق شهر يوليو من سنة 1260م، أي أن هذا التحرك كان في أشد شهور السنة حرًّا، والسير في الصحراء القاحلة الطويلة في سيناء، وليس في الطريق مدن آهلة اللهم إلا العريش، ومع ذلك فقد صبر الجيش المجاهد.

كان قطز رحمه الله يتحرك على تعبئة، بمعنى أنه يتحرك وقد رتَّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجأه جيش التتار كان مستعدًّا.



وكان قطز رحمه الله قد وضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ، ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصرًا -ولو جزئيًّا- مما سيرفع من معنويات المسلمين بالتأكيد.

وهكذا اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية في 26 من يوليو سنة 1260م، ودخل حدود فلسطين المباركة، وتبعه قطز بعد ذلك في سيره، وحدث ما توقعه قطز رحمه الله، واكتشفت عيون التتار مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة ركن الدين بيبرس، واعتقدت أن هذا هو جيش المسلمين كله، ونقلت الأخبار إلى حامية غزة التترية، وأسرعت الحامية التترية للقاء ركن الدين بيبرس، وحدث بينهما قتال سريع، هذا كله وجيش قطز الرئيسي ما زال يعبر الحدود الفلسطينية المصرية، ولكن -كما ذكرنا- كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية، وقائدها ركن الدين بيبرس قائد بارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبيًّا، والجيش التتري الرئيسي بقيادة كتبغا يربض في سهل البقاع في لبنان على مسافة ثلاثمائة كيلو متر تقريبًا من غزة؛ فتم اللقاء في غزة بمعزل عن الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار، وبفضل الله استطاعت مقدمة الجيش المسلم أن تنتصر في هذه الة الصغيرة، وقُتِل بعض جنود الحامية التترية، وفرَّ الباقون في اتجاه الشمال لينقلوا الأخبار إلى كتبغا في لبنان.



اتجه الجيش المسلم بعد انتصار غزة إلى ناحية الشمال، وعسكر قطز رحمه الله في الحدائق المحيطة بحصن عكا في السهل الواقع في شرق عكا.



في هذه الأثناء كان كتبغا قد وصلته فلول جيش التتار الفارة من غزَّة ينقلون إليه تحركات الجيش المسلم، فغضب غضبًا شديدًا لهزيمة حاميته العسكرية في غزة، وتحرك في اتجاه الجنوب بين جبال لبنان حتى دخل فلسطين من شمالها الشرقي غرب مرتفعات الجولان، ثم عبر الأردن، ووصل إلى الجليل الشرقي. واكتشفت الاستطلاعات الإسلامية المنتشرة في المنطقة تحركات كتبغا، ونقلت الأخبار بسرعة إلى قطز الذي كان قد غادر عكا في اتجاه الجنوب الشرقي؛ فأسرع قطز باجتياز مدينة الناصرة، وتعمق أكثر في الجنوب الشرقي حتى وصل إلى منطقة تُعرف بسهل عين جالوت، وهي تقع في الوسط تقريبًا بين مدينتي بيسان في الشمال ونابلس في الجنوب، وهي قريبة جدًّا من معسكر جنين الآن، وهي المنطقة التي ستدور فيها معركة من أهم المعارك في تاريخ الأرض. وسبحان الله! فإن الأيام قد دارت وحدثت ة أخرى شريفة على أرض جنين بين المجاهدين الفلسطينيين واليهود، وذلك في عام 2002م، وزاد شهداء المسلمين فيها على خمسمائة بعد أن صبروا في قتالهم صبرًا عجيبًا.



وجد قطز -رحمه الله- سهل عين جالوت منطقة مناسبة جدًّا للمعركة المرتقبة؛ فهو عبارة عن سهل واسع منبسط تحيط به التلال المتوسطة من كل جوانبه إلا الجانب الشمالي فهو مفتوح، كما تعلو هذه التلال الأشجار والأحراش، مما يوفِّر مخبأً مناسبًا جدًّا للجيش الإسلامي؛ فيسهل عمل الكمائن الكثيرة على جوانب السهل المنبسط.



ورتَّب قطز جيشه بسرعة؛ فوضع على ناحية السهل الشمالية مقدمة جيشه بقيادة ركن الدين بيبرس، وجعلها في مكان ظاهر حتى يغري جيش التتار بالقدوم إليها، بينما أخفى قطز رحمه الله بقية الجيش خلف التلال والأحراش.


[41] رواه أبو داود (2937)، وأحمد (17333). قال الشيخ الألباني: ضعيف. انظر حديث رقم (6341) في ضعيف الجامع.
[42] ابن كثير: البداية والنهاية 13/250.

كتبت : بنتـ ابوها
-
الصفحات 1  2  3

التالي

تسلسل احداث حرب 1948

السابق

الأمم الغابرة بين القرآن والكتب السابقة والمكتشفات الأثرية الحديثة

كلمات ذات علاقة
البتار , قصه