حارس الماعز

مجتمع رجيم / القصص والروايات الادبية
كتبت : maarmaar11
-
حارس الماعز

1-الطريق إلى إيالة الخراب

تهب النسمات رخية عند الأصيل.‏

فتحرك رؤوس الشجيرات الرعوية، وتقلق حركة العظايا والطير والذؤبان الحذرة، بينما تكسب الظلال الزاحفة، وأبواق اللون الضهاري والرجوم مهابة جليلة، وسكوناً راسخاً، والسماء سجادة من الياقوت الحار، والنبيذ الذهبي، والقرفة، تزحف نحو الانطفاء في العتمة.‏

فتطلق بادية الشام النفير، تأهباً لانطفاء نهار آخر في عزلة المكان القديس الذي ظل حفياً بأوثانه، وأرواحه المهوِّمة في الضوء المتشنج، حيث القنوت الرعوي، والطواطم التي فقدت وظيفتها، ولم تفقد تأثيرها السري.‏

وكان الرجال منشغلين بترتيب شؤون المعسكر.‏

الجياد وجدت فرصة للراحة، والخيام تنتصب متجاورة، بعد أن نُظف داخلها من الأشواك والحجارة، وقد استقبلت الأرض الأجساد المتعبة بترحاب وحفاوة بالغين، ففارق الوجوه العابسة ذلك الوجوم والإرهاق، بعد تلك الرحلة الطويلة، وسرى ماء الرضا فيها.‏

-هذا العالم صامت، والصمت عدو غامض.‏

قال أحد رجال الباشا، يوجه خطابه إلى أحد الحرس، فأجابه:‏

-صامت أو أخرس، عدو أو صديق لا يهم، كل ما يهمني أن أضع رأسي على الوسادة وأنام.. فالنوم سلطان.‏

-النوم؟! أهذا كل ما تريد؟‏

-نعم.. يا صديقي.‏

وتمدد على فراشه بكامل ثيابه، غير عابئ بما يجري حوله من حركة وضوضاء، لبشر وأسلحة وحيوانات.‏

-يا ساقي العطاش.. اسقنا.‏

دندن سهف المجذوب بصوت هامس، وقد سرّه وجود شجرة الحرمل، هذه المباركة، التي عادة ما يصنع من حباتها سبحة طويلة، يلفها حول عنقه، ويتمتع ببخورها المتصاعد من الموقد في عزلته الصوفية، فيمتلئ بالحنين كما تمتلئ الكأس بالخمرة، ويذهب في تهاويم طويلة، وعذوبة غامرة.‏

-مولاي.. أعنّي على القادم.‏

عاود الدعاء مرة أخرى، وهو يقترب من زوج الماعز الشامي، الذي أصرّ على إحضاره معه، فهو لا يستطيع فراقه، أو التخلي عنه.‏

ومن بعيد لاح له الباشا، يجلس على كرسيه، وسط ذلك الخلاء العاري، وكان يتنفس من أنفه بصوت مسموع، بلحيته الحمراء الكثة، وقد وخطها الشيب، وحاجبيه الكثين، وينظر بأجفان ذابلة، أثقلتها الرغبات الجامحة المحمومة، رغبات هي خليط من الذهب والدم والدسائس، وها قد خانها الوقت، أما وجهه المورد، الطافح بالعافية، فقد بدا مسرحاً لانفعالات عميقة، ومتضاربة، بينما الطربوش الأحمر، يستقر فوق هامة، ظلت مرفوعة زمناً طويلاً، لكنها الآن تنكس راياتها، وتخاوي المرارة والوحشة التي لا تطاق، وهو الذي اعتاد صخب القصور، وضوضاء المآدب، وحركة الأبواب الفخمة والسلاح، وبريق الثريات والقناديل، وأبهة الملك والسلطان، التي لا يعرف سحرها إلا من تذوقها.‏

-يا جبّار.‏

هتف باستغراق.‏

-يا قويّ.‏

وحرّك أصابعه الغليظة المشعرة، فتحركت حبات سبحة الكهرمان الثمينة، وبرق ذهب الخواتيم في يده، فهز رأسه هزة خفيفة، وكأنه يطرد خفافيش الغروب من سماء مستقبله التي كانت صافية كالماس، هذا المستقبل الذي تحدد بشكل مأساوي، لم يخطر في باله قبل أيام، فألح عليه السؤال:‏

-أية نهاية تنتظرك يا عبد الله باشا؟!‏

واقترب خادمه العجوز بالنرجيلة والنار، فلاذ ببعض العزاء، وهو يدس المبسم الفضي بين شفتيه الجافتين، وراقب الزخارف الذهبية، والزجاج الأخضر المعشق بصفائه الخالص، والنرجيلة أنثى، تنتصب مزينة بالدنادش البراقة، والخرز الأزرق.‏

ثم بدأت ثرثرة المياه، وتيجان الدخان الرمادي، تتصاعد من ذهب التبغ المحترق في الأعلى، معلنة بداية طقوس الباشا، وعاداته التي مارسها على مدى عقود من الزمن الألاّق.‏

-هل يحتاج مولاي شيئاً آخر؟.‏

-لا.‏

قال جازماً، وأطبق أجفانه، واندفعت سورة الماء، تمتزج بسورة الروح، وارتعشت الدنادش بخفوت جنائزي، واندفع الدخان من أنفه خيوطاً من الحرير الرقيق، يعبث بها الهواء.‏

-يظل الباشا صلباً وعصياً على الانكسار، والرهان على هزيمته خاسراً.‏

قال كاتم سره وخازنه المخلص إسماعيل، وهو ينظم صناديقه، وأوراقه الخاصة، وينتظر الانتهاء من ذلك، ليأوي إلى فراشه، فالرحلة متعبة لرجل عجوز في مثل سنه، والطبيعة قاسية لا ترحم من عاشوا حياة الرخاء والترف في قصور الولايات الأخرى.‏

وتابع الباشا نفث الدخان بلذة.‏

وحين لمست أصابعه خشب الكرسي الجالس عليه، اهتزّ، هذا الكرسي أوصى بصناعته نجاراً رومياً في بيروت، ثم كفته بالفضة، والصدف، وزينه بشعار "لا غالب إلا الله" فكان كلما لمسه، سرت إلى جسده عزة السلطان، وسطوة الملك، فناس مخموراً، نشوان بمجد صنعه بزنده وخنجره الذي لا يخون، ولأول مرة اليوم، يدهمه شعور مترمّد وهو يجلس عليه، يفسد عليه لحظات راحته، فعاد إلى نفث الدخان، وكأنه يهرب من شبح خفي.. وتمتم:‏

-وحده السنديان لا ينحني.‏

وحمحم حصانه الأصيل، فضاع صوته في ذلك الحماد الممتد، وتحركت الأراول وبنات آوى وطيور الرخم اللابدة، والأرانب القلقة، تحركت الريح، وجاء الخادم بالجمر، فراقب الباشا أصابعه لأول مرة، وهي تعالج الجمر بالملقط، والرماد يتطاير عباءة للزهو العاري وأعراس الهباء.‏

كل شيء راكد ركود بركة من الرمل الهاجع.‏

وأنفاس الرجال تتصاعد، هذا القلق لا يعرفون من أين يأتي؟! أهو المكان أم شيء آخر خالط أرواحهم؟! لا جواب على ذلك، لكن الخلاص جاءهم:‏

-الله أكبر.. الله أكبر..‏

علا صوت سهف المجذوب ندياً، عذباً، يقيم الصلاة، ففاءت نفوسهم إلى أمان مفترض، ولكنه حقيقي مثل العصب والدم، واصطف رجال الحاشية جميعاً وراءه لأداء الصلاة، والباشا يتابع التدخين، وكأن العالم لا يعنيه.‏

-كان لا بدّ من الشيخ المجذوب.‏

أقرّ بذلك، وكان زوج الماعز الشامي الأحمر، يتجول بين الخيام بحثاً عن العشب الرعوي والأغصان الطرية، برغم زحف الظلام، وعيون السماء التي تفتحت كعباد الشمس، في القبة الصافية.‏

...‏

ليلاً.. قاد الخادم الشموع.‏

فضاء الصيوان، واتكأ الباشا على وسادة وثيرة متربصاً مثل أسد بابلي، وقد استبدل ثياب السفر بثياب جديدة للراحة، كي لا يبدو ضعيفاً أمام ثعالب الحاشية وداخل الصيوان، يزهو بأناقة ومهابة لائقة، بطنافسه الأرمنية، وسجاده العجمي، وأكوابه الذهبية، ومجامر البخور التي صاغها أعظم صاغة الأستانة، ولا مثيل لها إلا في قصور الخلفاء من آل عثمان.‏

-هل يأذن مولاي بالعشاء والسماع؟‏

سأل الخادم بتهذيب.. فردّ:‏

-لا بأس.‏

ومُدّت المائدة للباشا.‏

وجاء غلامه رشيقاً وسيماً يحمل عوده، ومن ورائه الجارية الفارسية الحسناء، تحمل الرقّ وتغني أشعار الخيام والشيرازي بلغتها، فتحرك الحجر القاسي، فلقد دفع ثمناً باهظاً للحصول عليهما من تاجر يهودي في حلب، مهمته تخريج القيان، ولحلب أذن في الموسيقا لا تخطئ.‏

-مولاي..‏

وانحنى الاثنان أمامه.‏

...‏

خارج الصيوان‏

انصرف رجال الحاشية إلى ترتيب ما تبقى من شؤونهم، وإعداد وسائل الراحة في مهاجعهم، بعد المشاق التي عانوها في الطريق، هذا الطريق الذي اختاره الباشا عن قصد، وما يختاره الباشا لا يناقش.‏

-في هذه البرية لا صوت يعلو على صوت العدم والموت.‏

قال إسماعيل الخازن، يخاطب كائناً غير موجود. ثم تابع:‏

-هنا حيث الخلاء لا سلطان، لا شريعة، لا قانون، لا قوة إلا قوة الأرواح.‏

واندس في فراشه، هو الرجل عاشر الباشا طويلاً، وعرف كثيراً من خفاياه وأسراره وطباعه، لذا فهو يقدّر مزاياه وقدراته في القضاء على أعدائه، والإجهاز على خصومه، أما حربه الجديدة، فهي من نوع لم يجربه أحد من قبله، حرب عبثية.‏

وفي الخيمة المجاورة، جلس الشيخ المجذوب مع زوج الماعز الشامي، يتأمل أضواء الشموع وهي تتراقص، وقد ملأت المكان بنور هادئ، يترك للنفس مساحة للاسترخاء والمودة، فردّد:‏

-أنت السلام.. فاغمر أرواحنا بالسلام.‏

وساد الهدوء المعسكر، فلا حركة سوى حركة الحرس.‏

...‏

بعد أن أذن الباشا لغلامه "إياز" وجاريته "جلبهار" في الجلوس، حمل الخادم إليه شرابه المعتاد، والنرجيلة والنار، وبدأت طقوسه المتواضعة في السماع بعيداً عن أبهة القصر، والقاعات الواسعة، بنوافيرها ونوافذها المشرعة على سماء من نجوم وأقمار، حيث الرؤوس تنكس أمامه، والرقاب تعنو، والأفواه تزمّ، والسمّار من كبار القوم.‏

ومع أول كأس من الشراب، بدأت دندنة العود، ترافقها نقرات الرقّ في تآلف بديع، ودفق صوت إياز منفرداً، رخيماً وكأن في حنجرته ناياً ذهبياً، يترنم، ثم تبعه صوت جلبهار، أبحّ، ناضجاً ودافئاً مثل كف عذراء، فازدهى الباشا، تفتح وجهه قمراً من الدم وجنون الشهوات، والرغبة في جعل خنجره الذي سقاه سمَّ الأفاعي، يمزق ألف خاصرة.‏

كان إياز يغني بالعربية‏

وجلبهار بالفارسية والتركية، والعود والرق بلغة ثالثة، لا يفهمها إلا مجانين السماع، ومتذوقو هذه الثمرة المحرمة، التي لا تتاح إلا لمن يملك.‏

-أمان.. أمان.. يا رب‏

ورفع الباشا كأسه عالياً، فاندغم الصوت في اللحن، فأدرك قيمة اللذة الخالصة، ومعناها الأزلي، بل اكتشف لذات جديدة، انصرف عنها زماناً إلى النهب وسفك الدماء، وتحصيل الأموال، ومصادرة المغضوب عليها، وانتزاع أسرار مخابئ ثرواتهم بالتعذيب لكسب رضا الباب العالي وحاشية السلطان، وليس كالذهب وسيلة لنيل هذا الرضا والمباركة، وحمد الله أنه فاز في النهاية برأسه سالماً بعد كل صور مغامراته، فصاح منتشياً:‏

-فلتكن ولاية للخراب أو الكلاب.. لا فرق.‏

وأسرع الخادم، يملأ كأس الباشا من جديد، ويخرج إلى خيمته المجاورة، فالباشا يكره وجود أحد من الحاشية في مجالسه الخاصة.‏

وخارج الخيمة، تنادت غزالات الحماد، وبنات آوى إلى السماع السماوي، ولبدت الذؤبان وراء الرجوم والشجيرات الرعوية، ترقب ما يجري بحذر، وقد هالها النار العظيمة التي أمر الباشا أن تظل موقدة طوال الليل دلالة العزة والمنعة، وقد تحول المكان من المجهول إلى المعلوم.‏

-يجب أن أقوم بحركة قبل أن تتفاقم الأمور.‏

قرر الباشا بعد الكأس الأخيرة، وجاء الخادم بالقهوة المرة، قدمها لسيده، فشرب فنجانين، أما الغلامان، فامتنعا مهابة وأدباً أمام الباشا، الذي قد يسمح لهما بقليل من الشراب، فالشراب- برأيه- ابن حرام، يلغي المسافة بين السيد والعبد.‏

-أكُلّ شيء على ما يرام؟!‏

سأل خادمه.. فأجاب:‏

-كما يشتهي مولاي.‏

-والحرس؟!‏

-في مكانه يا مولاي.‏

-حسن..‏

هزّ رأسه راضياً، ولكنْ لم يفارقه حذره الدائم.‏

وآخر الليل أطفأ الخادم الشموع، فساد الظلام داخل الصيوان، بينما ظلت عينا الرجل جمرتين وحشيتين، تتوهجان حتى أطفأهما النوم، فاندفعت أطياف الماضي، وأحلامه تراوده، بعد أن ظنّ كل الظن، أنها اندثرت.‏

بغداد.. بغداد.‏

يرنّ الاسم في سمع الباشا رنين الذهب، كلما سمعه يتردد أمامه، في أية مناسبة كانت، فتزهو اللحظة، يتفتح ورد الدفلى، ويشتعل زهر الرمان في البساتين، وسعف النخل في ضوء الغروب، وتمر في البال صبايا البرامكة النادبات، وجواري الرشيد المجلوبات من كل بقاع الدنيا. فارسيات وروسيات وبربريات.‏

بغداد، حدائق وقصور، وأغنيات حزينة، يرددها الصيادون في رحلاتهم الليلية، والملاحون في الحراقات والعشاريات الخاصة، وهي تمضي في الليالي المقمرة، تمزق حزم الضوء على وجه الماء الرجراج، والأسماك لا تنام في دجلة والفرات، والحلم ظلّ يلازم الباشا، يحمله في قلبه عشقاً أبدياً، لا يفارقه، هو الذي لم يعرف العشق أبداً، ولطالما سأل نفسه:‏

-أيعقل أن يقع رجل في هوى مدينة؟!‏

فيأتيه الجواب:‏

-اسأل نفسك، ألم تفعلها؟!‏

لقد فعلها، عشق بغداد منذ اللحظة، التي وطأت فيها قدماه أرضها، فأصبحت له موطناً ومرجعية، هو الصعلوك الوضيع، الذي لا مهنة له سوى القتل وتصفية الخصوم لمن يدفع له أجره. فالأبنية والشوارع والوجوه، أعطته تأريخاً وهوية، بعد كل اغترابه الطويل. فصاح:‏

-هذه المدينة منذورة لك.. فيجب أن تمتلكها.‏

لكن صوتاً في داخله سخر منه، سرعان ما أخرسه بفيض من السباب والشتائم، فقد أحس أنه ولد من جديد.‏

لقد نزلها يومذاك مع رفيق من أمثاله الذين رهنوا أرواحهم للشيطان.‏

وكان في مهمة قذرة لصالح باشا حلب، لتصفية خصم من خصومه فرَّ إلى بغداد خوفاً منه، فكان لابدَّ من إسكاته.‏

قال له صاحب الخان الذي نزل فيه، وهو يحدق في عينيه:‏

ـ الرجل من الشام؟‍‏

ـ لا..‏

ـ من مصر إذن.‏

ـ لا.. من معمورة العزيز.‏

ـ إنك لا تشبه التجار.‏

ـ لست تاجراً..‏

قال وهو ينتقي كلماته أمام فضول الرجل.. ثم تابع:‏

ـ أنا رسول..‏

واستدار تاركاً الرجل في حيرة، عابراً إلى غرفته، ليتدبَّر أموره، ويخطط مع رفيقه، لتنفيذ المهمَّة، فالباشاوات يهمهم سرعة التنفيذ، والدقة، والسرِّية، وتلك مزايا القاتل المأجور.‏

***‏

ـ أيُّها البوشناقي.. لم نأتِ إلى بغداد للسياحة والسكر في الحانات.‏

قال رفيقه بنزق.. ثم استدرك حين رأى عينيه تشتعلان:‏

ـ لقد أطلنا.. وباشا حلب ينتظر خبراً منَّا، وما لدينا من مال قارب النفاد، ومكان الرجل عرفناه.‏

ـ إنها بغداد يا رجل.‏

ـ بغداد تنتظر، أمّا الباشا فلا ينتظر:‏

ـ كما تشاء... لن تكون إلا راضياً.‏

وعند الفجر.. عبر جسر بغداد رجلان مسرعان باتجاه الشام، وقد حمل أحدهما صرّة من القماش بحذر وحرص.‏

ـ كما ترى.. كانت العملية سهلة.‏

ـ العمل معك رائع...‏

ـ هذا الخنجر لا يخون.‏

وأمام الباشا ألقى الرجل الصرَّة، فتدحرج رأس عدوه أمامه، فنظر إلى الرجلين برضا وارتياح.‏

ـ قلت له: سيف الباشا أم ذهبه؟‍! فاختار السيف.‏

تمتم بصوت أجشَّ، وواثق.‏

***‏

ـ لا بدَّ من بغداد، وإن طال الزمن.‏

هكذا عاهد البوشناقي نفسه، وكانت صورة المدينة بقصورها وبساتينها، تلاحقه في كل أحلامه، حتى بات مجنوناً بها، وهذا الجنون قاده في رحلة الشرِّ والمجد، كتعويذة حارسة، تقيه مخاطر الطريق، طريق طال نحو الهدف.‏

ـ تنال مرادك، وترقى سلم المجد.‏

قالت له امرأة... ولأنه لا يثق بالنساء، أشاح بوجهه، تاركاً لماء الرضا أن يسري في عروقه. وقذف بقطعة ذهبية أمامها. فرنَّت بارتعاش، وكأن بغداد تأتي إليه، بإرثها وتأريخها، وأيامها، وتسلمه مفاتيحها.‏

ـ من جاد بالذهب، ذهب شره.‏

ولملمت نفسها، ثم اختفت في شارع جانبي، وكأنها مرسلة لتقول كلمتها المبشرة، لا أكثر، فردّد:‏

ـ لا يأتي ذهب من غير دم.‏

وتلمَّس خنجره الوحشي، وكأنه يستعد لقتال عدو غامض.‏

***‏

النوم في الأزقة القذرة.‏

يعلمك استنشاق رائحة القذرين، والقتلة، والمؤامرات عن بعد، لكنه لا يبعدك عن الأحلام بحياة نظيفة، تلك إحدى أفضليات حياة الباشا السابقة.‏

***‏

منذ هلال مضى.‏

صدرت الإرادة السلطانية إلى الباشا عبد الله البوشناقي في التوجه والياً على بغداد، التي دفع نصف ثروته للحصول على ولايتها، فسرَّ بذلك سروراً عظيماً، فقد حقق حلماً قديماً طالما أرَّقه، وراوده في لحظات صفوه، أخيراً بغداد!!... بغداد الرشيد والبرامكة وألف ليلة وليلة، والزعّار والعيَّاق، بغداد اللصوص النبلاء، علي بابا والدليلة المحتالة، وعلي الزيبق.‏

وبعد أن قام الباشا بتصفية أموره في ولايته، توجه إلى الولاية الجديدة، ومناه أن يصل، وقد أعدَّ موكباً يليق بمكانة ولايته وحلمه العاشق. وكأن هرون الرشيد، يعود من غزاة ظافرة، أو حج، مما أوغر صدور الأعداء والأصدقاء عليه، فتوالت المراسلات إلى الأستانة، وطار حمام زاجل كثير إلى قصورها، وأصبح الرجل حديث الولايات وموضع حسد باشواتها.‏

وبعد مسيرة أيام.‏

جاء الأمر بعزل الباشا عن بغداد بحجة أن المماليك، نصَّبوا من أنفسهم والياً جديداً عليها هو المدعو علي بك، والأستانة لا تريد أن تخلق فتنة، لا يحمد عقباها، وقد قرر السلطان توليته إيالة أخرى لم يسمع باسمها من قبل، فعلم أن الأيام القادمة وربما السنوات ستكون شديدة البرودة.‏

وزيادة في النكاية به.‏

سرَّب التتاري القادم رسولاً من الأستانة الخبر بين الحاشية، فانفضَّ كثيرون من حوله، ذابوا في حمص، وبقي معه أخلص رجاله ومماليكه، فأكرمهم، ليكونوا عدَّة حربه وجلاده في حربه الطويلة ضد خصومه، وحساده، وظل حذره، يلازمه، فقد تعلم ألاَّ يثق بأحد سوى خنجره وزنده القوي.‏

ـ لا تترك لهم فرصة الوصول إلى عنقك بخناجرهم أيُّها البوشناقي.‏

أعلن... ومنذ ذلك اليوم ينتظر فرصة، ليظهر لرجاله، أنه الرجل الذي لا يقهر.‏

***‏

في الصباح تحمل الركب باتجاه الإيالة المنسية.‏

في ذلك الحماد الأجرد، الذي اختاره الباشا عن عمد، ليوقف تسلل رجاله وهربهم في المدن المزدحمة، والأزقة الضيقة أو الحانات، وقد استردَّ الباشا مزاجه الرائق دون أن يستسلم أو يضعف.‏

ومنذ بداية الرحلة، كانت عين الباشا تترصد الرجال، وترقب حركاتهم بحذر غير معلن، فلفت نظره مملوك شاب من مماليكه كثير الصمت والتلكؤ، والشرود والنظر إلى الخلف، يظل في نهاية الركب، ويتثاقل في تنفيذ مهامه.‏

ـ هذا الشاب ضالتك.‏

قال الباشا لنفسه، والدروب تتلوى، ثم تندثر، وكلها متشابهة، تقود إلى فضاء مقفر، وطبيعة قاسية، تلال وشُعبان وسهوب، ولا ماء أو بشر أو شجر، والرجال يمضون، تخبُّ بهم خيولهم، مخلفين وراءهم زوابع صغيرة من العجاج الهابَّ، وكأنهم فرسان قدر غامض يمضون إلى مصيرهم.‏

ـ هذه البراري الموحشة، تورث الجنون.‏

قال حرس شاب لآخر، فضحك وحصانه يرجّه، ويندفع به، ثم صاح:‏

ـ اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.‏

ـ العالم بلا نساء مقبرة.‏

ولكز حصانه، فتقدم إلى الأمام، حتى بات قريباً من الباشا، فشدَّ عنان الحصان، فقصَّر من عدوه، ليحافظ على المسافة بينه وبين الباشا، ووسط الغبار المثار كان الشيخ المجذوب في عربة المؤن مع زوج الماعز الشامي، يرتل أدعيته وأناشيده الصوفيّة باستغراق، وقد أغمض عينيه باسترسال وشوق، وكأن هذا العالم لا يعني له أكثر من هباء.‏

***‏

ـ لا تغفل عن الفتى.‏

قال الباشا... ولأنَّ للصحراء عاداتها، هبت زوبعة من العجاج الخانق فجأة، فأظلمت الدنيا، فاضطرب الركب، واختبط، وحار الرجال فيما يفعلون، فالتراب وعويل الريح، وخشخشة الأوراق الجافة، كل ذلك خلق حالة من الفوضى.‏

ـ اللعنة...‏

دمدم الشيخ المجذوب خائفاً على زوج الماعز الشامي.. ثم أتبع:‏

ـ بحق اسمك، أسالك كشف الغمَّة.‏

وسرعان ما انكشفت الزوبعة، فتنفس الرجال الصعداء، وبدؤوا في تفقد ما حولهم، فلم تكن هناك خسائر تذكر، أمَّا الباشا، فقد أدار بصره، يستطلع الوجوه، فلم يجد المملوك الشاب.. فصاح:‏

ـ لقد فعلها الثعلب الصغير.‏

ثم خاطب كبير حرسه، وقائد عسكره:‏

ـ أين أوقطاي يا قره يوسف؟!..‏

ـ مولاي..‏

ـ أدركه.. فلن يكون قد ابتعد كثيراً.‏

وانطلق قره يوسف مع فارسين آخرين في إثر المملوك الشاب، بينما وقف ا لركب للراحة والصلاة.‏

ـ لا يفعل ما فعله أوقطاي إلا عاشق أو مجنون.‏

قال اسماعيل الخازن لخادم الباشا العجوز... فردَّ الرجل باستنكار:‏

ـ أكان لا بدَّ من دم؟!‏

ـ تلك طبيعة الذئب الأغبر.‏

ولم يمض وقت طويل، حتى عاد الفرسان بالشاب مكتوفاً، ثم وقفوا أمام الباشا، الذي اقترب منهم، وقد تركزت عليه عيون الركب بكامله، وبسرعة خاطفة، استل سيفه، فبرق في ضوء الشمس بشكل خاطف، ثم أطاح بالرأس، فاندفعت نافورة من الدم، تعمَّد أرض الحماد العطشى، بينما تدحرج الرأس بعيداً، أعقبه سقوط الجثة عن ظهر الحصان.‏

حينذاك، خفقت القلوب، وارتعشت الأجساد، ولم يصمد إلاَّ قلة من المجرَّبين، الذين عايشوا الباشا في حروبه وغزواته، وقد أعلن اسماعيل الخازن التوقف، لتناول الطعام، بأمر من جناب الباشا، وكأنَّ الباشا بذلك، يريد استكمال حالة الرعب بتلك الضربة البارعة.‏

***‏

تحمَّل الركب مرَّة أخرى.‏

وسط صمت خانق، وخوف من رشاش دم وضحيَّة جديدة، حلَّقت فوقهم بعض طيور الحبارى، فاستبشروا بهذا الطائر، وتابعوا طريقهم، ثم مرَّ بهم سرب من اللقالق البيضاء.‏

ـ بات الماء قريباً.‏

قال اسماعيل الخازن.. فردَّ الخادم العجوز:‏

ـ عندنا من الماء ما يكفي.‏

ـ الماء يعني وجود الناس، وأنت تعرف ماذا يعني وجود الناس؟‏

ـ ما عدت أعرف شيئاً سوى أن هذه القافلة يقودها الشيطان إلى الهاوية أو إلى الجنون.‏

ـ بدأت تخرّف يا رجل؟‏

ـ الخرف رأس الحكمة في هذا الحماد.‏

ـ إنَّا للّه..‏

وفجأة لاح لهم وسط منبسط من الأرض بويتات من الشعر، تلطأ تحت أسوار مهدَّمة، تحيط بأطلال مدينة، كانت يوماً ما مأهولة.‏

ـ الرصافة؟!‏

صاح قره يوسف بابتهاج، فسأله الباشا:‏

ـ وكيف عرفت؟‏

ـ وهل من عمارة سواها في هذا الحماد يا مولاي؟!..‏

ـ وهؤلاء البدو؟‏

ـ أناس بسطاء طحنتهم الحروب والفتن، فلاذوا بالخلاء فراراً من الحناشل والخوارزميّة والقبائل القويَّة.‏

وقد صدق كلام قره يوسف، فما إن دنا الركب من المضارب، حتى اختفى معظم السكان في بيوتهم، خائفين من القادمين، فكانت كلابهم أكثر شجاعة، فصالت، وجالت، وهي تنبح بشراسة وقوّة.‏

ـ من يسكت هذه الكلاب اللعينة؟!..‏

قال قره يوسف بغضب، فتقدم اثنان من الحرس إلى الأمام، فتراجعت الكلاب الهائجة إلى الخلف، وهي تثير زوبعة من الغبار، ومن بيت من البيوت الكبيرة خرج جماعة من الرجال يرتدون الملابس البدوية، وقد بدا على أحدهم مخايل الرئاسة والوجاهة، مما يدل على أنه سيّد القوم، تقدم راجلاً من الباشا، مرحباً به، وبرجاله، ثم دعاه إلى ضيافته، والضيف عند البدو مقدَّس.‏

ووسط النيران، وحركة الناس، ورائحة القهوة ودم الذبائح، ورائحة الطعام، وجد الباشا نفسه سعيداً، وذا سلطة على رعيَّة وخلق، فغادرته تلك المشاعر السوداء التي رافقته في رحلته الطويلة.‏