الوصايا العشر للرسول الكريم

مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
كتبت : yearn
-
وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع



كل مسلم ومسلمه يحبون انهم لوكانوا موجودون في خطبة النبي وسمع ماسيقول ولاجل ذلك فلنتمعن بالوصايا التي قالها في هذه الحجة العظيمة، وسبحان الله! فمع قصر الخطب، واختصار كلماتها، إلا أنها حوت ما لا يحصى من الفوائد والنصائح، فقد أوتي جوامع الكلم، فيستطيع (عليه الصلاة والسلام) أن يعبر بالكلمات القليلة عن المعاني الكثيرة والقواعد العديدة.
كان طابع الخطب الثلاث التي خطبها الرسول (عليه الصلاة والسلام )يختلف إلى حد ما عن خطبه السابقة في فترة المدينة المنورة، وكان يغلب على طابع هذه الخطب الثلاث أنها موجهة إلى الأمة الإسلامية في زمان قوتها وتمكينها، لقد كانت نصائح في غاية الأهمية لكل جيل إسلامي مُكّن في الأرض.
لقد خاطب عليه (الصلاة والسلام) قبل ذلك الأفراد، وخاطب المستضعفين في الأرض، وخاطب المُحاصرين، وخاطب المحاربين، وخاطب الدعاة، وخاطب المصيبين والمخطئين، واليوم يخاطب (عليه الصلاة والسلام) الممكّنين في الأرض، يضع أيديهم على القواعد التي بها يستمر تمكينهم ويتسع، ويحذرهم من الأمور التي تُذهب هذا التمكين، وتُسقط الدولة الإسلامية، ويشرح لهم بوضوح دور الدولة الإسلامية الممكّنة في الأرض، لقد كان خطابًا لأمة ناجحة، بلغت الذروة في التشريع، فقد كمل التشريع في هذه الحجة، وبلغت الذروة في الحضارة، والذروة في القيم والأخلاق، والذروة في الفهم والتطبيق. وعلى المسلمين أن يفقهوا جيدًا أنه بغير هذه القواعد، والأسس لن تُبنى لهم أمة، ولن تقوم لهم قائمة.
وقد استخلصت من هذه الخطب الثلاث التي خطبها الرسول (عليه الصلاة والسلام) في أيام الحج المختلفة عشر وصايا في غاية الأهمية نحتاج أن نمر عليها بسرعة، وإن كانت كل نقطة تحتاج إلى تفصيل خاص، وإلى دراسات متعمقة، وإلى محاولات جادة لإسقاط كل قاعدة، أو كل وصية على الواقع الذي نعيشه الآن؛ لنستفيد منها أكبر استفادة متوقعة:


الوصية الأولى: دستور هذه الأمة هو القرآن والسنة.
"وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ".
الله أكبر على الوضوح والجلاء! هذا وعد من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأمته بعدم الضلال أبدًا إن هي تمسكت، واعتصمت بكتاب الله وسنة نبيه الكريم.

كثيرًا ما تضل الأمة وتضطرب، وتدخل في متاهات لا نهاية لها، والسبب هو التخلي عن بند من بنود الشريعة، والإعراض عن أصل من الأصول التي جاءت في الكتاب والسنة.

إن الله تعالى حفظ لهذه الأمة دستورها، ووعد باستمرار حفظه إلى يوم القيامة، وهذا لخيرها، وخير الأرض بكاملها.

كم تخسر الأرض، وكم يخسر العالم بأسره، وكم يخسر المسلمون، وغير المسلمين بتغييب شرع الله U عن واقع الناس!!
كثيرًا ما يُفتن المسلمون، بمناهج الأرض الوضعية، فينبهرون تارة بشيوعية، وتارة برأسمالية، وتارة بعلمانية، ينبهرون بهذه المناهج الأرضية، وينسون أن لديهم منهجًا حُقَّ لأهل الأرض جميعًا أن ينبهروا به، ذلك منهج رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والشرع الإسلامي صيغ بدقة فائقة؛ ليناسب كل زمان، وكل مكان، وبه من المرونة الكافية ما يسمح بتطبيقه في أي ظرف، والشرع الإسلامي شرع شامل، ما ترك صغيرة، ولا كبيرة إلا غطاها، ولا تقوم دولة إسلامية قيامًا صحيحًا بغير تطبيق للشرع في سياستها، واقتصادها، وحروبها، ومعاهداتها، وقوانينها، ومناهجها، وكل أمورها، دستور كامل متكامل، يقول الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].

وحرام على من يمتلك الذهب أن يزهد فيما يملك، ويرغب في التراب! وحرام على من كان عليه أن يقود الناس ويُعلمهم أن ينقاد إلى غيره ويطيع! وحرام على من كان بيده قرآن وسنة أن يدعهما وينظر إلى غيرهما.

لذلك حرص على التأكيد على هذا المعنى في أيامه الأخيرة، ففي موقف آخر من حياته الأخيرة ذكر مثل هذا المعنى بوضوح، روى الحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إنها موعظة مودِّع، فأوصنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَبِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ".

فهذه أهم وصايا حجة الوداع، وأهم وصايا الرسول لأن النجاة الحقيقية فعلاً في كتاب الله وفي سنته ، وكل الوصايا التي ستأتي بعد ذلك سيكون لها أصل في الكتاب والسنة، ومن هنا كانت هذه الوصية جامعة شاملة فيها خير الدنيا والآخرة.
ولا يفوتنا أن نذكر أن رسول الله نهى عن كل القوانين المخالفة للإسلام، حتى لو كانت هذه القوانين شديدة الترسخ في المجتمع، فقال في منتهى الوضوح: "أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ".

وكذلك وضع الربا، ومع تأصل الثأر والربا في المجتمع إلا أنه يُنبذ؛ لأنه يتعارض مع القرآن والسنة.



الوصية الثانية: الوَحْدة والمساواة بين المسلمين
وصية في غاية الأهمية وتأتي مباشرة في الأهمية بعد الاعتصام بكتاب الله، وسنة نبيه ، وهي الوحدة بين المسلمين، ومع كثرة التوصيات بالوحدة في كل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان لا بد من إعادة التوصية في الأيام الأخيرة، وإعادة التركيز عليها والتذكير بها.
إن الأمة المتفرقة لا تقوم أبدًا، لا ينزل نصر الله U على الشراذم، يقول في خطبة في حجة الوداع: "تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أُخْوَةٌ".
إنه التأكيد على حقيقة حرص عليها رسول الله من أول أيام الدعوة، في فترة مكة، وفي فترة المدينة، واذكروا عتق العبيد في مكة، واذكروا المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، واذكروا الميثاق بين الأوس والخزرج، لقد كانت علاقة مُمَيِّزة فعلاً للدولة الإسلامية أن الجميع فيها أُخْوة؛ الحاكم أخو المحكوم، والقائد أخو الجندي، والكبير أخو الصغير، والعالم أخو المتعلم، إنها أخوة حقيقية بلغت إلى حد الميراث في أوائل فترة المدينة، ثم نسخ الحكم وبقيت الأخوة في الدين.
ثم إنه التأكيد على معنى آخر من معاني الأخوة كان واضحًا في خطبة الوداع، وهو أن هذه الأخوة ليست خاصة بعرق معين، أو نسب معين، أو عنصر معين، أو قبيلة، أو دولة، أو طائفة؛ إنها المساواة بين المسلمين جميعًا من كل الأصول، قال رسول الله r: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلاَ لَعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى".

الله أكبر! هل في العالم مثل ذلك؟!
مهما تشدق المتشدقون، ومهما تكلم المتكلمون، ومهما حاولوا التجميل والتزيّن، تبقى الحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهو أن الطبقية ما زالت متفشية في كل أركان الأرض تقريبًا، مهما سُنت القوانين المانعة لذلك في أمريكا، وفي فرنسا، وفي إنجلترا، وفي روسيا، وفي ألمانيا، وفي كل مكان، الأبيض أبيض، والأسود أسود، الغني غني، والفقير فقير، العنصر والجنس والطائفة علامات مميزة لا مهرب منها.

أما الأمة الإسلامية، فهي خليط عجيب من شتى أجناس وعناصر الأرض، إنها الأمة الوحيدة التي تجتمع على عقيدة، وهذا من أهم أسباب نصرها.
ويوم تستبدل الأمة الإسلامية هذه العقيدة السليمة الرابطة بينها بقومية معينة، أو عنصرية خاصة - تسقط الأمة الإسلامية لا محالة.
لقد فتحت الدولة الإسلامية (فارس)، فما مرت شهور قلائل، أو سنوات على الأكثر، إلا وأصبح الفرس من المسلمين، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، ذابوا ذوبانًا طبيعيًّا تمامًا في المجتمع المسلم، وما شعروا بأي غربة عن المسلمين من الأصول العربية، وخرج منهم البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم، وغيرهم، هذه هي عظمة الإسلام التي أكد عليها الرسول الكريم في خُطَبِه في حجة الوداع.

ولقد أفك قوم قصروا هذه الوحدة على العرب، دون غيرهم من منطلق القومية العربية، أو على الأتراك، دون غيرهم من منطلق القومية التركية، أو على البربر، دون غيرهم من منطلق القومية البربرية، أو على أي عنصر، أو قبيلة، أو دولة، لقد سمَّى رسول الله ذلك جاهلية، فقال فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجاهلية (أي فخرها وتكبرها) وَفَخْرَهَا بِالآبَاِء، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ".

وها هو ذا في خطبته ينهى عن الجاهلية تمامًا بكل صورها: "أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ".
ألا ما أجمل الإسلام!!



الوصية الثالثة: العدل.
وآهِ لو ظَلَمَتْ دولة ممكَّنة في الأرض! سلطانها ظاهر، وكلمتها مسموعة، إن دوائر الظلم تتسع في هذه الحالة حتى تشمل أحيانًا الأرض بكاملها.
الظلم كارثة إنسانية، الظلم ظلمات يوم القيامة، الظلم مهلك للأمم في الدنيا مهما كانت قوية، قال الله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} [الأنبياء: 11].
لقد كانت نصيحة رسول الله r لأمته بالعدل واضحة تمامَ الوضوح: "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلَقْوَنْ رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا".

ينهى الرسول أمته عن التساهل في الدماء، وعن التساهل في الأموال والممتلكات، إن سفك الدماء حرام، وإن نهب الأموال بأي صورة من الصور حرام، هو حرام مهما تفننت الدولة في تجميله أو تسميته بغير اسمه، سيظل الظلم ظلمًا، وسيبقى الحرام حرامًا، وصدق ابن تيمية رحمه الله حين قال: "الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" (مقدمة كتاب الحسبة).

وقد حرص رسول الله r في هذه الخطب على ترسيخ معنى العدل في كل دوائر الحياة الإسلامية والمجتمع المسلم، فليس العدل في إطار التعاملات الدولية، أو في إطار الحدود والحرب، والقضايا الضخمة فقط، إنما العدل في كل الأطر حتى في إطار الأسرة الصغيرة، ومع أقرب الأقربين لك، لا يجوز لك أن تظلمه، ومن هنا جاءت الوصية العظيمة بالنساء، فالقوي المُمَكَّن قد يَغترّ بقوته فيظلم الضعفاء، فينقلب الرجل على زوجته، أو ابنته، أو أخته، فيظلمها في معاملة، أو في ميراث، أو إنفاق، أو في غير ذلك من أمور.
كما أن الوصية كذلك للنساء، لا تظلموا أزواجكم بمنع حقهم، فالله مطلع ومراقب، ويحصي أعمالكما معًا.


ويوم يسعى كل طرف إلى الحفاظ على حق الطرف الآخر، يوم تسعد الأسرة فعلاً، ليس في الدنيا فقط، ولكن في الآخرة أيضًا.



الوصية الرابعة: التحذير من الذنوب.
يحذر الرسول r أمته من أمر مهلك آخر شديد الخطورة، وهو الذنوب، ويذكر لهم r أن الشيطان قد يئس من أن يعبده الناس، ولكنه مع ذلك لم ييأس من إضلالهم، وسيكون ذلك عن طريق الذنوب، بل عن طريق الذنوب الصغيرة التي يحتقرها عامة الناس لصغرها في نظرهم.
"إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ إِنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ، فَقَدْ رَضِيَ بِهِ مِمَّا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ".
والحرب بين الإنسان والشيطان أبدية، فقد وعد الله U الشيطان بالانتظار إلى يوم القيامة، ونبه الإنسان بوضوح: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].

والشيطان ما نسي مهمته قَطُّ، ومهمته باختصار هي إغواء أولاد آدم u، وقيادتهم إلى جهنم، وبئس المهاد، وهو يتتبع في ذلك طرقًا شتى، وأساليب مختلفة، حتى لو كانت دفع الإنسان إلى ذنب صغير، فهذه خطوة ستتبع بعد ذلك بخطوات؛ لذلك يقول الله U: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168].
والذنوب التي يدفعنا الشيطان إليها مهلكة، وما أكثر ما ذكر ربنا ذلك في كتابه، فقال تعالى: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام: 6].
وقال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورى: 30].
وقال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
وقال U: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
وقال سبحانه: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59].
وقال تعالى: {فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11].

وهو كثير في القرآن، ويصعب إحصاؤه، وهو كذلك كثير في السنة النبوية، بل يشير r تصريحًا أن الذنوب التي يستحقرها الإنسان لصغرها في نظره، قد تكون مهلكة له، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود t، أن رسول الله r قال: "إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ".

وهكذا جاءت هذه الوصية الخالدة، لتحذر المسلم من عدوه الأكبر، الشيطان، ومن الذنوب جميعًا كبيرها وصغيرها، عظيمها وحقيرها، ولا تنظر أبدًا إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عِظَم من عصيت.




الوصية الخامسة: الاقتصاد الحلال.
فمن كل الذنوب التي من الممكن أن ترتكب، يختار r ذنبًا خطيرًا على الأفراد، وخطيرًا على الأمم ليحذر منه، وهو ذنب الربا، قال r: "وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ".
وفي رواية: "قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبَا".
والدولة التي يقوم اقتصادها على الربا، هي دولة في حرب مع الله ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278، 279].

وليس لأحد بحرب الله U طاقةٌ، فالله U يسلط من يشاء من جنوده على من يشاء من عباده، ولا يدري العبد من أين تأتيه الكارثة؛ فقد تكون زلزالاً، وقد تكون جرادًا، وقد تكون أنفلونزا للطيور، وقد تكون غرقًا لسفينة، وقد تكون حرقًا لقطار، وقد تكون هبوطًا للعملة، وقد تكون اختلاسًا للمليارات، وقد تكون فشلاً لمشروع زراعي، وقد تكون عدوًّا من الكافرين، فقد يسلط الله U الكفار على المسلمين إذا عملوا بمعاصي الله، وقد سلط الله المجوس على اليهود وهم أهل الكتاب لما أفسدوا في الأرض، فليس لأحد بحرب الله طاقة، وأهل الربا في حرب مع الله ورسوله.




الوصية السادسة: مُهمَّة هذه الأمة البلاغ.
حرص r في هذه الخطبة على توضيح مهمته هو شخصيًّا، وتوضيح مهمة أمته بعد ذلك، مهمة الرسول هي البلاغ، ليست مهمته هداية الناس، فالهداية بيد الله U، ولكن مهمته أن يصل بدعوته إلى الناس، قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]. وقال U: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

لذلك حرص الرسول r أن يقول أكثر من مرة في هذه الحجة العظيمة: "أَلا قَدْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ".
ثم إنه علَّم المسلمين مهمتهم، وذكّرهم بها: "فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ".

إنه الخير الذي لا ينقطع، كل من وصلت إليه معلومة فليحملها إلى غيره، وهكذا دوائر الخير متصلة؛ حتى تعلم الأرض بكاملها حلاوة الدين، وعظمة الإسلام، إنها الوسيلة السَّلِسة البسيطة لنشر الدعوة، وتعليم الناس الدين، ليس هناك داعية بعينه يوكل إليه ذلك الأمر، بل موكَّل إلى كل المسلمين، فكل المسلمين دعاة إلى الله: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً".
"فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ".
أيًّا كان علم هذا الشاهد أو فقهه، فليحمل علمه إلى غيره.

فَقِهَ ذلك الصحابةُ y فطاروا بعلمهم إلى الآفاق، إنها مهمة وواجب، وليست تفضلاً أو منّةً، يقول رِبْعِي بن عامر t: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

ماذا كان سيحدث لو وقفت الدعوة عند الصِّديق، أو وقفت عند عمر، أو وقفت عند الصحابة جميعًا؟
ماذا كان سيحدث لو لم يسعَ خالد والقعقاع وعمرو بن العاص والنعمان بن مقرن وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير ومحمد بن القاسم وغيرهم إلى تبليغ أهل الأرض رسالة ربِّهم؟
ألن تكون النتيجة هي بقاء من يعبد النار على عبادته، وبقاء من يعبد الحجر والشجر والنجم على هذا الضلال؟
ألن تكون النتيجة هي بقاء القهر والظلم والإباحية والجهل والفساد؟
إن الذين فقهوا مهمتهم في الأرض هم الذين تحركوا، وعلى أيديهم تحقق الخير للأرض بكاملها، ووصل الدين إلينا، فجزاهم الله خيرًا.
لكن ألم يسأل واحد منا نفسه: ماذا فعلتُ أنا فيما وصل إليَّ من علم ودين وفقه؟
إن ما تعرفه من آيات، وأحكام، وتظنه بسيطًا، هو بالنسبة لآخرين كنزٌ من الكنوز لا يحلم به، ولا يتخيله.
من الناس من لا يتقن وضوءًا ولا صلاة.
من الناس من لا يذكر الله U إلا قليلاً.
من الناس من لا يحسن قراءة القرآن.
من الناس من لا يبر والديه.
من الناس من لا يصل رحمه.
بل من الناس من لا يعرف الإسلام أصلاً.
هل تظن أن الملايين في الأرض الذين يكرهون الإسلام ويحاربونه يعرفونه؟
أم أن كل قضيتهم أنهم سمعوا عن الإسلام من وسائل إعلام مُغرضة، ومن نفسيات منحرفة، ومن مزورين محترفين، ولم يسمعوه من مسلم محبٍّ لدينه، فاهمٍ لمهمته، حريص عليها؟

- في العالم أكثر من مليار مُلحد ينكر وجود الإله أصلاً.
- في العالم أكثر من مليار يعبدون البقر من دون الله.
- في العالم أكثر من مليار يعبدون البشر من دون الله.
- في العالم أكثر من مليار يعبدون الحجر والشجر والنجوم والكواكب.

ألا ليت شعري أين المسلمون؟
"فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ".
ألم يكن البخاري أوعى من مبلغه؟ لكن ما كان للبخاري أن يعي لولا أن بلغه أشياخه الذين قد لا يعرفهم عامة المسلمين.
البلاغ، البلاغ! مهمة المسلمين في الأرض أفرادًا وشعوبًا، وحكامًا ومحكومين، وعلماء ومتعلمين، كل يبلغ بحسب طاقته وعلمه، وكل مُيَسّر لما خُلِق له.



الوصية السابعة: تأصيل مبدأ التيسير في الدين.
فعلى الرغم من أنه قام r بالمناسك بترتيب معين، وعلى الرغم من تكراره لكلمة "خذوا عني مناسككم"، إلا أنه أقر بمبدأ التيسير في الدين، فقال لكل من سأله في يوم النحر: "افْعَلْ وَلا حَرَجَ، افْعَلْ وَلا حَرَجَ".
وليت المسلمين يفقهون طبيعة هذا الدين، إن طبيعته الحقيقية هي اليسر، روى النسائي في سننه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله r: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ".
وليس هناك أعبد من رسول الله r، ولا أحرص منه على قواعد الشريعة، ولا أرغب منه في العبادة، ولكنه الفقه العميق الذي يجمع ولا يفرق، والذي ييسر ولا يعسر، كل قواعد الدين يسر، وكلها في استطاعة العوام من الناس، ولم يأتِ الدين -كما يعتقد بعض الجهال- لخواص الخواص، بل جاء لعموم البشر، جاء لقويهم وضعيفهم، وجاء للبلغاء والخطباء، كما جاء للعوام البسطاء، وجاء لأبي بكر، وعمر، كما جاء لنا ولمن هو دوننا.
والذي يخرج بالدين الإسلامي عن هذه الطبيعة ينفر الناس، وهو يحسب أنه يرشدهم، ويقصيهم عن طريق الله وهو يظن أنه يدعوهم إليه، وليس هناك منهج في الدعوة أعدل من منهج رسول الله r.




الوصية الثامنة: السمع والطاعة لأمير المسلمين.
"اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".
هذه وصية فذة من رسول الله r، وهي وصية عجيبة بالنسبة للمجتمع العربي آنذاك، بل هي وصية عجيبة حتى بمجتمعنا الآن، وليس العجيب في الوصية هو السمع والطاعة، فكل المجتمعات على اختلاف توجهاتها، وقوانينها وتشريعاتها تؤمن بأن العمل الجماعي لا بد له من قائد، وأن القائد لا قيمه لتوجيهاته أو أوامره إلا إذا كان هناك طاعة، كل الناس يؤمن بذلك، لكن ليس كل الناس يقبل بإمارة العبيد، أو بإمارة الفقراء، أو بإمارة من لا نسب أصيل له، هذا القبول يحتاج إلى نفس خاصة، وإلى تربية معينة، والرسول r أكَّد هذا المعنى كثيرًا في حياته، فهو أولاً زَهّد الناس في الإمارة حتى جعلها تكليفًا لا تشريفًا، ومسئولية لا عطية، حتى أصبح عموم الأمة يخشى من الإمارة، ولا يقبلها إلا مضطرًّا، وقبل ذلك كان r قد زَهّد الناس في الدنيا بكاملها، ومن ثَمَّ ليس هناك معنى لتحمل مسئولية ضخمة لتحصيل جزء من دنيا لا قيمة لها، ثم إنه r ساوى بين المسلمين، فلم يعُدْ هناك تفاضل بينهم بعنصر، أو عرق، أو نسب، أو مال، إنما صار التفاضل بالتقوى، وقد يكون العبد الذي يُباع ويُشترى أتقى من الحُرِّ الذي يشتري العبيد.
كانت هذه تربية صعبة ودءوبة، جاهد فيها رسول الله r كثيرًا، ولا نقول أنها وجدت قبولاً عند العموم بسهولة، بل استلزم الأمر تدريبات كثيرة، ومحاورات، ومجادلات متعددة، ولقد طعن الناس في إمارة زيد بن حارثة t، والذي كان عبدًا يُباع ويشترى، ولكن الرسول r أصر على توليته عدة مرات على سرايا حربية مُهمة، كان أهمها وأعظمها السرية الأخيرة في حياته، وهي سرية مؤتة، حيث لقي ربه شهيدًا بعد كفاح مشرف، وكان قد ولاه قبل ذلك إمارة المدينة في إحدى غزواته r، كل ذلك ليمهد المسلمين نفسيًّا إلى قبول ولاية أي مسلم ما دام يقيم فيهم حكم الله، وهذه حكمة نبوية راقية، وتشريع إسلامي محكم، فلا شك أن الأمة قد تقاد في يوم من الأيام بإنسان ذي نسب بسيط، أو عائلة ضعيفة، أو قبيلة فقيرة، فماذا يحدث في هذا الحالة؟
لو خرج عليه المسلمون ستكون فتنة في الأرض وفساد كبير، فلا بد من طاعته حتى تستقيم حياة الناس، وحياة الأمة، لكن الرسول r حدد شرطًا أساسيًّا لهذه الطاعة، وهذا الشرط يوضح لنا غاية الحكم في الإسلام ووسيلته، فقد علق r الطاعة للأمير على قيامه بأمر الله في المسلمين، قال: "مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".
فالأمة الإسلامية مهمتها تعبيد الناس لرب العالمين، أو على الأقل دعوتهم إلى عبادة رب العالمين، ولا يكون ذلك إلا بمنهج صحيح غير محرف، ومهمة الحاكم الأولى هي أن يُحَكِّم شرع الله U فيمن يَحْكُم.
قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
والأحكام المتعارضة مع شرع الله أحكام جاهلية، يجب ألا تتبع، ولا سمع فيها، ولا طاعة، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
والرسول r عاهد الأنصار في بيعة العقبة الأولى على أن لا يعصونه في معروف، وذلك كما روى البخاري عن عبادة بن الصامت t.
ومقطوعٌ به أن الرسول r لا يأمر إلا بمعروف، ولكنه ذكر هذه القاعدة، وهذا الشرط ليكون حكمًا يسري بعد ذلك على كل الحكام والمحكومين، ويقول r فيما رواه مسلم عن علي رضي الله عنه: "لا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ".
ويخطب الصديق t أول تسلُّمه للحكم فيقول: أطيعوني ما أقمت فيكم كتاب الله، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم.
كل هذه الآيات، والأحاديث تثبت شيئًا واحدًا مهمًّا، بل في غاية الأهمية، وهو أنه ليس المهم من هو الذي يحكم، ولكن المهم أن يحكم بكتاب الله U، وبسنة نبيه r.




الوصية التاسعة: الشرع يطبق على الحاكم كما يطبق على المحكومين.
لقد ضرب الرسول r في خطبته التي ألقاها في حجة الوداع أروع الأمثلة في الشفافية في تطبيق القوانين، لقد علمنا أن الحاكم واحد من الشعب، لا فضل له عليه، والكل أمام القانون يتساوى، وليس هناك ما يسمى بالحصانة ضد القانون، أو عدم القدرة على المساءلة.
إن التفرقة بين الحاكم والمحكومين في القانون، لهي من أهم أسباب انهيار الأمم، فهذا -ولا شك- يورث الضغينة في قلوب الناس، ويفقدون بالتالي مصداقية القانون، فيشعرون أن هذه تمثيلية مقيتة تعرض على الشعب، يلعب فيها أقوام دور المعاقَب دومًا، وينجو فيها فريق آخر من العقاب دومًا. ولا شك أن ذلك يهز قيمة القانون، ويضعف تمامًا من سلطانه، وهذا يؤدي إلى هلاك الأمة، واذكروا كلمه الرسول r الحكيمة -وكل كلامه حكيم- التي قالها يوم فتح مكة، ويوم قطع يد المخزومية الشريفة التي سرقت، قال r فيما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهُمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهُمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ".

ورأينا رسول الله r يطبق القانون في حجة الوداع أول ما يطبق على نفسه، وعلى أقاربه ورحمه وقبيلته، قال r: "وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ".
وترك الثأر الذي حدث في الجاهلية أصبح أمرًا واجبًا لازمًا للمسلمين.
ثم قال: "وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا، دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ".
ابن عم رسول الله r، وكان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هذيل.
فهذا قتيل لبني عبد المطلب يتنازل رسول الله r عن دمه، والجميع يعلم أهمية الثأر في تلك البيئة العربية القبلية، لكن تطبيق القانون على النفس أولاً يشجع الجميع على تطبيقه، والتفاني في عدم مخالفته.
ثم قال r: "وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ".
هل في العالم مثل ذلك العدل؟!
إن قانون الربا كان ساريًا أيام الجاهلية، وكان ساريًا فترة من الزمان في أول الإسلام، وتعامل به العباس t وتعامل به الناس -عن رضا- مع العباس، وهو يمثل ثروة طائلة للعباس، ولقبيلة بني هاشم، ومع ذلك فقد نزل القانون الذي يجرم الربا، ويمنع السابق منه واللاحق، فليطبق القانون بدقة، وليكن أول تطبيقه على عم الرسول العباس t، لتترسخ القاعدة في أذهان الناس، لا فضل لحاكم على محكوم، ولا لغني على فقير، الكل سواسية -حقيقة لا مجازًا، وواقعًا لا خيالاً- أمام القانون.
هذا هو الإٍسلام، يحكم حياة الناس في الأرض بقوانين السماء، فهل هناك ما هو أعدل من ذلك؟!




الوصية العاشرة: دوام النظر إلى الآخرة، ومراقبة الله في كل الأعمال.
إن مهمة الدولة الإسلامية ليست توفير سبل المعاش للسكان، ومحاولة قضاء حوائجهم، وإطعامهم وإسكانهم وتعليمهم وعلاجهم وترفيههم فقط، وإن كانت هذه الأمور في منتهى الأهمية؛ وإنما مهمتها قبل كل ذلك الحرص كل الحرص على آخرة الشعب، ومصيره يوم القيامة. نَعَمْ، كل نفس بما كسبت رهينة، لكن مهمة الدولة الإسلامية أن توفر لشعبها الظروف الملائمة، والأوضاع المناسبة التي تقودها إلى عمل صالح، وإلى جنة واسعة، يقول رسول الله r للمسلمين في حجة الوداع: "وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلَكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، وَقَدْ بَلَّغْتُ".

الدولة العلمانية لا تنظر مطلقًا إلى هذه النقطة، فليذهب الشعب إلى الجحيم إن أراد ذلك، المهم أن يستقيم في الدنيا، والدولة الإسلامية لا تنظر للشعب هذه النظرة الآنية السطحية التافهة، إن من وظيفتها الأولى أن تسعى سعيًا حثيثًا لهداية الناس إلى رب العالمين؛ فإذا كان من أدوارها أن تدعو غير المسلمين إلى الإسلام، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة، أفلا يكون ذلك من أدوارها تجاه شعبها؟!
إن هذا الدور كان من أَجَلّ وأهم أدوار الرسول r بصفته مسئولاً عن شعبه المسلم، يقول r فيما رواه الرَّامَهُرْمُزِي في الأمثال، وذكره الألباني في الصحيحة: "إِنِّي مُمْسِكٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وتَقَاحِمُونَ فِيهَا تَقَاحُمَ الْفَرَاشِ وَالْجَنَادِبِ، وَيُوشِكُ أَنْ أُرِسَلَ حُجَزَكُمْ، وَأَنَا فَرَطٌ لَكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَتَرِدُونَ عَلَيَّ مَعًا وَأَشْتَاتًا، فَأَعْرِفُكُمْ بِأَسْمَائِكُمْ وَبِسِيمَاكُمْ كَمَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ الْغَرِيبَ مِنَ الإِبِلِ فِي إِبِلِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، وَأُنَاشِدُ فِيكُمْ رَبَّ الْعَالَمِينَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي. فيقال: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ الْقَهْقَرَى بَعْدَكَ. فَلا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولَ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ. ولا أَعْرِفَنَّ أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدٌ. فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ".
بل كان يحزن r إذا مات يهودي أو نصراني دون أن يسلم؛ لأنه يعلم أن عواقب ذلك في الآخرة وخيمة، روى البخاري عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة، فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض. أي من أهل الذمة، فقال: إن النبي r مرت به جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي.

قال: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!"
وكم نرى في زماننا من الحكام والدول من لا يذكر الله أبدًا في كلامه، ولا يُذكّر الناس بيوم القيامة، ولا بحسابهم أمام الله، وكأن هذه تقاليد بالية، لا يتكلم عنها إلا بعض المشايخ في المساجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت هذه هي الوصية العاشرة من وصايا حجة الوداع العظيمة، فتلك عشرة كاملة.
وأنا على يقين أن من تدبر فيها بعمق فسيُخرج وصايا أخرى كثيرة، فالخير لا ينقطع في كلامه r، والمجال مفتوح للجميع للدراسة والتنقيب والتحليل، ونسأل الله الهداية والتوفيق.
كانت هذه هي حجة الوداع بدروسها العميقة، وآثارها الجليلة، وقيمتها الهائلة في الميزان الإسلامي، وأوصى فيها الرسول العظيم r أمته، وودعها وداعًا أخيرًا، وسعد بها، وسعدت به، واكتمل فيها الدين، وتمت فيها النعمة، وكانت كالجائزة للحبيب المصطفى بعد عناء السنين.







منقول للفائده
كتبت : ياحبي لي
-
كتبت : yearn
-
مشكوره على مرورج الكريم عزيزتي
كتبت : زهره الاسلام
-
[align=center]بارك الله فيكِ وجزاكِ الله خيرا
موضوع رائع
[/align]
كتبت : دفاعمري
-
جزاك الله خير
كتبت : زرقاءاليمامه
-
بارك الله فيك يا غاليه
موضوع جدا راااائع
تمنياتي لك بمزيد من التميز والتوفيق
الصفحات 1 2 

التالي
السابق