منذ وقت ليس ببعيد كنا نعتقد أن مستقبل الطفل وكل شيء في جسمه وشخصيته يتحدد قبل بلوغه الستة أعوام. لكن اليوم يعلن بعض الاختصاصيين أن ذلك كله قد يتحدد قبل ولادته بوقت طويل، منذ فترة الحمل. إذاً ماذا يحصل مع الجنين؟ ما الذي يعرفه؟ ما هي الأشياء التي يتعلمها وكيف؟ ما الذي يحفظه في ذاكرته وكيف؟
للإجابة عن هذه التساؤلات كلها، انهمك الباحثون في مجال علم نفس الطفل قبل الولادة وعلم نفس الأولاد وغيرهم من باحثين في عالم الطفل في اكتشاف أسرار الحياة داخل الرحم مذ انتشرت الأحاديث عن مهارات الجنين المذهلة.
اليوم، لم نعد نعتبر الولادة بداية الحياة، بل انتقال كائن حي من مرحلة إلى أخرى ذلك أنّ الجنين قادر منذ وقت مبكر جداً على اللمس، الإصغاء، الشعور، التذوق، التعلم، التذكر... وفي ما يلي لمحة يقدمها اختصاصيون فرنسيون للإجابة عن التساؤلات كافة التي تدور في ذهنكم. الجنين والحب
يستند شعور الجنين بالأمان العاطفي إلى ركائز حسية ونفسية يشعر بها وهو في رحم أمه. ويستطيع الطفل الرضيع أن يتعرف إلى أشياء اختبرها وهو في بطن أمه كالضجيج المحيط به، ذوقه في ما يتعلق بتناول الطعام ورائحة أمه. ويصر الاختصاصيون أيضاً على أن قبول واقع الأمومة أو الأبوة القريبة بفرح، اهتمام كلا الوالدين بالحمل، حبهما المتبادل وحبهما غير المشروط للطفل الذي سيولد تمثل جميعها أسس حياة سعيدة. ومنذ سنوات عدة، يؤكد علم الطفل ما قبل الولادة أن الجنين، منذ لحظة تكونه داخل رحم أمه، يختبر حاجة ماسة: أن يكون محبوباً.
اللمس تعبير عن الحب
كيف تستطيع المرأة الحامل أن تظهر لطفلها أنها تحبه؟
أولاً من خلال لمسه؛ حاسة اللمس هي الأولى في الظهور لدى الجنين. منذ بلوغه الشهر الثاني، تظهر حاسة اللمس الجلدي على امتداد عموده الفقري، مؤخرته وعنقه. يتعلق الأمر بمناطق حسية مهمة تسمح للطفل بتلقي المعلومات. تمثل تقلصات الرحم خلال فترة الحمل واحتكاك الجنين الخفيف بالمشيمة أحاسيسه الأولى. وإلى أن يتمكن من اكتشاف الأحاسيس بمفرده، من خلال بشرة أصابعه، وشفتيه وجسمه كله بعمر السبعة أسابيع من الحمل يظهر الجنين استجابته للأشياء التي يلمسها من حوله.
عندما يصبح قادراً على اكتشاف المحيط الذي يعيش فيه، يستخدم الجنين حاسة اللمس من خلال مص إبهامه (16 أسبوعاً) ويشعر بملامسة حبل السرة لباطن قدمه. لمواكبة هذا التعلم الحسي، يستطيع الثنائي (الأم والأب) ملامسة بطن الأم بخفة وتدليكه، وبهذه الطريقة تقام علاقة لمس عاطفية ثلاثية تسمح للثلاثة بالتواصل سوياً. يمثل وجود الوالدين وحبهما للطفل الذي يعبران عنه من خلال حاسة اللمس دائرة الأمان العاطفي بالنسبة إلى الصغير وأساس ثقته بنفسه وبالحياة.
الأم بصحة جيدة... الجنين هو الفائز
تؤدي المشيمة دوراً أساسياً في التبادل بين الأم والطفل. وقد تبين من خلال الأبحاث الطبية التي أجريت في تسعينات القرن الماضي أن الهرمونات التي تفرزها الأم تمر من خلال الحاجز المشيمي إلى جسم الجنين: هرمونات الضغط النفسي، هرمونات السعادة، هرمونات المتعة... كذلك، نعرف أنه قبل الولادة ببضع ساعات، لا يساهم هرمون الأوسيتوسين Ocytocine الذي يفرزه جسم الأم في تحفيز تقلصات الرحم وإدرار الحليب فحسب، بل يؤدي دوراً أساسياً باعتباره مادة تخدر خلايا الجنين العصبية. بذلك يُحمى دماغ الطفل من ألم الأم أثناء الولادة، ألم لا يستطيع تحمله من دون أن يلحق به أي ضرر،
إذا كان يفتقر إلى الأوكسيجين. انطلاقاً من هذه المعلومات، لاحظ بعض الأطباء أن هرمونات الاندورفين التي تفرزها الأم خلال فترة الحمل تشعر الجنين بمتعة وسعادة أكيدة. لذا ينصح الأطباء الحامل بأن تكون سعيدة وتستمتع بحياتها، بذلك يشعر الطفل داخل رحمها بالسعادة أيضاً.
الأم تعيش... الطفل يحفظ
يشير الباحثون إلى أن الجنين يشعر بالأحاسيس المختلفة ويحفظها منذ أولى لحظات حياته داخل الرحم. وسترافقه ذكرى هذه الأحداث التي مرت به على امتداد حياته كشخص بالغ. في هذا الإطار، تمكن علم نفس الأطفال ما قبل الولادة من أن يثبت قدرة الجنين على التفكير بعمر الستة أشهر على رغم أن دماغه ليس منظماً جداً. وتمكن الباحثون عبر التصوير بالرنين المغنطيسي من رؤية ردود فعل الجنين الواضحة على مشاعر أمه: مثلاً شعورها عند معرفتها أنها سترزق بفتاة في حين أنها كانت تتمنى صبياً، شعورها عند معرفتها بوفاة أحدهم... يدرك الجنين ما تشعر به أمه ويتفاعل معه، ويحفظ في ذاكرته وتفكيره العواطف الإيجابية والسلبية ويدرك مشاعر الراحة والسعادة، حتى أنه يدرك أحياناً مشاعر الحزن والألم...
الأم تحب الطفل... هو يحب نفسه
من الضروري جداً أن تنشأ علاقة عاطفية بين الأم والجنين، فقد أثبت عدد كبير من الباحثين فائدة الحب وقدراته العلاجية. الحب محور حاجات الكائن الحي منذ لحظة الحمل به. يتعلق الأمر في هذه الحال بطاقة ترسي أسس التوازن النفسي والعاطفي والجسدي لدى الطفل الذي سيولد. وأثبت العلم أن التعبير عن هذا الحب من خلال التبادل البيولوجي أو الجسدي أو الصوتي بين الأم والطفل ينشئ رابطاً عاطفياً خلال فترة الحمل يحكم نمو دماغ الطفل المتجانس، من ناحية تركيبته أو تكوينه وهندسته والعلاقة بين خلاياه العصبية.
الأم تعاني... الجنين يتأثر
نعرف أيضاً أن الأم التي تعاني، تشعر بالغضب أو بالضغط النفسي تنقل حالتها النفسية إلى الجنين. ويرى الباحثون أن قدرة الأم على مواساة طفلها جسدياً ومن خلال التحدث معه، قولها له إنها تحبه وإثباتها ذلك، عوامل ستساعده في اكتساب القدرة على تخطي المصاعب. يكتسب الطفل بهذه الطريقة نوعاً من المناعة والمرونة: قدرة على النهوض والكفاح مجدداً بعد تلقي الضربات القاسية. إلى أن يبلغ الجنين الشهر الثامن، يشكل مع الأم كياناً نفسياً واحداً. يشعر بكل ما تشعر به الأم، لكن حتى الآن لا شيء يسمح لنا بأن نعرف ما هو بالنسبة إلى الطفل الشعور بالخوف أو بالهم والكآبة، كيفية عيشه الشعور بالحزن أو القلق وتعامله معهما. بالنظر إلى ذلك كله، يصف الباحثون حب الأم بأنه {درع حماية} يعفي الطفل من التأثيرات المستمرة على المدى الطويل للضغط النفسي.
