السيرة النبوية العطرة من الميلاد الى الوفاة عليه افضل صلاة والسلام

مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]




غزوة تبوك ( في رجب سنة 9 هـ (






إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل ، لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد(صلى الله عليه وسلم) عند العرب ، ولذلك انقلب المجرى تماماً ، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً ـ كما سيظهر ذلك مما نقدمه في فصل الوفود ، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ وانتهت المتاعب الداخلية ، واستراح المسلمون لتعليم شرائع الله ، وبث دعوة الإسلام ‏.‏



سبب الغزوة



إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر ، وهي قوة الرومان ـ أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ـ الحارث بن عمير الأزدي ـ على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي(صلى الله عليه وسلم) إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي(صلى الله عليه وسلم) أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة ، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين ، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب ، قريبهم وبعيدهم ‏.‏
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين ، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر ، ومواطأتهم للمسلمين ، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة ، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب ، فكان يرى أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها ، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان ‏.‏
ونظراً إلى هذه المصالح ، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم ، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة‏ .‏


الأخبار العامة عن استعداد الرومانوغسان



وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان ، للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين ، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين ، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان ، ‏ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب ، فقد كان النبي(صلى الله عليه وسلم) آلى من نسائه شهراً في هذه السنة ( 9هـ ) وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته ، فظنوا أن النبي(صلى الله عليه وسلم) طلقهن ، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق‏ ،‏ يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة ‏:‏ وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر ، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالي المدينة ، يتناوبان إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا ، فقد امتلأت صدورنا منه ، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب ، فقال ‏:‏ افتح ، افتح ، فقلت ‏:‏ جاء الغساني ‏؟‏ فقال ‏:‏ بل أشد من ذلك ، اعتزل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أزواجه ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث ‏.‏
وفي لفظ آخر ( أنه قال )‏ :‏ وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا ، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ ، فرجع عشاء ، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال ‏:‏ أنائم هو ‏؟‏ ففزعت ، فخرجت إليه ، وقال‏ :‏ حدث أمر عظيم ‏.‏ فقلت‏ :‏ ما هو ‏؟‏ أجاءت غسان ‏؟‏ قال‏ :‏ لا بل أعظم منه وأطول ، طلق رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) نساءه ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏ .‏
وهذا يدل على خطورة الموقف ، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان ، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان ، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في كل الميادين ، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض ، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم ، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله ‏.‏ ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر ، في صورة مسجد ، وهو مسجد الضِّرَار ، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله ، وعرضوا على رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أن يصلي فيه ، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا ما يؤتى به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم ، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه ، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج ، ولكن رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أخر الصلاة فيه ـ إلى قفوله من الغزوة ـ لشغله بالجهاز ، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه ، حتى قام الرسول(صلى الله عليه وسلم) بهدم المسجد بعد القفول من الغزو ، بدل أن يصلي فيه ‏.

الأخبار الخاصة عن استعداد الرومان وغسان


كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون ، إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرماً قوامه أربعون ألف مقاتل ، وأعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم ، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب ، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء ، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير ‏.‏

زيادة خطورةالموقف


والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد ، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر ، وكانت الثمار قد طابت ، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه ، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة ، والطريق وعرة صعبة ‏.‏
الرسول(صلى الله عليه وسلم)يقرر القيام بإقدامحاسم


ولكن الرسول(صلى الله عليه وسلم) كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله ، إنه كان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة ، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه ، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية ، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخرى ، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين ، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف ، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام ، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر الإسلام ، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ‏،‏ تذهب هذه المكاسب بغير جدوى ‏.‏
كان رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يعرف كل ذلك جيداً ، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم ، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام‏ .
الإعلان بالتهيؤ لقتال الروم


ولما قرر الرسول(صلى الله عليه وسلم) الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال ، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم ،‏ وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها ، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان ، وجلى للناس أمرهم ، ليتأهبوا أهبة كاملة ، وحضهم على الجهاد ، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد ، وتحثهم على القتال ، ورغبهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في بذل الصدقات ، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه‏ .
المسلمون يتسابقون إلى التجهزللعدو


ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله ، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة ، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية ، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، ليخرجوا إلى قتال الروم ، فإذا قال لهم ‏:‏ ‏" لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ‏ "‏ ‏[ ‏التوبة ‏: ‏92 ‏] ‏‏.‏
كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات ، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام ، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية ، فتصدق بها ، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره(صلى الله عليه وسلم) ، فكان رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يقلبها ويقول‏ :‏ ‏(‏ ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم ‏)‏ ،
الراوي: عبد الرحمن بن سمرة المحدث: محمد المناوي - المصدر: تخريج أحاديث المصابيح - الصفحة أو الرقم: 5/283
خلاصة حكم المحدث: رجاله موثقون

ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود‏ .‏
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة ، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته ‏.‏ وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء العباس بمال كثير ، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة ، كلهم جاءوا بمال‏ .‏ وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر ، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها ، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها ‏.‏ وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم ‏.‏
ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون " ‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏ "‏‏[ ‏التوبة ‏:‏ 79 ‏] ‏‏.‏

الجيش الإسلامي إلى تبوك


وهكذا تجهز الجيش ، فاستعمل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل‏ :‏ سِبَاع بن عُرْفُطَةَ ، وخلف على أهله علي بن أبي طالب ، وأمره بالإقامة فيهم ، وغَمَصَ عليه المنافقون ، فخرج فلحق برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فرده إلى المدينة وقال ‏:‏ " ‏ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي‏ "‏‏.‏
الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4416
خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
وتحرك رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك ، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل ، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً ، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب ، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً ، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم ، واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء ، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ‏ .‏
ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، أي وادي القُرَى ـ فاستقى الناس من بئرها ، فلما راحوا قال رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ " ‏لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئاً ‏" ‏، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله .‏
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ لما مر النبي(صلى الله عليه وسلم) بالحجر قال‏ :‏ "‏ لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين‏ "، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي ‏.‏
واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه ، فدعا اللّه ، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجاتهم من الماء ‏.‏
ولما قرب من تبوك قال ‏:‏ " ‏إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَى النهار ، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي "‏، قال معاذ ‏:‏ فجئنا وقد سبق إليها رجلان ، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها ، فسألهما رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏هل مسستما من مائها شيئاً‏ ؟ ‏‏)‏ قالا‏ :‏ نعم ‏.‏ وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول ‏.‏ ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) فيه وجهه ويده ، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير ، فاستقى الناس ، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ " ‏يوشك يا معاذ ، إن طالت بك حياة أن ترى هاهنا قد ملئ جناناً‏ "‏‏.‏
وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ " ‏تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه "‏، فهبت ريح شديدة ، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء ‏.‏
وكان دأب رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما ‏.

الجيش الإسلامي بتبوك


نزل الجيش الإسلامي بتبوك ، فعسكر هناك ، وهو مستعد للقاء العدو ، وقام رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) فيهم خطيباً ، فخطب خطبة بليغة ، أتى بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة ، وحذر وأنذر ، وبشر وأبشر ، حتى رفع معنوياتهم ، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة ‏.‏ وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أخذهم الرعب ، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء ، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم ، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية ، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية ، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة ، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين ‏.‏
جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ ، فصالح الرسول(صلى الله عليه وسلم) وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح ، فأعطوه الجزية ، وكتب لهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) كتاباً فهو عندهم ، وصالحه أهل مِينَاء على ربع ثمارها ، وكتب لصاحب أيلة ‏:‏"‏بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي ، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر ، فمن أحدث منهم حدثاً ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه ، وإنه طيب لمن أخذه من الناس ، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر ‏" ‏‏.‏
وبعث رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارسا ً، وقال له‏ :‏ ‏(‏ إنك ستجده يصيد البقر ‏)‏ ، فأتاه خالد ، فلما كان من حصنه بمنظر العين ، خرجت بقرة ، تحك بقرونها باب القصر ، فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد في خيله ، فأخذه وجاء به إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، فحقن دمه ، وصالحه على ألفي بعير ، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع ، وأربعمائة رمح ، وأقر بإعطاء الجزية ، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء ‏.‏
وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه ، فانقلبت لصالح المسلمين ، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية ، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة ، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير ‏.‏



غزوة تبوك ( في رجب سنة 9 هـ ) - الرجوع إلى المدينة






ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين ، لم ينالوا كيداً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي(صلى الله عليه وسلم) ، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته ، وحذيفة ابن اليمان يسوقها ، وأخذ الناس ببطن الوادي ، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة ‏.‏ فبينما رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم ، قد غشوه وهم ملتثمون ، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه ، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم ، وأخبر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بأسمائهم ، وبما هموا به ، فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سـر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وفي ذلك يقول اللّه تعالى ‏:‏ "‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا‏ "‏ ‏[ ‏التوبة ‏:‏ 74‏ ] ‏‏.‏
ولما لاحت للنبي(صلى الله عليه وسلم) معالم المدينة من بعيد قال ‏:‏ "‏هذه طلة، وهذا أحُدٌ ، جبل يحبنا ونحبه "‏، وتسامع الناس بمقدمه ، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن ‏:
طلع البـدر علينا

وجب الشكر علينا


من ثنيات الوداع

مـا دعا لله داع


وكانت عودته(صلى الله عليه وسلم) من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً ، أقام منها عشرين يوماً في تبوك ، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبًا‏ .‏ وكانت هذه الغزوة آخر غزواته(صلى الله عليه وسلم) .‏






المخلفون


وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه ، امتاز به المؤمنون من غيرهم ، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن ، حيث يقول ‏:‏ ‏" ‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏ "‏‏[‏ آل عمران ‏:‏179‏ ]‏ فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً ، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل ، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) قال لهم‏ :‏ ‏( ‏دعوه ، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه ‏) ‏، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر ، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين ، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً ، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا‏ً .‏ نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر ، وهم الذين أبلاهم اللّه ، ثم تاب عليهم‏ .‏
ولما دخل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) المدينة بدأ بالمسجد ، فصلى فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار ، وطفقوا يحلفون له ، فقبل منهم علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه ‏.‏
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك ، ومُرَارَة بن الربيع ، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق ، فأمر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة ، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة ، وتغير لهم الناس ، حتى تنكرت لهم الأرض ، وضاقت عليهم بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم ، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة ، ثم أنزل اللّه توبتهم ‏:‏ ‏" ‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏ "‏‏[‏التوبة‏:‏118‏]‏‏.‏
وفرح المسلمون ، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته ، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا ، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم ‏.‏
وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم ‏:‏ ‏" ‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏ "‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏‏ وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة ‏:‏ ‏( ‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً ، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم ، حبسهم العُذْرُ‏ ) ‏، قـالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، وهــم بالمدينة ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏وهم بالمدينة ‏) ‏‏.‏

أثرالغزوة


وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويتهعلى جزيرة العرب ، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوىقوة الإسلام ، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليينوالمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين ، وكانوا قد عقدوا آمالهمبالرومان ، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة ، واستسلموا للأمر الواقع ، الذي لم يجدواعنه محيداً ولا مناصاً ‏.‏
ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم ، حتى نهى عن قبول صدقاتهم ، وعن الصلاة عليهم ،والاستغفار لهم والقيام على قبرهم ، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسمالمسجد ، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً ، لم يبق في معرفتهم بعدها أيخفاء ، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة‏ .‏
ويعرف مدى أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت فيالتوافد إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم)بعد غزوةفتح مكة ، بل وما قبلها ، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذهالغزوة‏ .‏
نزول القرآن حول موضوع الغزوة


نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة ، نزل بعضها قبل الخروج ، وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة ، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة ، وفضح المنافقين ، وفضل المجاهدين والمخلصين ، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين ، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين ، إلى غير ذلك من الأمور ‏.‏

بعض الوقائع المهمة في هذه السنة


وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ ‏:‏
1 ـ بعد قدوم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) من تبوك وقع اللعان بين عُوَيْمِر العَجْلاني وامرأته‏ .‏
2 ـ رجمت المرأة الغامدية ، التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة ، رجمت بعدما فطمت ابنها ‏.‏
3 ـ توفي النجاشي أصْحَمَة ، ملك الحبشة ، في رجب ، وصلي عليه رسول الله صلاة الغائب في المدينة ‏.‏
4 ـ توفيت أم كلثوم بنت النبي(صلى الله عليه وسلم) في شعبان ، فحزن عليها حزناً شديداً ، وقال لعثمان ‏:‏ ‏( ‏لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها‏ ) ‏‏.‏
5 ـ مات رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) من تبوك ، فاستغفر له رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، وصلى عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه ، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر
[/frame]
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]

الناس يدخلون في دين الله أفواجاً:
كانت غزوة فتح مكة -كما قلنا - معركة فاصلة، قضت على الوثنية قضاء باتاً، عرفت العرب لأجلها الحق من الباطل، وزالت عنهم الشبهات، فتسارعوا إلى اعتناق الإسلام، قال عمرو بن سلمة: كنا بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ -أي النبي صلَّى الله عليه وسلم - فيقولون: يزعم أن الله أرسله، أوحى إليه. أوحى الله كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يقرأ في صدري، وكانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلَّى الله عليه وسلم حقاً. فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً. الحديث.
وهذا الحديث يدل على مدى أثر فتح مكة في تطوير الظروف، وتعزيز الإسلام، وتعيين الموقف للعرب، واستسلامهم للإسلام، وتأكد ذلك أي تأكد بعد غزوة تبوك ، ولذلك نرى الوفود تقصد المدينة تترى في هذين العامين -التاسع والعاشر - ونرى الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، حتى إن الجيش الإسلامي الذي كان قوامه عشرة آلاف مقاتل في غزوة الفتح، إذا هو يزخر في ثلاثين ألف مقاتل في غزوة تبوك ، قبل أن يمضي على فتح مكة عام كامل، ثم نرى في حجة الوداع بحراً من رجال الإسلام -مائة ألف من الناس أو مائة وأربعة وأربعون ألفاً منهم - يموج حول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء.
الوفود


60 - نجاح الدعوة وأثرها
وقبل أن نتقدم خطوة أخرى إلى مطالعة أواخر أيام حياة الرسول صلَّى الله عليه وسلم، ينبغي لنا أن نلقي نظرة إجمالية على العمل الجلل الذي هو فذلكة حياته، والذي امتاز به عن سائر الأنبياء والمرسلين، حتى توج الله هامته بسيادة الأولين والآخرين.
إنه صلَّى الله عليه وسلم قيل له: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمْ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا } الآيات. و{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنذِر ْ} الآيات. فقام، وظل قائماً أكثر من عشرين عاماً، يحمل على عاتقه عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، وعبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى.
حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها، والمكبل بأوهام الشهوات وأغلالها، حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية، بدأ معركة أخرى في ميدان آخر، بل معارك متلاحقة. مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها، وعلى المؤمنين بها، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة، وفروعها في الفضاء، وتظل مساحات أخرى.. ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية؛ حتى كانت الروم تعد لهذه الأمة الجديدة، وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية.
وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى -معركة الضمير - قد انتهت، فهي معركة خالدة، الشيطان صاحبها، وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني، ومحمد صلَّى الله عليه وسلم قائم على دعوة الله هناك، وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة، في شظف العيش، والدنيا مقبلة عليه، وفي جهد وكد، والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة؛ وفي نصب دائم لا يتقطع، وفي صبر جميل على هذا كله، وفي قيام الليل، وفي عبادة لربه، وترتيل لقرآنه، وتبتل إليه كما أمره أن يفعل.
وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاماً، لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد، حتى نجحت الدعوة الإسلامية على نطاق واسع تتحير له العقول، فقد دانت لها الجزيرة العربية، وزالت غبرة الجاهلية عن آفاقها، وصحّت العقول العليلة، حتى تركت الأصنام، بل كسرت، وأخذ الجو يرتج بأصوات التوحيد، وسمع الأذان للصلوات يشق أجواء الفضاء خلال الصحراء التي أحياها الإيمان الجديد، وانطلق القراء شمالاً وجنوباً، يتلون آيات الكتاب، ويقيمون أحكام الله.
وتوحدت الشعوب والقبائل المتناثرة، وخرج الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله، فليس هناك قاهر ومقهور، وسادات وعبيد، وحكام ومحكومون، وظالم ومظلوم، وإنما الناس كلهم عباد الله، إخوان متحابون، متمثلون لأحكامه، أذهب الله عنهم عُبِّيَّة الجاهلية ونخوتها وتعاظمها بالآباء، ولم يبق هناك فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب.
وهكذا تحققت -بفضل هذه الدعوة - الوحدة العربية، والوحدة الإنسانية والعدالة الإجتماعية، والسعادة البشرية في قضاياها ومشاكلها الدنيوية، وفي مسائلها الأخروية، فتقلب مجرى الأيام، وتغير وجه الأرض، وانعدل خط التاريخ، وتبدلت العقلية.
إن العالم كانت تسيطر عليه روح الجاهلية -قبل الدعوة - ويتعفن ضميره، وتأسن روحه، وتختل فيه القيم والمقاييس، ويسوده الظلم والعبودية، وتجتاحه موجة من الترف الفاجر والحرمان التاعس، وتغشاه غاشية الكفر والضلال والظلام، على الرغم من الديانات السماوية، التي كانت قد أدركها التحريف، وسرى فيها الضعف، وفقدت سيطرتها على النفوس، واستحالت طقوساً جامدة لا حياة فيها ولا روح.
فلما قامت هذه الدعوة بدورها في حياة البشرية؛ خلصت روح البشر من الوهم والخرافة، ومن العبودية والرق، ومن الفساد والتعفن، ومن القذارة والانحلال، وخلصت المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان، ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات، واستبداد الحكام، واستذلال الكهان، وقامت ببناء العالم على أسس من العفة والنظافة، والإيجابية والبناء، والحرية والتجدد، ومن المعرفة واليقين، والثقة والإيمان والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب؛ لتنمية الحياة، وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة.
وبفضل هذه التطورات شاهدت الجزيرة العربية نهضة مباركة لم تشاهد مثلها منذ نشأ فوقها العمران، ولم يتألق تاريخها تألقه في هذه الأيام الفريدة من عمرها.

61 - حجة الوداع
تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية لله، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلَّى الله عليه وسلم، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذاً على اليمن سنة 10هـ قال له فيما قال: يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
وشاء الله أن يرى رسوله صلَّى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعة وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.
أعلن النبي صلَّى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلَّى الله عليه وسلم. وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلَّى الله عليه وسلم للرحيل، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى إذا بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح، فلما أصبح قال لأصحابه: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة.
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضاً، ثم أهل لما استقلت به على البيداء.
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة ، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ -وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى - فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحجون ، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة -وهو يوم التروية - توجه إلى منى ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر -خمس صلوات - ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة:
أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث -وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء، فإنكم قد أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس "اللهم اشهد "(*****)ثلاث مرات.
الراوي: - المحدث: الألباني - المصدر: فقه السيرة - الصفحة أو الرقم: 454
خلاصة حكم المحدث:
جاء سندها في أحاديث متفرقة: وقسم كبير منها رواه مسلم
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -وهو بعرفة - ربيعة بن أمية بن خلف.
وبعد أن فرغ النبي صلَّى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا }. وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً.
فدفع -من المزدلفة إلى منى - قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة -وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى - فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر -وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة - وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه.
وخطب النبي صلَّى الله عليه وسلم يوم النحر -عاشر ذي الحجة - أيضاً حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء، وعليّ يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكر قال: خطبنا النبي صلَّى الله عليه وسلم يوم النحر، قال:
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .
وقال: "أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى . قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى . قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى . قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ".
وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع .
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة:" ألا لا يجني جان على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به ".
الراوي: أبو بكرة نفيع بن الحارث المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4406
خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً
فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق. وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر.
وفي يوم النفر الثاني -الثالث عشر من ذي الحجة - نفر النبي صلَّى الله عليه وسلم من منى ، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع.
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله.

62 - آخر البعوث
كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان والياً على معان من قبل الروم.
ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة 11هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحس أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليّ، وإن هذا من أحب الناس إلي بعده.
وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف ، على فرسخ من المدينة ، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.
إلى الرفيق الأعلى
63- 1 - طلائع التوديع:
لما تكاملت الدعوة، وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلَّى الله عليه وسلم، وتنضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، وقال وهو عند جمرة العقبة : خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه.
وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.
الراوي: عقبة بن عامر المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6590
خلاصة حكم المحدث: [صحيح


63- 2 - بداية المرض:
وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ -وكان يوم الإثنين - شهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع -وهو في الطريق - أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه.
وقد صلى النبي صلَّى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 13 أو 14 يوماً.
63- 3 - الأسبوع الأخير:
وثقل برسول الله صلَّى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة .
63- 4 - قبل الوفاة بخمسة أيام:
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد بها الوجع وغمي، فقال:هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: "حسبكم، حسبكم".
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد -وهو معصوب الرأس- حتى جلس على المنبر، وخطب الناس -والناس مجتمعون حوله- فقال:
لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
-وفي رواية "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"- وقال: "لا تتخذوا قبري وثناً يُعبد".
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: "من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه".
الراوي: عائشة وعبدالله بن عباس المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4443
خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم أوصى بالأنصار قائلاً:
أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم
وفي رواية أنه قال: "إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم".
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 7/1271
خلاصة حكم المحدث:
إسناده صحيح على شرط البخاري
ثم قال: "إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ماشاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده" قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر . قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ، إلا باب أبي بكر .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 466
خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
63- 5 - قبل أربعة أيام:
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال -وقد اشتد به الوجع -: هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده -وفي البيت رجال فيهم عمر - فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: قوموا عني.
وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي "الصلاة وما ملكت أيمانكم ".
والنبي صلَّى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم -يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام - وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: أصلى الناس؟ قلنا: لا يارسول الله، وهم ينتظرونك. قال ضعوا لي ماء في المخضب. ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ -ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء - فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام؛ 17 صلاة في حياته صلَّى الله عليه وسلم.
وراجعت عائشة النبي صلَّى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر ، حتى لا يتشاءم به الناس، فأبى، وقال: إنكن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس.
63- 6 - قبل يوم أو يومين:
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلَّى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر ، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ويسمع الناس التكبير.
63- 7 - قبل يوم:
وقبل يوم من الوفاة -يوم الأحد - أعتق النبي صلَّى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلَّى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.
63- 8 - آخر يوم من الحياة:
روى أنس بن مالك: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الإثنين -وأبو بكر يصلي بهم- لم يفجأهم إلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحاً برسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأشار بيده رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
ثم لم يأت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلَّى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت. ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة، فسألنا عن ذلك -أي فيما بعد - فقالت: سارني النبي صلَّى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلَّى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلَّى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أباه. فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم.
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4462
خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم.
وأوصى الناس، فقال: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم "، كرر ذلك مراراً.
الراوي: أم سلمة هند بنت أبي أمية المحدث: البيهقي - المصدر: دلائل النبوة - الصفحة أو الرقم: 7/205
خلاصة حكم المحدث: صحيح

63- 9 - الاحتضار:
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته . دخل عبد الرحمن -بن أبي بكر - وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته. فأمره -وفي رواية أنه استن بها كأحسن ما كان مستناً - وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات -الحديث -.
الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6510
خلاصة حكم المحدث:
[صحيح]
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى.
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ وقد تم له صلَّى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
63- 10 - تفاقم الأحزان على الصحابة:
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على المدينة أرجاؤها وآفاقها. قال أنس: ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وما رأيت يوماً كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب رباً دعاه. يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه.
63- 11 - موقف عمر:
ووقف عمر بن الخطاب -وقد أخرجه الخبر عن وعيه - يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم توفي، وإن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات.
والله ليرجعن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
63- 12 - موقف أبي بكر:
وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.
ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر : أما بعد، من كان منكم يعبد محمداً صلَّى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبدالله، فإن الله حي لا يموت. قال الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }.
قال ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
قال ابن المسيب: قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعفرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قد مات.
63- 13 - التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض:
ووقع الخلاف في أمر الخلافة قبل أن يقوموا بتجهيزه (صلَّى الله عليه وسلم)، فجرت مناقشات ومجادلات وحوار وردود بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة، وأخيراً اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ومضى في ذلك بقية يوم الإثنين حتى دخل الليل، وشغل الناس عن جهاز رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، حتى كان آخر الليل -ليلة الثلاثاء- مع الصبح، وبقي جسده المبارك على فراشه، مغشى بثوب حبرة، قد أغلق دونه الباب أهله.
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) من غير أن يجرّدوه من ثيابه وكان القائمون بالغسل العباس وعلياً، والفضل وقثم ابني العباس، وشقران مولى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، وأسامة بن زيد، وأوس بن خولي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعليّ يغسله، و أوس أسنده إلى صدره.
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة أدرجوه فيها إدراجاً.
واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً.
ودخل الناس الحجرة أرسالاً عشرة فعشرة، يصلون على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ولا يؤمهم أحد، وصلى عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، وصلت عليه النساء بعد الرجال، ثم صلى عليه الصبيان.
ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، حتى دخلت ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل من ليلة الأربعاء.
البيت النبوى

65- 1 - مقدمة الصفات والأخلاق:
كان النبي صلَّى الله عليه وسلم يمتاز من كمال خَلْقه وكمل خُلُقه بما لا يحيط بوصفه البيان، وكان من أثره أن القلوب فاضت بإجلاله، والرجال تفانوا في حياطته وإكباره، بما لا تعرف الدنيا لرجل غيره، فالذين عاشروه وأحبوه إلى حد الهيام، ولم يبالوا أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر -وفيما يلي نورد ملخص الروايات في بيان جماله وكماله مع اعتراف العجز عن الإحاطة

[/frame]
كتبت : * أم أحمد *
-






----------------------



لايسعني في هذا المقام الا ان اكن لك كل اعجابي على طرحك الرائع والمميز جدا



00واشكرك على ابداعك



دائما متألقة مع خالص الشكر والتقدير ..
دمتي بود ومحبة



-----------------------
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
جزاك الله خير
وشكرى وتقديرى لمرورك الكريم
مودتى اختى الغالية
كتبت : سنبلة الخير .
-
موضوع رائع وشامل

جزاكِ الله خير الجزاء
اسال الله ان ينفعه بك ويكتب لك الاجر

اخيتي ارجو في المرة القادمة التاكد من الايات القرانية وتخريج الاحاديث

اثابك الله

class="quote">اقتباس : المشاركة التي أضيفت بواسطة ~ عبير الزهور ~:
[frame="13 70"]


61 - حجة الوداع
تمت أعمال الدعوة، وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية لله، ونفيها عن غيره، وعلى أساس رسالة محمد صلَّى الله عليه وسلم، وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، حتى إنه حين بعث معاذاً على اليمن سنة 10هـ قال له فيما قال: يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري، فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
وشاء الله أن يرى رسوله صلَّى الله عليه وسلم ثمار دعوته، التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعة وعشرين عاماً، فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.
أعلن النبي صلَّى الله عليه وسلم بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلَّى الله عليه وسلم. وفي يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة تهيأ النبي صلَّى الله عليه وسلم للرحيل، فترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه وقلد بدنه، وانطلق بعد الظهر، حتى إذا بلغ ذا الحليفة قبل أن يصلي العصر، فصلاها ركعتين، وبات هناك حتى أصبح، فلما أصبح قال لأصحابه: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة.
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضاً، ثم أهل لما استقلت به على البيداء.
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة ، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ -وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى - فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحجون ، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هدي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة -وهو يوم التروية - توجه إلى منى ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر -خمس صلوات - ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس، فقام فيهم خطيباً، وألقى هذه الخطبة الجامعة:
أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً.
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث -وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.
فاتقوا الله في النساء، فإنكم قد أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله.
أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم.
وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس "اللهم اشهد "(*****)ثلاث مرات.
الراوي: - المحدث: الألباني - المصدر: فقه السيرة - الصفحة أو الرقم: 454
خلاصة حكم المحدث: جاء سندها في أحاديث متفرقة: وقسم كبير منها رواه مسلم
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلَّى الله عليه وسلم -وهو بعرفة - ربيعة بن أمية بن خلف.
وبعد أن فرغ النبي صلَّى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا }. وعندما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام، فصلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالناس الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة، ودفع حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئاً، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً.
فدفع -من المزدلفة إلى منى - قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة -وهي الجمرة الكبرى نفسها، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان، وتسمى بجمرة العقبة وبالجمرة الأولى - فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر -وهي سبع وثلاثون بدنة، تمام المائة - وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى على بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلواً فشرب منه.
وخطب النبي صلَّى الله عليه وسلم يوم النحر -عاشر ذي الحجة - أيضاً حين ارتفع الضحى، وهو على بغلة شهباء، وعليّ يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس، فقد روى الشيخان عن أبي بكر قال: خطبنا النبي صلَّى الله عليه وسلم يوم النحر، قال:
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان .
وقال: "أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى . قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى . قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى . قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ".
وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.
ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد. فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع .
وفي رواية أنه قال في تلك الخطبة:" ألا لا يجني جان على نفسه، ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به ".
الراوي: أبو بكرة نفيع بن الحارث المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4406
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع، ويذكر الله، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم، ويمحو آثار الشرك ومعالمها، وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً
فقد روى أبو داود بإسناد حسن عن سراء بنت نبهان قالت: خطبنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق. وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر.
وفي يوم النفر الثاني -الثالث عشر من ذي الحجة - نفر النبي صلَّى الله عليه وسلم من منى ، فنزل بخيف بني كنانة من الأبطح، وأقام هناك بقية يومه ذلك، وليلته، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة، ثم ركب إلى البيت، فطاف به طواف الوداع.
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظاً من الراحة، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله.
62 - آخر البعوث
كانت كبرياء دولة الروم قد جعلتها تأبى عليه حق الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه، كما فعلت بفروة بن عمرو الجذامي الذي كان والياً على معان من قبل الروم.
ونظراً إلى هذه الجراءة والغطرسة أخذ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يجهز جيشاً كبيراً في صفر سنة 11هـ، وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، يبغي بذلك إرهاب الروم وإعادة الثقة إلى قلوب العرب الضاربين على الحدود، حتى لا يحس أحد أن بطش الكنيسة لا معقب له، وأن الدخول في الإسلام يجر على أصحابه الحتوف فحسب.
وتكلم الناس في قائد الجيش لحداثة سنه، واستبطأوا في بعثه، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليّ، وإن هذا من أحب الناس إلي بعده.
وانتدب الناس يلتفون حول أسامة، وينتظمون في جيشه، حتى خرجوا ونزلوا الجرف ، على فرسخ من المدينة ، إلا أن الأخبار المقلقة عن مرض رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أكرهتهم على التريث، حتى يعرفوا ما يقضي الله به، وقد قضى الله أن يكون هذا أول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق.
إلى الرفيق الأعلى
63- 1 - طلائع التوديع:
لما تكاملت الدعوة، وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلَّى الله عليه وسلم، وتنضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً، وقال وهو عند جمرة العقبة : خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، وأنه نعيت إليه نفسه.
وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي صلَّى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها.
الراوي: عقبة بن عامر المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6590
خلاصة حكم المحدث: [صحيح
63- 2 - بداية المرض:
وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ -وكان يوم الإثنين - شهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، فلما رجع -وهو في الطريق - أخذه صداع في رأسه، واتقدت الحرارة، حتى إنهم كانوا يجدون سورتها فوق العصابة التي تعصب بها رأسه.
وقد صلى النبي صلَّى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، وجميع أيام المرض كانت 13 أو 14 يوماً.
63- 3 - الأسبوع الأخير:
وثقل برسول الله صلَّى الله عليه وسلم المرض، فجعل يسأل أزواجه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل إلى عائشة، يمشي بين الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب، عاصباً رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتها، فقضى عندها آخر أسبوع من حياته.
وكانت عائشة تقرأ بالمعوذات والأدعية التي حفظتها من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة .
63- 4 - قبل الوفاة بخمسة أيام:
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد بها الوجع وغمي، فقال:هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: "حسبكم، حسبكم".
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد -وهو معصوب الرأس- حتى جلس على المنبر، وخطب الناس -والناس مجتمعون حوله- فقال:
لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
-وفي رواية "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"- وقال: "لا تتخذوا قبري وثناً يُعبد".
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: "من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه".
الراوي: عائشة وعبدالله بن عباس المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4443
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها، فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: أعطه يا فضل، ثم أوصى بالأنصار قائلاً:
أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم
وفي رواية أنه قال: "إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم".
الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: الألباني - المصدر: السلسلة الصحيحة - الصفحة أو الرقم: 7/1271
خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح على شرط البخاري
ثم قال: "إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ماشاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده" قال أبو سعيد الخدري: فبكى أبو بكر . قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سدّ، إلا باب أبي بكر .
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 466
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
63- 5 - قبل أربعة أيام:
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال -وقد اشتد به الوجع -: هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده -وفي البيت رجال فيهم عمر - فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: قوموا عني.
وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصى بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي، ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي "الصلاة وما ملكت أيمانكم ".
والنبي صلَّى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم -يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام - وقد صلى بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلَّى الله عليه وسلم: أصلى الناس؟ قلنا: لا يارسول الله، وهم ينتظرونك. قال ضعوا لي ماء في المخضب. ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ -ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولى من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء - فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام؛ 17 صلاة في حياته صلَّى الله عليه وسلم.
وراجعت عائشة النبي صلَّى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر ، حتى لا يتشاءم به الناس، فأبى، وقال: إنكن صواحب يوسف. مروا أبا بكر فليصل بالناس.
63- 6 - قبل يوم أو يومين:
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلَّى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأن لا يتأخر، قال: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى يسار أبي بكر ، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ويسمع الناس التكبير.
63- 7 - قبل يوم:
وقبل يوم من الوفاة -يوم الأحد - أعتق النبي صلَّى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه صلَّى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.
63- 8 - آخر يوم من الحياة:
روى أنس بن مالك: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الإثنين -وأبو بكر يصلي بهم- لم يفجأهم إلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فرحاً برسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فأشار بيده رسول الله صلَّى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
ثم لم يأت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلَّى الله عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت. ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة، فسألنا عن ذلك -أي فيما بعد - فقالت: سارني النبي صلَّى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلَّى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلَّى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه، فقالت: واكرب أباه. فقال لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم.
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
الراوي: أنس بن مالك المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 4462
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم.
وأوصى الناس، فقال: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم "، كرر ذلك مراراً.
الراوي: أم سلمة هند بنت أبي أمية المحدث: البيهقي - المصدر: دلائل النبوة - الصفحة أو الرقم: 7/205
خلاصة حكم المحدث: صحيح
63- 9 - الاحتضار:
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله عليّ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته . دخل عبد الرحمن -بن أبي بكر - وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته. فأمره -وفي رواية أنه استن بها كأحسن ما كان مستناً - وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: لا إله إلا الله، إن للموت سكرات -الحديث -.
الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6510
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى.
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ وقد تم له صلَّى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.




[/frame]
السؤال
ماراي فضيلتكم في لحظات وفاة الرسول
الاجابة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وجزاك الله خيرا
وحفظك الله ورعاك .
القصة أُدْخِل فيها ما ليس منها ، وما لم يَرِد أصلا في قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم .
كما أنها سِيقت بألفاظ تغلب عليها العامية !
فقوله : (ثم بدأ يدعي لهم ويقول اخر دعوات قبل الوفاة : "اراكم الله حفظكم الله نصركم الله ثبتكم الله ايدكم الله حفظكم الله" واخر كلمة قبل ان ينزل عن المنبر موجه للأمه من على منبره "ايها الناس اقرءوا مني السلام على من تبعني من امتي إلى يوم القيامة" وحُمل مرة اخرى إلى بيته)كل هذا لا يصحّ عنه عليه الصلاة والسلام
وحديث : ما الفقر أخشى عليكم ... إلى آخره .. لم يكن في آخر حياته عليه الصلاة والسلام ولا عند وفاته ، بل كان حينما عاد أبو عبيدة ومعه مال من البحرين . كما في الصحيحين .
ولم تكن عائشة رضي الله عنها تمسح عرق النبي صلى الله عليه وسلم بيدِه ، بل كانت تقرأ وتنفث بيده عليه الصلاة والسلام ثم تمسح جسده بيده رجاء بركة يده عليه الصلاة والسلام
روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ، ومسح عنه بيده ، فلما اشتكى وَجَعه الذي توفي فيه طفقت أنفث على نفسه بالمعوذات التي كان ينفث ، وأمسح بِيَدِ النبي صلى الله عليه وسلم عنه .
وفي رواية الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على نفسه المعوذات وينفث . قالت عائشة : فلما اشتكى صلى الله عليه وسلم جعلتُ اقرأ عليه وامسحه بِكَفِّه ، رَجَاء بَرَكة يَدِه .
واستئذان ملك الموت ، رواه البيهقي في " دلائل النبوة " ، وهو ضعيف شديد الضعف .
ومُحاولة النبي صلى الله عليه وسلم القيام حتى يُغمى عليه ليس لأن الناس كانوا يخافون عليه ، بل لحرصه عليه الصلاة والسلام على الصلاة فإنه عليه الصلاة والسلام سأل : أصلّى الناس ؟
قالت عائشة رضي الله عنها : قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله . قال : ضَعُوا لي ماء في المخضب . قالت : فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأُغْمِي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصَلَّى الناس ؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، فقال : ضعوا لي ماء في المخضب ، فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأُغْمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصَلَّى الناس ؟ فقلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي عليه السلام لصلاة العشاء الآخرة ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يُصَلِّي بالناس . رواه البخاري ومسلم .
وقولهم في آخر الكلام :
(فلكل من سمع هذه القصة ووجد حب للنبي، فعليه أربع حاجات لحب النبي)فليست تلك بِواجِبَة حتى يُقال ( عليه ) ! إلا وُجوب اتِّبَاع سُنّتِه صلى الله عليه وسلم .
وعلى من أحب النبي صلى الله عليه وسلم حُـبًّا صادقا أن لا ينسب إليه ما لم يقُلْه ، وأن لا يتكلّم في سيرته ولا في سُنّته إلا بِعِلْم ، فإما أن يتكلَّم الإنسان بِعلْم ، وإلاَّ يَسْكُت بِحَزْم .
والله تعالى أعلم .
الشيخ عبد الرحمن السحيم
كتبت : || (أفنان) l|
-
طرح موفق ورائع ومميز
بوركت على هذا الطرح الرائع



نسأل الله لكِ أختي الغالية
الدرجات العالية في جنة الفردوس
ورفقة النبي صلوات الله وسلامه عليه
وأن تكوني من زمرة الداخلين أولاً إلى الجنة
جزاكِ الله خيراً
الصفحات الأولى ... 2  3  4  5  6

التالي

اعرف اكثر عن رسل الله

السابق

آداب نبوية في الاستئذان

كلمات ذات علاقة
من , الميلاد , الخ , السيرة , العطرة , النبوية , الوفاة , افضل , صلاة , عليه , والسلام