السيرة النبوية العطرة من الميلاد الى الوفاة عليه افضل صلاة والسلام

مجتمع رجيم / السيرة النبوية ( محمد صلى الله عليه وسلم )
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-

2222816vzvv9ffik5.gi
احبتى واخواتى الغاليات احببت لكم الفائدة والاستمتاع

معى بطرح السيرة النبوية العطرة بصورة موجزة

بارك الله فيكم وبأوقاتكم
cute_30.gif


مولد النبي صلى الله عليه وسلم

في أم القرى التي كانت محط القوافل التجارية بين الشام واليمن، وفي المدينة التي شهدت ترجُّل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فقاما ببناء الكعبة المشرفة، وفي جوها الصحراوي، وفي أفضل دورها وأشرف أهلها، قال صلى الله عليه وسلم
(إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)
الحديث رواه مسلم في صحيحه وصححه الترمذي وابن حبان ...
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أنار الله به الدنيا فبدد ظلام الجهل والكفر والطغيان وانحراف الأخلاق، وختم به الرسالات السماويـة التي كانت تتنـزل على من شاء الله من عبـاده المصطفين،

قال الله تعالى align="right">: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } الحج75


وقد ولد عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين من عام الفيل.
وهناك روايات أنه ولد بعد الفيل،، واختلف في تاريخ يوم مولده وشهره
(انظر: السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري (1/96ـ98)
ونسبه: محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمه: آمنة بنت وهب، ويلتقي نسبها بنسب أبيه في كلاب بن مرة.
فكان نسبه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنساب وأحسنها وأشرفها، فجمع الله تعالى له اصطفاء النسب الذي يفخر به كل مسلم ويعتز لنبيه به صلى الله عليه وسلم
cute_30.gif

اليتم والرعاية

وَلَئِن كان الغالب في الناس حياة الأبوة والأمومة تحف بهم وترعاهم، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن من أولئك، وإنما ولد يتيماً، قد توفي والده وهو جنين في بطن أمه.
فَالْيُتْمُ ليس مثلبة ولا مثلمة في حياة الأفراد من اليتامى، بل قد يُعدُّ ذلك منقبة في حق من استقام في طريق الهداية، وحطَّ رحاله في دروب الخير والمعالي، يشق طريقه على سبيل نبيه الذي ولد يتيماً، وأوصى برعاية اليتامى قائلاً عليه الصلاة والسلام
( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ، وأشار بأصبعيه يعني السبابة والوسطى) متفق عليه
وفي نشأته صلى الله عليه وسلم يتيماً دلالات تربوية عظيمة من أن الْيُتْمَ لا يرسم على أصحابه ضعفاً نفسياً أو إسقاطاً اجتماعيا، بل كان عليه الصلاة والسلام في صباه قوي النفس والعزيمة محبوباً بين من يحيطون به.
وإن الله تعالى هو الرحيم بعباده؛ يعنى بهم ويحفظهم ويرعاهم، و يهيئ لهم من يقوم بإعالتهم ورعايتهم، فقد قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ((أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) [الضحى:6])
وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل بعد أن ولد عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، ثم كفله عمه أبو طالب ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره.
فكما هيأ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الرعاية والإيواء من جوانبها التربوية والنفسية والمعيشية، فقد جعل ذلك واجباً اجتماعياً تقوم به الأمة في حق الأيتام ليعيشوا كما يعيش غيرهم في رعاية وحفاوة وعناية، فلا تتأثر قواهم النفسية بما حصل لهم من وفاة الوالد أو الوالدة أو كليهما، بل ربما غرس فيهم ذلك الْيُتْمُ قوة نفسية قد تفوق غيرهم، لما يشعرون به من اعتمادهم بعد الله تعالى على أنفسهم في شق طريق الحياة، وليس على أكتاف الآباء وأحضان الأمهات.
بل من رعاية الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن قذف في قلب جده عبد المطلب محبة لهذا الابن الكريم؛ مشمولة بالرعاية والعناية الفائقة التي تفوق رعاية الأب المباشر لابنه، فقد كان جده عبد المطلب يقربه ويدنيه منه ولا يدع أحداً يدخل عليه وهو نائم، وكان له مجلس لا يجلس عليه غيره، وكان له فراش في ظل الكعبة يجلس حوله بنوه ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم عليه مع جدِّه.
وكان عمه أبو طالب لا ينام إلا ومحمد إلى جنبه، ولا يخرج إلا وهو معه، ويخصه بالطعام، ولا يأكل إلا عندما يحضر محمد، وظل يحوطه بعنايته إلى أن توفي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين.
فَمَنْ الذي سخر هذه القلوب لتعطف وترعى هذا النبي اليتيم ؟
فكيف بمن يفكر في أبنائه، ويحمل همهم لو توفَّاه الله تعالى عنهم وهم صغار، إن هذه المواقف تعلِّم الإنسان المسلم وتغرس فيه عقيدة التوكل على الله تعالى، وأنه هو المدبِّر للأمور ولعواقبها، فلا يلزمه إلا أن يجهد ويجتهد في سعة وراحة بال؛ دون توجع وتخوف عن مصير الأبناء لو قدَّر الله تعالى عليه الوفاة وهم صغار، ألم يحبس الله تعالى ذلك الكنـز المذكور في سورة الكهف تحت جدار الأيتام، وهيأ لهم من يقوم ببناء ذلك الجدار حتى لا يُكشف خَبَرُ ذلك الكنـز، ويبقى مدفوناً تحفه الرعاية الإلهية حتى يتهيأ الأبناء رشداً وسناً وقوة ليأخذوا كنـزهم،
قال تعالى (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً
{77}) وقال تعالى في علة بناء ذلك الجدار
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً {82})
وهنا تعطينا الآية الكريمة دلالة عظيمة
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) ( الكهف : 82 ) .) .
فالمسلم إذا أصلح من حاله في طاعة ربه عز وجل؛ تكفل الله تعالى بأموره وما يخصه من أمور متعلقة بمن يحبهم كالأبناء، وما خبر عمر بن عبد العزيز مع أبنائه عن هذا الموقف ببعيد، فلم يترك لأبنائه من حطام الدنيا شيئاً، لا أموالاً ولا كنوزاً؛ وهو الخليفة الزاهد، ولكنه ترك لهم تربية صالحة ، فأغدق الله تعالى على بنيه من الخير بعد وفاته، حتى أن أحدهم جهز جزأ من أحد جيوش المسلمين ؛ لكثرة ماله الذي لم يرثه عن والده، ولكن كان أبوهم رجلاً صالحاً.
والْيُتْمُ في باب حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة ودروس,بأن لا يركن اليتيم لحالة البؤس والهزيمة النفسية,والعطش العاطفي؛ وشظف العيش إن أصابه ذلك, بل يأخذ الأمر بعزيمة المؤمن الواثق بربه عز وجل, فيأمل فيه الخير والرجاء فهو المرجو سبحانه وتعالى,وله أسوة في العلماء الكبار الذين عاشوا يتامى فقادوا الناس بعلمهم وحكمتهم، ومن أولئك الإمام الشافعي الذي عاش يتيماً في حجر أمه, فأصبح العالم الذي تُضرب له أكباد الإبل, والذي بلغ شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة؛ وجمال الذكر وطوله, حتى أصبح نهجه العلمي مذهباً فقهياً لامعا.
cute_30.gif
الرضــاعــة
وقد أرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة ابنة أبي ذؤيب، وإنه لمن عادة العرب أن يسترضعوا أبناءهم في البدو, ابتعادا ًبهم عن أمراض المدن, ورغبة في تقوية أجسادهم, وتعويداً وتربية لهم على الاعتماد على النفس منذ الصغر؛ بعيداً عن تدليل الأمهات والجدات وبقية الأقارب, وتقويماً لألسنتهم من اللحن وغيره من مفسدات اللغة
ولئن كان هذا هو ديدن العرب قديماً؛ وهو ما حصل لنبي هذه الأمة أيضاً فإن الجدير بالتربية المعاصرة اليوم أن تُعْنَى بأجساد الأبناء ولغتهم؛ وإبعادهم عن كل ما يفسدها, وإبعاد كل ما يفسدها عنهم، حتى لا ينشأ الطفل نشأة سيئة في خُلُقه ولغته وتربيته, وكم من الآباء يرحل بأبنائه من مجتمع لآخر من أجل الكسب المادي, ولا يرحل بأبنائه من حي لحي أو من مدينة لأخرى من أجل الحفاظ التربوي على الأبناء من الخلطة الفاسدة التي قد تكون في حي من الأحياء، أو في مدينة دون أخرى.
ومما اشتهر في بعض كتب السير أنه باسترضاع حليمة للنبي صلى الله عليه وسلم دَرَّ ثديها اللبن بعد أن كان ابنها يبكي من الجوع؛ من قلة اللبن أو عدمه، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم حتى رَوِيَ، وشرب معه أخوه حتى رَوِيَ، وكانت لها أتان شارف أي مسنة هزيلة؛ فأضحت الراحلة قوية تسير في نشاط وحيوية
وفي هذا الخبر ما يدفع الإنسان المسلم إلى التقدم إلى الخير من كفالة الأيتام والعناية بهم، فقد يكون ذلك سبب في ورود الخير لكافل اليتيم، ويدفع الله عنه غائلة الجوع والفاقة، وإن كان في نعيم زاده وبارك له، فإن في رعاية الأيتام التربوية والنفسية والمعيشية ما يبني فيهم حب المجتمع وحب المحسنين والعمل بإحسان في حياتهم، مع البعد عن ظلمهم وكسر خواطرهم بالكلمة أو الفعل، ويكفي المرء من رعاية اليتيم ما سيجده حتماً عند مليك مقتدر؛ أخبر به صلى الله عليه وسلم ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وقال بإصبعيه: السبَّابة و الوسطى )
وإنها لمنـزلة عزيزة أن يكون المسلم في معية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
cute_30.gif
الرعي والتجارة

لقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم قبل بعثته كما كان الناس يعملون ويتكسبون ، فلم يكن كسولاً صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يأنف من عملٍ شريف وإن كان في أعين الناس صغيراً، وقد اشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم برعي الغنم لأهل مكة، وهذا مما هيأ الله تبارك وتعالى رُسُلَه جميعاً لهذا النوع من العمل، فقال صلى الله عليه وسلم
( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).رواه البخاري ح 2262

فلم تكن تلك الأغنام لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم برعيها والعناية بها، بل كان يعمل فيها صلى الله عليه وسلم بالأجرة لأهل مكة، فلم يأنف من ذلك أو يتكبر، ولو كان فيها مَذَمَّة لما هيأه ربه سبحانه وتعالى إلى ذلك العمل؛ الذي سيتهيأ من بعده لأمر عظيم جليل؛ وعمل شاق كبير، هي النبوة والرسالة. فلا يعيب المرء أن يبدأ حياته العملية بالأجرة عند فرد أو مجموعة من الناس، فقد عمل موسى عليه السلام بالأجرة ، قال تعالى align="right">(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ )


(القصص: 27)

فالتربية المهنية هي التي تبدأ بتهيئة الإنسان للعمل بأبسط المهن وأسهلها، وفتح الذهن عليها، لأن المرء قد يكون كبيراً في سنه؛ ولكن يغفل عن ما سَهُلَ من طرق التكسب.
وفي منهجه التربوي صلى الله عليه وسلم الإرشاد المهني، حيث أرشد ذلك الصحابي في كيفية استثمار ما عنده من متاع بسيط ليبيع حاجة منه؛ ثم يدير أمره المهني بما يجعله يعمل ويتكسب، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله
فقال (أما في بيتك شيء ؟ قال : بلى.حلس: نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء، قال: أتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى اله عليه وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين ؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم ؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً، فانبذه إلى أهلك، واشتر بلآخر قدوماً فأتي به، فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء، وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا خير لك أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غُرم مفظع، أو لذي دم موجع).
هذه القصة رواها أصحاب السنن
سنن أبي داود:ج2/ص120 ح1641
والحديث ضعفه الألباني
وفي كلام بعضهم تقوية له ففي نصب الراية للزيلعي
قَالَ: وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ بِأَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ، فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ أَحَدًا نَقَلَ عَدَالَتَهُ، فَهُوَ مَجْهُولُ الْحَالِ، وَإِنَّمَا حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَهُ عَلَى عَادَتِهِ فِي قَبُولِ الْمَشَاهِيرِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ لَيْسُوا مِنْ مَشَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ شُمَيْطٍ، وَعَمُّهُمَا الْأَخْضَرُ بْنُ عَجْلَانَ، وَالْأَخْضَرُ، وَابْنُ أَخِيهِ عُبَيْدُ اللَّهِ ثِقَتَانِ، وَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَلَا يُعْرَفُ حَالُهُ،
وقد اشتهر صلى الله عليه وسلم منذ صغر سنه بمكارم الأخلاق وفضائلها، فقد كان عليه الصلاة والسلام بشمائل الأدب يتعامل، وبأنبل الصفات يتخلق، فَعُرِفَ من بين قومه أجمعين بالأمانة والصدق حتى أن خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أرسلت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، و تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها، يقال له: ميسرة، فَقَبِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك.
ومن هذا العرض والقبول بين صاحبة التجارة والمتاجر لها ما يؤكد جوانب مهنية عالية في مغزاها، ذلك أن الإنسان كلما كان بأخلاق الإسلام متمسكاً دعا أرباب الأعمال إلى استقطابه من بين أقرانه، لأن الثقة فيه أقوى، وصدقه وبِرُّه للعمل أدعى، وأمانته بالعمل تزكو، مما يؤكد أن أهم دواعي التكسب الأساسية الالتزام بمكارم الأخلاق التي دفعت خديجة رضي الله عنها أن تدفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضعف ما تدفع لغيره من التجار.
ولم يأنف رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمل بأجرة، حتى ولو كان صاحب العمل امرأة، وعلى صاحب التجارة أن يختار لعمله الثقات من الناس، وأن لا يمنعه شُحُّه وحب المال الالتزام بأجرة المثل، بل يدفع للكفء ما هو أكثر، لما في ذلك من حفظ ماله وصيانته، بل وما ينعكس على نفسيته من راحة واطمئنان؛ نتيجة استئجار الأمين في أدائه؛ والقوي في عمله.
كما أن للمرأة أن تباشر عملها من خلال استعمال الأكفاء من الناس، وأن تستثمر أموالها بما يعود عليها وعلى مجتمعها بالخير، وأن لا تُعَرِّض نفسها للفتن والمخاطر من أجل التكسب، فخديجة رضي الله عنها؛ وهي في عهد الجاهلية لم تركب بغلتها لتدير تجارتها، وإنما أوكلت في ذلك من يقوم بها.
ومن ذلك أن الله تعالى هيأ رسوله قبل البعثة لأن يعمل في رعي الغنم، وفي تجارة خديجة؛ ويسافر لها إلى الشام، وهو مقبل على أمر جليل عظيم، مما يبين أن على المرء أن يكدح ويعمل بما هو ميسَّر له حال ذلك الوقت الذي هو فيه، ويعلم أن المستقبل بيد الله تعالى. كما أن في ذلك تربية للإنسان على أمور قد لا يعرف مغبَّتها، فكم من الناس بدأ بأعمال مهنية بسيطة فهيأ الله له فيما بعد دروب العلم فأصبح عالماً يُشار إليه بالبنان، أو داعية للخير من خلال الكلمة أو العمل الخيري، أو موظفاً مرموقاً أو تاجراً خيِّراً، فالسابقات للإنسان من المهن البسيطة دروس وعبر وتربية قد لا يحصل عليها لو لم يزاول تلك المهن والأعمال والحِرَف التي هي في نظره من سَقْطِ المتاع.
cute_30.gif
التربية الخاصة
وهي تربيته سبحانه وتعالى لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه،
قـال تعـالى (الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب) سورة الشورى 13
والمعنى : (الله يجتبي إليه من يشاء) أي يختار من خلقه من يعلم أنه يصلح للاجتباء لرسالته وولايته، ومنه أن اجتبى هذه الأمة،
وفضَّلها على سائر الأمم، واختار لها أفضل الأديان وآخرها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم اصطفاه ربه وتولى أمر تربيته، حيث صانه الله تعالى عن أفعال الجاهلية المنكرة، فلم يعبد صنماً، ولم تُر عورته، ولم يسمع لهواً قط، فقد كان يحمل مع عمومته وأبناء عمومته الحجارة أثناء بناء الكعبة، فرفع ثوبه على عاتقه ليستعين به على حمل الحجارة، فكشف عن بعض عورته، فسقط وقيل له غط عورتك.
وذهب ليسمع الغناء كبقية فتيان قريش، فوصل إلى المكان، ثم نام حتى طلوع الشمس فلم يسمع شيئاً فهذه تربية ورعاية ربانية خاصة.
وأما التربية العامة فهي بالنعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده، من رزق، وإرسال الرسل، فيهدي بهدايته العامة من ينيب إليه، بعد أن عرف النعمة وأحسَّ بجميع الدلائل الكونية والشرعية على أن الله تعالى هو رب البرية؛ فأناب إليه، ثم هداه تعالى ووفقه، قال تعالى (ويهدي إليه من ينيب) هذا السبب الذي، يتوصل به العبد إلى هداية الله تعالى؛ وهو الإنابة إليه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصداً وجهه، فَحُسْنُ مقصد العبد مع اجتهاده في طلب الهداية من أسباب التيسير لها السعدي ، تيسير الكريم الرحمن (4/414) .
قــال تـعالـى (يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُل السلام، ويُخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم) سورةالمائدة
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : ( لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل ؛حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعذينه )
[رواه البخاري:6502] .
فأي هداية أعظم من هذه التربية التي تولت جميع الأعضاء الأساسية في الإنسان الذي أناب لربه.
cute_30.gif
حلف المطيبين
تداعت قبائل من قريش إلى حلف، فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جُدعان لشرفه وسنِّه، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى تُرَدُّ عليه مظلمته، فَسَمَّتْ ذلك قريش حلف الفضول، وقد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
( لقد شهدت في دار عبدالله بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حُمْر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)
align="right">الراوي: عبد الرحمن بن عوف المحدث: ابن جرير الطبري - المصدر: تفسير الطبري - الصفحة أو الرقم: 4/1/77

خلاصة حكم المحدث: صحيح


وروى الإمام أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :
(شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، وما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه )
فلما أن الظلم تأباه النفوس المستقيمة وأصحاب الشيم الخلقية الكريمة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيد بذلك الحلف الذي انعقدت مراسمه في الجاهلية، موضحاً لو أنه دعي إليه في الإسلام لأجاب ولم يدفعه شنآن الجاهلية أن ينكر ذلك العمل الأخلاقي النبيل، بل أشاد به وبحضوره صلى الله عليه وسلم وقد كان غلاماً، وإن حضور الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك الحلف وهو غلام رسَّخ في ذهنه تلك الصورة الخلقية الرائعة من التكاتف والتعاضد لنصرة المظلوم ورد مظلمته إليه، وهذا يؤكد تربوياً أهمية اشتراك الأبناء في المناسبات التي تحوي مكارم الأخلاق لترتسم صورتها في ذاكرتهم، فيرتسمون خطوطها، كما أن مشاركة الصغير وحضوره في ذلك لا ينقص من قدر المناسبة وأهميتها، بل إن فيها تدريب وإذكاء للجذوة الخلقية، والتعليمية.
cute_30.gif
الزواج بخديجة
خديجة هي أول من تزوجها صلى الله عليه وسلم، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي، وهي من أقرب نسائه إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده صلى الله عليه وسلم في قول الجمهور، زَوَّجَه إياها أبوها خويلد، وكانت قبله عند أبي هالة بن النبَّاش بن زرارة التميمي، حليف بني عبد الدار، وماتت رضي الله عنها على الصحيح بعد المبعث بعشر سنين في شهر رمضان .
فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة حتى قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، يتزوج في شبابه وعمره خمس وعشرون سنة ولم يتأخر عن هذا السن، وهو الذي قال بعد بعثته موجهاً الشباب
(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) صحيح البخاري
ثم إنه صلى الله عليه وسلم قَبِل من الزواج بخديجة صاحبة الخلال الفاضلة، مع أنها أكبر منه سناً، حيث كانت تسمى في الجاهلية : الطاهرة ، فقد حباها الله تعالى وفرة العقل والمال، وكانت من أحب نسائه إليه، لما كان منها من الفضل والسبق للخير وللإسلام، وهي العطوفة الحنونة على زوجها يوم جاءها بعد نزول الوحي إليه خائفاً يقول دثِّروني دثِّروني، فكانت الزوجة الحانية الرفيقة بزوجها،
فقالت له :( كلا والله ما يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم وتحمل الكَـل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ) صحيح البخاري
فها هي الزوجة التي تعكس الأنموذج التربوي الرائع في تعاملها مع زوجها؛ مُذكِّرة له بما هو عليه من الخلق الجميل الرفيع، فترفع من قدره، ومن عزيمته، ومن قوته النفسية، فأثنى الله تعالى عليها من فوق سبع سماوات؛ وبشَّرها بقصر في الجنة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ( ما غِرت على امرأة ما غِرت على خديجة من كثرة ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إياها قالت : وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه عز وجل ـ أو جبريل عليه السلام ـ أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب )
align="right">الراوي: عائشة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3817
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]


وهكذا تضرب لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها المثل في الأمانة حتى ممن تغار منها، فلم تمنعها غيرتها من ذكر مناقب أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، من كثرة ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وذكرها، ومما وعدها ربها به من قصر في الجنة، فطهرت رضي الله عنها من الحسد، وهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة، فلا تتجاوز بغيرتها الفطرية إلى رد الحق وعدم قبوله، أو التعنيف، أو تضييع الحقوق، أو هضم حقوق الأخريات من زوجات الزوج، فحقاً إنها لمدرسة تربوية شامخة بأحداثها الرائعة الفذَّة.
ومن أحداث هذا الزواج المبارك أن الإنسان الصالح يعينه الله ويهيئ له الزوجة الصالحة، وكذلك المرأة الصالحة يهيئ الله لها الزوج الصالح، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسَمَّى في الجاهلية بالأمين لأمانته وتسمى خديجة بنت خويلد بالطاهرة، فوفق الله تعالى بينهما، وهذه إشارة إلى كل شاب وشابة أن يُقْبِلا على الله تعالى في طاعة وتقوى؛ حتى يهيئ الله لهما من يماثلهما، وأما ما يحدث من خلاف لذلك فقد يكون من باب الابتلاء، وقد يكون من باب عدم حسن التدبير والاختيار، التي يلزم مراعاتها في التطبيقات العملية للحياة.
cute_30.gif
بناء الكعبة
بعد بناء إبراهيم وابنه إسماعيل للكعبة المشرَّفة، وبمرور السنون والأعوام، رأت قريش إعادة بناء الكعبة بعد تهدمه، قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمُّون بذلك ليُسقِّفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها"
فلما وصلت قريش إلى موضع الحجر الأسود اختلفت في وضعه في مكانه، كلٌّ يريد أن يَشْرُفَ بحمله، فقالوا : أول رجل يطلع من الفج، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أتاكم الأمين، فقالوا له؛ فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم .
لقد تطلعت قريش لأمر عظيم وهو إعادة ما ارتفع من بناء الكعبة ، وخافت وهابت الأمر العظيم، وما قصة ابرهة الحبشي عنهم ببعيد، عندما أرادوا هدمها واجتثاثها فأرسل الله تعالى عليه وعلى جنده طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجِّيل، وقد أنزل الله قصتها في كتابه العزيز
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)) سورة الفيل
ولكن لصدق نيتهم وسلامة مقصدهم مكنهم الله تعالى من ذلك الأمر، الذي تنازعوا في التشرف برفع الحجر الأسود إلى مكانه من البناء، فاحتكموا لأول قادم للحرم؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بمقدمه معلنين بصوت واحد : أتاكم الأمين، فشرف الأمانة عظيم والتخلق به أمر عظيم، تربى عليه صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره؛ فلم تُعرَف عنه خيانة صلى الله عليه وسلم بل عُرِف عنه فضائل الأخلاق مجتمعة فيه، فأخمد الله تعالى على يديه فتنة قد تكون بسبب اختلاف قريش في رفع الحجر الأسود، وسدد الله تعالى رأيه ووفقه في فكرة وضع الحجر في ثوب لترفعه بطون قريش معه صلى الله عليه وسلم ، ليضعه هو بنفسه في مكانه، وبالرغم من إنكاره لأعمال الجاهلية الفاسدة؛ وعدم مشاركة قومه فيها إلا أنه يشارك في كل عمل نبيل شريف.
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبرهم سناً، ولكن خلقه الكريم وطباعه الرفيعة ترفع من قدره ومكانته عند قومه ومجتمعه، ليكون هو الحكم الفصل في قضية تُعتَبر من أكبر القضايا الدينية والاجتماعية، فهكذا يرسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته الشخصية الرفيعة الحكيمة التي تضع الأمور في نصابها دون تهويل أو تضعيف للمواقف، فها هي صورة الشاب في شبابه وهي في أحسنها وأكملها صلى الله عليه وسلم .
ويفيد هذا أن نهج الاستقامة، والتخلق بأخلاق الإسلام؛ تصنع لصاحبها مكانة ومنـزلة لا يمكن أن يحققها بالدينار والدرهم .
يتبع


[/frame]
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]

البعثة النبوية (1)


لقد جاءت البشارات ببعثته صلى الله عليه وسلم على لسان الأنبياء،
قال الله تعالى
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)


وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ


فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6))


وأما في التوراة والإنجيل فقد وقع التحريف فيها، وحُذِف منها التصريح باسم محمد صلى الله عليه وسلم إلا توراة السامرة، وإنجيل برنابا، الذي كان موجوداً قبل الإسلام، وحرمت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي
وفي قصة سلمان الفارسي بخروجه من بلاده فارس إلى بلاد الشام بحثاً عن الدين الحق دليل على ذلك. حيث وصل في سفره إلى أسقف النصارى، وأخذ يرحل بوصاية من أسقف لآخر حتى وصل إلى أحدهم، فعندما حضرته الوفاة، قال له سلمان: إلى من توصي بي ؟ فقال: أي بني ! والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكن قد أضلك زمان نبي، يُبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة، ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل
وفي هذا دليل على حسد اليهود وكرههم لغيرهم، وخاصة العرب، ومكرهم وإخفائهم للحقائق وعدم أمانتهم، مما يؤكد أهمية أخذ الحيطة والحذر منهم، ومن أعمالهم ومكرهم، وقد قال الله تعالى عنهم
( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
وقد أعطانا سلمان الفارسي رضي الله عنه القدوة الجادة الباحثة عن الحق، وتحمل عناء السفر والغربة وما فيها من كربات؛ رغبة في الدين الحق الذي يرضى الله به عن عبده، وبَذَلَ في ذلك الغالي والنفيس، وعرَّض نفسه للأخطار والمهالك، ولكن هان ذلك في سبيل طاعة ربه عز وجل، فكيف بمن وصله الدين وهو على فراش أهله وثرى بلده ؟ وبالرغم من ذلك لا يُحَفِّز نفسه على التمسك بأهداف دينه وواجباته وفرائضه، ويتحلى بسننه العطرة. ففئتان لا تلتقيان سلمان الفارسي الجاهل ببعثته صلى الله عليه وسلم فيبحث عن الحقيقة، واليهود الذين عرفوا الحقيقة ويهربون منها، بل ويضلون الناس وينحرفون بهم عن الحقيقة، فذلك مثل الذي يقعدُ على دروب الخير ليصد الناس عنها بالكلمة والحرف والقرطاس والقلم، فيسعى وأمثاله إلى إشباع أهوائهم ورغباتهم ونزواتهم، ومثل الذي يبحث عن الحق ويسعى لمعرفته.
ولئن كان سلمان الفارسي يضرب بذلك مثلاً رائعاً، فإن هناك من عرف حقيقة مبعثه صلى الله عليه وسلم ويأمل أن يدركها ويدخل في الإسلام عند حدوثها، ومن أولئك زيد بن عمرو بن نفيل، حيث يقول عامر بن ربيعة، قال سمعت زيد بن عمر بن نفيل يقول : أنا أنتظر نبياً من بني إسماعيل ثم من بني عبدالمطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك
فمعرفة الحقيقة توجب على العاقل التصديق بها، واتباع الحق وعدم التعالي على الخالق سبحانه وتعالى، ونبذ الحسد وتطهير النفس منه، لأنه المانع من الانقياد للحق والإذعان له، فكم غابت عن الحساد منافع ومصالح كانوا منها قريبين، فبَعُدَت عنهم كبعد المشرقين للحسد والكبر الذي يعتلي بعض النفوس


البعثة النبوية (2)

وأول ما بُدِئ برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي كما قالت عائشة رضي الله عنها
( الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلوا بغار حراء فيتحنث فيه ـ أي يتعبد _ الليالي ذوات العدد قبل أن ينـزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الْمَلَك فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطَّني حتى بلغ مني الجَهْدَ، ثم أرسلني؛ فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فقطني الثالثة،
ثم أرسلني فقال (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم) فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملزني. فَزَمَّلُوه؛ حتى ذهب عنه الرَّوْع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله ما يُخْزِيكَ الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ـ ابن عم خديجة ـ وكان امرءًا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نَزَّلَ الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يُخْرِجُكَ قومُك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم ؟ قال: نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يُدْركْنِي يومُكَ أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي).
أخرجه البخاري 8 / 585 (4953).
ومن الفوائد والدلالات التربوية والدعوية والاجتماعية من مقدمات بعثته صلى الله عليه وسلم : أهمية الإعداد والتهيئة والتدرج وعدم الاستعجال، فالله سبحانه وتعالى القادر على أن يقول للشيء كن فيكون، يهيئ محمداً صلى الله عليه وسلم للنبوة أربعين سنة، برعايته الخاصة من حادثة شقِّ الصدر وكفالته ورعايته يتيماً، وتجنيبه وحفظه من عبادة الأصنام، وإنزال محبته في قلب جدِّه عبد المطلب وعمه أبي طالب حتى إنهم ليرعونه رعاية تفوق رعاية الآباء لأبنائهم، فهذه التهيئة الطويلة في حساب الخلق من الخالق القادر على كل شيء، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، تعطينا أهمية الأخذ بهذا المبدأ العظيم في قضايا الدعوة والتربية والإدارة والشؤون الاجتماعية والاقتصادية؛ وفي كل أمر من الأمور.
فالوالد الذي يريد صلاح الابن عندما يحتاج إلى صلاحه دون سابق تربية وتهيئة لتلك الحاجة، فإنه يخالف سنن الله الاجتماعية التي يلزم أن يأخذ بها حتى تستقيم أمور أبنائه، فيجدهم حيث أراد وأحب.
وكذلك المدير الإداري الذي يريد موظفاً جيِّداً في عمله حال ظهور الحاجة إليه في أمر من الأمور الإدارية؛ دون إعداد وتهيئة لذلك الأمر الذي سيؤول إليه؛ هو ضرب من التمني المخالف لحقيقة البناء الإداري.
وكذلك الداعية الذي يريد استصلاح الأمة من كلمة يقولها أو خطبة أو عِدَّةِ خُطَبٍ على المنابر يلقيها، دون إدراك لعملية التهيئة لذلك الصلاح من خلال مفاتيحه الأولى، التي ينصلح بها الإنسان، وهي التعليم والوعظ في تدرج، لأن الْخُطَبَ العاطفية تحفِّز ولا تُعَلِّم، والعلم يعلم الإنسان؛ ولكنه يحتاج إلى الموعظة والخطبة المحفزة، فمفاتيح الدعوة: التعليم والوعظ، فهما خطَّان متلازمان لا يغني أحدهما عن الآخر.
فالله سبحانه وتعالى عندما حرَّم الخمر هيأ الأمة لذلك الأمر، لأنها اعتادته وأصبح جزءاً من طعامها وشرابها في الجاهلية، فأنزل الله تعالى تنويهاً في قوله تعالى ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا... )[النحل:67] ،
ثم التهيئة الثانية في قوله تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما أثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما) ثم التهيئة الثالثة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) النساء/43 ، )
ثم بعد هذه التهيئة المتدرِّجة ينـزل التحريم في قوله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .) المائدة، الآية: 90
فكل أمر يحتاج إلى تهيئة وإعداد هيَّأه الله تعالى لنتعلم كيف نعالج وكيف نربي وكيف ندعوا.
فالتهيئة قد تكون في الأمر الجزئي؛ كتحريم الخمر، وقد تكون في الأمر العام؛
كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها(إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل، فيها ذكر الجنة والنار،حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر،لقالوا: لا ندع الخمر أبداً،ولو نزل لا تزنوا،لقالوا:لا ندع الزنا أبداً...).
صحيح البخاري
ولذلك فإن الزوج الذي يريد من زوجته أن تكون مربِّية قديرة وجديرة بتربية الأبناء على منهج الله تعالى، يبدأ في إعدادها وتهيئتها أولاً: من خلال حسن الاختيار، ثم توجيهها ونصحها وتعويدها على خصال الخير؛ وتعليمها ما تحتاج إليه من مفاهيم تربوية وعملية؛ حتى تصبح فيما بعد أماً صالحة لتربي أبناء صالحين، وكذلك من يريد أن تكون زوجته عفيفة، حافظة لحقوق زوجها في كل أمر، يلزمه أن يهيئها لذلك، قبل أن يلومها، من خلال تعاهدها بالنصح والإرشاد والتوجيه بأساليب التربية النبوية التي تحبب في المرأة النصيحة والاتباع، وليس النفرة والعصيان، والزهد في الخير. فالتهيئة سنة شرعية يجب مراعاتها. وينسحب هذا على أمور الحياة


البعثة النبوية (3)

وأول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (إقرأ باسم ربك الذي خلق) أي لا تقرأ بقوتك ولا بمعرفتك ولكن بحول ربك ورعايته . وهكذا يكون جهد الإنسان التربوي والدعوي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي مرتبط في نجاحه بالأخذ بالأسباب الذاتية والأسباب الشرعية، فلا تركن إلى بلاغتك وفصاحتك وقدرتك ومعرفتك في كل أمر من الأمور، ولكن اقرأ وتعلم وربِّ وادعُ وتاجر بالارتكان إلى قوة الله تعالى وحوله، فهذان عاملان أساسيان لنجاح الأعمال والأقوال.
إن هذه الآية الكريمة تعلم الإنسان البدء في كل أمرٍ من الأمور بالمعرفة والتَّعَلُّم؛ وربط ذلك بحوله وقوته وقدرته سبحانه وتعالى.
كما تعلمنا هذه الآية أن مفتاح هذا العلم هو القراءة؛ وما يلزم لذلك من معرفة الحرف والكلمة والكتابة، وما يتطلبه ذلك من الأدب مع المعلِّم حتى يعلمك ما تحتاج إليه، ويُغدِق عليك من معارفه، كما علَّمتنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وهي تتكلم بلطف وأدبٍ مع ورقة بن نوفل، لتهيئه على أن يعلمها أمر زوجها صلى الله عليه وسلم فتقول له (يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك) فقالت له:يا ابن عم، وهذه حقيقة، ثم قالت له: اسمع من ابن أخيك، وهو يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جدِّه قصي، فأرادت بذلك الأدب أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم.
وإن شدة نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم تعلمنا شدة العلم وحاجته إلى الصبر، وكذلك الدعوة إلى الله تعالى؛ فإنها تحتاج من الداعية أن يصبر على الأخذ بأدواتها التي من أبرزها تعلُّم العلم.
وبعد انقطاع الوحي مدة لم تدم طويلاً تتابع بعد ذلك نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة بعثته.
ثم نزل قوله تعالى (يا أيها المدَّثر) عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَرُعِبْتُ منه، فرجعت فقلت: زملوني،
فأنزل الله تعالى (يا أيها المدثر قم فأنذر _ إلى قوله _والرجز فاهجر) فحمي الوحي، وتتابع).
صحيح البخاري
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك لسانه بالقرآن مسارعة إلى حفظه؛ فأمره الله تعالى بأن ينصت حتى يُقضى إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أُحَرِّكُهُمَا لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُما.
وقال سعيد: أنا أُحركهما كما رأيت ابن عباس يُحَرِّكُهُما _ فحرك شفتيه _
فأنزل الله تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه) قال: جَمْعَهُ لك في صدرك وتقرَأه
(فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) قال: فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه) ثم إن علينا أن تقرأه.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك،
إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه) .
صحيح البخاري

فقد كان صلى الله عليه وسلم تواقاً لكلام ربه تبارك وتعالى؛ فيحرك لسانه رغبة في حفظه، وخشية أن يتفلت منه كلام رب العالمين، فيعلمه سبحانه وتعالى ما ينبغي عليه إزاء ذلك من الاستماع، ووعده بأنه آمِنْ مِنْ تفلته بالنسيان أو بغيره، الأمر الذي يجب أن يكون عليه المتعلم للعلم؛ خاصة لكتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ ذلك بقوة ومحبة ورغبة في إتقانه، وهي عوامل أساسية في حفظ العلم وإتقانه.
ومكانها قلبي لا جهد فيه، غير أنها تحفز عملية التعلم، ثم بعد ذلك الاستماع والفهم لإدراك المعلوم من العلم،كما أنه لا يمكن للمرء في الغالب أن يفهم ويحفظ في لحظة إعطاء الدرس، أو العلم من المعلم، بل عليه أن يفهم ويُدْرِك ما يُقال له حال الدرس، ثم بعد تمامه يحفظه.
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال:
( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح الْمُرْسَلة )
صحيح البخاري
ابن حجر رحمه الله تعالى أنه قيل عن الحكمة من مدارسة جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن الكريم : أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وفي هذا إشارة إلى أثر مدارسة القرآن الكريم على الغنى النفسي الذي ينعكس على جوارح الإنسان وتصرفاته ونظرته للدنيا وما فيها من مال ومكاسب، وأن في مدارسة القرآن الكريم ما يدفع الشح عن الإنسان، ويربي فيه العطاء والكرم والجود،
وكما قال ابن حجر: مجموع ما ذكر من الوقت والمنـزُول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود.
ومن فوائد الحديث: الحث على الجود في كل وقت، والزيادة عليها في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان الْمَزُورُ لا يكرهه، واستحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان.
وفيه من الفوائد أن المدارسة لا تكون من فرد واحد فقط، وإنما تكون بين اثنين فأكثر، وأن تكون للقرآن في كل ليلة من ليالي رمضان. وفيه أهمية الحرص والمتابعة لمن وفقه الله لحفظ القرآن الكريم خاصة.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكفل له ربه بحفظه وجَمَعَهُ له في صدره يدارسه جبريل القرآن الكريم، فمن باب أولى أن يقوم بذلك أفراد الأمة؛ ولا سيما أهل العلم والصلاح، وخاصة الحفاظ حفظنا الله تعالى وإياهم.

مرحلة الدعوة السرية (1)

قال ابن هشام: وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين _فيما بلغني _ من مبعثه وقال ابن القيم: وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه وتعالى مستخفياً، ثم نزل عليه قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين).
إن الله تعالى الآمر بما شاء والذي أذعنت له الخلائق، وإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلا بعد ثلاث سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم فيتهيأ له الأمر وتتهيأ له القاعدة الأساسية المكونة من رسول رب العالمين الذي تفاجَأ بنـزول الوحي وهابه، وقال: زملوني زملوني، وليعتاد الأمر الذي لم يكن له معرفة به من قبل، فتتهيأ له نفسُه، وتتهيأ له قُواه ومشاعره بالتضحية والتولي عن الراحة إلى المجاهدة في كل جوانبها
(يا ايها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر).
قضايا كبيرة وعالية لا بد أن يستوعبها النبي الأمي من ترك التدثر إلى الإنذار، وتكبير الله تعالى قولاً وعملاً، وتطهير الذات ظاهراً وباطناً، وإعلان التوحيد الخالص الذي يقتضي رفض عبادة كل ما عدا الله سبحانه وتعالى، مع عدم التمنن على من يُحسن إليهم ، والصبر على ذلك.
ويأتي بعد تلك القاعدة وجود الأعوان المخلصين الذين تتقوى بهم الدعوة، لتنتقل من السرية إلى العلنية، حيث دخل في الإسلام أولاً: زوجته خديجة وابن عمه علي بن أبي طالب ومولاه زيد بن حارثة، وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وبهذه الكوكبة الأخيار بدأ ينتشر الإسلام، ويدخل فيه خلقٌ آخر خفية.
إنها مرحلة التكوين التي تنطلق من تربية الفئة القليلة التربية التي تغرس لديهم حب التضحية، من أجل كلمة الله تعالى، ونُصْرة دينه ونبيه، بالتي هي أحسن، فلم يأمر الله تعالى نبيه بمقاتلة قومه والهجوم عليهم بالكلمة أو العتاد، وإنما بالحكمة المشتملة على اللطف والصبر على الأذى وتحمله، لأن الهدف ليس هو تحقيق الرفعة عليهم، بل رحمتهم والشفقة عليهم من نار جهنم؛ وحب الخير لهم بدخول هذا الدين الذي به يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
لأن الذي يدعو أو يربي وهو يرجو الرفعة لنفسه والانتصار على الناس؛ يكون تفكيره مُنْصَبُّ على استخدام الأساليب التي تحقق ذلك؛ ومنها استخدام القوة بأنواعها؛ واستضعاف المقابل؛ بينما الذي يدعو خوفاً على الناس ورحمة بهم وشفقة عليهم فإنه يتلطف بهم كما تتلطف الأم بابنها ليأكل أو ينـام، أو يقضي حاجـة من حوائجه، فالطفيل رضي الله عنه عندما دعا قومه وجد منهم صدوداً، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم فقال (اللهم اهد دوساً وائت بهم ) نتيجة شفقته صلى الله عليه وسلم ومحبته لإنقاذ الناس من الكفر وما يتبعه من العذاب المهين، قال تعالى عن منهج رسوله صلى الله عليه وسلم (فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فَظَّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) .
وهذا ينطبق على الرجل في أهله، والرجل في مهنته وعمله، والإداري في إدارته، والرئيس في رئاسته، والصديق بين أصدقائه، فإذا كان الواحد منهم يريد الانتصار لذاته؛ جرياً وراء حظوظ النفس والهوى؛ غير مدرك لأهداف الإسلام وغايته ولمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم وغير عارف بمنهج الله تعالى الذي أراد أن يسلكه كل أحد في ميدان التعامل، فإن عاقبة أمره خسراناً.
فالرجل الذي يريد أن يحقق انتصاراً لنفسه في منـزله من خلال فرض الآراء والإرادات دون اكتراث لحالات النفس الإنسانية وما جبلت عليه؛ وتفاوت العقول والأفهام، وتباين ما اعتاده الإنسان في حياته من سلوكيات،
فإنه غالباً ما يفشل في إدارة منـزله، خاصة إذا واجه من لا يطيع إلا على بصيرة ومعرفة.
وكذا الرجل في إدارته سواء أكان رئيساً أو مرؤوساً، يلزمه معرفة المنهجية النبوية في التغيير وفق سنن الله الاجتماعية، فيلزم التأمل والنظر والتهيئة النفسية والاجتماعية لما يُريد أن يُحدثه من تحسين إداري،
وأن يستخدم قوة السلطة في رحمة وشفقة على العمل والعامل. لا على العمل دون العامل.
وكذا الصديق في دائرة صداقته، لا يكن ذلك الرجل الذي يهدف من الصداقة الاستحواذ على العقول والقلوب بقوة النفوذ، بل لابد من مراعاة الأخلاق والطباع وحالات النفس البشرية، وما يعتريها من تقلب، وما جُبلت عليه.
مع التزام الإنسان بما جاء في قوله تعالى
(يا ايها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر).
فإذا كان سياق الآية مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للجهر بالدعوة مع الاتصاف بتلك الصفات الواردة في الآية الكريمة، فإن هذا منهج قرآني رباني يلزم المسلم الالتزام به، ولا سيما أهل العلم، لأنهم ورثة الأنبياء،
وكذا عامة الناس، فإنهم دعاة في داخل منازلهم، وبين أصدقائهم، بقدر ما عندهم من العلم.



مرحلة الدعوة السرية (2)

وهذه الصفات التي تضمنتها الآية أساس في نجاح المربي والداعية والإداري والصديق والرئيس والمدير.
بل أساس لنجاح الإنسان؛ أياً كانت دائرته التي هو فيها.
فالإنذار عن الشر وما يؤل بالإنسان إليه أمر مطلوب من الأب في منـزله، والعامل في عمله، والمدير في إدارته، والصديق بين أصدقائه، ولا تستقيم أمور الجماعة المسلمة إلا بعملية الإنذار الدائمة المستمرة، التي لا تتوقف ما سار الإنسان وسعى، لأنه معرض للخطأ والغلط. والنصح أمر لا ينفك عنه أمر هذه الأمة على مستوى الأفراد والجماعات.
وتعظيم الرب جلَّ جلاله من لوازم العبودية له سبحانه وتعالى على خلقه، وإذا عظَّم المربي والداعية والإداري والصديق ربه عز وجل أثر ذلك في سلوكه وفي تعامله مع من يتعايش معهم، فإجلال الرب وتكبيره يدفعه إلى أن لا يتعاظم على الناس، فالله هو الأكبر.
كما يدفعه ذلك إلى تعظيم الرب فيما يقوم به من توجيه وإرشاد وإصدار أوامر، وتفويض صلاحيات، ومنح سلطات، فيعرف أنه مسؤول أمام الرب العظيم سبحانه وتعالى؛ الذي له الكبرياء في السماء والأرض،
فإن استشعار (الله أكبر) في قلب المسلم تُعلمه دروس لا يستوعبها هذا الكتاب.
وتطهير الثياب في الآية الكريمة كما قال بعض أهل العلم، قد يقصد بها أعماله كلها، بتطهيرها وتخليصها، والنصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات والمنقصات، من شر ورياء ونفاق وعُجب وتكبر وغفلة وغير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته، ويدخل في ذلك تطهير الثياب.
وتطهير الثياب والنفس من الدنس والأرجاس والأحقاد والكبر والحسد ومنكرات الأخلاق أساس قوي في قبول توجيه المربي والداعية والمدير والمدرس، والزوج والأب، لأن النفس لا تتعلق بنصح الناصح إلا إذا كان أهلاً لذلك، ولا يكون الإنسان أهلاً لذلك إلا إذا كان طاهراً في عبادته من الشرك، وفي أخلاقه من الرذائل، وفي ملابسه من النجاسات والأقذار، فلا يرى العاقل قبولاً للتوجيه ممن عري من تلك الصفات، وهذا ليس خاص بالدعاة، بل لكل فردٍ في أي كان من خارطة التعامل الواسعة.
وكذا يلزم أولئك المؤثرين وغيرهم من الناس هجر المبطلات الباطلات من الأوثان وكل ما يُتعلَّق به من غير الله تعالى، فالذي يتعلق بالمخلوقين دون الخالق يظل منكسر الفؤاد لهم، يرضى برضاهم ويسخط بسخطهم،
فتستحوذ عليه الأوهام والاضطرابات النفسية، نتيجة تعلقه بالمخلوق، فيرجو من المخلوق تحقيق الآمال ودفع الشرور والمضرات، ولا شك أن من أخذ بهذه الصفة أو بشيء منها ضعفت عزيمته، وقلت حيلته، ووهن تدبيره وتفكيره، وبالتالي كيف تُقبل توجيهاته الإدارية أو التربوية أو التعليمية أو الأسرية ؟
وهو الضعيف المنكسر أمام الضعفاء من الناس.
وإن البعد عن التمنن بما أسدى إلى الناس من معروف وإحسان، يُعتبر من مطالع عوامل التأثير، ومحبة الناس له، لأن من يتفضل على الناس بالخير والجاه، ثم يَمُنُّ عليهم بما صنع من معروف على سبيل التقريع، أوعلى سبيل التفضل عليهم؛ فإنهم يزهدون في معروفه، ويحملون له الحقد، والكراهية والبغضاء، وبالتالي لا يستجيبون له، ولا يتفاعلون مع توجيهاته، مهما بلغت من الصواب، لأن النفوس البشرية الفاضلة ترفض هذا السلوك وتأباه.
فإذا وجه المدير أو المربي أو الإداري أو الصديق أو الداعية المتصف بالمن، فلن يجد لتوجيهه أبواباً مفتوحة ونوافذ مُشَرَّعة، فضلاً عن نهي الله تعالى عن هذا السلوك، قال تعالى(الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتْبِعون ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذىً والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تُبْطِلُواصدقاتكم بالمَـنِّ والأذى)
ثم مـن أقـوى مـا يتقوى بـه الناجـح من المربين والمعلمين والموظفين والأصدقاء، وأصحاب المهن والأعمال هـو الصبر؛ الذي تكفل الله تعالى بثوابه؛ في بشارة منه سبحانه تبارك وتعالى، حيث قال جلَّ جلاله في كتابه الكريم (وبَشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون).
فالصديق الذي يصبر على جفوة الأصدقاء وزلاتهم يوفقه الله تعالى، بل وتنغرس له محبة في قلوب أصدقائه، وكذا المدير الذي يصبر على موظفيه وأعباء عمله، سيجد لذلك فرجاً وتدبيراً، وكذا الداعية والمربي،
والرجل في بيته، والمرأة في دارها، والمدرس في فصله، والطالب مع معلميه ومدرسيه.
فهذه الآيات التي هي مطلع سورة المدثر عَلَّمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبُل تحقيق أهداف النبوة؛ التي هي أعظم التكاليف، فكيف إذا طبقها المرء في حياته، وفي أعماله التي لا ترقى إلى تكاليف أعمال النبوة،
فكما حقق بها صلى الله عليه وسلم نجاح دعوته فكذلك كل مسلم يستطيع أن يحقق بها النجاح في الخير.
يتبع [/frame]
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]

إسلام الجن

لقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشُهب كما جاء في الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم ؟
فقالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء، وأُرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها؛ فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء.

فانصرف أُولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ؛ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له،
فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم
وقالوا: (يا قومنا إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) فأنزل الله على نبيه
صلى الله عليه وسلم (قل أوحي إليَّ) وإنما أوحى إليه قولُ الجن. صحيح البخاري

والجن كما قال تعالى عنهم في وصفهم لأنفسهم (وأَنَّا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قِدَدَا).

وقددا: أي ضروباً وأجناساً ومللا، قال الحسن والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة.

فلقد كان مبعثه صلى الله عليه وسلم حدثاً وتغيراً كبيراً على الجن الذين قد شملتهم رسالة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يسترقون السمع، وأصبحوا بعد بعثته عليه الصلاة والسلام يُرْمَون بالشهب الشديدة، فلا يستطيعون السمع إلى خبر السماء، فهذا حدث عظيم، ونبأ جسيم،
فقالوا (وأَنَّا لا ندري أَشَرٌ أُرِيد بمَن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا).
فاستشعرت الجن هذا الأمر العظيم والجسيم، فأرسلوا مراسيلهم يجوبون الدنيا لمعرفة هذا الخبر العظيم، فوجدوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد بُعِث للإنس والجن، واستمعوا للقرآن العظيم، فعادوا إلى قومهم منذرينهم ومبشرينهم بما وجدوا من الحق والخير الذي جاء به صلى الله عليه وسلم .
ولئن تأثرت الجن بهذا القرآن العظيم، وبهذه الرسالة العظيمة، وبهذا النبي الأمي الذي ما عُرف عنه عيب يُعاب به قبل البعثة، فإنه لجدير بالإنسان أن يتعظ بذلك، ويستعظم بعثته ورسالته وما أنزل عليه، فليست الجن بأحسن حالاً منه. ولئن تفرقت الجن للبحث عن هذا الأمر العظيم، فإنه قد جاء لأرجاء المعمورة بدون عناء من الإنس، وبالتالي ليست الجن بأحسن حالاً منهم. ولئن تفرقت الجن طرائق قددا، فليحذر الإنسان من هذا المسلك الشيطاني، والاختلاف والخروج عن النهج القويم، وليدرك أن هذا المسلك الْقِدَدِي هو مسلك شيطاني، قد عرفته الجن وسلكته.
كما أن شمولية الجن بهذه الرسالة العظيمة آية وعلامة ودليل بأنها رسالة شاملة للخير كله، فهو دين الله الحق العظيم.
وكما أن الجن بحثت عن الحقيقية، فإنه لجدير بالإنسان أن يبحث عن الحق ويتثبت؛ ويثبت عليه، فليست الجن بأحسن حالاً منه



الجهر بالدعوة

بعد مضي ثلاث سنين من الدعوة سراً، أمر الله تبارك وتعالى نبيه بأن يَصْدَع بهذا الأمر، معلناً إياه على رؤس الأشهاد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى صَعِدَ إلى الصفا فهتف: يا صباحاه.
فقالوا: من هذا ؟ فاجتمعوا إليه،
فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟
قالوا ما جربنا عليك كذبا.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
قال أبو لهب: تباً لك، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام. فنـزلت (تبت يدا أبي لهب وتب)
رواه مسلم
فبهذه الآية العظيمة التي في مطلع الحديث تتأكد الأهمية العظيمة للتدرج والتهيئة في جوانب الحياة، وأن ثمرة الجهد البشري لا تتحقق في يوم وليلة على الغالب، بل تحتاج إلى الوقت الذي يُنْضِجُها؛ والجهد الذي يقوي مفاصلها، ويَشُدُ عضدها، وهكذا يكون الداعية، وطالب الأرباح، والمعلم، والمربي، والإداري، والسياسي.
وبهذه الآية العظيمة وهذا النداء النبوي يُعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفئة المستضعفة والمتسترة بدين الله تعالى، قد أخذت منها التربية النبوية مأخذها القوي، الذي سيمكنها بإذن الله تعالى وتوفيقه بأن تصدع بهذا الأمر العظيم، الذي سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها.

وللمسلم أن يلحظ في أسلوبه صلى الله عليه وسلم أنه بعد نداء القوم: يا صباحاه، بدأ بتقرير صفاته؛ وبأسلوب نبوي حكيم، إذ لم يُعدد مفردات أخلاقه، ولكن أثبت شهادتهم له على الملأ بمفردة خُلُقية واحدة، حيث قال صلى الله عليه وسلم (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا. ) وهي تلك الأخلاق العظيمة التي يُعْتَمَدُ عليها في قبول الأخبار، ثم بعد ذلك أخبرهم بالخبر العظيم، أنه رسول رب العالمين.
ولذلك فإن المعلم والمربي والداعية والقائد في إدارته ومصنعه ومستشفاه، والرجل في أهله، والمرأة في دارها، يلزمهم الاتصاف بما يجعل أقوالهم مقبولة عند من يحيطون بهم؛ ويستفيدون منهم، فلابد من قناعة المتعلم والمستفيد بصفات المعلم أو المفيد، أياً كانت دائرة فائدته ومجالها.
وبعد ذلك يأتي دوره التوجيهي.
وعلى المفيد أن يَعْلَمْ أنه قد يجد من لا يقبل قوله ويرد توجيهه بأقبح الردود، فتلك دعوة الله تبارك وتعالى ورسول كريم قد ردها أبو لهب رداً قبيحاً استحق بها سورة تذكر جزاءه ومآله.
فليس المعلم أو القائد أو الداعية بأحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يأتي أحد منهم بما هو خير مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالحال إذاً هو الاجتهاد؛
وترك التوفيق لله تعالى (إنك لا تهدي مَن أَحْبَبْتَ ولكنَّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين).

ولئن أبى ورفض أبو لهب الدخول في الإسلام؛ معلناً كبرياءه، فلقد دخل في دعوته صلى الله عليه وسلم خلق كثير؛ أفراد وجماعات، حيث امتد ركب الداخلين في دين الله تعالى حدود أم القرى، مكة المكرمة





أساليب الأذى والتصدي (1)

لم يرق لبعض المشركين ترك ما ألفوه من الضلال والكفر، وهجر الرذائل، بالرغم مما سمعوه من القرآن الكريم، وصفاء الدعوة؛ وما حوته من مكارم الأخلاق، وصفاء التوحيد والإخلاص لله تبارك وتعالى، وترك كل معبود
من حجر أو شجر أو صنم يُعبد من دون الله تعالى.

ولكن هناك دواعي أخرى جعلت بعض كبرائهم يقفون ضد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي منها:
ـ اضمحلال مصالحهم الاجتماعية من السيادة التي يمارسونها في البيت العتيق.

ـ الحسد والكبرياء، كما قال أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الرُّكَب، وكنا كفرسي رهان،
قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدْرِك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه.

ـ خضوع الأسواق والركبان الذين يحملون البضائع ويتاجرون في رحلة الشتاء والصيف لقراراتهم.

ـ حب الذات وزخرف الدنيا أدى إلى استشعارهم صعوبة التنازل عن السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم.

فهذه الأسباب غالباً ما تحول بين المرء وسلوك مسلك الصالحين، خشية على السيادة الموهومة، والمصالح التي مآلها للفراق، أو نتيجة الحسد والكبرياء، وكلها مجتمعة أو متفرقة من دواعي قطع الطرق الموصلة لمسلك الصراط المستقيم؛ المفضي إلى جنات الخلود.

وكل أحد خائف ومراع لمصالحه الباطلة فإنه ينحو عن جادة الطريق في التعليم والإدارة والدعوة، وفي كل شؤون الحياة، لأنه لا يعرف إلا تقديم مصلحته الخاصة على المصلحة العامة، والمصلحة العاجلة على الآجلة.
فصاحب المصلحة الوظيفية ينافح عن مكانه حتى ولو بإقصاء النجباء، وصاحب المال يصارع ويناطح الآخرين، وقد يسعى لإسقاطهم رغبة في التفرد والإنفراد. وصاحب الجاه ينافح ويضاد أولي الألباب من أهل الكياسة والفطانة خشية على جاهه.
فالتربية الصحيحة هي التي تُجَسِّد الروح الإسلامية في أفراد الأمة وتجنبهم مزالق الهوى والفكر الرديء من خلال الوالدين والإخوة والمدرسة والمسجد والإعلام.
ولهذه الأسباب اتخذ المشركون أساليب عديدة لمقارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصدي له
ولمن دخل في دينه، ومن تلك الأساليب:

1ـ إلصاق التهم والنعت السيئ:
من الأساليب التي استخدمها المشركون التثبيط والإحباط من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال: النعوت والصفات والتهم السيئة الباطلة، التي تدفع الآخرين للتشكيك وعدم التصديق، لما لمزوه من صفات جارحة لعدالة الإنسان، فقالوا عنه صلى الله عليه وسلم ساحر ومجنون، وكاهن، وكذاب، وقد رد الله تعالى عليهم، وأبطل زعمهم وبهتانهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم
قال تعالى
(وَقَالُواْ يَا أَيُّهَاالَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ(6)لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَالصَّادِقِينَ(7)مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّبِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ(8)إِنَّانَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِالأَوَّلِينَ(10)وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍإِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ(11)كَذَلِكَنَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12)لاَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ(13)وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِفَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ(14)لَقَالُواْ إِنَّمَاسُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُو15) ن)

وأجابهم الله بقوله (مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).
وقال تعالى (وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُوراً). سورة الفرقان

وقال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ).


وقال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم
(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِ الْكُنَّسِ(16)وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ(17)وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(19)ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21)وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ(23)وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ(24)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ(25)).
وقال تعالى
( فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48))

لقد استخدم أهل الكفر والضلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرذل الصفات وأسوء النُّعُوت وأقبحها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطيبين لم يقابلوا ذلك بالوهن والتأفف والتخاذل، بل صبروا على ذلك الأذى المعنوي في شجاعة قد غذاها الإيمان والتصديق، فبين الله تعالى في القرآن الكريم بطلان تلك الاتهامات، لتكون قرآناً يُتلى إلى يوم الدين.

فهذا نبي الله يتعرض للأذى المعنوي، بما فيه من القوة والشدة ووخز العرض بأمضى السيوف، وهي الكلمة الجارحة، فكيف بمن هو دونه صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والتقى؛ ألا يتعرضون إلى اللمز والتجريح والتشكيك في إخلاصهم ونواياهم، وقد يُوصفون بأنهم أولي أطماع.

فمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوته فلينهج نهجه وسيرته من الصبر على أهل الأذى والطغيان، من باب الإشفاق عليهم، فلعلهم يَفِيقُون من سكرة غيهم وطيشهم فيرشدون، لأن الهدف ليس هو الانتصار عليهم، بل الهدف هو إصلاحهم وإدخالهم في باب الخير والفلاح.
إن هذا الأسلوب لا يقتصر على أعداء الدعوة الإسلامية فقط، بل إنه أسلوب يستخدمه الحاقدون والحاسدون في جميع دوائر الخير ومجالاته، فصاحب الرأي السديد في إدارته، والمعلم الناجح في مدرسته ومعهده وجامعته، والصديق بين أصدقائه وجلسائه قد يجد من يرميه بالكلام الجارح والصفات السيئة، بُغْيَة تثبيطه وتنفير الناس عنه، ولكن بالصبر الجميل كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر ويعلو على الحاقدين والحاسدين.

وإن المنهج التربوي الناجح هو الذي يُذْكي في أتباعه الصبر على الأذى كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من أصحابه الميامين ومن اقتفى أثرهم من بعدهم.

ومن أمثلة الأذى النفسي الذي تعرض له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما واجهه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إذ يقول: ( حَلَفَتْ أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب.

قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثتْ ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد،
فقام ابن لها، يقال له: عمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد ).

فهذا نوع من الإيذاء المعنوي الذي واجهه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من والدته، وإنه لأمر وابتلاء عظيم يواجهه من أمه بحرق فؤاده مما يراه عليها من الامتناع عن الطعام حتى غشي عليها، ولكنه صبر أمام ذلك الإيذاء.




أساليب الأذى والتصدي (2)

ـ الإيذاء الجسدي :
ومن ألوان الأذى التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الإيذاء الجسدي في صور متعددة، فلم يزدهم ذلك إلا إيماناً وتسليماً، وتضحية، وصبراً، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:
(بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، وجمع قريش في مجالسهم، إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائي ؟ أيكم يقوم إلى جَزورِ آل فلان فَيَعْمِدُ إلى فَرْثِها ودمها وسلاها فيجئ به، ثم يُمْهلُه حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه ؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم من الضحك، فانطلق منطلق إلى فاطمة عليها السلام ـ وهي جويرية ـ فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تَسُبُّهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش. ثم سَمَّى : اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعَيْط، وعمارة بن الوليد، قال عبدالله: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأُتبِع أصحاب القليب لعنة ).

إنها صورة مخزية لأهل الكفر والضلال، حتى أنهم يتمايلون ضحكاً وسخرية من صنيعهم اللعين، الذي كدروا به صفاء كل مسلم يتذكر هذا الموقف العصيب لنبي الرحمة والهدى صلى الله عليه وسلم ولكنه عليه الصلاة والسلام ثبت ساجداً حتى أتته ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهي جويرية، وكأني بها في ألم وحسرة مما أصاب والدها ونبيها وحبيبها محمداً صلى الله عليه وسلم ولكنه الكرب الذي بعده النصر والعزة والسؤدد، فاستحقوا اللعن منه صلى الله عليه وسلم فأصابتهم دعوة النبي المظلوم، فأصبحوا صرعى يُسحبون إلى القليب، قليب بدر. فهكذا تكون نهاية المجرمين الذين لا يتعظون ولا يفكرون في مغبة الظلم والجبروت.
ويعطي هذا الموقف دروساً يلزم أن يتربى عليها المجتمع المسلم؛ من هجرٍ للظلم والتمرد على الحق، والطغيان في حق كل من يتم التعامل معهم، فليس للطغيان صورة واحدة، متمثلة في ذلك الموقف القاسي، بل قد يكون في صور أخرى، في ظلم الجار لجاره، والأخ لأخيه، والقريب لقريبه، والصديق لصديقه، والزوج لزوجته، والزوجة لزوجها، والعامل مع صاحب العمل، وصاحب العمل مع عامله، والمعلم مع طلابه، والطلاب مع معلميهم، والمدير مع موظفيه، فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب) .

إن احتقار الآخرين ظلم لهم، وأن منعهم حقوقهم المعنوية أو المادية ظلم لهم،
قال تعالى (ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين) فلا يحق للمستأجر أن يبخس حق المؤجر، ولا المؤجر حقوق المستأجر، ولا البائع حق المشتري، ولا المشتري حق البائع، ولا الرئيس حق المرؤوس ولا المرؤوس حق الرئيس، ويقاس على ذلك. فإنه دين الرحمة ونبي الرحمة.

ولقد مس مشركي مكة الجوع والجهد والبلاء بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعلهم يرجعون إلى الصواب والحق، قال عبدالله بن العباس رضي الله عنهما: (أن قريشاً لما استعصت على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وحتى أكلوا العظام، فأتى النبيَ رجلُ فقال: يا رسول الله ! استغفر الله لمضر، فإنهم قد هلكوا، فقال: لمضر ؟ إنك لجرئ، قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله عزَّ وجل (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون).

قال: فَمُطِروا. فلما أصابتهم الرفاهية، قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، قال: فأنزل الله عزَّ وجل
(فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) قال: يعني يوم بدر) .

ودعوته عليهم صلى الله عليه وسلم بسبب تكذيبهم إياه؛ واستعصائهم على الإيمان، وليس بسبب إيذائهم له، فطالما احتمل أذاهم، ولم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهداية.

ويلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع عليهم بالهلاك الكلي من رحمته وشفقته، ولكن دعا عليهم بما يجعلهم يتضرعون فيرجعون لرشدهم، ويتوبون إلى الله تعالى، فاستعمال العقوبة للتأديب، مثل الهجر ومنع العون والمساعدة رجاء أن يستجيب أهل الباطل ويُذعنون للحق، وفي هذا الدعاء الذي ذكرته رواية ابن عباس رضي الله عنهما دليل على رحمته وشفقته وصبره صلى الله عليه وسلم وهو ما عُرِف عنه طيلة حياته؛ وفي وصاياه وأقواله وأفعاله وتقريراته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وفي هذا الموقف ما يدل على أن من كفر منهم ولم يؤمن إنما كان ذلك بسبب الكبر والحسد واتباع سبيل الشيطان الرجيم، حتى إذا كشف الله عنهم ما أصابهم وحلت عليهم الرفاهية عادوا إلى ما كانوا عليه،
وهكذا المتمردون في كل وقت وحين.

فالعاقل إذا مسه الله تعالى بضر، يلجأ إلى الله تعالى ويتفقد نفسه وأحواله، ويُصلحها، وإذا عادت إليه الرفاهية والنعمة، فلا ينكص كما هو فعل الجاحدين الكافرين المارقين، فكم من نعم تُصِيب الإنسان بعد بلاء وجهد، فينسى ما كان فيه من بلاء فيبطر ويتكبر.

قال تعالى ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسَّته ليقولَنَّ ذهب السيئات عني إنه لفَرِحٌ فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير).

فهذا مسلك الإنسان إذا أذاقه الله تعالى نعمة منه ثم نزعها أصابه اليأس والقنوط، ولئن أذاقه نعمة بعد ضراء وابتلاء أصابه الفرح والفخر والخيلاء، ويسلم من ذلك: الذين يصبرون على البلاء في حالة المصيبة، والذين يعملون الصالحات في حال الرخاء والنعمة،
فهؤلاء لهم مغفرة من الله تعالى ولهم أجر عظيم من الرب تبارك وتعالى.

ومن صور الإيذاء ما ذكره عبدالله بن عمرو بن العاص حين سأله عروة بن الزبير: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عيه وسلم فقال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي مُعَيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً،
فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم))

إن هذا النوع من الأذى يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صابر على قومه، يتحمل أذاهم، دون أن يقاومهم، فتشتد الفرقة، ويتسع بُعْدُهم عن القبول والدخول في الإسلام، وإنها لتصرفات رسول حكيم رؤوف في دعوته، ينتصر لها ولا ينتصر لنفسه، وإن من عوامل الانتصار للرسالة الصبر والحلم.
وإنه ليجدر بالإنسان المسلم أن يصبر في دعوته على الأذى أياً كانت درجته ونوعه، ولا يقابل ذلك بالإيذاء والاعتداء، وإزهاق الأنفس، والتدمير الغاشم الذي لا يفرق بين الحق والباطل، فلم يعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتل أو التنكيل والتعذيب والتدمير، وإنما يصبر ويَحْلِم على تصرفات الأعداء، لأنه لا يريد الانتصار لنفسه، وإنما كان مشفقاً على البشرية، يرجو رحمتهم بدخولهم في دين الله تعالى، حتى في دعائه، كما مر بنا، أنه لم يدعو عليهم بالهلاك الكلي، وإنما دعا بما يجعلهم يعودون إلى ربهم، وذلك أن تصيبهم سنين كسني يوسف عليه السلام.

ولقد بلغ من أذاهم أن تواعدوا على قتله صلى الله عليه وسلم فعن ابن عباس رضي الله عنهما،
قال: (إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومنات الثالثة الأخرى ونائلة واساف، لو قد رأينا محمداً لقمنا إليه قيام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نقتله، فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي، حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك، لو قد رأوك، لقد قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبهم من دمك، فقال: يا بنية أريني وضوأ فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من التراب، فقال: شاهت الوجوه، حتى حصبهم بها، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قُتِلَ يوم بدر كافراً ) .

فهكذا سولت لأولئك الملأ أنفسهم بالتعاقد والتعاهد على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن حماية الله تعالى لنبيه ونصرته له، وعِصْمَتُه له منهم منعته من ذلك، بل أذاق أولئك النفر الخزي يوم بدر، ونكصوا على رؤوسهم قبل ذلك بعد تعاقدهم على قتله صلى الله عليه وسلم فهذا نصر الله لمن انتصر لله وبالله تعالى.




أساليب الأذى والتصدي (3)

ـ إيذاء المشركين للصحابة:
لقد شمل الأذى الداخلين في دين الله تعالى، حيث امتد الأذى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستضعف الضعفاء، وبُطِشَ بهم، وعُذِّبُوا ، فعن عبدالله بن مسعود صلى الله عليه وسلم قال :(أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمار وأمه سمية، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان وأخذوا يطوفون به شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد) .

فهكذا يُعطينا ابن مسعود رصي الله عنه عند سرده للإيذاء درساً في التوحيد، إذ يُوكل المنعة لله سبحانه وتعالى بعمه أبي طالب، فيقول: (منعه الله بعمه) فلم يعمد للأسباب، فيقول منعه عمه، وإنما جعل الأسباب جند من جنود الله تعالى، وكذلك عندما ذكر أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (منعه الله بقومه).

ثم هذا بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه يُقدم الآخرة على الدنيا ولذائذها، وهو لم يعرف بعد الكثير من تفاصيل الإسلام التي نزل بها جبريل خلال ثلاث وعشرين سنة. فيتصدى لأذى قومه بتوحيد الله تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، فيقول: أحد أحد، لِيَدُلَ بها على أن الله تعالى هو الواحد الأحد؛ ولا معبود سواه، ولا رب غيره، هو الواحد الأحد.

لقد كان بلال رضي الله عنه صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية بن خلف بن وهب يُخْرِجُه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد.

فلم يزعزعه رضي الله عنه الأذى وحرارة الشمس التي يُمَرَّغُ عليها جَسَدُه، ولا طواف الصبيان به في شعاب مكة، وبين بيوتها، لم ينظر إلى رؤية النساء له، ولا الصبية ولا علية القوم، وإنما نظر إلى طاعة الله تعالى، وإلى الآخرة وما فيها من نعيم مقيم، وكم يُقَدِّم المسلمون اليوم ألواناً من التقاعس عن أداء العبادات والواجبات وكثيرٍ من السنن التي لا يعاتبهم عليها أحد، ولا يثنيهم عن القيام بها إنسان ولا قوة، فكيف لو كان هناك من يُجالدهم عليها ؟
إن بلال بن رباح رضي الله عنه يقدم لنا أنموذجاً ونصيحة حية تُدوي في أرجاء المعمورة منذ ألف وخمسمائة سنة تقريباً، فذهب بلال وأبقى لنا سيرته العطرة رضي الله عنه.

فهذا بلال قد امتدت له رحمة الله تعالى بعبده أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليسجل في صحائف المسلمين الأوائل النصرة لله تعالى؛ من خلال نصرة إخوانه المستضعفين في الأرض، فيشتري بلالاً من أمية؛ ثم يعتقه من ذلك التعذيب المهين والاستعباد المقيت إلى حرية الدين وعبودية الله تعالى، قال عمر رضي الله عنه
(أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، يعني بلال) وقالت عائشة رضي الله عنه (أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يُعذب في الله عزَّ وجل، منهم بلال وعامر بن فهيرة ).

وممن ذاق ألوان العذاب من كفار قريش آل ياسر ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فقد كان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه، وكانوا أهل بيت إسلام، إذا حميت الظهيرة؛ يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله رضي الله عنه فيقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فأما أمه فقتلوها، وهي تأبى إلا الإسلام.

لقد قدمت هذه الأسرة أنموذجاً في الصبر على بلاء التعذيب والنكاية، فكيف بمن لا يصبر على ابتلاء الدنيا في المال والولد والمرض والقلة والفاقة، إنها جميعاً تهون أمام التعذيب البغيض الذي يرى فيه عمار بن ياسر أمه وهي تُعَذَّب أمامه، ووالده الذي يمثل أصله وعِرْضَهُ يُعَذَّب بين يديه وأمام بصره، أو ذلك الابن ياسر وهو يُعَذَّب بالرمضاء أمام أبويه، فينظران إليه في شفقة ورحمة، ولكن كل ذلك لم يثنيهم عن الصبر من أجل دينهم.

إنها الأسرة النموذجية في الصبر والفداء، ولكن لتلك الكلمات العطرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة الكريمة بالجنة (أبشروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة) إنها لتذكو في نفوسهم مشاعل الخير والصبر، والنظرة الطويلة الثاقبة إلى ما بعد هذه الدنيا.

ولكم نحتاج إلى دراسة وقراءة هذه النماذج المؤمنة التي تعطينا الدروس والعبر فيما يجب أن يكون عليه المسلم، فلئن صبروا على الأذى فكيف بمن لا يصبر على الطاعة في غير أذى، إلا أن الصدود عنها أو التكاسل فيها بسبب اتباع الهوى وحب الراحة والدعة.

وممن لقي التعذيب والتنكيل خباب بن الأرَت رضي الله عنه حتى أنه يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشكو إليه ما يجده، حيث يقول ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالميشار فيوضع فوق رأسه فينشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله لَيُتَّمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ).

فما شكوى خباب وأصحابه إلا لبلوغ العذاب مبلغاً لا يستطيعون الصبر عليه، حتى بلغت آثاره في ظهره علامة قد ارتسمت، فقد جاء خباب إلى عمر فقال: أدن، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار، فجعل خباب يُريه آثاراً بظهره مما عذبه المشركون) .

فيلاحظ في الحديث الأول الشكوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم، ويسأل الله تعالى لهم الخلاص، فلم يذهبوا للماديات والالتجاء إليها، وإنما ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو ربه عزَّ وجل، فسبحانه وتعالى هو كاشف الكربات، وهو مزيل الملمات، فيعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التذكير لشحذ الهمم حتى يصبروا على ما أصابهم، من خلال عرض النماذج السابقة، وما كانوا يجدونه من أذى تتمزق به الأجساد بمناشير وأمشاط، فلا يردهم ذلك عن دينهم، ثم يؤكد لهم أن هذه مرحلة ستنتهي بإذن الله تعالى، حتى أن أمر هذا الدين سيبلغ أثره الأمني نتيجة دخول الناس في دين الله تعالى وتمسكهم به، أن يبلغ الأمن ذروته، فيخرج الرجل لا يخاف إلا الله تعالى أو الذئب على غنمه، وليس ذلك في مكة فقط، بل سيبلغ أبعد من ذلك، من صنعاء إلى ، فهي إشارة إلى اللبيب خباب بن الأرَت وإخوانه المستضعفين، بأن هذا البلاء سينتهي، وسيكون بعده رخاء وعزة ومنعة وأمن وأمان. وفي الحديث بيان وصول الإسلام إلى نهاية جنوب جزيرة العرب.
وفي هذا الحديث دليل على أن الإسلام إذا تمسك به المسلمون فإنه يحقق لهم الأمن والرخاء.
ثم يظهر من موقف عمر بن الخطاب في الحديث الثاني إنزال الناس منازلهم، وأن مكانة خباب عظيمة ورفيعة عند عمر، وأن هذا المجلس لا يتقدم فيه إلا عمار بن ياسر، نتيجة ما وجدوه من البلاء والعذاب.
فلقد كان عمر رضي الله عنه كريماً في خُلُقه، وحكيماً في رأيه، ومرشداً للناس في الخير والآداب، فيجب إنزال الناس منازلهم، وليس في ذلك إلا إحقاق الحق لأهل الحق، فكيف بمن يقلل من مكانة أهل التقى والعلم، ويُقَدِّم عليهم مَنْ هُمْ دونهم من أهل المال واليسار والمناصب.
ثم هذا خباب يُظهر ما وجده من التعذيب والتنكيل، فيكشف عن ظهره لمزيد من الإيضاح عن ما لقيه؛ مما يدل على إظهار الفضائل أو الخصائص إذا خفيت، فلله درك يا عمر في معرفة منازل الناس وحفظ حقوقهم، ولله درك يا خباب في كل فعل فعلته للإسلام. رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فقد استحقيتم الصحبة وقدمتم التضحية والأنموذج الأمثل لمن بعدكم.
فهكذا طال التعذيب الداخلين في الإسلام، إلا من كانت له منعة من الله بقومه، مما يدل على أن المنعة قد تكون نتيجة القوة أو التظافر والتكاثر، وهو درس عظيم في أن مِمَّا يصد عن الأمة أعداءها التكاتف والتعاضد، وحمايتهم لرعاياهم ولأوطانهم أينما بَعُدَت، فإن في ذلك منعة وعزة، تتقوى بها الأمة أمام أعدائها، ولا خير في كثرة ليس فيها قوة ولا منعة، قال صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قال: قلنا: يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن، قال: قلنا: وما الوهن ؟ قال: حب الحياة وكراهية الموت ).

فكيف إذا أضيف إلى تفرق الأمة وتشتت آرائها ومرادها ذلك الوهن الذي تستعلي فيه محبة الدنيا وحب البقاء فيها، وتقديمها على الآخرة ونعيمها، وما يتبع ذلك من الرضا بالملذات وحطام الدنيا، وكل يقول نفسي نفسي وملذاتها، فلا ينظر الأخ لأخيه، ولا يتفقد القريب قريبه، ولا يُرَاعَى حق العالم والكبير والسلطان والسيد في قومه، ولا تراعى حقوق الولاة، ولا يراعي الولاة حقوق رعاياهم

يتبع
[/frame]
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]

المفاوضات وأنواعها (1)

لقد تتابع تصدي المشركين لرسالة رب العالمين التي جاء بها رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم بأساليب مختلفة، ظناً منهم أنها تجدي في التصدي لرسالة الله تعالى إلى خلقه، وبالرغم من أنها أخذت صوراً متعددة من الأذى النفسي والمعنوي والمادي إلا أنها أيضاً سلكت مسلك المفاوضات الممتلئ بالتصدي السافر، الذي لا يعرف إلا نظرة إحقاق الباطل، وإبطال الحق، فأخذت الأساليب التالية:
1ـ التفاوض مع عمه أبي طالب:
فعن عقيل بن أبي طالب قال: لقد جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا، وفي مجلسنا، فانهه عن أذانا، فقال: يا عقيل ائت محمداً، قال: فانطلقت إليه، فأخرجته من جلس، قال طلحة: نبتة صغيرة، فجاء في الظهر، من شدة الحر، فجعل يطلب الفيء، يمشي فيه من شدة الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك، فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: ما ترون هذه الشمس ؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة، ، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك، فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: ما ترون هذه الشمس ؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: ما كَذَبَنَا ابن أخي قط، فارجعوا.)
لقد اعتبر كفار قريش دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى يصل إلى ناديهم ومجلسهم، فَقَلَبوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْرِه الناس على أن يكونوا مؤمنين، بل كان يُعلن التوحيد ونبذ الشرك لمن شاء أن يستقيم؛ ويأخذ بهذه العروة الناجية. فكان هذا التفاوض مع عمه أبي طالب الذي جعله الله سنداً له وقوة بعد الله تبارك وتعالى. فلم يأخذ أبو طالب بكلام من جاءه من المشركين حتى سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه، وبالرغم من أنهم كُثُر، ولكنه لم ينظر لكثرتهم، وتظلمهم حتى سمع من ابن أخيه، فلما سمع منه العزم والتأكيد على هذا الأمر، وأنه ماض فيه ولا رجعة عنه، أعلن أبو طالب مؤكداً بما عُرف عن محمد صلى الله عليه وسلم من الصدق النافي للكذب، فكان مفهومه منطوقه، أن لا عُدُول عن ما جاء به صلى الله عليه وسلم..
إن هذه النظرة من عمه أبي طالب والمبنية على الدليل الراجح، بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه الكذب، لتؤكد الأهمية البالغة للسلوك السابق للداعية والمربي والمسؤول أياً كان ه، ليجد من يؤازره ويشد عضده لما عُرِف عنه من سيرته العطرة، ونزاهته واستقامته.
ولقد كان الحزم في الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً للمساومة في الدين مهما كانت الظروف المواتية والمحدقة، وفي هذا درس عظيم بأنه يجب أن لا يتنازل المسلم عن دينه لأعداء الله تعالى، مهما كانت الأمور المحدقة بالإنسان، وأنه ليس في التنازل حكمة البتة، إذ لو كان فيها شيء من الحكمة لصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت العصيب الذي تمر به الأمة القليلة المستضعفة.

2ـ مفاوضات عتبة بن ربيعة:
لقد عَرَض عتبة بن ربيعة على قومه من كفار قريش أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفاوضه في أمور؛ لعله يقبل شيئاً منها، فَلَقِيَتْ فكرته تأييداً فقالوا: قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم، وسَفَّهَتَ به أحلامهم، وَعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكَفَّرْتَ به من مضى من أبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد، أسمع. قال: يا ابن أخي ! إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا لأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً؛ سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم حـم~ تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آيته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فَاَعْرَضَ أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أَكِنَّةٍ مما تدعونا إليه) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عُتْبَة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت وأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكوناً لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
لقد استخدم مشركوا قريش في هذه المفاوضات مغريات عِظَام، ينكسر أمامها ذووا المطالب الدنيوية، من أصحاب الهوى والماديات، والباحثون عن المكانة الاجتماعية على حساب القيم والمبادئ. ولكن نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصِدْقَه تُقدم لهم دروساً وعظات، بأن هذا الأمر أكبر من هذه العروض وهذه المغريات مجتمعة، إنها رسالة رب العالمين التي ينبغي أن يسلك منهجها كل مسلم على وجه البسيطة، بأن لا يقدم عَرَضَاً من أعراض الدنيا الزائلة على دينه، فيقبل الرشوة، والمحاباة للقريب على حساب العدل والأمانة، واختلاس الأموال العامة، واستثمار المناصب الإدارية والمكانة الاجتماعية لحفظ لذائذها ومفاتنها وبريقها على حساب الدين، وما تضمنه من وجوب العدل والأمانة والإخلاص وتقديم الأكفأ في الترقية وفي تولي المناصب. وكذلك أمانة المعلم في أداء دروسه ومهامه التربوية، وعدم تضييعها وتضييع أوقاته بما يحقق له المكاسب المادية على حساب ذلك الدور العلمي والتربوي الذي يضطلع به في أمته المسلمة. وهو أقرب فيما يقوم به من عمل تعليمي تربوي بعمل الأنبياء والمرسلين.
ولقد استخدم عتبة بن ربيعة مقدمة جذابة في عرضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند قومه ومكانته العالية، ومحاولة استعطاف الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه عليه الصلاة والسلام الرسول الأمين، الذي لم يغتر بذلك الأسلوب ومضامينه، الأمر الذي يجب أن لا يغتر بمثله مسلم، فالمسلمون أمناء على هذا الدين، ووسيلة التنميق وزخرف القول والإغراءات تظهر في المواقف المختلفة.
ولم يقاطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من أن مطلع عرضه يدل على أنه لن يقبل شيئاً من ذلك البتة، بل كان أسلوبه ينم عن فضله وأدبه الجم صلى الله عليه وسلم فتركه يسترسل في كلامه حتى أتمه. وكثير من الناس اليوم لا يأخذون بهذا الأدب العظيم، فيقاطعون المتحدث وإن كان زميلاً، أو صاحب علم وقَدْرٍ ومكانة، فكيف لو كان عدواً ؟ فعليك صلاة الله وسلامه يا رسول الله. ففي كل لحظة من لحظات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم دروس وعبر، فقد كناه صلى الله عليه وسلم : (يا أبا الوليد.) ثم يقول له: (أقد فرغت يا أبا الوليد ؟) فهو سؤال يدل على أدب الحديث الذي كان يتخلق به صلى الله عليه وسلم حتى مع أعدائه، فعدم رضاه بتلك العروض لم يدفعه إلى الإساءة في المحادثة مع ذلك الكافر.
وعندما انتهى إلى السجدة سجد، ولم يمنعه حديثه مع الرجل أن لا يسجد، بل أدى ما ينبغي أن يؤديه لربه سبحانه وتعالى كما ينبغي. وكم من الناس يتناسى بعض العبادات لوجود بعض الناس عنده، فيؤخرها عن وقتها مجاراة لهم.
ثم يبين المقطع الأخير من محادثة عتبة لقومه التأثر الواضح بما سمع من كلام رب العالمين، فوصفه وصفاً رائعاً وعميقاً في معناه ودلالاته، إلا أن هذا الأمر لا يرضى به كفار قريش لتقديمها الهوى والباطل على الحق.




المفاوضات وأنواعها (2)
3ـ المطالبة بالمعجزات:
لقد عمد كفار قريش إلى أسلوب آخر من المفاوضات، وهو المطالبة بالمعجزات، فقد قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : أدع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً، ونؤمن بك، قال: أتفعلون ؟ قالوا: نعم. فدعا، فأتاه جبريل، فقال: إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أَصْبَحَ الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، قال: بل باب التوبة والرحمة ).
إنه سؤال عظيم، ورحمة من رب عظيم، وترجيح واختيار من رسول رحيم عظيم، فلقد اختار صلى الله عليه وسلم أبواب التوبة والرحمة التي لو أغلقت لهلك كثير من الناس، لعدم عصمتهم، وحاجتهم وافتقارهم لرحمة الله تعالى. وهكذا يكون المعلم والمربي، والوالد والمسؤول، يختار لمن هم تحت مسؤوليته ما يجلب لهم الخير والصلاح والفلاح، وأن يصبر عليهم، ولا يكن غاشاً لهم، أو يجلب لهم العاجل الفاني مما يرضون به، ويترك الخير الباقي مما يجهلون به، رغبة في استمالة عواطفهم لأمور وقتية، فإنها معادلة يتحراها ذووا الألباب من المؤمنين الصادقين في أداء مسؤولياتهم المناطة بهم: تربوية كانت أو صحية أو اقتصادية أو علمية أو غير ذلك، فإن ذلك منهج نبوي كريم، فعليك صلاة الله وسلامه يا رسول الرحمة والهدى.
وكم من تاجر يُظهر الرديء ويُغري به الضعفاء لقلة يدهم، ويخرج الحسن بعد أن قَصُرَت أيديهم عن إطالته، فالله خير معين ونصير.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما) . وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه العظيم فقال تعالى (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يَرَوا آيةً يُعْرِضَوا ويقولوا سحرٌ مُسْتَمِرٌ).
وهكذا الجحود بعد أن رأوا المعجزة في انشقاق القمر، فقالوا: سحر مستمر، فكيف لو اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الصفا ذهباً وكذبوا بذلك ؟ ولكنه صلى الله عليه وسلم رسول الهدى والرحمة، يصبر ولا يستعجل، ويختار لأمته الأصلح والأفضل.
4ـ مسلك الجدال:
لقد أخذ مشركوا قريش مسلك الجدال بغية الإفساد والصد، والبحث عن ما يقوي ويعضد صدودهم، قال تعالى (ولما ضُرِبَ ابنُ مريمَ مَثَلاً إذا قومُكَ منه يَصِدُّون وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جَلَدَاً بل هم قومٌ خَصِمُون).
إن الجدال الباطل مسلك الكفار والجهال والمعاندين، وكما يحدث في أمور التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فإن الجدال يحدث في غيره؛ من قضايا الدين والدنيا، وإذا كان هذا هو مسلك شياطين الغواية الإنسانية، فإنه ليجدر بالمسلم أن يُدْرِك خطورة الجدال مع إخوانه بغية الانتصار عليهم بالرأي في محيط طلاب العلم، وبين الأصدقاء، وفي دائرة الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية، وإن المسلك الصحيح هو الحوار الهادف من أجل الحق، وإحقاقه، فَلَكم ضاعت صداقات ومصالح بسبب الجدال الذي يرى صاحبه أن القوة في انتصار رأيه، وإن كان خاطئاً وعقيماً.فؤادك ورتلناه ترتيلاً .
قال تعالى عن جدال الكفار (وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآن جُمْلَةً واحدةً كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) فَمِنْ لطف الله تعالى ورحمته بنبيه صلى الله عليه وسلم وحكمته جلَّ جلاله نَزَّل القران العظيم على عبده مُنَجَّمَاً، لِيُثَبِّتَ به فؤادَ رسوله صلى الله عليه وسلم "لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتاً، خصوصاً عند ورود أسباب القلق، فإن نزول القرآن عند حُدُوث السبب يكون له عظيم، وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلاً قبل ذلك".
فلقد ثَبَّت الله تعالى قلب رسوله بالقرآن الكريم الذي به تَثْبُت قلوبُ المؤمنين عند تلاوته وتَدْبُرِه، لما فيه من المواعظ والإرشاد والترغيب والترهيب، وبيان حالات النفس البشرية، وما يعتريها من المنع والجزع والخوف والقلق والاضطراب، فيبين لها ما تَقِرُّ به النفس وتستريح، بمواعظه وأمثاله وقصصه.
ومن مجادلات المشركين سؤالهم عن الروح، قال تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً).
ولقد بين الله تعالى بإجابة قاطعة أن الروح من علم الله تعالى التي استأثر بها.وبالتالي فإن الإنسان لا يستطيع أن يعرف كنه الأشياء جميعا، فَعِلْمُه قاصر أمام علم الله تعالى غير المتناهي، فمهما بلغ الإنسان من العلم فإنه يجهل أكثر مما يعرف، وقد أرشد الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن يطلب مزيد العلم (وقل ربي زدني علماً).
فما أتى به صلى الله عليه وسلم من العلم تفرعت فيه الفنون والتصانيف، وكثرت التخصصات، ومع ذلك علمنا مفتقر إلى علم الله تعالى في كل وقت وحين، فما نحتاج أن نتعلمه يلزم فيه أن نسأل ربنا تبارك وتعالى بقـولنا (ربي زدني علماً).
ومن تَعَنُّت الكفار وجدالهم وكبريائهم أن طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجالسوا المستضعفين من المؤمنين، تكبراً واستعلاءً، فقد جاء في صحيح مسلم عن سعد قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : أُطْرُد هؤلاء لا يجترئون علينا فنتيجة التكبر وحب التفرد بالجاه والمكانة استصغروا الضعفاء من المؤمنين، ولكن الله تبارك وتعالى يرد عليهم بقوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).
إن المقاييس البشرية تستحوذ عليها المادية البحتة، فقد تراعي ما يتراءى لها من مصالحها ومكانتها العاجلة، وتغفل عن المصالح والمكانة الآجلة. ولكن مقاييس الرب سبحانه وتعالى تعلو علواً عظيما، فالمؤمنون المستضعفون خير وأحب إلى الله تعالى من كافر عاص؛ وإن كان سيداً في قومه، فإن مقاييس المادة تتضاءل أمام مقاييس العزيز الحكيم، وبالتالي فالمؤمن الفطن هو الذي يقيس أمور الدنيا بمقاييس الشريعة، التي هي المقاييس الإلهية الربانية.
وإنه لجدير بالمسلمين أن ينظروا إلى هذه المقاييس في تولي الأعمال والمهام والوكالات في جميع شؤون الحياة، وفي جميع مستويات وحقول العمل البشري. فالمستضعف من المؤمنين اليوم قد يكون كبيراً في الغد، فصلاح المؤمن يجلب الخير لمحيط العمل وميدان التسابق في الخيرات، وفي نفس الوقت تظهر أهمية التسابق في إصلاح الظاهر والباطن ليكون المؤمن جديراً بما يوكل إليه من أعمال.
ولئن تكبر المشركون عن مجالسة ضعفاء المؤمنين، فإنه يلزم المؤمن أن لا يحقر أخاه الضعيف من المؤمنين، فيسلك مسلك الكافرين في تكبرهم واستعلائهم، بل يسعى إلى مجالستهم ومؤاكلتهم ومخالطتهم وقضاء حوائجهم، إقتداء بهذا التوجيه الرباني العظيم، الذي يربي في قلوب أتباعه التواد والتراحم والتآخي والتواضع.



الهجرة إلى الحبشة (1)

لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من البلاء والفتنة في دينهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من الله تعالى، ثم من عمه أبي طالب، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه فهاجر المسلمون الهجرة الأولى.
ولقد هاجر المسلمون من مكة إلى الحبشة مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وقيل وامرأتان، وقيل اثنى عشر رجلاً، وقيل عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
ولما اشتد البلاء بالمسلمين أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية، فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً.
وإن في الهجرة تَغَرُّب عن الْمَوَاطِنِ والأوطان، ومهد الذكريات، والمصالح والأخوة والخلان، وإنها لمن أصعب القرارات، ولا سيما إذا كانت البلاد المهاجَرُ إليها مختلفة في الحال والطباع، وبالتالي لن يَقْدِمَ إليها إلا من رأى رجحان مصلحة الهجرة والترحال. وما إقدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إلا بعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك منفعة لإقامة دينهم وحفظه، والخروج من التضييق والتعذيب إلى بلد لا يُظلم فيها أحد، بل إن في قرار هجرتهم أمر عظيم؛ وهو خروجهم من موطن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيشون معه؛ ويتلقون خبر السماء منه؛ ويعايشون أخلاقه وآدابه؛ ويستأنسون بمجالسته وسماع حديثه، ولكنه القرار الذي ينتفع به هذا الدين، فيقدمونه على رغباتهم وحاجاتهم الشخصية.
إن هجرتهم تعني التربية على الطاعة في المنشط والمكره، فكيف لو قارن المتكاسل عن أداء العبادات هذا التكاسل والخمول بهجرتهم رضي الله تعالى عنهم.
إن هجرتهم تعني أن ما أصابهم من قومهم المشركين بلاء عظيم، وفي هذا من التعدي عليهم وعلى مصالحهم وحرياتهم الشئ السقيم، وكان من حقهم الدفاع عن أنفسم، ولكن رسول الهدى والرحمة لم يرب فيهم حب الانتقام للنفس، ويثير فيهم نزعة الحقد لقومهم والقتل والاغتيال.
فلم يعالج الأمر صلى الله عليه وسلم بتربيتهم على التنكيل والدسائس، ونشر النهب والسلب في ربوع قومه بمكة الآمنة، والتي لو اتخذها سبيلا لكان لهم في ذلك العذر، ولكنه يعلن صلى الله عليه وسلم بهذا القرار الذي أشار به على أصحابه؛ أن هذا الدين هو دين الرحمة؛ دين إخراج الناس من الكفر والضلال إلى الحق والفلاح بِسُبُل السلام. كما يعلن أنه ليس من أهدافه صلى الله عليه وسلم تصفية الخصوم. فعندما خُيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل بأن يجعل للمشركين الصفا ذهبا، لما طلبوا ذلك، على أن يعذبهم عذاباًَ لا يعذبه أحداً إن لم يستجيبوا لدعوته، وبين أن يختار لهم قبول التوبة والرحمة، فاختار الثانية التي تؤكد، أن الهدف ليس هو الانتصار للنفس، بل إن الهدف هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وإن هذه السمة الإسلامية تربي في المسلمين الرحمة والشفقة، وعدم العنف ما كان لذلك سبيلا، وأن الإسلام دين الأخلاق التي لم تعرفها حضارات الدنيا قاطبة، تلك التي اتخذت من القهر والتنكيل والاضطهاد سبيلاً إلى تحقيق أهدافها وانتصاراتها.
إن الإدراك التربوي لهذه المعاني يعزز ويوجب على من تقوم على عواتقهم العملية التربوية أن يغرسوا هذا في أذهان الناشئة، وفي كل أطوار عمر الإنسان المختلفة.
إن مما ينبغي أن تدركه المنهجية التربوية أهمية معرفة أهداف دينهم المتعلقة بغيرهم، وسُبل تحقيقها، وفق منهجية الإسلام وهديه، وليس وفق الآراء والأهواء في معزل عن منهجيته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية.
ولئن كان من سُبُل المستضعفين استخدام الاغتيال وقطع الطريق والمصالح في ظلمة الليل؛ وغفلة الغافلين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمد إلى شيء من ذلك، وإنما سلك الأساليب التي تبني الإسلام وتحقق له القبول عند الناس حتى عند أعدائه، وهذا هو منهج الأنبياء عليهم السلام، قـال الله تعالى لموسى في دعوة فرعون (فقولا له قولاً لَيِّناً لعله يتذكر أو يخشى) فَعِلَّة القول اللّين للعدو أو الجاحد؛ لَعَلَّه يذَّكر أو أن يخشى، والغلظة مانعة لذلك، ولا تحقق الهدف.
فمعرفة الهدف على حقيقته يحرك السلوك والتصرف والقرارات الحراك الصحيح، الأمر الذي ينبغي أن تعنى به التربية العملية. وعلم الإدارة، والاقتصاد، والسياسة، وفي جميع المجالات البشرية



الهجرة إلى الحبشة (2)
التصدي للمسلمين في موطن هجرتهم:
وعندما نزل المسلمون بأرض الحبشة وجدوا فيها ما قاله صلى الله عليه وسلم إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، تقول زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمّنَّا على ديننا، وعبدْنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيهم منها الآدم، فجمعوا له آدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص....... فلما دخلوا على النجاشي قالا له: إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت..... ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا، وما أمَرَنَا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن .... فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب: فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسئ الجوار، ويأكل القوىُ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .....فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا.... فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت: قال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ علىَّ، قالت: فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص ) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أُسلمهم إليكما؛ ولا يُكادون.
إن هذا الموقف والحوار والقرار من الملك النجاشي يعطينا دروساً تربوية واجتماعية عظيمة، فلقد استخدم المشركون وسيلة الهدية التي يطمعون من خلالها الولوج إلى قلب النجاشي وأتباعه، كما استخدموا قوة الكلمة والحجة واللسان والدهاء، من خلال إرسال رجلين لهما في تلك الصفات شأن عظيم، واستثاروا القلوب بالحجة التي تُظهر الكراهية في قلب النجاشي؛ بأن المهاجرين ليسوا على دين النصرانية.
إنه أسلوب حواري بالغ القوة، ولكنهم وافقوا مَلِكَاً حكيماً يدفع بحبه للعدل المكر والدهاء والهوى. فلم يتأثر بذلك كما تأثر بطارقته، بل استمع إلى المدَّعى عليهم، وسمع حجتهم ومحجتهم، ثم اتخذ القرار الذي يتوافق مع العدل والإنصاف لا مع الهدايا وثوران العواطف والأهواء.
إن هذا الأسلوب النجاشي ينم عن إدارة وسياسة حكيمة فذة، نتيجة تربية سابقة؛ وتوفيق من الله تعالى قبل ذلك، فتكونت هذه الشخصية التي تنظر إلى الأمور بعين العدل والإنصاف، مع عدم الاكتراث برأي البطانة إذا كانت مخالفة للحق والصواب.
إن الإدارة التي تُدير أمور الحياة الاجتماعية على هذا النسق لتربي فيمن يتعامل معها الحكمة وفعل الصواب، مع البحث عن الحقيقة والسير معها وفي محورها، وإنها لتربي فيمن يتأملها أهمية النظرة الشمولية لعناصر القضية الواحدة؛ دون الاكتراث بالزاوية الأُحادية التي قد تتقدم على الزوايا الأخرى.
وإن القائد التربوي والإداري الناجح أياً كان ه؛ عندما يدرك هذا المحور الإداري يحقق نجاحا إدارياً بالغاً، ويغرس في من يعملون معه تلك الخصال الإدارية المهمة.
والأعجب من ذلك تلك التربية النبوية التي جعلت من أولئك الصحب الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وهم في أحلك المواقف وأصعبها، يتخذون قراراً: هو قول الحقيقة على ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت النتائج. فهم بين أن يُرَدُّوا إلى قومهم فينتقموا منهم شر انتقام، وبين أن يقولوا الصدق والصواب؛ كما علمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ولو حصل ما تكرهه النفوس. فكل أحد من الناس عندما يتعرض لفتنة تصيبه غالباً ما يفكر في المخارج والْحِيَل التي تُخرجه مما هو فيه، ولكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطل بهم المقام التفكيري والتأملي؛ بحثاً عن حيلة الخلاص من دهاة قريش، فقالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا، وما أمَرَنَا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.
إن هذا القرار المصيري لا يمكن أن يصدر إلا من مؤمنين، قد تربوا تربية إسلامية عالية وغالية، ومن سيد المربين ومعلمهم وقدوتهم، حيث تربوا على الصدق والاعتماد على الله تعالى وليس على ظاهر الأسباب والحيل، الأمر الذي دفعهم إلى قول الصدق والحق.
وإن هذا الثبات ليؤكد حقيقة التربية الإسلامية؛ ونتائجها اليانعة إذا ما اهتم بها الحاكم والمجتمع ومؤسساته كاملة، حتى تُجْنَى ثمارها التي يزدهر بها في جميع شؤونه ومجالاته، فلا يجد إلا الصدق والأمانة والإخلاص التي ينموا بها الاقتصاد، وتزدان بها السياسة، ويندحر بها الانحراف، وتسود بها الفضيلة،وتنكشف بها الغمة، ويحل بها الرخاء.
وإن هذا الموقف ليؤكد أخلاق الإسلام النبيلة، الذي ينبذ الكذب والزيف والخداع، ويجعل مسلكه في الخروج من المآزق والأزمات الصدق مع الله تبارك وتعالى، وبالتالي لا تخاف المجتمعات ولا الحكومات غير الإسلامية عندما تتعامل مع المسلمين؛ إذا ما ظهروا بأخلاق الإسلام وهديه، بل إنهم ليدعونهم بأخلاق الإسلام إلى هدي الإسلام؛ وبروح الإسلام إلى دين الإسلام.
وأما إذا ظهر المسلمون بأضداد أخلاق الإسلام وهديه، فإنهم يَشُدُّون عضد أعداء الإسلام ضد الإسلام، ويُكثرون عددهم، ويوسعون مساحتهم، ويستجلبون عداوتهم لدين الله تعالى، ويسهمون في حجب الإسلام؛ وإقصاء الدعوة ودحرها ، والله تبارك وتعالى أراد بهذا الدين إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وليس إبقاءهم في ظلمات الكفر والضلال. كما أن الإسلام ينتشر بمبادئه وأخلاقه ونوره؛ لا بقوة السلاح والعتاد، وإن كانت مطلوبة أشد الطلب لحفظه وحفظ أتباعه، وليس من أجل إدخال الناس في رحابه. فالناس لا يدخلون في دين الله تعالى بالقوة والإجبار؛ بل بالرغبة والاختيار.
فلما كان الغد جاء عمرو إلى النجاشي؛ وقال له: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فاستدعاهم النجاشي. وعندما جاؤوه سألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا، هو عبدالله ورسوله، وروحه؛ وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض؛ فأخذ منها عوداً، ثم قال والله ما عدا عيسى ما قلت قدر هذا العود. فتناخرت بطارقته، فلم ينظر إلى ذلك، فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، واشيوم: بمعنى :الآمنون.
ومما سبق يمكن استخلاص قواعد العملية التربوية والتنشئة الاجتماعية، وهي:
ـ غرس لزوم الصدق في المنشط والمكره.
ـ التنشئة على عدم تقديم الرأي على توجيهاته صلى الله عليه وسلم.
ـ لزوم القائد الحيطة والحذر في اتخاذ القرار.
ـ عدم الاغترار بسبق الخبر،.وتقديم قاعدة التثبت في الخبر.
ـ عدم الاكتراث برأي المجموعة حال مخالفتها قاعدة شرعية أو أصولية.
ـ التربية الجادة تُنْجِب شخصيات جادة.



إسلام حمزة ـ رضي الله عنه
ـفعن يعقوب بن عتبة أن أبا جهل اعترض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفا؛ فآذاه. وكان حمزة رضي الله عنه صاحب قنص وصيد، وكان يومئذ في قنصه...
يبين هذا المقطع من الرواية وجهاً وصورة من صور الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي في مكة، من القنص والصيد.
ثم يقول عقبة بن عتبة في روايته عن إسلام حمزة رضي الله عنه ...فلما رجع قالت له امرأته؛ وكانت قد رأت ما صنع أبوجهل برسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا عمارة ! لو رأيت ما صنع ـ تعني أبا جهل ـ بابن أخيك. فغضب حمزة ومضى كما هو قبل أن يدخل بيته، وهو معلق قوسه في عنقه، حتى دخل المسجد...
ويفيد هذا المشهد من الرواية ما كان يجده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه، وكذا قدر محبة حمزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غضب لما عرف من أمر ابن أخيه، فتوجه إلى المسجدقبل أن يدخل بيته، مما يفيد أهمية ترتيب الأولويات، وتقديمها على الراحة والاستجمام.
ثم يبين يعقوب بن عتبه ما دار في المسجد، فيقول: ...فوجد أبا جهل في مجلس من مجالس قريش، فلم يكلمه حتى علا رأسه بقوسه، فشجه، فقام رجال من قريش إلى حمزة يمسكونه عنه، فقال حمزة: ديني دين محمد، أشهد أنه رسول الله، فوالله لا أثني عن ذلك، فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين.
فلما أسلم حمزة عزَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وثبت لهم بعض أمرهم، وهابت قريش، وعلموا أن حمزة رضي الله عنه سيمنعه.
ويفيد هذا أهمية إسلام حمزة رضي الله عنه وما كان يشكله من قوة ونصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللدعوة الإسلامية. مما يبين أهمية استقطاب القوى المؤثرة في المجتمع، لتكون مكاسب للدعوة والداعية؛ وعدم التغافل عنها. كما تفيد هذه الحادثة وتبين أن الهداية بيد الله تعالى، حيث هدى الله تبارك وتعالى حمزة بهذا السبب. ومن الفوائد كذلك: أهمية الصبر في المجال الدعوي، وأن العقبات لا تكون معوقاً أمام الداعية، كما فعل رسول الله صلى اله عليه وسلم إذ لم يجعل مما يواجهه من صعوبات وعقبات أعذاراً للتوقف عن نشاطه. بل كان صابراً ناشطاً.
وكذلك من الفوائد: قوة حمزة رضي الله عنه ومكانته في قومه، إذ يواجههم بِتَحَدٍّ واضح لهم، حيث يقول لهم: فوالله لا أثني عن ذلك، فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين.
وفي هذا الصنيع من حمزة رضي الله عنه كسر لجبروت أبي جهل المتسلط في أهل مكة. وبيان للجميع عن بداية تحول بعض الأقوياء من قريش إلى صفوف المستضعفين من المسلمين، الذين استضعفوا بقوة أقوياء الشرك، فصبروا على ذلك.
يتبع

[/frame]
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]

إسلام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ


عن أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنه لنترحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا؛ إذ أقبل عمر حتى وقف عليَّ وهو على شركه، قالت وكنا نلقى منه البلاء، أذى لنا؛ وشراً علينا.
فيبين هذا المقطع من هذه الرواية ما كان عليه عمر من الشدة على المسلمين، وبغضه للإسلام، ولكن الله تعالى أراد له الخير. فتقول أم عبد الله في روايتها: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله ! قالت: قلت نعم؛ والله لنخرجن في أرض الله؛ آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا مخرجا. قالت: فقال: صحبكم الله. ورأيت له رقة؛ لم أكن أراها. ثم انصرف، وقد أحزنه فيما أرى خروجنا.
ويبين هذا المشهد من المحادثة مع عمر بن الخطاب حجم المعاناة العظيمة التي كان يلقاها المسلمون من المشركين، حتى بحثوا عن الأمن لدينهم وأنفسهم في بلاد الغربة. وكذلك يفيد هذا المشهد الحالة النفسية لعمر بن الخطاب، من أن جانب الرقة قد دخل قلبه؛ فأصبح له حظ في فؤاده، بالرغم من شدته على المسلمين. ورغبته عن الإسلام كما تفيد تمام رواية أم عبد الله، حيث تقول: فجاء عامر من حاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبدالله ! لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا. قال: أطمعت في إسلامه ؟ قالت: قلت: نعم. قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب. قالت: يأساً لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام.
وهكذا يبين هذا الخبر مقدار اليأس من إسلام عمر بن الخطاب، لما كان من شدته نحو الإسلام، ولكن إرادة الله تعالى، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي تحول به عمر رضي الله عنه إلى مسلمٍ مناصرٍ للإسلام وأهله، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام أو بعمر، قال: فأصبح فَغَدا عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر )
لقد كان إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوة للإسلام، حيث رفع الله تعالى به راية الإسلام والشدَّة الملقاة على ضعفاء المسلمين، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر )
فبرجل واحد يدخل الإسلام تتقوى به أمة التوحيد القليلة المستضعفة؛ ليؤكد أهمية استقطاب العناصر الفاعلة المؤثرة وإن كانت قليلة، وعدم الزهد فيها لانكفافها وبعدها، بل ينبغي البحث عنها، والدعاء والالتجاء إلى الله تعالى بأن يقوي الأمة بالأقوياء من أبنائها. فكيف اليوم والأقوياء في الأمة كثير جداً ؟ ولكنهم في بُعْدٍ عن المجال الدعوي، أفليس هذا أجدى بأن يَلتجئ أهل الصلاح إلى الله تعالى بطلب انجذاب أولئك الأقوياء بأموالهم أو مكانتهم الاجتماعية أو السياسية والحنكة الإدارية؛ بأن يسخرهم الله تعالى للانضمام إلى كوكبة المصلحين في الأمة، ومحاولة استقطابهم، بدعوتهم وتقريبهم حتى يزدادوا صلاحاً؛ فيكونوا مصلحين. فلقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحب الرجلين إلى الله تبارك وتعالى.
إن انضمام الأقوياء إلى مناشط الأعمال الخيرية والتعليمية والتربوية والاجتماعية والإدارية أمر في غاية الأهمية، ويلزم البحث عنهم واستقطابهم، إذ تتقوى بهم تلك الجهات؛ وكذا منابر الخير والعلم؛ وعدم الزهد فيهم، ولا يلزم من ذلك أن يمارس أولئك الأفراد العمل الأصلي في ذلك المجال إن كانوا لا يُحسنونه، بل قد يكونوا داعمين لذلك المجال بالكلمة أو التواجد المعنوي أو المال أو الجاه، وإنه لأمر مهم تغفل عنه دوائر الخير والصلاح.
ويستفاد من ذلك الأهمية الكبيرة في الاحتفاظ بالعناصر الجادة؛ سواء كانت في الجانب العلمي أو الإداري أو في مجال الرأي والشورى، وعدم إهمالها، أو إقصائها بسبب علو السن، أو الحسد، أو عدم المبالاة، لوجود العناصر الشابة، أو الأكثر نشاطاً وأداء، فَلَصَاحِبُ علم مبرز في دائرة علمية؛ مع كِبَرٍ في السن لا يعمل به إلا قليلاً؛ فيعطيها بتواجده وانتمائه قوة ومكانة؛ خير من أن يُهمل ويقصى؛ لقلة إنتاجه وهوان سنه





محاصرة شعب أبي طالب


في أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة، دخل المسلمون شعب أبي طالب، حيث رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً، وأن عمر أسلم، وأن الإسلام فشا في القبائل؛ فأجمعوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. .
يبين ويفيد هذا مدى انتشار الإسلام في القبائل، ومعرفة الناس بخبر نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك خلال سبع سنوات من مبعثه عليه الصلاة والسلام. ويؤكد هذا أهمية الزمن في تحقيق الأهداف، والصبر على المصاعب والمشاق، وأن الحق له من يعارضه؛ ويصد عنه. وكذلك أهمية الأرض الآمنة للجانب الدعوي، لحماية الضعفاء. وأهمية الأعوان الأقوياء في تحقيق الأهداف، وفيه كذلك عناية المنهج الإسلامي بالسنن الاجتماعية، والأخذ بها؛ وعدم إهمالها، مثل: وجود الأذى وتحمله، والعمل والصبر على مشاقه، والبحث عن الأسباب والأخذ بها، فلم يعطل صلى الله عليه وسلم هذه السنن بانتظار النصر من دون الأخذ بها، وهو المرسل من الله تعالى، القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم؛ ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية.
ويبين هذا أهمية الأسباب والأخذ بها، وكذلك أهمية الدعم والمناصرة من الغير، وكيف أن الله تبارك وتعالى سخر لنبيه أنصاراً ممن لا يُدينون بدين الإسلام، حمية على عادة الجاهلية.
وهذا يفيد أهمية اعتضاد الدعاة بالدولة المسلمة، لكي يتقوى بها الدين وينتصر. وأن الفصام بين الدعاة والدولة المسلمة لا يحقق القوة للدين حتى ينتصر، فالدين دين الله تعالى؛ والنصر من الله العظيم، ولكن الله جعل سنناً، إذا أخذ بها المسلم مع التوكل على الله تعالى نال مراده إذا شاء الله سبحانه وتعالى.
وبلغت هذه المقاطعة ذروتها وجبروتها؛ بأن أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتاباً؛ أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يُسَلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة، وقيل غيره، فَشُلَّت أصابعه.
ويبين هذا المسلك الشدة في المقاطعة والمحاربة لهذا الدين، والمصاعب التي واجهت النبي صلى الله عليه وسلم في أمر دعوته، وقابل ذلك بالصبر والاجتهاد والأخذ بالأسباب. وكذا يبين ذلك العقوبة التي نـزلت بكاتب الصحيفة الظالمة، مما يفيد خطورة الظلم والمشاركة فيه، وأن الله تعالى قد يُعجل العقوبة للظالم، أو بشيء منها.
فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً.
ويفيد هذا طول الفترة الزمنية من البلاء والابتلاء التي صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب. مما يؤكد ويبين أن الابتلاء لا يعني في كل الأحوال الجفاء من الله تعالى لعبده أو لعباده، فلله الحكمة البالغة والإرادة المطلقة.
وتقول روايات السيرة النبوية: لم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى أنهم كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحارث العامري. فكان يصلهم وهم بالشعب. ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية، فكلمه في ذلك؛ فوافقه، ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي؛ وإلى زمعة بن الأسود، فاجتمعوا على ذلك. فلما جلسوا بالحجر، تكلموا في ذلك وأنكروه، وتواطئوا عليه. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة؛ فمزقوها، وأبطلوا حكمها، وذكر ابن هشام: أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة، وعروة فذكروا عكس ذلك: أن الأرض لم تدع اسماً لله إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم.
إن المحن والمصائب والتمحيص يُساير المسلم والأمة في كل مكان وزمان، حتى خير الأمة التي ضمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينوبها من المحن الشدائد العظام.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي المجتبى يُبتلى ويصبر ولا يثنيه شيء من المصاعب والشدائد، فلم يستسلم لأحد ولا لجماعة مهما كانت قوتها وجبروتها، بالرغم من تكاتف الأعداء عليه وعلى من أسلم.
وفي نفس الوقت تتجدد المعاملة الكافرة في الأزمان والأمكنة، من شَنِّ المقاطعة والتجويع، والمقاطعة اجتماعياً واقتصادياً، والتكاتف ضد الإسلام وأهله، رغبة في صد أهله عنه، والنكوص إلى الكفر والشرك والجهل.
كما أن فلول الكفر تتجمع وتتحد لمنازلة الإسلام وأهله، بغية انحطاطه ودحره وهزيمته.
ومما تكتنـزه لنا السيرة النبوية العطرة من دروس وعبر، هو الصبر على البلاء مهما طال زمنه وقويت شدته، فعاقبته النصر والظفر والعزة، وعدم الانكسار للباطل وأعوانه، والتأثر بعتاده وقوته.
إن هذا الحصار لم يكن لأشهر، بل كان لسنتين أو ثلاث، وإنه لزمن طويل، وأمر عصيب.



وفاة أبي طالب وخديجة

ومات أبو طالب بعد أن خرجوا بقليل، وماتت خديجة أم المؤمنين أيضاً في ذلك العام. فنالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تنله في حياة أبي طالب.
فقد يَعْقبُ الشدة بريق من الأمل والفرج، ثم تعقبه شدة أخرى، ولذلك لا تبتئس الأمة المسلمة بما يصيبها من ويلات ونكبات، فسيعقب ذلك نصر وعزة وتمكين، فما أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من هذا الحصار الغاشم إلا ويتوفى اللهُ عَمَّه أبا طالب، وزوجه خديجة رضي الله عنها، وذلك في عام واحد. وإنه لابتلاء يلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي؛ فكيف بمن هو دونه ؟ قال تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولَمَّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبل مَسَّتْهُمُ البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) لقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم على فقد عمه وزوجه وجداً شديداً؛ حتى سمي ذلك العام بعام الحزن، إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام مواصلة السير في أداء واجب الرسالة.
وإن ما نالته قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه وزوجه رضي الله عنها لدليل على أهمية القوة للدعوة الإسلامية والداعية، سواء كانت قوة مادية أو معنوية أو سياسية، ولهذا يلزم التظافر بين عامة المسلمين والدعاة وقيادتهم السياسية التي يتقوون بها، والعمل على توحيد الجهود، كما يجب استقطاب السياسة والسياسيين لصفهم واعتبارها قوة يُستعان بها على نصرة الإسلام، وإن من أخطر الأمور استعداء الحكومات المسلمة والوقوف ضدها. فالحكومة المسلمة لها من القوة والنفوذ ما يجعلها سياجاً قوياً للإسلام، وبالتالي فإنه يجدر بالدعاة العمل من خلالها.
ويقاس على ذلك استقطاب أهل المكانة والقوة والفضل ممن يؤمل فيهم الخير، وذلك في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة، إذا كان في استقطابهم مصلحة للإدارة أو التجارة أو لمصحة أو لمراكز البر والجمعيات الخيرية، ومن الشواهد على ذلك إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان إسلامه فتحاً وقوة ونصرة للمسلمين، وهو فرد واحد، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ( ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) وشرط هذا الاستقطاب أن يكون على منهج الله تعالى.




الخروج إلى الطائف

ذكر ابن إسحاق :لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمِّه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يتلمس النصرة من ثقيف، والمَنَعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاء به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده.
وهكذا الضعف في كل وقت وحين يُغري أهل الباطل والشرور؛ ليتمادوا في طغيانهم وجبروتهم، ولذلك لا بد لأهل الحق من التقوي، والمحافظة على القوة ومصادرها؛ حتى لا يطمع الطامعون. وإنَّ ما مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف وفي غيره من المواقف ليعطي دروساً عظيمة في هذا الأمر.
وإن الله تعالى لقادر على نصر رسوله من أول لحظه من لحظات البعثة النبوية؛ دون أن يتعرض لهذه العقبات، ولكنها تربية الله تعالى لأمة الإسلام؛ من خلال منهج النبوة في الدعوة والصبر، والأخذ بالأسباب، والعلم بأن الأنبياء ليسوا مستثنين من الشدائد؛ بل ما يصيبهم من أذى أقوامهم الكافرين شيء غير يسير.
ولئن صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه بهذه الصور المتعددة من ألوان الأذى؛ ليَحْسُن بالقائمين على أمور التعليم والتربية أن يصبروا على مشقة التعليم والتربية والتوجيه، فما يجدونه من مصاعب ومتاعب لا يوازي شيئاً أمام ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك المرء في بيته ومع أهله؛ من زوجة وأبناء وغيرهم، ويمتد ذلك إلى الإداري والمدير والمسئول والوزير، والحاكم والوالي فيما يجد من مشقة وعناء، فيتذكر صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وجد ولقي في رسالته من المتاعب والمصاعب.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عَمَد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عُمير، ومسعود بن عمرو بن عُمير، وحبيب بن عمرو بن عمير، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله تعالى، وكلمهم بما جاءهم له من نُصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خبر ثقيف، فقال لهم : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ذلك قومه عنه فيثيرهم ويجرئهم عليه.
فلقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسباب النصر والقبول ولم ييئس عليه الصلاة والسلام، وتكبد المشاق والأذى، مما يؤكد أهمية قوة العزيمة، والبحث عن أسباب الخير والنجاح، وعدم الركون والاستسلام للمصاعب التي تواجه المسلم في أموره مهما كانت الأسباب، وفي جميع مجالات الحياة، طالما أنها خير وصلاح. ولا يغتر المسلم برد أهل الكفر والفسق، بل يحيد عنه ويبحث في غيره، فالأسباب من مطالب أعمال البشر والتوفيق من الله تعالى؛ يأذن به متى شاء سبحانه وتعالى، ولا ينتظر المسلم النجاح والقبول من أول مرة، فقد تكون هناك كبوات، فيصبر كما صبر نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أن العدو لا يكتم سراً.فقد أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل عنب فجلس فيه صلى الله عليه وسلم.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي؛ وقلة حيلتي؛ وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين؛ أنت رب المستضعفين؛ وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملَّكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ من أن تنـزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.)
وهكذا يعلمنا رسول الله بهذا الدعاء والانكسار إلى الله تعالى؛ كيف يكون المسلم مع ربه عز وجل فقد رفع أمر الضعف وقلة الحيلة والهوان على الناس لأرحم الراحمين؛ ورب المستضعفين، وأن ما يلقاه المسلم من المعاناة والتعب والمصائب توجب عليه أن لا يسخط، ولا يظن بربه إلا خيرا، وأن كل الابتلاءات تتضاءل إذا كان ليس سببها غضب الرب سبحانه وتعالى، ولكن عافية الله تعالى ورحمته هي الأوسع للإنسان من ابتلاء وعقاب الرب جل جلاله، فما بال الذين يظنون بأنفسهم خيرا ؟ ويقولون عند الابتلاء: يارب ماذا صنعت حتى يحل علي هذا البلاء؟ فيبادر بتزكية النفس قبل أن يفتش عن ذنوبه وتقصيره، فكم في هذا الدعاء من دروس الأدب مع الرب سبحانه وتعالى، ومنهجية الدعاء وطرق الالتجاء إليه عز وجل وتعظيمه تبارك وتعالى.
ففي كل موقف ولفظ منه صلى الله عليه وسلم دروس قد حفلت بها سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم.
وتذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلاء قومه له، فيقول عُرْوَةُ رضي الله عنه : (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقت: وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عَرَضتُ نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم؛ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني؛ فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك؛ وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال، فسلم علىَّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده؛ لا يشرك به شيئاً )
وهكذا يصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة ما لقيه من قومه، وصدهم عن الحق وعدم قبوله، والتعرض له صلى الله عليه وسلم بالأذى حتى انطلق مهموماً فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب. وإنها لصورة تؤكد بجلاء حجم ما أصابه صلى الله عليه وسلم من قومه، ولكن بعد برهة من الوقت يطل عليه جبريل عليه السلام من السماء، ولا شك إنها لرحمة من ربه عز وجل بإرسال جبريل عليه السلام إليه، لتكون مواساة وتذكيراً بأن الله مطلع على كل ما دار بينك وبين قومك وأنه معك يراك ويسمعك، فسبحان الله العظيم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يسمع السر وأخفى. ثم هذا مَلَكُ الجبال لم يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبر جبريل بخبره. ثم ها هو صلى الله عليه وسلم وهو في أشد معاناته من قومه؛ وفي حالة انزعاجه لما أصابه منهم، فلم يثير ذلك عنده الرغبة في الانتقام، ولم يستدعيه ذلك إلى الثأر منهم، فيطلب من مَلَك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، ولكن يشفق عليهم رجاء أن يُخْرِجَ الله من أصلابهم من يُوحِّد الله تعالى ويعبده وحده لا يشرك به شيئا، فلم يستأثر لنفسه بعقوبة عاجله. إنه الهدف عندما يكون واضحاً للمرء؛ فإنه يُثمر سلوكاً صحيحاً وفكراً مستقيماً وقراراً حكيماً.
قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) وكم هي الشحناء والبغضاء بين صفوف الأمة؛ وليس إلا لأمور بعيدة عن الهدف الحقيقي وهو تحقيق العبودية لله تعالى، وغالبها محبة في الانتصار للنفس وحظوظها، وحب العلو على الغير، وبالتالي تأتي التصورات الخاطئة، ، فيتولد عنها التأويل الفاسد؛ فالحكم الباطل؛ ثم القرار الخاطئ، فتأتي المكائد والدسائس. أفليس في منهجه النبوي صلى الله عليه وسلم ما يصحح الأهداف والتصورات، فيتبعها السلوك. فهاهو صلى الله عليه وسلم يواجه معاناةً وصداً وتهجماً وأذى من عدو قريب، فيقابلها بالهدف الحقيقي من وجوده ورسالته، والهدف من وجودهم وخلقهم، فتتصاغر أمامه صلى الله عليه وسلم جميع ألوان الأذى والصدود، ولكن القول فيك يا رسول الله ما قاله الله تبارك وتعالى عنك ( وإنك لعلى خلق عظيم
) إن هذا الخُلُق العظيم جعل عدَّاس النصراني يتعجب من أمر رسول اللهصلى الله عليه وسلم فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؛ قالا لغلام لهما نصرانياً يقال له عداس: خذ قِطَفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: بسم الله، فقال عداس: عن هذا الكلام: والله لا يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك ؟
إِنَّ هَمَّ هذا الدين يحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في كل لحظة، فلقد باشره بالسؤال عن دينه، وهو في موقف يكاد المرء فيه لا يحمل إلا همه الشخصي.
فيجيبه عداس : نصراني، وأنا من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل رأسه ويَدَيْه وقدميه.
فيقول أبناء ربيعة أحدهما للآخر : أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شئ خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
وهكذا يؤكد عدّاس لهما أن هذا نبي، وأن ما أخبر به صلى الله عليه وسلم لا يعرفه إلا نبي، ولكنهما أعرضا عن قول عدّاس الذي شهد بنبوته صلى الله عليه وسلم وبين لهما دليل ذلك.
ثم في عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفر من الجن الذين ذكر الله تعالى خبرهم في سورتي الأحقاف والجن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، قال الله تبارك وتعالى (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي وَلَّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أُنْزِلَ من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِرْكُم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين).
فلقد تفاعل بعض الجن مع دعوته صلى الله عليه وسلم واستجابوا له، داعين ومنذرين قومهم، وإنه لأمر يزيد من عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشعر بأن هذا الجهد مشكور وفاعل ومقبول؛ فإن واجهه صدود في جانب قابله قبول في آخر.
وكم من الأنشطة الدعوية والتعليمية والإدارية ولاقتصادية والطبية التي يواجه القائمون عليها بعض العقبات والصعوبات فيحتاجون إلى الدعم والتشجيع الذي يشد أزرهم، ويشعرهم بأن أثر هذا الجهد في صعوباته التي يواجهونها نجاح يتحقق في جوانب أخرى.
وكم من تلميذ يتعثر فيحتاج إلى من يُبْرِز له نجاحه في جانب آخر لينشط، ويتشجع، وكم من طبيب وإداري وتاجر مسلم يتعثر فيحتاج إلى من يبين له نجاحه فيما غفل عنه، وكم من مصاب بجائحة أو بلاء؛ فلا يرى أمامه إلا ذلك الأمر؛ فيحتاج إلى من يبين له نِعَم الله تعالى عليه في أبواب أخرى قد حجبتها عنه مصائبه.
يتبع[/frame]
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
[frame="13 70"]
الإسراء والمعراج (1)


بعد رحلة الطائف التي صد عنه من تحدث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم تأتي رحلة الإسراء والمعراج، فتأتي المكافأة العظيمة من الرب العظيم سبحانه وتعالى، فلئن كابد المشاق صلى الله عليه وسلم فإنه سيرى من آيات ربه تبارك وتعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لِنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُتِيتُ بِالبُرَاقِ. وهو دابةٌ أبيضُ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل. يضع حَافِرَهُ عند منتهى طَرْفِهِ. قال فركبتُهُ حتى أتيتُ بيتَ المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن. فاخترت اللبن. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم اخترت الفطرة. ثم عَرَجَ بنا إلى السماء).
وفي هذا الحديث دلالة على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه سبحانه وتعالى، وفيه كذلك عِظَمُ خلق الله تعالى. وفيه أن من دخل المسجد يبتدئه بالصلاة. ومن فوائد الحديث أن الإسلام هو دين الفطرة، وأن أكل الطيبات من الفطرة كذلك، وأكل الخبائث مناقض لها.
وذكر ابن حجر في الفتح: حديث أبي سعيد عند البيهقي:(حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها ـ وفيه ـ فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، وفي رواية (ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فَأَمَمْتُهُم).
وفي الحديث بيان منـزلة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتسليم.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يُحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُرِجَ عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنـزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري؛ ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا؛ قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحد ؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: أُرسِلَ إليه ؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسْوِدَةٌ وعلى يساره أسْوِدَةٌ، إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح، قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل شماله بكى. حتى عَرَج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول،ففتح. قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، ولم يُثبت كيف منازلُهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس؛ قال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا ؟ قال: هذا موسى. ثم مررت بعيسى، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت من هذا ؟ قال : هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت من هذا ؟ قال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حَبَّة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم عُرِج بي حتى ظَهَرْتُ لمستوى أسمع فيه صريفَ الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تُطيق ذلك. فراجَعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت : وضع شطرَها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فراجعت فوَضَع شطرها، فرجعت إليه؛ فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يُبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربَّك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى؛ وغَشِيَها ألوان لا أدري ماهي. ثم أُدخِلتُ الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ ؛ وإذا تُرابها المسك.).
إن هذه الرحلة العظيمة، رحلة الإسراء والمعراج فيها من الدروس والفوائد ما يعطي المسلم ويزوده بالكثير مما يحتاج إليه في دار معاده ومعاشه، فأول خطوات الإسراء والمعراج الإعداد لذلك؛ بأن قام جبريل عليه السلام ففرج صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدره صلى الله عليه وسلم ثم أطبقه، وقد حصل شق الصدر الأول وهو صغير عند مرضعته حليمة، فكان الشَّقُ الأول لاستعداده لنـزع العلقة التي قيل له عندها: هذا حظ الشيطان منك، والشَّقُ الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة. وفي هذا تأكيد وبيان أن القلب في الإنسان هو المحطة الرئيسة، والجوهرة الثمينة التي يجب أن يقف عندها المسلم لينظفها من درن الرذائل القلبية، كالاعتقادات الباطلة، والحسد والحقد والكراهية لإخوانه المسلمين، وحب العلو والانتصار والتكبر عليهم، والتنقص من ضعيفهم وفقيرهم، وكراهية الخير لقويهم، فعن أنس رضي الله عنه قال (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحَيْتُ أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي ؟ فعلت، قال : نعم. قال أنس وكان عبدالله يُحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تَعَار وتَقَلَّبَ على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مَضَتِ الثلاث ليالٍ، وكِدت أن أحقر عمله، قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر ثَمَّ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن أوي إليك، لأنظر ما عَمَلُك، فأقتدي به، فلم أَرَكَ تعمل كَثيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وَلَّيْتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشّاً، ولا أَحْسُدُ أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه. فقال عبدالله، هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق).



الإسراء والمعراج (2)


وقد قال صلى الله عليه وسلم مبيناً أهمية القلب من الجسد وثمرة صلاحه أو فساده (ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) قال ابن حجر: فالقلب أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثراً فيه، والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه.
ولئن اهتم الكثير من الناس بإصلاح الظاهر دون إصلاح الباطن؛ فإنه يظل هذا الإصلاح إصلاحاً مؤقتاً، يتراجع كثيراً ولا يتقدم إلا قليلاً، لأنه لم يعتن بصلاح أميره، وينقيه وينظفه كما ينظف الإناء بالماء، فلقد غسل جبريل عليه السلام صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، فهو مقبل على أمر رباني عظيم، وهكذا كل من يريد القدوم إلى ربه في صلاته وفي أعماله؛ أن يعي أهمية تطهير القلب وتنظيفه من الأباطيل؛ وما يلحق بها من المفسدات، في جميع أشكالها وأنواعها ومركباتها، فَيُقْبِل على الله بقلب نظيف طاهر سليم.
ويفيد هذا أهمية التركيز في العملية التربوية على تـزكية القلوب وتطهيرها والعناية بها، وإنه ليحسن بالمربين أن يهتموا بتطهير قلوب من يقومون بتعليمهم وتربيتهم؛ حتى تزكو نفوسهم، وتصبح أوعية صالحة للعلم والحكمة، فلقد أفرغ جبريل عليه السلام ما في الطست من حكمة وإيمان في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن غسله بماء زمزم، فكم يحتاج المسلم إلى الإيمان والحكمة التي تسبقها الطهارة والنظافة القلبية؛ حتى تضم ذلك الإيمان والعلم والحكمة في وادي القلب الفسيح الذي يسع لكل ما يوضع فيه من خير إن عالجه المؤمن المعالجة الصادقة الصحيحة.
وإن معالجة نسيان العلم واكتسابه إنما تبدأ وتنطلق أولاً من استعداد القلب للحفظ والتذكر من خلال تطهيره وتنظيفه .
لقد انطلق جبريل عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحدث العظيم إلى السماء الدنيا، وهنا يأتي الحرص والأمانة من الخازن الأمين، خازن السماء، حيث لم يفتح لجبريل حتى تأكد وعرف من معه، بأنه محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد أُرسل إليه، وكم هي الأمانة والاسترعاء من مسؤولية عظيمة، فيتولد عنها الحرص ممن استؤمن أمانة علمية أو إدارية، أو زوجية أو أبناءً، أو متاعاً، أو مهمة، أو وظيفة، فيؤدي الذي عليه فيها، ويحرص على حراستها كما حرص حارس السماء على السماء من أن يدخلها غير مأذون له. فإن الله تعالى قادر على كل شيء ولكنه الحكيم العليم، تظهر حكمته وعظمته وعلمه في كل شيء خلقه سبحانه وتعالى. وفيه أدب الاستئذان من جبريل عليه السلام بأن سمى اسمه، ولم يقل: أنا؛ فقط كما يفعل البعض.
ثم أبونا آدم عليه السلام، ينظر يميناً فيضحك، وينظر شمالاً فيبكي، إنها شفقة الأب على أبنائه التي يحتاج أن يترجمها الآباء في الحياة، من حفظ الأبناء والعناية بتربيتهم التربية الدينية التي تُقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة، حتى لا نندم يوم لا ينفع الندم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُاْمَرُون).
وفي هذه الرحلة العظيمة من الدروس: الترحيب بالقادم، فقد رحب به الأنبياء الذين مَرَّ بهم صلى الله عليه وسلم ودعوه بلقب النبوة، وبصفة الصلاح، وكلهم سابقون له صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا يكون المسلم متصف بصفات الأنبياء والمرسلين، من الترحيب والبشاشة للقادمين عليه، وتلقيبهم بما يستحقون من الألقاب التي هي من خصائصهم، خاصة أهل الفضل من أصحاب العلم، والأيدي الكريمة. كما كان ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جاء ذكرهم في الحديث (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح )
ويستفاد من تردده بين ربه تبارك وتعالى وموسى عليه السلام، حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته، والأخذ بالنصيحة، والتردد في تكرار الطلب، وفيه أن على المسلم أن يبذل النصيحة حتى وإن لم تُطلب منه، كما نصح موسى عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم دونما طلب، وعلى المسلم أن يقبل النصيحة الصالحة التي تحمل الخير؛ وإن كثرت من الناصح، وأن يتردد في طلب الخير للآخرين إلى أقصى ما يستطيع.
وعلى المسلم أن يسعى بالعمل والدعاء للفوز بالجنة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بعض صفاتها.
وفي الحديث بيان منـزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة عند ربه سبحانه وتعالى، إذ عُرِج به ورأى من رأى من الأنبياء ومن الآيات. وكذلك فيه رحمة الله تعالى بعباده وكرمه جلَّ جلاله؛ إذ جعل الصلوات خمس، وهي خمسون. وفيه كذلك منـزلة الصلاة إذ فرضها الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في السماء. وفيه بيان منـزلة الأنبياء عليهم السلام عند ربهم سبحانه وتعالى.
ومن لطائف هذا الحديث أن قال من مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ) إلا آدم وإبراهيم فقالا (:مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ) فآدم عليه السلام أب البشرية أجمع، وإبراهيم عليه السلام والد إسماعيل الذي يرجع إليه نسب رسول الله.




العر ض على القبائل طلباً لقبول الدعوة



لقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل القادمة إلى مكة للحج أو لأسواق العرب، يدعوهم لعبادة الله تعالى، دونما توانٍ أو خوف أو تردد منه صلى الله عليه وسلم قال ربيعة بن عباد (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يدعو الناس وخلفه رجل أحول، يقول: لا يصدنكم هذا عن دين آلهتكم: قلت: من هذا ؟ قالوا : هذا عمه أبو لهب ) وكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) وكان (يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة ويقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم؛ آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تُصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به).
وهكذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل مبينا هدف الرسالة العظيم؛ داعياً إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، في عزيمة الصادق الأمين، الذي لا يُثنيه كيد الكائدين،وتخوين الخائنين، بالرغم من التصدي العنيف من عمه أبي لهب الذي يجري خلفه، مزهداً الناس فيما يدعوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللمرء أن يتصور حال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يمر بين القبائل، يدعوهم والمكذب يجري خلفه ليصد الناس عن الهدى، ومدى أثر ذلك على نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صابر على ذلك، ولا يرد عليه بشيء، بل كان مقداماً في أمره دون أن يأبه بإرجاف المرجفين وتكذيب المكذبين . وكم يواجه الإنسان في دعوته وفي مهنته التربوية من العقبات التي لا تصل إلى هذه الدرجة من التحدي السافر، فيتهاون ويتكاسل، وربما ضخم الموقف ليجد لنفسه مبررا؛ ليتوقف به عن الاستمرار فيما يقوم به، وكم يواجه طالب العلم من مشقة التعلم، والباحث في بحثه، والعامل والإداري والطبيب والمزارع في عمله من مصاعب المهنة فيتكاسل ويستسلم للنكسات، أوليس في نهجه وصبره صلى الله عليه وسلم درساً لكل مستسلم للمصاعب والصدود التي يواجهها. إن هذه العزيمة المتوقدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لتشحذ همم المسلمين للعمل الدؤوب الذي يخدم هذه الأمة في جميع مجالات الحياة.
لم يتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذه الصعوبات والعقبات والأذى والرد الجافي، وإنما استمر يبحث، فاتصل بالأنصار، حيث قدم سويد بن الصامت الأنصاري إلى مكة حاجاً فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال : هذا القول حسن، ثم قدم المدينة، وقُتل، وكان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم.
وعندما سعى الأوس لمحالفة قريش على الخزرج، قدم أبو الحيسر أنس بن رافع في وفد من بني عبدالأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم ودعاهم إلى الإسلام وأسمعهم القرآن، ثم عادوا إلى المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج يوم بعاث، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وكان قومه يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات.
إن هذه بدايات قبول الدعوة في المدينة، وكانت بسيطة من حيث العدد، ولكنها إيذاناً وبياناً وباباً يُشير إلى أن الانطلاقة الثانية ستكون في رحاب المدينة، فتعطينا هذه المقدمات أن الشدائد يعقبها الفرج بإذن الله تعالى، وإنما الأمور تسير من حال إلى حال رويداً رويداً، وعلى المسلم أن لا ييأس، ويسعى بكل ما أوتي من قوة ونشاط، في علمه وتعلمه ودعوته وتربيته وفي عموم شؤونه، وكذلك على مستوى الأمة في شؤونها الكلية والجزئية.
ولم ييأس صلى الله عليه وسلم بعد هذين العرضين، وإنما اتصل بوفد الخزرج عندما قدموا في موسم الحج التالي عند عقبة منى، حيث دعاهم صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهكذا طلائع البشر تزداد شيئاً فشيئاً، مع جهد لا يعرف الكلل ولا مدخل للملل في حياته صلى الله عليه وسلم فإن الكلل واليأس إذا دب في نفوس الناس، أحدث عندهم قدراً كبيراً من الفتور الذي يؤدي إلى سيء الأمور، وإنه لمن الدواعي التربوية والنفسية المهمة في حياة المسلم أن يُبعد عن جهده وعمله كل عوامل اليأس والخذلان. فإن منهجه صلى الله عليه وسلم ليربي في المتأمل فيه القوة والنشاط والحيوية والعمل الدؤوب، لم يواجه أحد من البشر ما واجهه صلى الله عليه وسلم من الصعوبات والعقبات التي تفتر حيالها قوى الرجال الأقوياء، ولكنه حقاً خير البشرية، حيث قدم للسالكين منهجه النبوي: السيرة الصحيحة والقدوة العظيمة التي تمد المسلم بالقوة والنشاط والحيوية في كل أمر من أمور الدين والدنيا.
إن دروس السيرة النبوية التي يقدمها المعلم لطلابه يجب أن يجلي لهم ما فيها من العبر والحكم التي فيضها لا ينضب، وبقدر عقل المتأمل فيها تعطيه وتُجديه.




بيعة العقبة الأولى



في الموسم التالي من العام الثاني عشر للبعثة جاء اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس. فقال: تبايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه).
وفي رواية (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا....).
فلقد تضمنت هذه البيعة أوائل مبادئ الإسلام وهديه وأخلاقه التي تتوافق مع الفطرة السليمة، وتكفل لأصحابها قدراً كبيراً من حفظ الحقوق، وهي تلك المبادئ التي يجب أن تتأكد في نفوس أمة التوحيد. كما أن هذه المبادئ تشكل التدرج الدعوي للمنهج الإسلامي الذي ينـزل على الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً بما يتناسب مع حال الأمة، الأمر الذي يجب أن يراعيه المسلم في دعوته وتربيته، وفي منهج حياته كلها، وفي تعامله مع حاجاته ومع الآخرين .
وأول هذه الأسس: توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، وهو الأمر الرئيس الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام، وهو رأس الإسلام، والذي لا يُقبل عمل مهما كان صلاحه من غير تحقيقه. ثم صيانة الفروج من الزنا وما يترتب على هذا الفعل الشنيع من المفاسد الاجتماعية والصحية والنفسية، إضافة إلى أنه من أشنع الرذائل السلوكية التي حرمها الله تعالى. ثم التوجيه إلى عدم الإسراف والتبذير الذي يؤدي إلى ضياع الأموال، ويشيع التباهي والتنافس البغيض بين أفراد المجتمع. ثم تلا ذلك الأمر الذي يحفظ الدماء من السفك بغير حق، والذي بحفظه تستقيم أمور الناس. فمن وفَّى بهذه فأجره من رب البرية سبحانه وتعالى، ومن عوقب على ما اقـترف فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فلقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبادئ بالثواب والعقاب، ولا يُشترط أن يطلع عليه الناس، بل إن ستره الله عنه، فلا يعني أنه لم يره، بل إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له.
إنه المنهج الذي يربط العمل بالثواب والعقاب العاجل أو الآجل، مع البيان بأن العقاب الآجل تحت مشيئة الله، يتيح الأمل أمام المذنب ليتوب ويؤب إلى ربه سبحانه وتعالى. كما أن هذا التوجيه النبوي يربي في المسلم تقوى لله في السر والعلن.
ولما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وأَمَرَه أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقهم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة: مصعب. وكان منـزله على أسعد بن زرارة، وكان يُصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمّه بعض.
إن في إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليعلم الناس دلالة واضحة على أن هذا الدين هو دين علم، وتَثَبُّتْ، وعبادة لله تعالى على علم ومعرفة. وليس الهدف الدخول في الإسلام بالانتماء فقط، ولو كان كذلك لكفى انتماؤهم إلى الإسلام. كما أن الله سبحانه وتعالى نشر بهذا الدين العلم وأظهره في جميع مجالاته، وفي هذا أهمية تعليم الجاهلين بدينهم، وأهمية الرحلة في الدعوة لإظهار دين الله تعالى كما يُحب الله تعالى ويرضى، وأن تعليم القرآن من أهم ما يجب أن تهتم به المدارس والجامعات في جميع ربوع العالم الإسلامي، وأماكن المسلمين وتجمعاتهم في العالم، وأن تُسْتَخْدَم كل وسيلة مجدية نافعة؛ تحقق الهدف وتَبْلُغ به المقصد، إضافة إلى تعاليم الإسلام التي يجب أن لا تُقصر على المتخصصين في العلوم الشرعية، خاصة ما لا يسع المسلم جهله من الدين.
وينبغي أن لا يقتصر التعليم على مبادئ الدين الإسلامي فقط؛ بل لابد من التفقه في الدين، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر مصعب بأن يعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.
ويستفاد من ذلك أيضاً: أهمية إسدال اللقب العلمي على أهل العلم، وعدم مخاطبتهم بما يستوون فيه مع غيرهم من الألقاب، حيث لُقِّب مصعب بالمقرئ.
وفيه نزول القادم على المضيف، وكرم الأنصار بأن نزل مصعب على أسعد بن زرارة، كما أن التخلي عن ما ألفه الإنسان لا يحصل بسرعة عاجلة، فلقد كره أن يؤم بعضهم بعضا بحكم ما كانوا عليه في جاهليتهم، ولكن بعد أن ترسخ الإسلام في قلوبهم، أصبح الإخاء بينهم علامة، والحب في الله سمة من سماتهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ويستفاد من ذلك أهمية أن يراعي الوالي أو الحاكم أو الإداري الاعتبارات التي تكون في نفوس الناس حتى يُجَلِّيها عنهم بمنهج الإسلام وهديه.





بيعة العقبة الثانية



في موسم الحج التالي من العام الثالث عشر للبعثة النبوية المباركة تمت بيعة العقبة الثانية، والتي يرويها جابر رضي الله عنه بقوله ( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يَتَّبَّعُ الناس في منازلهم بعكاظ ومَجَنَّة، وفي الموسم بمنى، يقول: "من يؤويني ؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة." حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك. ويمشي بين رجالهم، وهم يُشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله له من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين؛ يُظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويُخَافُ ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً، حتى قَدِموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْبَ العقبة، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك ؟ قال: "تُبايُعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم مِمَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو من أصغرهم، فقال : رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلمُ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مُفَارَقَةُ العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جُبَيْنَةً فبينوا ذلك؛ فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً. قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويُعطينا على ذلك الجنة.)
فمن هذه الرواية الجامعة والموضحة لتفاصيل بيعة العقبة الثانية؛ يبين جابر رضي الله عنه استمرارية الرسول صلى الله عليه وسلم ودَأَبَه في تبليغ الرسالة في المواسم، ويقول: من يُؤويني ؟ من ينصُرُني ؟ وفي هذا بيان أن لصدود قومه، ومقدار الأذى الذي لحق به صلى الله عليه وسلم قد بلغ مبلغاً عظيماً وخطيراً؛ وإلا كيف يبحث صلى الله عليه وسلم عن مخرج ليخرج من مكة التي ولد وترعرع فيها، ولكنه الصبر الدَّؤوب منه صلى الله عليه وسلم وتحمل جميع مشاق الرسالة بكل أمانة وصدق، الأمر الذي يؤكد للأمة أن ما يجب عليها هو حال ما كان عليه صلى الله عليه وسلم إذ لم يضعف أو يتهاون في أمر الرسالة أمام تكالب الأعداء والضيم الذي واجهه من قومه، ولعمري إن أذى قوم الإنسان أشد على النفس من أذى الأعداء.
وكل عمل خير صالح وناجح ومتميز يواجه الصد من الحاقدين والحاسدين، فقد كانوا أعداء الرسالة السماوية يمشون خلفه ويحذرون الناس منه، حتى خافت القبائل من إيواء الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى يخرج الرجل فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش. إنه البث الإعلامي الذي أوصلوه إلى كل من يتصل بمكة، أو يصل إليه أخبارها. وإنها لسنة من سنن الأولين؛ تتجدد في كل وقت وحين، وفي كل المستويات، تضعف تارة وتعلوا تارة أخرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا ماذا يجب أن نكون عليه أمام البث الكاذب والحاقد؛ وهو عدم الاكتراث والتأثر والاستسلام والنكوص، بل يجب المواجهة بالصبر وعدم الالتفات إليها، وعدم استخدام المواجهة في حالة الضعف، مع الاستمرار في العمل الدعوي والبناء، فإن النصر من الله تعالى. فهاهم الأنصار يُقْبِلُون على الإسلام قبولاً سريعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يبعد عنهم المسافات الطِّوَال، حيث يقول جابر رضي الله عنه : فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يُظهرون الإسلام. بينما حال كفار قريش الاستعداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم منذراً ومبشراً.
ثم يأتي دور الأنصار فيجتمعون بينهم جميعاً، وهنا درس تربوي عظيم، فلم يجتمع الكبراء منهم أو بعضهم، وإنما اجتمعوا جميعاً لأن الأمر لا يخص زيد دون عمرو، أو عمرو دون زيد، كما أن في ذلك صرفاً وإبعاداً للحقد والضغائن، كما أن فيه اعترافاً بحقوق الآخرين وعدم تجاهلها، وهو ما يحتاج إليه العمل الجماعي اليوم، سواء كان في أمور الدعوة، أو في ميدان الإدارة، أو الأسرة، بل وفي كل أمر يتطلب رأي المجموعة، وعدم الاستئثار بالرأي دون مشاركة البقية، أو تهميش دور البعض لأي سبب كان.
وبعد مناقشة الموضوع مناقشة ممتلئة بالحيثيات الدينية، وما يجب عليهم إزاء نُصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم اتخاذ القرار الجماعي، فيرحل إليه سبعون رجلاً، واتخذوا سبيل الحيطة والحذر في الوصول إليه صلى الله عليه وسلم حتى لا يراهم أحد، فكان يخرج الرجل والرجلان حتى توافوا عنده صلى الله عليه وسلم وإنها الحنكة والحكمة التي ترى أهميتها وإلزاميتها لينجح الأمر.




بنود مبايعة العقبة الثانية


ثم يأتي معرفة بنود المبايعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم أنها:
ـ السمع والطاعة في المنشط والمكره.
وهو الأمر الذي لا تستقيم أمور الدعوة إلا باتباع الداعي إلى الخير، في جميع أحوال النفس البشرية، فيما تنشط إليه أو تكسل عنه، وفي هذا بيان على أن لا يقتصر إعداد النفس للخير حال المنشط فقط، بل يجب أن يتجاوزه إلى حالة الدعة والكسل، ويستفاد من هذا البند: أهمية أن يعد المسلم نفسه أثناء ممارسة أعماله الصالحة نحو الاستمرارية، وعدم الركون للكسل والتوقف، فالمسلم لا يعرف الكسل طريقه إليه، بل هو في نشاط وحركة دؤوبة؛ أثناء طلبه العلم، وأثناء ممارسته لتجارته، وإدارته، ومهنته، وفي كل أنشطة الحياة، وفي هذا البند أهمية الطاعة لولي الأمر ما لم يكن فيه معصية لله تعالى، فإنه من أهم أسس النجاح، وسواء كان في ولاية الأمر الحاكمة، أو في ولاية الأمر المهنية، أي في دائرة العمل.
ـ والنفقة في العسر واليسر.
ويؤكد هذا البند أهمية النفقة في جميع الأحوال، إذ لا تستقيم الأمور الدَّعوية إذا اقتصر الإنفاق على حالة اليسر. وهكذا يكون المسلم في إنفاقه على دروب الخير ومصالح المسلمين في عُسره ويُسره، فهو جواد في كل أحواله، ويزداد عطاءً في حالة السعة واليسر.
ـ وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تستقيم أمور المسلمين إلا بتعاهد بعضهم بعضاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا تأكيد على أن هذه الشعيرة من أهم الشعائر الدينية؛ حيث اهتم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل أمور الدعوة.
ـ وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم.
ويؤكد هذا البند حقيقة الإيمان، إذ لا يحقق هذا المطلب إلا من قوي إيمانه بخالقه سبحانه وتعالى، وأما ضعفاء الإيمان فإن المجاملة والمداهنة رمز لمعاملاتهم في جميع شؤون الحياة: في الاقتصاد والإدارة والدعوة والتعليم، وفي غير ذلك من ميادين أعمال الحياة. لأن ضعيف الإيمان يُقَدِّر الأمور بميزان الأسباب في معزل عن خالق الأسباب ومدبر الأحوال سبحانه وتعالى، وبالتالي يجري ويدور مع الأسباب الموهومة، فيهاب لوم اللائمين وعتاب العاتبين بغير حق، وبالتالي يداهن ويرائي ويجامل على حساب الحق والحقائق.
وبهذا البند يتقوى المسلمون؛ إذ أنه لا مجال للمداهنة المبنية على مخافة لوم اللائمين، بل الحق هو البند الأعلى والكفاح له درع وسياج.
ـ وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم مِمَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.
ويوضح هذا البند خُلُق البيعة الذي ينفي سلوك الخذلان، لمن قَدِمَ عليهم، وأن يكون الحفاظ عليه يوازي حفظ الذات والأهل. وهكذا يجب أن يكون خُلُق المسلم مع إخوانه ومع من يعاهده بالحماية والذود عنه. ولذلك وجد المعاهَدُون الأمن والأمان من المسلمين.
وإذا طبق الرجل ذلك في أهله وإدارته ومهنته وسوقه وتجارته فإن محل الثقة تنعقد عليه ممن يُحيطون به، فلا يخافون منه خيانة ولا خذلان في الحق وإحقاقه.
ـ ولكم الجنة.
وهو الجزاء والمكافأة من الله تعالى، الذي يطمع إليه كل عاقل من الناس.
وهذا يؤكد أهمية المكافأة، وحجم المكافأة الذي يجب أن يتوازى مع الجهد والعمل، حتى يكون له معنى وأثر، فإن هذه المطالب أعمال عزيزة كريمة، ولها تبعية عظيمة الأثر، أكدها أسعد بن زرارة، بقوله: وإن إخراجه اليوم مُفَارَقَةُ العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فكانت المكافأة أعظم من ذلك بكثير، إنها الجنة التي أعدها الله تعالى لمن تبع دينه، فلا يشقى صاحبها أبداً ولا يندم.
إن هذه البنود لتؤكد وضوح الهدف من الرسالة السماوية، إذ أنها تنصب على نصرة دين الله تعالى، وأن مناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي لحفظ هذا الدين ونشره، وليس فيها استعداء القبائل الأخرى بالهجوم؛ واستخدام القوة، بل إنما هي نصرته صلى الله عليه وسلم ومنع الأذى عنه، وليس فيها ما يُشير إلى الغبن أو إلى النوايا السيئة، وهذا بلا شك يؤكد سمو الرسالة في أهدافها وأخلاقها وأسلوب تعاملها، وأنها من عند الله تبارك وتعالى.
ومن فوائد هذا الحدث الإسلامي العظيم، أن تقدم أسعد بن زرارة فتكلم، وهو من صغار القوم سناً، مما يبين أن صغر السن لا يمنع صاحبه من التحدث أمام من هم أكبر منه إذا كان أهلاً للكلام. وما أظن أن أسعد بن زرارة قد تقدم لو لم يكن ذلك ديدن القوم التربوي لأبنائهم، بأن يعطوهم الفرصة للتحدث أمام الآخرين.
فلقد نبههم إلى أمر مهم، وكأني به رضي الله عنه أراد أن يستوثق للرسول صلى الله عليه وسلم إذا ما ظهرت الأمور بشكل عصيب، وأن يلزموا بنود المعاهدة. وإنه لنصح في استوثاق حكيم. فأكد له قومُه في حزم وثقة أنهم ماضون في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً.
وبهذه البيعة المباركة من الأنصار المباركين بدأ التخطيط النبوي للهجرة إلى المدينة، التي ستكون مأرز الإيمان. فأصبحت كذلك. فلله در أهل بيعة العقبة من رجال أوفياء صدقوا ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.



يتبع
[/frame]
الصفحات 1 2  3  4  5  ... الأخيرة

التالي

اعرف اكثر عن رسل الله

السابق

آداب نبوية في الاستئذان

كلمات ذات علاقة
من , الميلاد , الخ , السيرة , العطرة , النبوية , الوفاة , افضل , صلاة , عليه , والسلام