[frame="13 70"]
الإسراء والمعراج (1)
بعد رحلة الطائف التي صد عنه من تحدث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم تأتي رحلة الإسراء والمعراج، فتأتي المكافأة العظيمة من الرب العظيم سبحانه وتعالى، فلئن كابد المشاق صلى الله عليه وسلم فإنه سيرى من آيات ربه تبارك وتعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لِنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُتِيتُ بِالبُرَاقِ. وهو دابةٌ أبيضُ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل. يضع حَافِرَهُ عند منتهى طَرْفِهِ. قال فركبتُهُ حتى أتيتُ بيتَ المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن. فاخترت اللبن. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم اخترت الفطرة. ثم عَرَجَ بنا إلى السماء).
وفي هذا الحديث دلالة على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه سبحانه وتعالى، وفيه كذلك عِظَمُ خلق الله تعالى. وفيه أن من دخل المسجد يبتدئه بالصلاة. ومن فوائد الحديث أن الإسلام هو دين الفطرة، وأن أكل الطيبات من الفطرة كذلك، وأكل الخبائث مناقض لها.
وذكر ابن حجر في الفتح: حديث أبي سعيد عند البيهقي:(حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها ـ وفيه ـ فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، وفي رواية (ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فَأَمَمْتُهُم).
وفي الحديث بيان منـزلة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتسليم.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يُحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُرِجَ عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنـزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري؛ ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا؛ قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحد ؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: أُرسِلَ إليه ؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسْوِدَةٌ وعلى يساره أسْوِدَةٌ، إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح، قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل شماله بكى. حتى عَرَج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول،ففتح. قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، ولم يُثبت كيف منازلُهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس؛ قال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا ؟ قال: هذا موسى. ثم مررت بعيسى، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت من هذا ؟ قال : هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت من هذا ؟ قال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حَبَّة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم عُرِج بي حتى ظَهَرْتُ لمستوى أسمع فيه صريفَ الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تُطيق ذلك. فراجَعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت : وضع شطرَها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فراجعت فوَضَع شطرها، فرجعت إليه؛ فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يُبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربَّك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى؛ وغَشِيَها ألوان لا أدري ماهي. ثم أُدخِلتُ الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ ؛ وإذا تُرابها المسك.).
إن هذه الرحلة العظيمة، رحلة الإسراء والمعراج فيها من الدروس والفوائد ما يعطي المسلم ويزوده بالكثير مما يحتاج إليه في دار معاده ومعاشه، فأول خطوات الإسراء والمعراج الإعداد لذلك؛ بأن قام جبريل عليه السلام ففرج صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدره صلى الله عليه وسلم ثم أطبقه، وقد حصل شق الصدر الأول وهو صغير عند مرضعته حليمة، فكان الشَّقُ الأول لاستعداده لنـزع العلقة التي قيل له عندها: هذا حظ الشيطان منك، والشَّقُ الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة. وفي هذا تأكيد وبيان أن القلب في الإنسان هو المحطة الرئيسة، والجوهرة الثمينة التي يجب أن يقف عندها المسلم لينظفها من درن الرذائل القلبية، كالاعتقادات الباطلة، والحسد والحقد والكراهية لإخوانه المسلمين، وحب العلو والانتصار والتكبر عليهم، والتنقص من ضعيفهم وفقيرهم، وكراهية الخير لقويهم، فعن أنس رضي الله عنه قال (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحَيْتُ أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي ؟ فعلت، قال : نعم. قال أنس وكان عبدالله يُحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تَعَار وتَقَلَّبَ على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مَضَتِ الثلاث ليالٍ، وكِدت أن أحقر عمله، قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر ثَمَّ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن أوي إليك، لأنظر ما عَمَلُك، فأقتدي به، فلم أَرَكَ تعمل كَثيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وَلَّيْتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشّاً، ولا أَحْسُدُ أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه. فقال عبدالله، هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق).
الإسراء والمعراج (2)
وقد قال صلى الله عليه وسلم مبيناً أهمية القلب من الجسد وثمرة صلاحه أو فساده (ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) قال ابن حجر: فالقلب أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثراً فيه، والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه.
ولئن اهتم الكثير من الناس بإصلاح الظاهر دون إصلاح الباطن؛ فإنه يظل هذا الإصلاح إصلاحاً مؤقتاً، يتراجع كثيراً ولا يتقدم إلا قليلاً، لأنه لم يعتن بصلاح أميره، وينقيه وينظفه كما ينظف الإناء بالماء، فلقد غسل جبريل عليه السلام صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، فهو مقبل على أمر رباني عظيم، وهكذا كل من يريد القدوم إلى ربه في صلاته وفي أعماله؛ أن يعي أهمية تطهير القلب وتنظيفه من الأباطيل؛ وما يلحق بها من المفسدات، في جميع أشكالها وأنواعها ومركباتها، فَيُقْبِل على الله بقلب نظيف طاهر سليم.
ويفيد هذا أهمية التركيز في العملية التربوية على تـزكية القلوب وتطهيرها والعناية بها، وإنه ليحسن بالمربين أن يهتموا بتطهير قلوب من يقومون بتعليمهم وتربيتهم؛ حتى تزكو نفوسهم، وتصبح أوعية صالحة للعلم والحكمة، فلقد أفرغ جبريل عليه السلام ما في الطست من حكمة وإيمان في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن غسله بماء زمزم، فكم يحتاج المسلم إلى الإيمان والحكمة التي تسبقها الطهارة والنظافة القلبية؛ حتى تضم ذلك الإيمان والعلم والحكمة في وادي القلب الفسيح الذي يسع لكل ما يوضع فيه من خير إن عالجه المؤمن المعالجة الصادقة الصحيحة.
وإن معالجة نسيان العلم واكتسابه إنما تبدأ وتنطلق أولاً من استعداد القلب للحفظ والتذكر من خلال تطهيره وتنظيفه .
لقد انطلق جبريل عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحدث العظيم إلى السماء الدنيا، وهنا يأتي الحرص والأمانة من الخازن الأمين، خازن السماء، حيث لم يفتح لجبريل حتى تأكد وعرف من معه، بأنه محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد أُرسل إليه، وكم هي الأمانة والاسترعاء من مسؤولية عظيمة، فيتولد عنها الحرص ممن استؤمن أمانة علمية أو إدارية، أو زوجية أو أبناءً، أو متاعاً، أو مهمة، أو وظيفة، فيؤدي الذي عليه فيها، ويحرص على حراستها كما حرص حارس السماء على السماء من أن يدخلها غير مأذون له. فإن الله تعالى قادر على كل شيء ولكنه الحكيم العليم، تظهر حكمته وعظمته وعلمه في كل شيء خلقه سبحانه وتعالى. وفيه أدب الاستئذان من جبريل عليه السلام بأن سمى اسمه، ولم يقل: أنا؛ فقط كما يفعل البعض.
ثم أبونا آدم عليه السلام، ينظر يميناً فيضحك، وينظر شمالاً فيبكي، إنها شفقة الأب على أبنائه التي يحتاج أن يترجمها الآباء في الحياة، من حفظ الأبناء والعناية بتربيتهم التربية الدينية التي تُقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة، حتى لا نندم يوم لا ينفع الندم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُاْمَرُون).
وفي هذه الرحلة العظيمة من الدروس: الترحيب بالقادم، فقد رحب به الأنبياء الذين مَرَّ بهم صلى الله عليه وسلم ودعوه بلقب النبوة، وبصفة الصلاح، وكلهم سابقون له صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا يكون المسلم متصف بصفات الأنبياء والمرسلين، من الترحيب والبشاشة للقادمين عليه، وتلقيبهم بما يستحقون من الألقاب التي هي من خصائصهم، خاصة أهل الفضل من أصحاب العلم، والأيدي الكريمة. كما كان ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جاء ذكرهم في الحديث (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح )
ويستفاد من تردده بين ربه تبارك وتعالى وموسى عليه السلام، حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته، والأخذ بالنصيحة، والتردد في تكرار الطلب، وفيه أن على المسلم أن يبذل النصيحة حتى وإن لم تُطلب منه، كما نصح موسى عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم دونما طلب، وعلى المسلم أن يقبل النصيحة الصالحة التي تحمل الخير؛ وإن كثرت من الناصح، وأن يتردد في طلب الخير للآخرين إلى أقصى ما يستطيع.
وعلى المسلم أن يسعى بالعمل والدعاء للفوز بالجنة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بعض صفاتها.
وفي الحديث بيان منـزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة عند ربه سبحانه وتعالى، إذ عُرِج به ورأى من رأى من الأنبياء ومن الآيات. وكذلك فيه رحمة الله تعالى بعباده وكرمه جلَّ جلاله؛ إذ جعل الصلوات خمس، وهي خمسون. وفيه كذلك منـزلة الصلاة إذ فرضها الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في السماء. وفيه بيان منـزلة الأنبياء عليهم السلام عند ربهم سبحانه وتعالى.
ومن لطائف هذا الحديث أن قال من مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ) إلا آدم وإبراهيم فقالا (:مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ) فآدم عليه السلام أب البشرية أجمع، وإبراهيم عليه السلام والد إسماعيل الذي يرجع إليه نسب رسول الله.
العر ض على القبائل طلباً لقبول الدعوة
لقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل القادمة إلى مكة للحج أو لأسواق العرب، يدعوهم لعبادة الله تعالى، دونما توانٍ أو خوف أو تردد منه صلى الله عليه وسلم قال ربيعة بن عباد (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يدعو الناس وخلفه رجل أحول، يقول: لا يصدنكم هذا عن دين آلهتكم: قلت: من هذا ؟ قالوا : هذا عمه أبو لهب ) وكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) وكان (يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة ويقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم؛ آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تُصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به).
وهكذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل مبينا هدف الرسالة العظيم؛ داعياً إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، في عزيمة الصادق الأمين، الذي لا يُثنيه كيد الكائدين،وتخوين الخائنين، بالرغم من التصدي العنيف من عمه أبي لهب الذي يجري خلفه، مزهداً الناس فيما يدعوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللمرء أن يتصور حال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يمر بين القبائل، يدعوهم والمكذب يجري خلفه ليصد الناس عن الهدى، ومدى أثر ذلك على نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صابر على ذلك، ولا يرد عليه بشيء، بل كان مقداماً في أمره دون أن يأبه بإرجاف المرجفين وتكذيب المكذبين . وكم يواجه الإنسان في دعوته وفي مهنته التربوية من العقبات التي لا تصل إلى هذه الدرجة من التحدي السافر، فيتهاون ويتكاسل، وربما ضخم الموقف ليجد لنفسه مبررا؛ ليتوقف به عن الاستمرار فيما يقوم به، وكم يواجه طالب العلم من مشقة التعلم، والباحث في بحثه، والعامل والإداري والطبيب والمزارع في عمله من مصاعب المهنة فيتكاسل ويستسلم للنكسات، أوليس في نهجه وصبره صلى الله عليه وسلم درساً لكل مستسلم للمصاعب والصدود التي يواجهها. إن هذه العزيمة المتوقدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لتشحذ همم المسلمين للعمل الدؤوب الذي يخدم هذه الأمة في جميع مجالات الحياة.
لم يتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذه الصعوبات والعقبات والأذى والرد الجافي، وإنما استمر يبحث، فاتصل بالأنصار، حيث قدم سويد بن الصامت الأنصاري إلى مكة حاجاً فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال : هذا القول حسن، ثم قدم المدينة، وقُتل، وكان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم.
وعندما سعى الأوس لمحالفة قريش على الخزرج، قدم أبو الحيسر أنس بن رافع في وفد من بني عبدالأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم ودعاهم إلى الإسلام وأسمعهم القرآن، ثم عادوا إلى المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج يوم بعاث، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وكان قومه يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات.
إن هذه بدايات قبول الدعوة في المدينة، وكانت بسيطة من حيث العدد، ولكنها إيذاناً وبياناً وباباً يُشير إلى أن الانطلاقة الثانية ستكون في رحاب المدينة، فتعطينا هذه المقدمات أن الشدائد يعقبها الفرج بإذن الله تعالى، وإنما الأمور تسير من حال إلى حال رويداً رويداً، وعلى المسلم أن لا ييأس، ويسعى بكل ما أوتي من قوة ونشاط، في علمه وتعلمه ودعوته وتربيته وفي عموم شؤونه، وكذلك على مستوى الأمة في شؤونها الكلية والجزئية.
ولم ييأس صلى الله عليه وسلم بعد هذين العرضين، وإنما اتصل بوفد الخزرج عندما قدموا في موسم الحج التالي عند عقبة منى، حيث دعاهم صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهكذا طلائع البشر تزداد شيئاً فشيئاً، مع جهد لا يعرف الكلل ولا مدخل للملل في حياته صلى الله عليه وسلم فإن الكلل واليأس إذا دب في نفوس الناس، أحدث عندهم قدراً كبيراً من الفتور الذي يؤدي إلى سيء الأمور، وإنه لمن الدواعي التربوية والنفسية المهمة في حياة المسلم أن يُبعد عن جهده وعمله كل عوامل اليأس والخذلان. فإن منهجه صلى الله عليه وسلم ليربي في المتأمل فيه القوة والنشاط والحيوية والعمل الدؤوب، لم يواجه أحد من البشر ما واجهه صلى الله عليه وسلم من الصعوبات والعقبات التي تفتر حيالها قوى الرجال الأقوياء، ولكنه حقاً خير البشرية، حيث قدم للسالكين منهجه النبوي: السيرة الصحيحة والقدوة العظيمة التي تمد المسلم بالقوة والنشاط والحيوية في كل أمر من أمور الدين والدنيا.
إن دروس السيرة النبوية التي يقدمها المعلم لطلابه يجب أن يجلي لهم ما فيها من العبر والحكم التي فيضها لا ينضب، وبقدر عقل المتأمل فيها تعطيه وتُجديه.
بيعة العقبة الأولى
في الموسم التالي من العام الثاني عشر للبعثة جاء اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس. فقال: تبايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه).
وفي رواية (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا....).
فلقد تضمنت هذه البيعة أوائل مبادئ الإسلام وهديه وأخلاقه التي تتوافق مع الفطرة السليمة، وتكفل لأصحابها قدراً كبيراً من حفظ الحقوق، وهي تلك المبادئ التي يجب أن تتأكد في نفوس أمة التوحيد. كما أن هذه المبادئ تشكل التدرج الدعوي للمنهج الإسلامي الذي ينـزل على الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً بما يتناسب مع حال الأمة، الأمر الذي يجب أن يراعيه المسلم في دعوته وتربيته، وفي منهج حياته كلها، وفي تعامله مع حاجاته ومع الآخرين .
وأول هذه الأسس: توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، وهو الأمر الرئيس الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام، وهو رأس الإسلام، والذي لا يُقبل عمل مهما كان صلاحه من غير تحقيقه. ثم صيانة الفروج من الزنا وما يترتب على هذا الفعل الشنيع من المفاسد الاجتماعية والصحية والنفسية، إضافة إلى أنه من أشنع الرذائل السلوكية التي حرمها الله تعالى. ثم التوجيه إلى عدم الإسراف والتبذير الذي يؤدي إلى ضياع الأموال، ويشيع التباهي والتنافس البغيض بين أفراد المجتمع. ثم تلا ذلك الأمر الذي يحفظ الدماء من السفك بغير حق، والذي بحفظه تستقيم أمور الناس. فمن وفَّى بهذه فأجره من رب البرية سبحانه وتعالى، ومن عوقب على ما اقـترف فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فلقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبادئ بالثواب والعقاب، ولا يُشترط أن يطلع عليه الناس، بل إن ستره الله عنه، فلا يعني أنه لم يره، بل إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له.
إنه المنهج الذي يربط العمل بالثواب والعقاب العاجل أو الآجل، مع البيان بأن العقاب الآجل تحت مشيئة الله، يتيح الأمل أمام المذنب ليتوب ويؤب إلى ربه سبحانه وتعالى. كما أن هذا التوجيه النبوي يربي في المسلم تقوى لله في السر والعلن.
ولما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وأَمَرَه أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقهم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة: مصعب. وكان منـزله على أسعد بن زرارة، وكان يُصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمّه بعض.
إن في إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليعلم الناس دلالة واضحة على أن هذا الدين هو دين علم، وتَثَبُّتْ، وعبادة لله تعالى على علم ومعرفة. وليس الهدف الدخول في الإسلام بالانتماء فقط، ولو كان كذلك لكفى انتماؤهم إلى الإسلام. كما أن الله سبحانه وتعالى نشر بهذا الدين العلم وأظهره في جميع مجالاته، وفي هذا أهمية تعليم الجاهلين بدينهم، وأهمية الرحلة في الدعوة لإظهار دين الله تعالى كما يُحب الله تعالى ويرضى، وأن تعليم القرآن من أهم ما يجب أن تهتم به المدارس والجامعات في جميع ربوع العالم الإسلامي، وأماكن المسلمين وتجمعاتهم في العالم، وأن تُسْتَخْدَم كل وسيلة مجدية نافعة؛ تحقق الهدف وتَبْلُغ به المقصد، إضافة إلى تعاليم الإسلام التي يجب أن لا تُقصر على المتخصصين في العلوم الشرعية، خاصة ما لا يسع المسلم جهله من الدين.
وينبغي أن لا يقتصر التعليم على مبادئ الدين الإسلامي فقط؛ بل لابد من التفقه في الدين، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر مصعب بأن يعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.
ويستفاد من ذلك أيضاً: أهمية إسدال اللقب العلمي على أهل العلم، وعدم مخاطبتهم بما يستوون فيه مع غيرهم من الألقاب، حيث لُقِّب مصعب بالمقرئ.
وفيه نزول القادم على المضيف، وكرم الأنصار بأن نزل مصعب على أسعد بن زرارة، كما أن التخلي عن ما ألفه الإنسان لا يحصل بسرعة عاجلة، فلقد كره أن يؤم بعضهم بعضا بحكم ما كانوا عليه في جاهليتهم، ولكن بعد أن ترسخ الإسلام في قلوبهم، أصبح الإخاء بينهم علامة، والحب في الله سمة من سماتهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ويستفاد من ذلك أهمية أن يراعي الوالي أو الحاكم أو الإداري الاعتبارات التي تكون في نفوس الناس حتى يُجَلِّيها عنهم بمنهج الإسلام وهديه.
بيعة العقبة الثانية
في موسم الحج التالي من العام الثالث عشر للبعثة النبوية المباركة تمت بيعة العقبة الثانية، والتي يرويها جابر رضي الله عنه بقوله ( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يَتَّبَّعُ الناس في منازلهم بعكاظ ومَجَنَّة، وفي الموسم بمنى، يقول: "من يؤويني ؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة." حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك. ويمشي بين رجالهم، وهم يُشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله له من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين؛ يُظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويُخَافُ ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً، حتى قَدِموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْبَ العقبة، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك ؟ قال: "تُبايُعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم مِمَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة".
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو من أصغرهم، فقال : رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلمُ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مُفَارَقَةُ العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جُبَيْنَةً فبينوا ذلك؛ فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً. قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويُعطينا على ذلك الجنة.)
فمن هذه الرواية الجامعة والموضحة لتفاصيل بيعة العقبة الثانية؛ يبين جابر رضي الله عنه استمرارية الرسول صلى الله عليه وسلم ودَأَبَه في تبليغ الرسالة في المواسم، ويقول: من يُؤويني ؟ من ينصُرُني ؟ وفي هذا بيان أن لصدود قومه، ومقدار الأذى الذي لحق به صلى الله عليه وسلم قد بلغ مبلغاً عظيماً وخطيراً؛ وإلا كيف يبحث صلى الله عليه وسلم عن مخرج ليخرج من مكة التي ولد وترعرع فيها، ولكنه الصبر الدَّؤوب منه صلى الله عليه وسلم وتحمل جميع مشاق الرسالة بكل أمانة وصدق، الأمر الذي يؤكد للأمة أن ما يجب عليها هو حال ما كان عليه صلى الله عليه وسلم إذ لم يضعف أو يتهاون في أمر الرسالة أمام تكالب الأعداء والضيم الذي واجهه من قومه، ولعمري إن أذى قوم الإنسان أشد على النفس من أذى الأعداء.
وكل عمل خير صالح وناجح ومتميز يواجه الصد من الحاقدين والحاسدين، فقد كانوا أعداء الرسالة السماوية يمشون خلفه ويحذرون الناس منه، حتى خافت القبائل من إيواء الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى يخرج الرجل فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش. إنه البث الإعلامي الذي أوصلوه إلى كل من يتصل بمكة، أو يصل إليه أخبارها. وإنها لسنة من سنن الأولين؛ تتجدد في كل وقت وحين، وفي كل المستويات، تضعف تارة وتعلوا تارة أخرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا ماذا يجب أن نكون عليه أمام البث الكاذب والحاقد؛ وهو عدم الاكتراث والتأثر والاستسلام والنكوص، بل يجب المواجهة بالصبر وعدم الالتفات إليها، وعدم استخدام المواجهة في حالة الضعف، مع الاستمرار في العمل الدعوي والبناء، فإن النصر من الله تعالى. فهاهم الأنصار يُقْبِلُون على الإسلام قبولاً سريعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يبعد عنهم المسافات الطِّوَال، حيث يقول جابر رضي الله عنه : فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يُظهرون الإسلام. بينما حال كفار قريش الاستعداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم منذراً ومبشراً.
ثم يأتي دور الأنصار فيجتمعون بينهم جميعاً، وهنا درس تربوي عظيم، فلم يجتمع الكبراء منهم أو بعضهم، وإنما اجتمعوا جميعاً لأن الأمر لا يخص زيد دون عمرو، أو عمرو دون زيد، كما أن في ذلك صرفاً وإبعاداً للحقد والضغائن، كما أن فيه اعترافاً بحقوق الآخرين وعدم تجاهلها، وهو ما يحتاج إليه العمل الجماعي اليوم، سواء كان في أمور الدعوة، أو في ميدان الإدارة، أو الأسرة، بل وفي كل أمر يتطلب رأي المجموعة، وعدم الاستئثار بالرأي دون مشاركة البقية، أو تهميش دور البعض لأي سبب كان.
وبعد مناقشة الموضوع مناقشة ممتلئة بالحيثيات الدينية، وما يجب عليهم إزاء نُصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم اتخاذ القرار الجماعي، فيرحل إليه سبعون رجلاً، واتخذوا سبيل الحيطة والحذر في الوصول إليه صلى الله عليه وسلم حتى لا يراهم أحد، فكان يخرج الرجل والرجلان حتى توافوا عنده صلى الله عليه وسلم وإنها الحنكة والحكمة التي ترى أهميتها وإلزاميتها لينجح الأمر.
بنود مبايعة العقبة الثانية
ثم يأتي معرفة بنود المبايعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم أنها:
ـ السمع والطاعة في المنشط والمكره.
وهو الأمر الذي لا تستقيم أمور الدعوة إلا باتباع الداعي إلى الخير، في جميع أحوال النفس البشرية، فيما تنشط إليه أو تكسل عنه، وفي هذا بيان على أن لا يقتصر إعداد النفس للخير حال المنشط فقط، بل يجب أن يتجاوزه إلى حالة الدعة والكسل، ويستفاد من هذا البند: أهمية أن يعد المسلم نفسه أثناء ممارسة أعماله الصالحة نحو الاستمرارية، وعدم الركون للكسل والتوقف، فالمسلم لا يعرف الكسل طريقه إليه، بل هو في نشاط وحركة دؤوبة؛ أثناء طلبه العلم، وأثناء ممارسته لتجارته، وإدارته، ومهنته، وفي كل أنشطة الحياة، وفي هذا البند أهمية الطاعة لولي الأمر ما لم يكن فيه معصية لله تعالى، فإنه من أهم أسس النجاح، وسواء كان في ولاية الأمر الحاكمة، أو في ولاية الأمر المهنية، أي في دائرة العمل.
ـ والنفقة في العسر واليسر.
ويؤكد هذا البند أهمية النفقة في جميع الأحوال، إذ لا تستقيم الأمور الدَّعوية إذا اقتصر الإنفاق على حالة اليسر. وهكذا يكون المسلم في إنفاقه على دروب الخير ومصالح المسلمين في عُسره ويُسره، فهو جواد في كل أحواله، ويزداد عطاءً في حالة السعة واليسر.
ـ وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تستقيم أمور المسلمين إلا بتعاهد بعضهم بعضاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا تأكيد على أن هذه الشعيرة من أهم الشعائر الدينية؛ حيث اهتم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل أمور الدعوة.
ـ وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم.
ويؤكد هذا البند حقيقة الإيمان، إذ لا يحقق هذا المطلب إلا من قوي إيمانه بخالقه سبحانه وتعالى، وأما ضعفاء الإيمان فإن المجاملة والمداهنة رمز لمعاملاتهم في جميع شؤون الحياة: في الاقتصاد والإدارة والدعوة والتعليم، وفي غير ذلك من ميادين أعمال الحياة. لأن ضعيف الإيمان يُقَدِّر الأمور بميزان الأسباب في معزل عن خالق الأسباب ومدبر الأحوال سبحانه وتعالى، وبالتالي يجري ويدور مع الأسباب الموهومة، فيهاب لوم اللائمين وعتاب العاتبين بغير حق، وبالتالي يداهن ويرائي ويجامل على حساب الحق والحقائق.
وبهذا البند يتقوى المسلمون؛ إذ أنه لا مجال للمداهنة المبنية على مخافة لوم اللائمين، بل الحق هو البند الأعلى والكفاح له درع وسياج.
ـ وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم مِمَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.
ويوضح هذا البند خُلُق البيعة الذي ينفي سلوك الخذلان، لمن قَدِمَ عليهم، وأن يكون الحفاظ عليه يوازي حفظ الذات والأهل. وهكذا يجب أن يكون خُلُق المسلم مع إخوانه ومع من يعاهده بالحماية والذود عنه. ولذلك وجد المعاهَدُون الأمن والأمان من المسلمين.
وإذا طبق الرجل ذلك في أهله وإدارته ومهنته وسوقه وتجارته فإن محل الثقة تنعقد عليه ممن يُحيطون به، فلا يخافون منه خيانة ولا خذلان في الحق وإحقاقه.
ـ ولكم الجنة.
وهو الجزاء والمكافأة من الله تعالى، الذي يطمع إليه كل عاقل من الناس.
وهذا يؤكد أهمية المكافأة، وحجم المكافأة الذي يجب أن يتوازى مع الجهد والعمل، حتى يكون له معنى وأثر، فإن هذه المطالب أعمال عزيزة كريمة، ولها تبعية عظيمة الأثر، أكدها أسعد بن زرارة، بقوله: وإن إخراجه اليوم مُفَارَقَةُ العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فكانت المكافأة أعظم من ذلك بكثير، إنها الجنة التي أعدها الله تعالى لمن تبع دينه، فلا يشقى صاحبها أبداً ولا يندم.
إن هذه البنود لتؤكد وضوح الهدف من الرسالة السماوية، إذ أنها تنصب على نصرة دين الله تعالى، وأن مناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي لحفظ هذا الدين ونشره، وليس فيها استعداء القبائل الأخرى بالهجوم؛ واستخدام القوة، بل إنما هي نصرته صلى الله عليه وسلم ومنع الأذى عنه، وليس فيها ما يُشير إلى الغبن أو إلى النوايا السيئة، وهذا بلا شك يؤكد سمو الرسالة في أهدافها وأخلاقها وأسلوب تعاملها، وأنها من عند الله تبارك وتعالى.
ومن فوائد هذا الحدث الإسلامي العظيم، أن تقدم أسعد بن زرارة فتكلم، وهو من صغار القوم سناً، مما يبين أن صغر السن لا يمنع صاحبه من التحدث أمام من هم أكبر منه إذا كان أهلاً للكلام. وما أظن أن أسعد بن زرارة قد تقدم لو لم يكن ذلك ديدن القوم التربوي لأبنائهم، بأن يعطوهم الفرصة للتحدث أمام الآخرين.
فلقد نبههم إلى أمر مهم، وكأني به رضي الله عنه أراد أن يستوثق للرسول صلى الله عليه وسلم إذا ما ظهرت الأمور بشكل عصيب، وأن يلزموا بنود المعاهدة. وإنه لنصح في استوثاق حكيم. فأكد له قومُه في حزم وثقة أنهم ماضون في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً.
وبهذه البيعة المباركة من الأنصار المباركين بدأ التخطيط النبوي للهجرة إلى المدينة، التي ستكون مأرز الإيمان. فأصبحت كذلك. فلله در أهل بيعة العقبة من رجال أوفياء صدقوا ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
يتبع
[/frame]