للعبد خمسة عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:
مجتمع رجيم / عــــام الإسلاميات
كتبت :
|| (أفنان) l|
-
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
للعبد خمسة عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:
أحدها: المشهد الذي ذكره الشيخ رحمه الله وهو مشهد القدر
وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره، فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار، فإن الكل أوجبته مشيئة الله، فما شاء الله كان ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده، وإذا شهد هذا، استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.
فصل المشهد الثاني: مشهد الصبر
فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة، وعلم أنه إن لم يصبر اختياراً على هذا وهو محمود، صبر اضطراراً على أكبر منه وهو مذموم.
فصل المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم
فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته، لم يعدل عنه إلا لعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل.
هذا وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام، ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.
فصل المشهد الرابع: مشهد الرضى
وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيّما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله، فإذا كان ما أصيب به في الله وفي مرضاته ومحبته، رضيت بما نالها في الله.
وهذا شأن كل محب صادق يرضى بما يناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخّط به وتشكّى منه كان ذلك دليلاً على كذبه في محبته، والواقع شاهد بذلك، والمحب الصادق كما قيل:
من أجلك جعلت خدّي أرضاً.........للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذي الشأن.
فصل المشهد الخامس: مشهد الإحسان
وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه
وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبة وتأمن رجوع الواهب فيها، وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم .
ويهوّنه عليك أيضاً:
علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلّك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد منه، وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.
فصل المشهد السادس: مشهد السلامة وبرد القلب
وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه، فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً، والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟!
فصل المشهد السابع: مشهد الأمن
فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أمِن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيراً فكم من حقير أردى عدوه الكبير، فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل، أمِن من تولد العداوة أو زيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام، والواقع شاهد بذلك أيضاً.
فصل المشهد الثامن: مشهد الجهاد
وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامة دين الله وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكنى مكة -أعزها الله-
ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد
من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في الله وأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام
كما قال لقمان لابنه: { يبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } [لقمان:17]
فصل المشهد التاسع: مشهد النعمة
وذلك من وجوه أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوماً يترقب النصر ولم يجعله ظالماً يترقب المقت والأخذ، فلو خيّر العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما، لاختار أن يكون مظلوماً.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ما أصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه، فذلك في الحقيقة دواء يستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء: فهو مغبون سفيه؛ فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوى منها وأمرّ، فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة وأنها في الحقيقة نعمة والمصيبة الحقيقية مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء.
هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة ولا يبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئاً.
فصل المشهد العاشر: مشهد الأسوة
وهو مشهد شريف لطيف جداً، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد الخلق امتحاناً بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور. ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله.
وقد قال له ورقة بن نوفل: لتُكذّبن ولتُخرجن ولتُؤذين وقال له: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم صلى الله عليه وسلم.
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده: الأمثل فالأمثل ومن أحب معرفة ذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهّال لهم وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتاباً سماه محن العلماء.
فصل المشهد الحادي عشر: مشهد التوحيد
وهو أجلّ المشاهد وأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والأنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه ولياً دون من سواه بحيث فوّض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة، فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة.
فهذا لا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه، فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه، وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
المشهد الثاني عشر : مشهد العدل
فقال تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي .. الآية
وحكم بالقصاص والدية في الجنايات
قال تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .
وقال تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين .
وقال تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين .
وقال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله
وغير ذلك من النصوص التي تقرر مبدأ العدل فمن قابل الأذى بالعدل فقد وافق الشرع وفعل ما يوافق شرع الله .
ولا شك أن مشهد العفو والصفح أكمل وأفضل إلا أن هذا المشهد مشروع وحقه أن يكون دون مشهد الصفح وقبله في الترتيب ، وليعلم ان العدل يقدم أحياناً على العفو حسب ما تقتضيه المصلحة ؛ فمن كثر شره وأذيته للخلق وانتهاك حقوقهم وأموالهم واعراضهم فالمصلحة تقتضي إقامة العدل معه لا الصفح ولذلك كانت افعال الله تبارك وتعالى دائرة بين العدل والفضل وفق ما يتصف به عز وجل من كمال العلم والحكمة .
ومما يدخل في ذلك المشهد وهو العدل الدعاء على الظالم إن عظم شره وقد فعله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم نبينا محمد .
المشهد الثالث عشر : مشهد الولاء والبراء
وهو أن يشهد العبد حق الله تبارك وتعالى فيمن آذاه من الخلق وما يستحقه من الولاء للمؤمنين والبراء للكافرين ، وهذا هو أساس ما ينبعث عنه من عفو وصفح وعدل ، فما يقع في قلب العبد من حب المؤمنين ومودتهم وولايتهم ونصرتهم وحب الخير لهم وهو المنبعث عن حب الله وحب رسوله كل ذلك يستحضره المرء حينما يقع له الأذى من عباد الله المؤمنين .
المشهد الرابع عشر : مشهد التوبة والاستغفار ؛
فإن جل ما يصيب المرء من مصائب حصل بسبب أعماله ولذا يقول الله تبارك وتعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فيستحضر المرء عند ذلك هذا المشهد فيتوب إلى الله ويستغفره مما صنع ويطلب عفوه وصفحه وتجاوزه عما فعله من ذنوب أو تقصير في حق الله عز وجل .
المشهد الخامس عشر : مشهد التوكل على الله والاستعانة به والالتجاء إليه في دفع الضرر ورفعه والاستعاذة به من كل اذى وشر
وفعل الأسباب التي تحميه من الأذى
وهذا مشهد نبوي وقد فعله النبي في مكة وفي المدينة تجاه ما يقع له من أذى المشركين و أهل الكتاب ،
ولذا يقول الله تبارك وتعالى : قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد ولما سحر النبي رقاه جبريل عليه السلام ، ويدخل في هذا ما يقع من أذى حسي ومعنوي كالسحر والعين والحسد فكل ذلك يستحضر فيه العبد مشهد التوكل عليه سبحانه ودعاءه والاستعانة به في رفع الضرر والأذى ومن ذلك الرقية والاستعاذة من شر كل حاسد ومن شر كل نفس الله آخذ بناصيتها والاستعاذة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة
وأمر النبي عامر بن ربيعة أن يغتسل لسهل بن حنيف حينما أصابه بالعين وهذا مع كونه من العدل الذي أمر الله به كما سبق إلا أنه أيضاً من فعل الأسباب الرافعة للضرر التي جاءت بها الشريعة .