المثابر, الأوّاب
مجتمع رجيم / بهم نقتدى
وآنئذ, لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله, وإجماع المسلمين على حبه وتوقيره, فان اتساع الأمصار, وتنائيها, والخلافات التي احتدمت بين المسلمين, وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب, وتتنادى للسيف, لم يجعل الجو مهيأ لهذا الإجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!
قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم, ولا فرقت جماعتهم, ولا شققت عصاهم..
قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..
قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني, ورجل يقول: لا, وآخر يقول: نعم.
وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا, واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..
حتى في ذلك اليوم, وابن عمر شيخ مسن كبير, كان لا يزال أمل الناس, وأمل الخلافة.. فقد ذهب إليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك, فانك سيد العرب وابن سيدها..
قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..
قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما, ويقتل بسببي رجل واحد"..!!
فانصرف عنه مروان وهو ينشد:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
يعني بأبي ليلى, معاوية بن يزيد...
هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف, هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية, موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:
"من قال حي على الصلاة أجبته..
ومن قال حي على الفلاح أجبته..
ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!
ولكنه في عزلته تلك وفي حياده, لا يمالئ باطلا..
فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه بتحديات أوجعته وأربكته..
حتى توعده بالقتل, وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!
وذات يوم, وقف الحجاج خطيبا, فقال:" إن ابن الزبير حرّف كتاب الله"!
فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت, كذبت, كذبت".
وسقط في يد الحجاج, وصعقته المفاجأة, وهو الذي يرهبه كل شيء, فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..
ولوح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج, وأجابه الناس منبهرون:" إن تفعل ما تتوعد به فلا عجب, فانك سفيه متسلط"..!!
ولكنه برغم قوته وجرأته ظل إلى آخر أيامه, حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب, رافضا أن ينحاز لأي فريق...
يقول أبو العالية البراء:
" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر, وهو لا يشعر بي, فسمعته يقول لنفسه:
" واضعين سيوفهم على عواتقهم, يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر, أعط يدك"..؟!
وكان ينفجر أسى وألما, حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!
ولو استطاع أن يمنع القتال, ويصون الدم لفعل, ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.
ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه, بل وكان معه يقينه فيما يبدو, حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:
" ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا إلا أني لم أقاتل مع عليّ, الفئة الباغية"..!!
على أنه حين رفض أن يقاتل مع الإمام علي الذي كان الحق له, وكان الحق معه, فانه لم يفعل ذلك هربا, وإلا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله, والفتنة كلها, وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك, بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..
ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن, أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأنت وأنت, فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟
فأجابه قائلا:
" يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم, لقد قال عز وجل: ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)) ( البقرة )
ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله,أما اليوم. فيم نقاتل..؟؟
لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن إلى الباب, حتى نضاها الله من أرض العرب..
أفأقاتل اليوم من يقول لا اله إلا الله".؟!
هكذا كان منطقه, وكانت حجته, وكان اقتناعه..
فهو إذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه, لاهروبا, أو سلبية, بل رفضا لإقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة, واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..
ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين, وفاضت الأموال, وكثرت المناصب, واستشرت المطامح والرغبات..
لكن قدرته النفسية الهائلة, غيّرت كيمياء الزمن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة إليه, أيام زهد, وورع ويلام, عاشها المثابر الأواب بكل يقينه, ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الإسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..
لقد تغيّرت طبيعة الحياة, مع بدء العصر الأموي, ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ, عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب إليه مطامح الدولة فحسب, بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.
ووسط لجج الإغراء, وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع, وبمغانمه, ومباهجه, كان ابن عمر يعيش مع فضائله, في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.
ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروه فقالوا:
( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)
بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله, أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:
( كان عمر في زمان له فيه نظراء, وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!
وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها, أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..
وفي العام الثالث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب, ورفعت إحدى سفن الأبدية مراسيها, مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى, حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه, توفي بالبصرة, عام واحد وتسعين, وقيل عام ثلاث وتسعين.
عبد الله بن عمر ( المثابر, الأوّاب )