الراحمون يرحمهم الله - الشيخ عائض القرنى

مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
الراحمون يرحمهم الله - الشيخ عائض القرنى

الراحمون kj98fmwnubkuwoojnqp3




إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
* أيها الناس:
أوصيكم ونفسي بتقوى الله – عز وجل – واعلموا أن رحمة الله - تبارك وتعالى - عمَّت الكائنات، وعنايته سبحانه وتعالى تحفظنا ليلاً ونهارًا، واعلموا كذلك أن الرحمة من أعظم صفات المولى – عز وجل – فهو الرحمن الرحيم، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.
تتوسل الملائكة إلى ربها - تبارك وتعالى - وتثنى عليه بالرحمة فتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7].
* فرحمته - تبارك وتعالى - تبلغ ما بلغ علمه، تصيب رحمته النملة في جحرها، والحوت في البحر، والجنين في بطن أمه، وفي الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((جعل الله الرحمة مئة جزء فأمسك عنده تسعًا وتسعين جزءً، وأنزل في الأرض جزءً واحدًا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفع الفرسُ حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه))[1].
* وفي لفظ: ((إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوامِّ، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطفُ الوحوش على ولدها، وأخَّرَ الله تسعًا وتسعين رحمةً، يرحم بها عباده يوم القيامة))[2]، فتأمَّل رحمك الله، كيف شمل هذا الجزء الواحد من رحمة الله تعالى جميع المخلوقات من إنسان، وحيوان، وطائر، حتى الحشرات وغيرها من المخلوقات التي لا ترى بالعين المجردة، فإن رحمة الله – عز وجل – تدركها وعلمه يحيط بها.
حتى أهل الذنوب والمعاصي لا تفارقهم رحمة الله – عز وجل – ولولا ذلك لانتقم منهم عند أول ذنب، وإنما يمهلهم ويؤخرهم لعلهم يتوبوا، لعلهم يرجعوا، لعلهم يستحيوا من الله الكبير المتعال، وهو – عز وجل – يغضب على أهل المعاصي، ويغار على حرماته أن تنتهك ولكن رحمته - تبارك وتعالى - تسبق غضبه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوب عنده فوق العرش))[3]، فالله – عز وجل – أرحم الراحمين، وخير الراحمين كما قال: {وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].
ولذلك فقد حثَّ - تبارك وتعالى - عباده أن يكونوا رحماء، ومدح حزبه المتقين بأنهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54].
وصفة الرحمة كما هي من أعظم صفات الباري - تبارك وتعالى - فإنها أيضًا من أعظم صفات المؤمن، فينبغي للمؤمن أن يكون رحيمًا بعباد الله، شفوقًا عليهم، محبًّا لهم، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فالله – عز وجل – لا يحب الجبارين ولا المتكبرين، ولا الذين يحملون قلوبًا قاسية، لا تشفق ولا ترحم ولا تلين، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].
قست قلوبهم بأكل الربا، قست قلوبهم بالزنا وعقوق الوالدين، قست قلوبهم بالتناحر والتدابر والتقاطع؛ ولذلك قال الله فيهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [المائدة: 13].
* قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبيٌ فإذا امرأة من هذا السبي تبحث عن ابنها، امرأة حائرة قلقة والهة، ضاع ابنها فأخذت تبحث عنه، فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا والله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الله أرحم بعباده من هذه بولدها))[4].
ومن رحمة الله – عز وجل – أن يرى العصاة الفجرة الجبارين المتكبرين، يعصونه ليلاً ونهارًا، يسفكون الدماء، ويأكلون الأموال ظلمًا وعدوانًا، يهتكون الأعراض ويغتصبون الحقوق، ومع ذلك كله فإن رحمته سبحانه وتعالى لا تزال تغشاهم، وستره لم ينكشف بعد عنهم، وكنفه يحيط بهم، وهو سبحانه لم يغفل عنهم، بل مُطَّلع على خططهم ومؤامراتهم. قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم: 42-43].
والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن الرحمة لا تكون بين الناس فحسب؛ بل بين الكائنات الأخرى من غير بني البشر، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل اشتد عليه العطش وهو يمشي في طريق وعرة، فوجد بئرًا فنزل فيها وشرب، ثم خرجَ، فإذا كلب يلهثُ، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خُفَّه ماءً ثم أمسك بفيه حتى رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)).
فتعجب الصحابة من ذلك وسألوا: يا رسول الله! وإنَّ لنا في هذه البهائم لأجرًا؟
فقال صلى الله عليه وسلم: ((في كلِّ كبدٍ رطبة أجرٌ))[5].
وحديث آخر صحيح كالشمس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينما كلبٌ يطيفُ بِرَكيَّة[6] قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغيٌّ من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقَهَا[7]، فاستقت له به، فسقته إياه فَغُفر لها به))[8].
أيها الناس:
هذه رحمة الإسلام بالحيوان، فكيف بحقوق الإنسان في هذا الدين، وإني لأتساءل ماذا فعلت منظمات حقوق الإنسان؟
وماذا فعلت الهيئات التي تدافع عن الإنسان؟
هل حقنت دماء الإنسان؟ هل أزاحت الظلم من على كاهله؟
أما الإسلام فقد جعل للحيوان البهيم حقوقًا، ونهى عن ظلمه وتعذيبه وتجويعه.
وهذه قصة أخرى يرويها عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((عُذِّبت امرأة في هِرَّة؛ سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتا وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشَاشِ الأرض))[9].
فهذه المرأة كانت تحمل قلبًا غليظًا، قلبًا نُزعت منه الرحمة والشفقة، قلبًا لا يحس بآلام الآخرين، فاستعرضت هذه الغلظة وذلك الجفاء على قطة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، فحبستها في البيت، وليتها أطعمتها وسقتها، ولكن أجاعتها حتى الموت، فعاقبها الله – عز وجل – الذي لا تخفى عليه خافية وعذبها في جهنم.
وبعض الناس لا تظهر شجاعته إلا على عالم القطط والكلاب، فتراه يجد لذة في تعذيبها، يدوسها بسيارته فيقتلها، ويحس بذلك أنه انتصر نصرًا عظيمًا وفاز فوزًا مبينًا، وهذا من خفة العقل وانتكاس الفطرة والعياذ بالله.
تنكسف الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فيفزع إلى الصلاة، ويطيل القيام والركوع والسجود، حتى إذا كان في آخر سجدة من الركعة الثانية، جعل ينفخ ويبكي ويقول: ((لم تُعِدْني هذا وأنا فيهم .. لم تُعِدْني هذا ونحن نستغفرك))، ثم رفع رأسه وانجلت الشمس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله – عز وجل – فإذا رأيتم كسوف أحدهما فاسعوا إلى ذكر الله عز وجل)).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده لقد أدنيت الجنة مني حتى لو بسطت يدي لتعاطيت من قطوفها، ولقد أُدنيت النارُ مني، حتى لقد جَعَلْتُ أتقيها خشية أن تغشاكم))، والعجيب هو ما رآه صلى الله عليه وسلم في النارِ، قال: ((حتى رأيتُ امرأة من حِمْيَر تعذَّبُ في هِرّةٍ؛ ربطتها فلم تدعها تأكل من خَشَاشِ الأرض، فلا هي أطعمتها ولا هي سقتها حتى ماتت، فلقد رأيتُها تنهشُها إذا أقبلت، وإذا ولَّت تنهشُ ألْيَتَها))[10].
فما أعظم هذا الدين، وما أروع هذه الشريعة التي أقامت العدل وأرست دعائمه بين بني البشر، ولم تكتف بذلك؛ بل بلغت من العدل والإنصاف أن رفعت الظلم عن الحيوان البهيم؛ لأنه يحسّ ويتألم ويشعر بمرارة الظلم إذا وقع عليه.
* ولما أراد الله – عز وجل – أن يمدح رسوله صلى الله عليه وسلم، وصفه بالرحمة فقال عز من قائل: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
* وقال أيضًا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وهذا الذي يعيش فيه المسلمون الآن من الفرقة والتباغض والتحاسد فيما بينهم، إنما هو أولاً وقبل كل شيء بسبب غياب هذه الصفة، ولذلك اختار العليم الحكيم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليجمع هذه الأمة الهمجية المبعثرة التي لا قانون لها ولا نظام، فجمعها محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ووحدها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وجعلها أمة قوية، تعمل لها الأمم ألف حساب؛ بل صارت خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانت أمة مشاغبة، أمة ثائرة، أمة بلا حضارة ولا ثقافة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدين هو أعظم الأديان وبشريعة هي أفضل الشرائع، وبحضارة من أروع الحضارات.
جمع نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الشتات على لا إله إلا الله، أدَّبهم بآداب لا إله إلا الله، فآتت ثمارها جيلاً فريدًا طائعًا عابدًا لله – عز وجل -: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
فكانت دعوته صلى الله عليه وسلم تمتاز بالرحمة واللين وعدم العنف والشدة.
يأتي الرجل يحمل من الحقد والحسد والضغينة للرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، فما إن يرى ذلك الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والبسمة المشرقة، حتى يعود ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وماله والناس أجمعين: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34].
يمشي - عليه الصلاة والسلام - في سكك المدينة فيمر على الأطفال فيسلم عليهم ويبتسم لهم ويقبلهم؛ لأنه رؤوف رحيم.
وكثير من الناس اليوم جبار متكبر، يرى أن من المهانة أن يدنو من الأطفال ويمسح على رءوسهم وَيُقَبّلهم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان رحيمًا بالأطفال، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي بالمسلمين وهو ينوي الإطالة، فإذا سمع بكاء الأطفال تجوَّز رحمة بهم وبأمهاتهم.
فَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبُ هَذَانِ فِي الدُّنْيَا هُمَا الرُّحَمَاءُ
وَإِذَا أَخَذْتَ الْعَهْدَ أَوْ أَعْطَيْتَهُ فَجَمِيعُ عَهْدِكَ ذِمَّةٌ وَوَفَاءُ
وَإِذَا غَضِبْتَ فَإِنَّمَا هِيَ غَضْبَةٌ فِي الْحَقِّ لا كِبْرٌ وَلا ضَغْنَاءُ

ومن رحمته صلى الله عليه وسلم: أن يأتي إليه شابٌّ فيسأله صلى الله عليه وسلم شيئًا، أتدرون ماذا يسأل؟
قال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا!!
فأقبل الناس عليه فزجروه ووبخوه، ولكن المصطفى، عليه الصلاة والسلام، قال له: ادنه ... فدنا منه قريبًا حتى جلس بجواره صلى الله عليه وسلم، فقال له المعلم الأكبر: ((أتحبُّه لأمك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال: أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله – جعلني الله فداءك – قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)) ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه))[11]
فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شيء، أصبح لا يفكر في الزنا، صار الزنا أبغض شيء إلى قلبه، إنها رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، إنه التعليم بالبسمة، والتوجيه بِالبِشْرِ وإشراق الوجه، وهذا الذي استطاع به محمد صلى الله عليه وسلم أن يجمع عليه القلوب، وأن يوحد به الصفوف، وأن ينقل به هذه الأمة من جماعات متفرقة متناحرة مشتتة، إلى أمة قوية تقية وصفها ربها - تبارك وتعالى - بأنها خير أمة أخرجت للناس.


ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أن يأتي الحسن أو الحسين فيرى الرسول صلى الله عليه وسلم ساجدًا في صلاة العشاء فضاقت عليه الدنيا إلا من ظهر المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فصعد على الظهر الشريف، فأطال النبي صلى الله عليه وسلم في السجود، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله إنك سجدتَ بين ظهراني صلاتك سجدةً أطلتها، حتى ظننَّا أنه قد حدث أمرٌ أو أنه يوحى إليك قال: ((كل ذلك لم يكن، ولك ابني ارتحلني[12] فكرهت أن أُعَجِّلَه حتى يقضي حاجته))[13].


هكذا كان يتعامل صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، فأين هذا من تعاملنا نحن معهم، إننا نتعامل مع الأطفال بالضرب والشتم والمطاردة في المسجد، حتى أصبح كثير من الأطفال يخافون من دخول المسجد لما يرونه من تهديد مستمر ووعيد دائم.
* قال أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ يقال له: أبو عمير، فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه قال: ((أبا عمير ما فَعَل النُّغَيْر))[14] والنُّغَير: طائر صغير كان يلعب مع الصبي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل عليه الفرح والسرور بسؤاله عن ذلك الطائر، وكأنه صلى الله عليه وسلم متفرغ لهؤلاء الأطفال ومبعوث إليهم خاصة، مع أن هموم البشرية جميعًا كانت تحيط به، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، للإنس والجن، للصغير والكبير، للرجل والمرأة للشيخ والشاب.


* أيها الناس:
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيسير في كل شيء وكان يكره التشديد في كل شيء؛ أرسل أبا موسى ومعاذًا داعيين رسولين مبشرين منذرين إلى اليمن، وكان آخر ما أوصاهما به أن قال: ((يسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرَا))[15].
فديننا دين يسر وسهولة، دين رحمة ومحبة، ولذلك دخل إلى القلوب، وتعشقته الأرواح، وافتدته المهج والنفوس.
كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومع ذلك كان يتأثر بالمواقف، فتدمع عيناه وينجرح فؤاده.
وَإِذا لَقِيتَ كَتِيبةً يَوْمَ الرَّدَى أَدَّبْتَ في يَوْمِ الرَّدَى أَفْعَالَهَا
وَإِذَا نَطَقْتَ وَفَيْتَ فِيمَا قُلْتَهُ لا مَنْ يُكَذِّبُ قَوْلَهَا أَفْعَالَهَا

* يدخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة))، ثم أتبعها بأخرى فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يُرضي ربُّنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون))[16].
* وهذا الأقرع بن حابس يبصر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن فيقول: إن لي عشرة من الولد ما قبلتُ واحدًا منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه من لا يرحم لا يرحم))[17].
* عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديًا، ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
فقد كانت مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم تتميز بالرحمة، وتنفرد بالرأفة والمحبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
علَّم صلى الله عليه وسلم أصحابه الرحمة، حتى صار أشدهم وأقساهم قلبًا من أرحم الناس، فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لولا هداية الله له، ما كان يعرف الرحمة، وما كانت عيناه تعرف الدموع ولا اللين، كان رضي الله عنه من أقسى الناس في الجاهلية، كان سفاكًا فتاكًا لا يعرف المهادنة ولا يعرف الحوار ولا السهولة واللين، فلما سكب، عليه الصلاة والسلام، إناء الرحمة في قلبه، كان أرحم الناس وأرق الناس.
وقف – رضي الله عنه – على المنبر يوم الجمعة فغلبته عيناه فلم يستطع أن يتكلم، يأتي ليصلي بالناس فلا يسمع الناس قراءته من شدة البكاء، كان في خديه خطان من أثر البكاء، فمن الذي جعل في قلبه هذه الرحمة؟ ومَن الذي جعله شفوقًا حليمًا ودودًا؟
قال مرة لأسلم مولاه: أتنام الليل؟
قال: نعم، قال عمر: والله ما نمت منذ ثلاث، فقد جعل الله في عنقي الأرملة، والمسكين، والشيخ الكبير، والعجوز، واليتيم!!
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يقول في عام الرمادة: والله لا أبتل في سمن ولا آكل سمينًا حتى يجلي الله الكربة عن المسلمين.
يأتي يوم الجمعة ليصلي بالناس فيقرقر بطنه من الجوع، فيضرب على بطنه، ويقول: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين.
حسبني وحسب القوافي حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رَبِّ هَبْ لي بَيَانًا أَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى حُقُوقِ الْعُلا قَدْ نَامَ رَاعِيهَا

لقد بلغ من رحمته – رضي الله عنه – أنه كان يسأل عن أطفال المسلمين؛ ماذا أكلوا، وماذا شربوا، وكيف ينامون، إنها الرحمة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله، ومن نسي حقوق الناس، وآلام الناس، ومشكلات الناس، عرّض نفسه للغضب والمقت من الله – عز وجل.

فمن الناس من يشبع وجاره جائع، ومنهم من يلبس أفخر الثياب وجاره لا يجد ما يستر عورته، ومنهم من يسكن القصور الشاهقة، والناس ينامون على الأرصفة، فهل هذه هي الرحمة التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل هذا هو منهج الإسلام في التعامل مع الآخرين؟ .. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحُمَّى))[18].
فلابد أن يكون المسلم رحيمًا ودودًا، يفرح لفرح إخوانه المسلمين ويتألَّم لآلامهم.

ومن صور الرحمة التي يريدها الله – عز وجل – أن يرحم الرجل أهل بيته، وأن يشبعهم، ويكسوهم، ويسكنهم، ويقدم لهم الخير، وقبل ذلك كله أن يقودهم إلى الجنة، ويعرفهم أبوابها وسبلها، ويحذرهم من طرق الضلال التي تقودهم إلى جهنم والعياذ بالله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

أيظن الإِنسان أن الله – عز وجل – لن يسأله عن أهله ومن يعول؟
{أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] بلا أمر ولا نهي ولا سؤال ولا حساب، بل إن الله – عز وجل – يقول لابن آدم معاتبًا:
((يا ابن آدم مرضتُ فلم تعدني، قال: يا ربِّ كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟
قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرِضَ فلم تعدْه، أما علمتَ أنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت ربُّ العالمين؟
قال: أما علمتَ أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟
أما علمتَ أنك لو أطعمتَه لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت ربُّ العالمين؟
قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي))[19].

أيها الناس:
كيف يهنأ المرء بطعام وهو يعلم أن جاره جائع أمسى طاويًا يتلوى من الجوع، ترى الفقراء والمساكين يملؤون السكك والطرقات لا يجدون كسرة الخبز، بينما تُرْمى أشهى الأطعمة في صناديق القمامة، ولا تقدم إلى الأكباد الجائعة والبطون الخاوية.
الفقراء يمرضون السنوات الطويلة ولا يجد أحدهم دواءً، المساكين يطرحون في المستشفيات على الأسِرَّة كالموتى ولا يجدون من يعودهم لأنهم مساكين، أما إذا كان رجل ذا منصب وشهرة وجاه، فإنك ترى الناس أفواجًا على بابه حتى تتكسر عتبات داره من كثرة الزوار، لا لشيء إلا لأنه من الأغنياء الوجهاء كما قال الشاعر:
تَرَى النَّاسَ أَفْوَاجًا على بَابِ دَارِهِ يَطُوفُونَ عَنْ تِلْكَ الدِّيارِ وَسَلَّمُوا

لقد أصبحت دعوت الناس وزياراتهم للوجاهة والتفاخر لا لوجه الله – عز وجل – يدعى للولائم وجهاء الناس وكبراؤهم ويترك الفقراء وأهل الحاجة مع أنهم أحق وأولى من غيرهم بهذه الدعوة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((شرُّ الطعام طعام الوليمة؛ يُدعى لها الأغنياء، ويترك الفقراء))[20].
أسأل الله - تعالى - أن يجعلنا مَنْ عباده الرحماء، وأن يكسونا ثوب الرحمة، وأن يغرس في قلوبنا شجرة الرحمة لتثمر الصدق واليقين والمحبة والإِخاء.
* عباد الله:
وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
* وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا))[21].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين وارض اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.



[1] البخاري (7/57) كتاب الأدب باب (19)، ومسلم (4/2108) كتاب التوبة، رقم (17).
[2] أخرجه مسلم (4/2108) كتاب التوبة، رقم (19).
[3] أخرجه البخاري (8/216) كتاب التوحيد، باب (56)، ومسلم (4/2107) كتاب التوبة، رقم (14، 15، 16) من حديث أبي هريرة.
[4] أخرجه البخاري (7/75) كتاب الأدب، باب (18)، ومسلم (4/2109) كتاب التوبة، رقم (22).
[5] أخرجه البخاري (7/77) كتاب الأدب، باب رقم (27)، ومسلم (4/1761)، كتاب السلام، رقم (153).
[6] الركية: البئر.
[7] موقها: أي خُفِّها.
[8] أخرجه البخاري (4/148) كتاب الأنبياء، باب (54)، ومسلم (4/1761) كتاب السلام، رقم (154، 155).
[9] أخرجه البخاري (4/152) كتاب الأنبياء، باب (54). ومسلم (4/1760) كتاب السلام، رقم (151، 152). وخشاش الأرض: هوامها وحشراتها.
[10] أخرجه النسائي (3/137) كتاب الكسوف، رقم (1482)، وأحمد (2/158).
[11] المسند (5/257).
[12] ارتحلني: اتخذني راحلة بالركوب على ظهري.
[13] أخرجه النسائي (2/229، 230) كتاب التطبيق، رقم (1141)، وأحمد (3/494).
[14] أخرجه البخاري (7/102) كتاب الأدب، باب (81)، ومسلم (3/1692) كتاب الآداب رقم (29).
[15] أخرجه البخاري (5/108) كتاب المغازي، باب (60)، ومسلم (3/1359) كتاب الجهاد رقم (7).
[16] أخرجه البخاري (2/85) كتاب الجنائز، باب (44)، ومسلم (4/1808) كتاب الفضائل، رقم (62).
[17] أخرجه البخاري (7/75) كتاب الأدب، باب (18)، ومسلم (4/1809) كتاب الفضائل، رقم (65).
[18] أخرجه البخاري (7/77) كتاب الأدب، باب (27) ومسلم (4/2000) كتاب البر والصلة، رقم (67).
[19] أخرجه مسلم (4/1990) كتاب البر والصلة، رقم (43).
[20] أخرجه البخاري (6/144) كتاب النكاح، باب (72) ومسلم (2/1054)، كتاب النكاح، رقم (107).
[21] أخرجه مسلم (1/288) رقم (384).





الراحمون td1douc63dwrywebu4iv

كتبت : || (أفنان) l|
-
أختي الكريمة
جزآك الله جنه عرضهآ السموآت والآض
مشاركة قيمة ومميزة لا حرمك الله أجرها
آسآل الله آن يزين حيآتك بـ الفعل الرشيد ويجعل الفردوس مقرك بعد عمر مديد
لاتبخلين علينـــــــا بمثل هذه المواضيع ...
دمتي بـ طآعة الله
كتبت : أم رائد
-

أختي في الله
اللهم اجعل كل عملها يقربها الي رضاك
ويجنبها سخطك واكنفها يا رب برحمتك
و أرزقها من حيث لا تحتسب ويسر لها آمر طاعتك
و أعصمها من معصيتك اللهم أمحو عنها الزلها
و أقل العثرة وبدل السيئة حسنه
و أجعل كل ذنب لها مغفور و أسكنها عامرات القصور
و أكرمها برؤية وجهك يا عزيز يا غفور
و جميع المسلمين ..
اللهم امين

التالي

كيف كان حب الصحابة للنبي -صلِ الله عليه وسلم

السابق

الإنسان بين العبودية و الطغيان - الشيخ سعود الشريم حفظه الله

كلمات ذات علاقة
الله , الراحمون , الصحى , القرني , يرحمهم , عائض