هل يرحل المحار!..

مجتمع رجيم / النقاش العام
كتبت : جذور
-
على طرف الفناء في الدار الملقاه أسفل تفرع ضيق في المدينة الصغيرة, يمدد معطفه القديم قربه وهو مستند إلى جدار.. يحدق في كتاب ويبتسم.. وبين فينة وأخرى يُلقي نظرة على الصغيرة التي تلعب هناك ويداعب أوراق نبتة رشيقة..
المدينة الصغيرة التي كان يسكنها لم تكن تعرف البحر.. وكانت تملك اُفقاً صغيراً مثلها تكشر في وجهه صبح مساء، فيتغضن جبينه غضباً..ويصمت..والفتى الذي كثيراً ما كان يدور بين أرجائها بمعطفه القديم والكتاب والابتسامة ..

قيل عنه أنه كان يتميز بجبين واسع كأنه السماء ..وأن عينيه كانتا تبرقان كالنجوم دون أن يكون هناك ليل !

كل الفتيات في المدينة الصغيرة عندما يسمعن غناءه الحزين وهو يبتسم في الطرف الآخر للمدينة ..وهو يردد : البحر يا مدينتي بداية النهار ..

لا غيره السفار ..

بحثاً عن البحار ..

عندما يسمعنه كنّ يرددن في خفوت :

الليل في سكون ..

هل يرحل المحار!..

وكانت قلوبهن الغضة تخفق في وجل , وهو يردد :

لا غيره السفار ..

وهن يتخيلن مشهد الأمواج وهي تستل محارتهن مِن قلب المدينة .. ولم يكن غناؤه يغيب عن بقية أهالي المدينة الصغيرة فكانت الجدات يغرقن في نوبة دعاء طويل .. وكان الرجال يغمغمون بأسف مبهم :

إنه الفتى الذي يحبه الجميع في المدينه الصغيرة ..

ذات مساء – كعادة المساء في استلال من نحب – قرر الفتى الرحيل .. كانت المدينة قد استرخت قليلاً وكان الأفق قد استرد بعض أنفاسه بعد غضب نهار طويل .

طفق يتأمل الصغيرة التي أخذت تلعب بلا تعب للحظات .. حمل معطفه القديم والكتاب وابتسامة حزنه وداعب نبتته الرشيقة قليلاً ومضى , وعندما سألته المدينة الصغيرة إلى أين ؟ كان يردد :

بحثاً عن البحار ..

بداية النهار ..

وهناك على قارعة المدينة الكبيرة التي أخبروه أنها تحتوي البحر بين طياتها الممتدة , توقف يرهف السمع علّه يسمع صوت موجه الصدّاح أو تداعب خياشيمه رائحته الموغلة بالانتعاش .

كان الفتى يشق شوارع المدينة الواسعة وهو يراقب الناس ،وأمام الفتيات كان يخفض رأسه، لم يلتفت إليه أحد، ولم يلتفتن إليه , وضع معطفه على كتفيه بهدوء ومضى يتخيل البحر واقفاً يحتضنه..

والمعطف القديم له حكاية قديمة أيضاً .. يتذكرها الفتى وهو يذرف دمعتين .. لؤلؤتين من قلبه الذي لا يشبه أحداً سوى المعطف . الحكاية تبدأ مع بداية الصقيع، في تلك المدينة الصغيرة كان الفتى كعادته ممتدا ًيحدق في الكتاب .. وقربه صديقه القديم .. الجديد .. والصقيع كالظلام يسود كل قطعة مِن روحه .. مِن جسده .. مِن أغنية المساء التي لم تكن تعرف الحزن .

ومات صديقه وهو يدثر الفتى بمعطفه الدافئ، مات في الصقيع ليظل الفتى يشكو الدفء سنوات الذكرى المؤلمة، ويظل يحمل المعطف القديم صديقه الحبيب ،وقلبه الذي لا يشبه أحداً سوى معطف صديقه الوفي .

يتلفت الفتى كعادة الغرباء كل قليل , يذهله الإتساع فيغوص في الأبعاد الممتدة ،بلا وعي يشد الكتاب إلى صدره للحظات، ويرخي ذراعيه ذاهلاً عن نفسه للحظات أخرى ..

المدينة الكبيرة تمتلك الشوارع الكبار .. كلها كأنها ثعابين سمينة سوداء مستلقية هناك في المدينة .. صانعة حضارة لم يرها من قبل .. لكنه لا يزال يبحث عن البحر , غرهُ الأفق للحظات , ياله مِن أفق ممتد .. لكن جبينه يشبه نوعاً ما جبين أفق مدينته الصغيرة .. متغضنٌ غاضب .. غرس ابتسامة متقطعة على جانبي الطريق , مسح جبينه الواسع بلا داع ،وطفق يلتمس الدفء بين ثنايا المعطف والكتاب ..

وكان الفتى يعود أحياناً مع العتمة إلى المدينة الصغيرة يتأمل الصغيرة التي لا تمل اللعب ويداعب نبتته الرشيقة قليلاً ثم يمضي ..

ولج الشتاء المدينة الكبيرة ،غمغم الفتى وهو يرمق الأفق ويحتضن المعطف :

– الشتاء يا صديقي قارسٍ كالموت .

وكان الشتاء أشد برودة مما هو عليه في مدينتي الصغيرة .. يتسلل عبر المعطف ليجمد أوصاله بهدوء .. ويشعل الذكرى بصمت .

عندما حدثوه عن البحر في المدينة الكبيرة لم يحدثوه عن الخطوات التي تضيع بين أغوارها الممتدة، ولا عن الابتسامة التي تتلاشى على أسوارها المصقولة، والفتيات في المدينة الكبيرة والجدات والرجال لم يكونوا يلتفتوا إليه عندما يسير ، وحتى عندما عاد يغني أغنيته الحزينة لم يجد من يردد خلفه :

هل يرحل المحار ؟

هل يرحل المحار ؟

سار الفتى طويلاً في حنايا المدينة الكبيرة ولم يسمع للبحر هسيساً .. وعندما جلب المساء سوطه المرعب ، شعر الفتى بأن هناك مِن إنقض على كاهله وسرق منه المعطف القديم .. ذرف لآلئ محترقة من عينيه ، تفصد جبينه البارد عرقاً جثا على القارعة متداعياً .. خطفت كتابه الرياح حملته مزقاً إلى حيث لايدري .. وقبل أن يتنفس الصبح كانت الابتسامة قد تلاشت بذهول ..

الفتى لم يعد إلى المدينة الصغيرة .. قيل أن نبتته الرشيقة أضحت شجرة فارعة وأن الصغيرة كبرت وبدت كأنها موجة رائعة الانتشاء ..

ولم يعد الفتى ، لكنهم وجدوا هناك في طرف الفناء في الدار الملقاة أسفل تفرع ضيق في المدينة الصغيرة عند الجدار وجدوا المعطف القديم مستلقياً كعادته وقربه مزق الكتاب .. هناك .. في المدينة الصغيرة .