ثلاث غربان وَصندوق *

مجتمع رجيم / منتديات الصور
كتبت : وفاء
-

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ق1
كيف حالكم ؟
ذا اول موضوع لي ، حبيت اعرض عليكم قصتي المتواضعة بِعنوان ..

[ ثلاث غربان وَ صندوق ]


انتفضت بهلع لصوت عنيف خلف باب غرفتها الموصد، اتسعت عيناها وتعلقت بالمقبض الذهبي اللامع إثر سقوط خيوط الشمس الصباحية عليه ، تتابع الطرق بصورة أشبه بقرعٍ للطبول ، ولم تملك الجرأة للتحرك من مكانها ، همست بخوف " إنه لص .. أحدهم يحاول اختطافي .. هل قامت الحرب ؟! " .
اخيرا لما بانت لها سخافة مخاوفها استجمعت شجاعتها وألقت بغطائها بعيدًا عن جسمها الذي أحاطه فستان قطني طويل ، وقفت أمام الباب وأزالت قفل الأمان ثم فتحته ، ألقت نظرة متلصصة من الشق الصغير الذي أحدثته ولما لم تجد أحدًا فتحته على مصرعيه وأحست بدماغها يغلي داخل جمجمتها من فرط الغيظ ، لكن قبل أن تتجاوز شتيمتها أسنانها ، قفز أمامها أحدهم يختبئ خلف قناع أبيض ذي ضحكة مسرحية مستفزة وصاح " بوه! "، شهقت وعادت إلى الخلف فتعثرت في طرف فستانها وطارت منها صرخة متألمة لما وقعت على الأرض الخشبية الصلبة .
قهقه الكائن خلف القناع حتى انحنى واضعًا يديه على ركبتيه من فرط الضحك ، بينما تشبع وجهها بحمرة غاضبة لكنها ما لبثت أن تحولت إلى ضحكات مستمتعة لما عرفت هوية مفزِعها .
قفزت نحوه في خطوتين وخطفت القبعة الأسطوانية العالية التي على رأسه ولما صارت في يدها ضربته بها انتقامًا ، صدرت عنه آهة متوجعة ، وهب يمسك يديها ويدور بها في أرجاء الغرفة واختلطت ضحكاتها بزمجرته المشاغبة ، هتف " صباح الخير يا طفلتي " .
دفعت نفسها بعيدًا عنه ونفخت شدقيها بغضب " لست طفلة يا هذا ، بلغت الرابعة عشر " ربت على رأسها وأجاب " ستظلين طفلتي ولو بلغت الأربعين ، هيا قابليني في الأسفل وإياك التأخر " .
غادر وأغلق الباب من خلفه ، فهبت إلى خزانة الملابس وانتشلت منها فستانًا صوفيًا أنيقًا يناسب أجواء فبراير الباردة ، سرحت شعرها على عجل ولم تمضي عشر دقائق إلا وكانت تبحث عنه في أرجاء الطابق السفلي ، دخلت المطبخ فأفعمت أنفها رائحة الخبز الساخن وفطائر التفاح الصغيرة الخارجة توًا من الفرن ، ممتزجة مع رائحة كعكة القرفة المتروكة لتبرد على الطاولة ، بجانبها إبريق شاي ساخن تغرق فيه أوراق النعنع ذات الخضرة العميقة ؛ شعرت بلعابها يسيل ، وقرقرت معدتها كمن لم يذق طعامًا منذ أسبوع ، اقتربت من الطاولة تسوقها الرائحة اللذيذة للمخبوزات وتعلقت عيناها بقالب الزبد في صحنه المربع ، وبجواره الجبن والزيتون الأخضر ، قريبًا منهم لمع العسل في جرته الزجاجية ببريق ذهبي أخاذ ، شعرت بالفعل بالنكهات على لسانها ، ودون تفكير امتدت أصابعها إلى احدى الفطائر الصغيرة ولكن صرخة مؤنبة استوقفتها " أليس! اغسلي يديك أولاً واجلسي إلى المائدة " كان صوت مدبرة المنزل التي دخلت توًا من الباب المفضي إلى الحديقة الخلفية ،أسرعت تمتثل للأوامر التي تلقتها ، لكن الفضول والشوق لما ينتظرها جعلها تلتهم طعامها على عجل ، راحت تبحث عنه في أرجاء البيت ، حتى لمحته جالسا في إحدى الغرف ؛ استقرت على المقعد المقابل له تفصل بينهما طاولة عالية ، ولمع الشوق في عينيها لما وضع صندوقًا أسودًا مربعًا أمامها ، ليس به أي زخارف أو نقوش ، فقط ذلك القماش المخملي الأسود وعلى أحد جوانبه قفل ذهبي صغير .
امتدت أصابعها نحوه بلهفة لكنه اعترض طريقها وأبعد صندوقه ، رفعت عيناها إليه وإذا بنبرته تكسوها جدية مفاجئة لم تعهدها ، قال من خلف قناعه بصوت بعيد عن المزاح " إذا فتحت الصندوق فسيتوجب عليه خوض اللعبة إلى النهاية ، لا مجال للتراجع ولن يقبل منك الاستسلام ، إما أن تفوزي أو تخسري كل شيء " .
بعفوية ابتعدت أصابعها المتلهفة ، وانقبضت ، اكتست ملامحها بجدية صارمة ، وغاصت في لحظة تفكير قبل أن ترد " قبلت ! " ، دفع إليها الصندوق ، وتلقته بفضول ، فتحت القفل ورفعت الغطاء، كان مبطنًا بالمخمل الأحمر ، يحتوي على علبة أخرى أصغر حجما وظرف ورقي مغلق بالشمع ؛ ارتفعت عيناها إليه تبحث عن اجابة لفضولها ، لكن قناعه كان حاجزًا أمامها، أردف " اكسري الشمع وابدئي اللعبة أيتها الأميرة " ... أيتها الأميرة ؟! رنت الكلمة في أذنيها كجرس كنيسة ، ولمعت عيناها استمتاعًا ، كسرت الختم الشمعي ذي نقش الغراب وفتحت الظرف لتسحب محتوياته ، كانت ورقة حمراء مطوية ، ابتعد شقيقها عن الطاولة قائلًا وهو يضع ساعة جيب ذهبية أمامها " تنتهي اللعبة عند السادسة مساءً فإما أن تفوزي بالكنز ، أو تمني بالهزيمة ! ".
انحنى بطريقة مسرحية وأعاد قبعه على رأسه وغادر الغرفة تاركًا أليس تنظر إلى الورقة بمشاعر اختلطت فيها الحماسة بالرهبة ، فضتها ، وقرأت ما فيها بصوت مسموع " في المكان الذي تتعانق فيه سماء الليل بالأرض ستجدين الغراب الأول أعطيه ورقتك ثمنا لما يملكه " .
اتسعت عيناها الزرقاء، واحست بالحرارة تتدفق من داخلها لفرط حماسها ، حدقت بالورقة بين أصابعها وتمتمت " في المكان الذي تتعانق فيه سماء الليل بالأرض، هذا جنون السماء لا يمكن أن تعانق الأرض واللعبة تنتهي بالفعل قبل حلول الليل " ابتعدت عن الطاولة وراحت تقطع الغرفة جيئًة وذهابًا تطوق نفسها بذراعيها تارة ، ما تلبث أن تجلس على الأريكة تعتصر ذقنها بين ابهامها وسبابتها تارة أخرى " سماء الليل والأرض ، أين تتعانقان ؟ ... سماء الليل والأرض " لم تكد دقيقة تمر إلا وقد ارتفعت عيناها إلى الفراغ ولاحت على وجهها ابتسامة صغيرة " عرفتها " ركضت إلى غرفتها بخطوات عجولة ، وتدثرت بمعطف شتوي قرمزي ، فيما غلفت يديها بقفاز أبيض ناعم ولفت عنقها بوشاح صوفي من اللون نفسه .
ركضت خارجًا وتزامن صوتها مع فتحها للباب " سيدة ماري أنا سأخرج لبعض الوقت " صفعته خلفها حتى اهتز إطاره وتساقط ما تعلق عليه من ثلج ، ركضت فوق المرجة التي غطتها طبقة بيضاء نظيفة لم تدنسها الأقدام بعد فالصباح لازال في أوله ، ركضت بأسرع ما استطاعت ساقاها ، يسوقها الحماس بينما تشكل البخار في سحب صغيرة أمام وجهها كلما زفرت هواًء ساخنًا من جوفها، وصلت إلى تقاطع طرق مزدحم وتوقفت أخيرًا تعبّ الهواء بنهم ، اختلطت في أنفها رائحة القهوة المحمصة حديثًا مع عبق الخبز والمعجنات المنبعثة من المخابز ذات الأبواب المشرَّعة ، تغري جوعَى الصباح للدخول؛ لكن ليس ذلك ما بحثت عنه عيناها ، بل هناك عند الزاوية ، يقوم مبنى أكبر مما جاوره ، تتوسط واجهته لوحة بيضاوية كبيرة نقش عليها بخط ذهبي أنيق [ مسرح لندن ] .
شعرت بنبضات قلبها تسبقها لعبور الشارع ، فألقت نظرة حريصة يمينًا وشمالاً قبل أن تقطعه إلى الجانب الآخر ، كان المسرح مغلقًا تلك الساعات ، وكانت تدرك ذلك فالبوابة الزجاجية الرئيسية مغلقة بالفعل ومن خلفها كان كل شيء مظلمًا ، لكن إلى اليمين كان ثمة باب صغير آخر، أحدهم تركهُ مواربًا لها، عرفت ذلك عندما امتدت أصابعها للورقة الصغيرة المعلقة في مقبضه ، ورأت الغراب الأسود ينظر لها بعين خرزية لامعة ؛ زفرت نفسًا متلهفًا ودخلت تتلمس يداها المحيط مخافة أن تسقط وتكسر ساقًا أو ذراعًا ، ظهرت أمامها كواليس المسرح وغرفه الخلفية بكل ما احتوته من أثاث وثياب ولوازم مختلفة ، تظهر جميعها في ضوء خافت يتسلل من النوافذ العالية ، لكن ليس هذا ما تبحث عنه ، ليس هنا تعانق سماء الليل الأرض ، ركضت صاعدة بضع درجات نحو خشبة المسرح ، كانت واسعة ومظلمة ومن أمامها صالة واسعة متراصة المقاعد التي بدت مجرد ظلال ثابتة في الظلام ، ومن خلفها سقطت ستارة سوداء ثقيلة مزينة بمئات النجوم البراقة ، تنسدل لتعانق الأرض الخشبية للمسرح ، هنا تتعانق سماء الليل والأرض ، سمعت تصفيقا خفيضا يتردد صداه في الفراغ ، وخرج من خلف الستارة ، شخص طويل القامة يرتدي عباءة سوداء وعلى رأسه قبعة اسطوانية عالية ، بينما يختفي وجهه خلف قناع غراب ، شعرت بالخوف لوهلة ، وعفويًا خطت خطوة إلى الخلف ، لكنها تذكرت أنه هنا من أجلها ، فاقتربت بخطوات حثيثة ودون أن تنطق أعطته الورقة ، حيث مزقها بين أصابعه ما أن تلامسا ورمى فتاتها في الهواء وبحركة مسرحية أخرج من بين أصابعه قصاصة ورقية مطوية ومدها لها قائلًا بصوت خفيض " أينما يتساوى الغني والفقير ، ويجلس الحزين والسعيد ، ستجدين الغراب الثاني أعطيه ورقتك ثمنًا لما يملكه " انحنى بمسرحية ، وبخطوة سريعة اختفى خلف الستارة وابتلعته الظلال ، لم يمهلها وقتًا للتساؤل ، وهكذا عادت إلى ضوء النهار ، فتحت القصاصة بين يديها ولوهلة لم تعرف ما هذه الخرابيش التي بين يديها ، كانت خطوط متقاطعة ومربعات مظللة ولم تكن تحتوي أي علامة دالة ، طوتها ودستها في جيب معطفها ، وراحت تجر أقدامها في الشوارع المكتظة ، تتمتم لنفسها " أينما يتساوى الغني والفقير ويجلس الحزين والسعيد ... هذا مزعج! لا يمكنني التفكير ، هذه الأحجية أصعب من الأولى .." فكرت أن تعود إلى البيت وخاصة لما شعرت بالهواء البارد يلفح وجهها ، فركت وجنتيها المحمرة وهزت رأسها ترفض الاستسلام ، أخرجت الساعة الذهبية من جيب معطفها ورأت أنها استغرقت ساعتين منذ بداية اللعبة وحتى الآن ، بقي أمامها ست ساعات والله وحده يعلم كم غرابًا في انتظارها ، لا يمكنها تضييع الوقت في البيت إذًا ، وهكذا أخذتها أقدامها في تجوال طويل ، تطوق ذقنها بإصبعيها وتسير شاردة الذهن ، أخيرًا ألقت بنفسها على كرسي معدني في حديقة صغيرة مغطاة بالثلوج التي ملأتها أثار الأقدام ، وامتزج الثلج بالوحل ففقد بريقه المعتاد ، استفاقت على صوت قرقرة معدتها التي تطالب بالطعام ، همست " التفكير يجعل المرء يجوع أسرع من المعتاد ، خلايا عقلي تحتاج للطاقة " جالت بعينيها يمينًا ويسارًا فوقعت على متجر صغير يضع لوحة سوداء مزينة أمام بابه ، كتب عليها بالطبشور الأبيض ما يقدمه المتجر لزبائنه ، ركضت إلى هناك ودفعت الباب الخشبي فاهتز الجرس المعلق في إطاره ، رن الصوت في أذنيها وأيقظ فيها شعورا غريبا ، لكنها تجاهلته وهرعت تلبي حاجة معدتها ، طلبت قطعة من فطيرة الفريز بالكريما وكوبًا كبيرًا من الكاكاو الساخن ، أكلته بنهم وعندها فقط أدركت كم كانت جائعة ، ولدقائق طويلة غابت كلمات الأحجية عن مخيلتها ، كانت الفطيرة ذهبية ومقرمشة وذابت قطع الفريز المطهوة في شراب السكر كندف ثلج على لسانها ، وأيقظ السائل الدافئ المحلى الحرارة في داخلها ، شعرت بالطاقة تتفجر في جسمها مرة أخرى ، وبسعادة غامرة حتى أنها كبحت صرخة مبتهجة كادت تنفلتُ من بين أسنانها ، أسرعت تدفع ثمن طعامها وغادرت المتجر الصغير ليرن في أذنها صوت الجرس مرة أخرى ، اتسعت عيناها وأعادت الكلمات التي نقشت على جدار مخيلتها " أينما يتساوى الغني والفقير ويجلس الحزين والسعيد ... عرفتها ! كيف لم أفكر في هذا المكان من قبل ؟!" قالتها وأطلقت ساقيها للريح ، ركضت حتى ما عادت قدماها تقدر على المواصلة ، أخيرا وقفت تلهث وتسحب الهواء كغريق خرج إلى سطح الماء ، مسحت جبينها الذي لمعت عليه قطرات رطبة تسللت من بين خصل شعرها الذهبية رغم برودة الجو المحيط ، ولاح أمامها برج طويل في أعلاه جرس معدني ضخم ، وفي مستوى أقل ارتفاعا كان ثمة قُبة من القرميدِ الأحمر ، بدا لونها داكنا في الأماكنِ التي لم يغطيها الثلج أو ذابَ عنها ، صاحت بصوت سعيد " في الكنيسة يتساوى جميع الناس ، يجلس الفقير مجاورا الغني ، ويبتهل السعيد والحزين على السواء ، غرابي العزيز ها أنا ذا ".
دفعت الباب الضخم ذي الحلقات المعدنية وانسل جسمها الضئيل من بين دفتيه ، قابلها الجو الدافئ العابق بالبخور وتلألأت مائة شمعة – ربما – أمام عينيها ، مشت في الممر بين صفي المقاعد الخشبية على بساط أحمر وثير ، وفي الأمام عند المذبح تحت صورة كبيرة للسيدة مريم ، قرفص أحدهم بخشوع ، لما اقتربت منه ، وقف واستدار نحوها وطارت عباءته السوداء حول جسمه النحيل ، القبعة نفسها ، والقناع ذاته ، ها هو الغراب الثاني ؛ ركضت تقطع الخطوات الباقية فيما نزعت قفازها وسلمته قصاصة الغراب الأول ، أدار يده كلاعب خفة فاختفت الورقة في رمشة عين ، التقط أطرف أصابعها ومال عليها بقبلة رقيقة وهمس " إنه يسمع كل شيء ، ويبتلع الآهات والأسرار على السواء ، قلبهُ مظلم ، وعلى وجهه تتلألأ النجوم ، على حُلمٍ راسي ينتظرك الغراب الثالث ".
أغمض راحتها على قصاصة ورقية وتراجع منحنيا بخفة ليختفي خلف الباب المفضي إلى الغرف الداخلية؛ شعرت بالحماس يتصاعد من أطراف قدميها وصولا إلى رأسها ، وأحست بالأدرينالين يتفجر في عروقها ، ركضت خارج القاعة الدافئة لتلفحها ريح باردة أطارت وشاحها وعاثت الفوضى في خصل شعرها القصيرة ، ضحكت مبتهجة وركضت تلتقط الوشاح الذي وقع على الرصيف ، وقفت أمام واجهت إحدى المحلات الزجاجية ، كانت تعرض أزياءً أنيقة وقطع مجوهرات براقة على وسائد مخملية سوداء ، لكن هذا لم يشغلها أو يلفت نظر عينيها ، بل أسرعت ترتب شعرها محاولة حشره تحت الوشاح ، وضحكت على منظره المبعثر ووجنتيها المحمرة التي زادت وجهها القمري جمالا ، فتحت القصاصة فرأت أنها صارت أكبر حجما ، واتضحت معالم أخرى عليها ، فها هو في الشمال ، مستطيل مظلل لم تره قبلا ، كتب فوقه بخط رفيع [ مسرح لندن ] وعبر خطوط وتقاطعات يمتد خط مقطع باللون الأحمر يقود رأسا إلى صليب داخل إطار مربع ، كتب تحته [ كنيسة السيدة مريم ] .. " فهمت الآن كل شيء ، إنها خريطة ، وكل غراب لديه جزء إضافي منها ، وأينما وجدت الغراب الثالث وجدت القطعة الأخرى " وتساءلت أين ستقودها في النهاية ، وما الهدف من الإشارة إلى أماكن زارتها بالفعل ؟ هزت رأسها لتبعد شتات الأفكار المبعثرة في عقلها ، وهمست لنفسها " سيتضح كل شيء في وقته ، الآن لنرى .. إنه يسمع كل شيء ، ويبتلع الآهات والأسرار على السواء ، قلبه مظلم وعلى وجهه تتلألأ النجوم ، على حُلم راسي ينتظرك الغراب الثالث ... همم ، أين تراه يكون ؟ " جلست في ركن قريب على حافة نافورة حجرية أنيقة تقف فوقها أربعة أحصنة ترفع قوائمها الأمامية وتلتقي بظهورها ، ومن نقطة الالتقاء يتدفق الماء في قوس واسع متجاوزا رؤوسها وساقطا في صحن دائري أكثر اتساعا ، فبدا كأن التماثيل الحجرية تقبع تحت ستار مائي يتلألأ تحت ضوء الشمس ، أخرجت الساعة الذهبية وألقت نظرة على العقارب السوداء التي تلتهم الوقت بسرعة ، صاحت " الثانية والنصف ، يا إلـهي لم يبقى أمامي وقت طويل ، يجب أن أعثر على الغراب الثالث بسرعة " .. أمسكت رأسها وتخللت أصابعها خصل شعرها ، أغمضت عينيها بقوة وكأن حل اللغز سيظهر داخل رأسها تمتمت بالكلمات " إنه يسمع كل شيء ... إنه يسمع كل شيء ... هل هو القِسْ ، لكن لا .. القس لا تتلألأ النجوم على وجهه " مشت بخطوات واسعة تلتهم الأرض في مسار دائري مركزه النافورة الحجرية ، لم تدري كم دورة قطعت ولا كم من الوقت مضى على هذا الحال ، تتعلق بها أعين المارة والله وحده يعلم الأفكار التي تدور في خلد كل منهم ، من يقترب منها يسمع همسات وحروف متقطعة " إنه يسمع كل شيء " .... " يبتلع الآهات والأسرار على السواء " .... " قلبه مظلم وعلى وجهه تتلألأ النجوم " ... " يا إلـهي سيحترق عقلي ويفرقع قبل أن أجد حل اللغز" رفعت رأسها إلى السماء ورأت الغيوم القطنية تغرق في ألوان ذهبية داكنة ، ونحو الغرب حيث مالت الشمس ، تلونت السماء بلون ذهبي ساحر، ذكرها بجرة العسل على طاولة الفطور ، وبقطع التفاح الغارقة في الكراميل على سطح الفطائر الصغيرة ، الذكرى فقط جعلت اللعاب يتدفق داخل فمها ، ولكنها هزت رأسها وصفعت وجنتيها لتبعد الأفكار اللذيذة عن مخيلتها ، خاطبت نفسها بحزم " لقد أضعت وقتا ثمينا بالفعل في الطعام ، ولا سبيل لإهدار المزيد ، يجب أن أجد الغراب الثالث قبل أن ينفذ الوقت ، ولكن أين تراه يكون ؟! " واجهت النافورة الحجرية وتعلقت عيناها بشرود في شلالات الماء الساقطة تلمع كألف جوهرة لما تصيبها الأشعة الذهبية من شمس مالت إلى الربع الأخير في رحلتها الأزلية ، خرجت الكلمات من بين شفتيها كهمس تلقائي " إنه يسمع كل شيء ، يبتلع الآهات والأسرار على السواء ، قلبه مظلم وعلى وجهه تتلألأ النجوم .. عرفت حل اللغز " وبلا لحظة تأخير أطلقت ساقيها للريح ، ركضت مسافة طويلة ، ولم تدري كم قطعت طريق ، لكن كان ثمة مكان محدد في مخيلتها وإلى هناك كان مقصدها ، أخيرا وقفت على جسر خشبي مقوس ، يرتفع فوق صفحة الماء ، ويمر من تحته متوسط الاتساع ، لكنه بعمق كافٍ ليبدو قاعه مظلماً من مكانِها ، وعلى ضفتيه حيث يتعانق مع الرصيف الاسمنتي ، تلألأ صف من المصابيح الزجاجية فانعكس ضوؤها على سطحه كنجوم السماء ، تهللت أساريرها فرحا ، فكل شيء يتطابق هنا ، من ها هذا يمكن لأيٍ كان أن يرمي بأسراره وآهاته لل الجاري، سيبتلعهم ولن يفصح لأحد عن مكنونات قلبه ، ولكن ثمة شيء ناقص فبقية الأحجية لم تظهر بعد! تمتمت " على حلمٍ راسي ينتظرك الغراب الثالث " طافت عيناها على صفحة الماء ، توقعت أن تراه جالسا أو ينتظرها على الرصيف ، لا أحد تتطابق عليه المواصفات ! لكن هناك ، ثمة منصة خشبية تعترض مجرى الماء ، وبجوارها زورق صغير كذلك المستخدم للنزهات الية الأنيقة ، في مقدمته عمود يتدلى منه مصباح زيتي مضاء ، وفي أضواء المساء تبرق الكتابة الذهبية على جسمه الخشبي ، [ الحلم ] .. صاحت بسعادة " غرابي العزيز لقد وجدتك " .

ركضت إلى هناك، وما أن اقتربت منه حتى وقف شخص يرتدي الأسود، ويخفي وجهه بقناع الغراب، رفع قبعته وانحنى بأناقة أمامها قائلا بصوت رخيم " أميرتي " .. شعرت بوجنتيها تلتهبان خجلا ومدت له قصاصة الخريطة ، فدار حول نفسه ودارت معه عباءته السوداء ، ومد لها قصاصة مطوية أخرى ولم يتركها لما أمسكتها أصابع أليس ، بل قال " من الأرض خلقنا وإلى الأرض نعود ، يولد القمر صغيرا ، وصغيرا يعود ، هكذا سمة كل رحلة ، أينما تبدأ عندها تموت " اتسعت عيناها مع تدفق الكلمات إلى رأسها ، ترك الورقة عندها وسريعا حرر القارب من حبله وأخذه التيار رويدا، رويدا بعيدا عن الضفة ، صاحت تناديه " مهلا .. هل هناك غراب رابع ؟" رأته يعيد قبعته العالية على رأسه ووصلها صوته يقول " لكل أميرة فارس ، وفارسك في الانتظار" .
ابتعد الزورق ومعه الغراب ، تاركا إياها في حيرة بالغة ، فضت الورقة المطوية ولم تتفاجأ إذ رأت بقية الخريطة ، والخط الأحمر المقطع الممتد من دار المسرح مرورا بالكنيسة ثم إلى هنا ، إلى ضفة ال ـ كان يشكل نصف قوس ، فجلست في مكانها على الرصيف البارد وكررت الكلمات في رأسها بصوت مسموع " من الأرض خلقنا وإلى الأرض نعود ، يولد القمر صغيراً وصغيراً يعود ، هكذا سمة كل رحلة ، حيثما تبدأ عندها تموت ... هل تشير الكلمات إلى نهاية الرحلة ؟ قال إن فارسا في انتظاري فأين أجده ؟ ، ما الرابط بين كل هذه الأماكن التي زرتها وبين مكان الفارس التالي ؟ " نظرت إلى الخريطة وإلى القوس الأحمر عليها تلقائيا تمتمت " يبدأ القمر صغيراً وصغيراً يعود ، هكذا سمة كل رحلة حيثما تبدأ عندها تموت " ورسم إصبعها دائرة بدأ بالمسرح وانتهاء به ، اتسعت عيناها وقد وصلها الجواب ، فطوت الخريطة ودستها في حقيبتها المتدلية على خصرها ، وحيث أنه لا وقت لتضييعه فقد شقت طريقها إلى دار المسرح مرة أخرى ، واستغرق هذا منها وقتا لا بأس به ، فعندما وصلت كانت الشمس بالفعل في آخر المسار ، ولم تعد تفصلها عن الساعة السادسة إلا دقائق تتجاوز العشرين بقليل ، لكن المسرح كان مضاءً وأمامه حشد غفير منَ الناس ، شعرت أن في الأمر شيء خاطئ ، فكل الأماكن السابقة كان فيها شيء خاص ، شيء لها فقط ، أما هنا فالحشد الغفير يفقد المكان خصوصيته ، ويجرده من الجو السحري الذي اكتساه صباحا ، وتأكدت شكوكها لما وجدت الباب الصغير المفضي إلى الكواليس مغلقا ؛ فضت الخريطة مرة أخرى وبحلقت فيها بشرود " هكذا سمة كل رحلة ... حيثما تبدأ عندها تموت " رفعت عيناها إلى المحيط وأعادتها إلى الخريطة " لم تبدأ الرحلة هنا ، لقد .. لقد بدأت من البيت .. نعم البيت هو نقطة النهاية " ؛ ركضت بأسرع ما استطاعت تسابق الدقائق الساقطة من قرص الساعة ، دفعت باب الحديقة المعدني وقفزت بسرعة نحو باب البيت ، كان مواربا ، وكل شيء داخله يغوص في ظلمة حالكة ، نادت " سيدة ماري ! " .. لم يجبها سوى الصمت ، وتراقص الظلال المتسربة من الستائر المنسدلة ، خلعت حذاءها الموحل على عجل ، ولما دخلت التقطت عيناها قبس ضئيل من نور متلألئ خلف باب الغرفة ، مشت إلى هناك ودفعته بخفة ، خطفت الأضواء بصرها ، وصاحت أصوات عالية " عيد ميلاد سعيد " .
اكتسحت الدهشة ملامح وجهها لما رأت الغربان الثلاثة يقفون خلف الطاولة الدائرية وأمامهم قالب حلوى تلألأت الشموع على سطحه ، دقت الساعة الجدارية بصوت عميق معلنة تمام السادسة ، وقبل أن تبتلع دهشتها ، دخل من خلفها ذو القناع وانحنى بخفة باسطاً كفه وقائلا " هل للفارس بثمنٍ لما يملك ؟ " بتلقائية مدت له الخريطة فدسها داخل بذلته وقدم لها مفتاحا ذهبيا صغيرا ، لم تنطق كلمة وأخذت المفتاح من يده المبسوطة ، فجذب أحد الغربان نظرها إليه عندما قال " أكملت الخريطة والكنز في انتظارك " ودفع الصندوق المخملي الأسود نحوها ، تقدمت إليه بسعادة ودفعت المفتاح في ثقبه ، ولما انفتح كشف عن قلادة ذهبية رقيقة تتدلى منها قطعة ذهبية بيضاوية الشكل مرصعة بالجواهر ووسطها نقش على حجر كريم صورة نصفية لأميرة مُتوَّجة ، ضمت القلادة إلى صدرها وألقت بنفسها في حضن شقيقها الذي رفع القناع عن وجهه وهتفت " إنه أسعد يوم في حياتي شكرا لك يا فارسي العزيز " .
ربت على رأسها بلطف ، وأردف " سعيدٌ لسعادتك يا أميرتي ، هيا نكمل مراسم الاحتفال " .
اقتربت من الطاولة حيث وقف الغربان الثلاثة ثم انحنت نحو قالب الحلوى ونفخت لتطفئ شموعه .

– تمت –

ارائكم :0: ؟



التالي
السابق