تأملات قرآنية - الشيخ محمد صالح المنجد

مجتمع رجيم / المحاضرات المفرغة
كتبت : ~ عبير الزهور ~
-
تأملات قرآنية - الشيخ محمد صالح المنجد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أصدق الحديث كتاب الله، فيه خبر من قبلنا، ونبأ من بعدنا، وحكم ما بيننا؛ هذا الكتاب الذي جعله الله -سبحانه وتعالى- حبلاً ممدوداً بيننا وبينه، فيه آيات بينات، نور وبركة، وهو شفاء لما في الصدور، (يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ) [المائدة:16].


معجز في لفظه، معجز بما حواه؛ هذا القرآن العظيم لو تدبر فيه المسلم لرأى فيه ما يحير الألباب، لرأى فيه ما يثبّت على طريق الهدى والصواب، لرأى فيه الحكم والأحكام والمواعظ والأخبار والقصص والأمثال.


ولرأى فيه وحدانية الله تعالى، والدلالة على ذلك، والأوامر الإلهية، والأحكام؛ وكذلك يرى ما فيه ما يدهش في صياغته، ولفظه، وما يحويه من المعاني.


وإذا تأملت -يا عبد الله- ما في هذا القرآن من العجائب، فإنه يزيدك إيماناً، وتنتقل من مجرد القراءة إلى التأثر، ومن السماع إلى الاستماع، ومن الاستماع إلى الاستمتاع والتلذذ بكلام الله -سبحانه وتعالى-، وهذا ما ينبغي أن يرتقي المسلم فيه بنفسه.


فإذا تأملت ما فيه من النظم العجيب، وكيف يدل التقديم والتأخير فيه على أمور متعددة، لوجدت عجباً.


فمن ذلك وأنت تقرأ في سورة الفاتحة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة:5]: قدم المفعول به على الفعل، وأصل الجملة نعبد إياك، يتقدم الفعل أولاً، فلماذا قدم المفعول هنا وقال: (إياك نعبد)؟ وما الفرق بين إياك نعبد ونعبدك؟.


الجواب: إن هذا التقديم والتأخير يفيد الحصر، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تعني: لا نعبد إلا أنت، كما قال تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) [الزمر:66].


حصر العبادة فيه -سبحانه-، ففيها عدم إشراك أحدٍ معه، بينما لما قال: (اهدِنَا الصِّرَاطَ) [الفاتحة:6]، ما قدم وأخر هنا كما سبق، ما قال: إيانا اهد، وإنما قال: (اهدِنَا)، فقدم الفعل أولاً؛ لأن الهداية ليست محصورة فينا، بل يهدينا ويهدي غيرنا؛ ولذلك أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على الأعرابي لما قال: ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فقال: "لقد حجرت واسعاً" رواه البخاري.


عندما تتأمل في هذا النظم العجيب، لما مر سليمان وجنوده على وادٍ للنمل: (قالت نملة): (يا) نادت، (أيها) نبّهَت، (النمل) خصت، (ادخلوا) أمرت، (مساكنكم) عينت، (لا يحطمنكم) حذّرت وأكدت، (سليمان) خصت، (وجنوده) عمت، (وهم) أشارت، (لا يشعرون) اعتذرت؛ حيث بينت عذر نبي الله سليمان بأنه حطم بمن معه النمل وهو غير مدرك لوجوده.


وعندما تتأمل الاختصار، وكيف تعرض الأحداث بشكل سريع في كلمات وجيزة وجمل قصيرة، كما ذكر ربنا في نهاية قوم نوح، (وَقِيلَ) الفعل المبني للمجهول، (يَا) النداء، (أَرْضُ ابْلَعِي) أمر، (مَاءكِ)، (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [هود:44]. دعاء عليهم.


هكذا توالت في إيقاع سريع هذه الجمل القصيرة التي فيها كل القصة.


بعد الإهلاك، ماذا حصل؟ (وَقِيلَ يَا أَرْضُ) والله ينادي مخلوقاته فتستجيب، كما قال في آية أخرى عن السماوات والأرض: (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11].


هذا البيان وهذه الفصاحة والبلاغة هي التي جعلت العرب وهم في قمة البلاغة لما نزل القرآن ما كانوا في تخلف بلاغي مثل الآن، كانوا في قمة البلاغة والفصاحة، معلقاتهم على الكعبة التي فيها ذلك البيان وتلك الفصاحة، لكن لما نزل أعجزهم أسكتهم، كما قال بعض أئمة اللغة وهو مار بقوم فرأى جارية قد حملت قربة ماء فعجزت عنها فوقعت فانكسر فم القربة، وهي تقول: "يا عم -تريد الاستعانة به- أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها".


قال: "ويحك! ما أفصحك!"، قالت: "لا فصاحة بعد القرآن، فإن الله في آية واحدة ذكر خبرين وأمرين ونهيين وبشارتين، (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى) خبر، (أَنْ أَرْضِعِيهِ) الأمر الأول، (فَإِذَا خِفْتِ عَليه) إخبار لها بأن ذلك سيقع، وماذا ستعمل عنده، (فَأَلْقِيهِ في اليم) الأمر الثاني، (وَلَا تَخَافِي) النهي الأول، (وَلَا تَحْزَنِي) النهي الثاني، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) البشارة الأولى، (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) البشارة الثانية. (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص:7].


وترى ما في القرآن من التقديم والتأخير مدهشاً، فعندما ذكر الثقلين في موضع قدم الإنس وفي موضع قدم الجن، فقال سبحانه: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88].


بينما قال في آية أخرى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33].


كلاهما في معرض التحدي، الأول: التحدي في الإتيان بمثل كلام الله، والثاني: التحدي أن ينفذوا يوم القيامة من حصار الملائكة التي تطوقهم، فلا يستطيع أحد أن يخترق؛ لأنه لا سلطان إلا سلطان الله، (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة:29].


(لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) [الرحمن:33]، ولا سلطان لكم! فلماذا قدَّم الإنس في معرض التحدي بالقرآن للإتيان بمثل القرآن، وقدم الجن في معرض التحدي بالنفاذ من أقطار السماوات والأرض والهرب؟.


الجواب: لأن الإنس في باب الفصاحة والبلاغة والبيان أقدر من الجن، ولذلك قال: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [الإسراء:88].


بينما الجن أقدر من الإنس في النفاذية والاختراق والطيران؛ ولذلك قدمهم في التحدي في الهرب والاختراق يوم القيامة فقال: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَان) [الرحمن:33]. ترى الألفاظ اختيرت بعناية.


نوح -عليه السلام- قال عنه: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) [العنكبوت:14]، ما قال: ألف سنة إلا خمسين، ولا قال: ألف سنة إلا خمسين سنة، وكلها أعداد: ألف وخمسين، قال: (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا)، فلماذا كانت السنة تمييزاً للألف والعام تمييزاً للخمسين؟.


من المعروف في لغة العرب أن كلمة السنة تأتي بمعنى الشدة والقحط، "واجعلها عليهم سنيا كسني يوسف" رواه البخاري. (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ) [الأعراف:130]، قحط.


وكانت المدة التي قضاها نوح في قومه سنوات شدة، قحط، فعدد المدعوين الذين استجابوا قليل جداً، كانت سنين كرب وشدة، فمن قومه إيذاء وحصار، بينما كانت الخمسين التي قضاها بعد هلاكهم هو والذين نجوا معه وآمنوا كانت سنوات طيبة، ولذلك عبر بالسنة هناك وبالعام هنا، كما قال يوسف عليه السلام: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف:49].


أنت ترى -يا عبد الله- حسن اختيار الكلمات، والعناية بذلك في التعبير عن الأمر الطيب والأمر السيئ.


(اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ) [الفاتحة:6-7]. أضاف الإنعام إلى نفسه: (أَنعَمتَ) إضافة صريحة مباشرة، (غَيرِ المَغضُوبِ) مبني للمجهول، ما قال: غير الذين غضبت عليهم، تعليماً للأدب في الخطاب، ولذلك قالت الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن:10]، ففي الرشد والأمر الحسن جاء التعبير: (أَرَادَ) مباشر، في نسبة ذلك إليه، وفي الشر أُرِيدَ، (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ) فجاء التعبير بالمبني للمجهول، مع أن الله هو الذي أراد في الحالين، لكنه أدب الخطاب!.


قال الخليل: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء:78-79]، فنسب الفعل إلى الله مباشرة لما كانت أشياء طيبة: خلقني، يهديني، يطعمني، يسقيني، قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80]، ما قال: يمرضني، إذا أمرضني، وإنما قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)، والشفاء أمر طيب، فأضافه مباشرة إلى الله.


وعبد الله الصالح الخضر قال في خرق السفينة وعيب السفينة: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا)، وفي قضية إنقاذ الوالدين من الولد الكافر وكذلك في تنشئة الولدين الغلامين في المدينة، (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ)، (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)؛ لأن الإبدال خير، فنسبه إلى الله مباشرة وذكر الفاعل.


إذا تأملت ختام الآيات فهو عجب عجاب، ويروى أن الأصمعي -رحمه الله تعالى- لما كان جالساً في المجلس وقرأ قول الله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ) [المائدة:38]، سها وقال: والله غفور رحيم، وكان بجانبه أعرابي جالس فقال: ما هذا؟ قال: كلام الله، قال: ليس هذا بكلام الله، فانتبه الإمام رحمه الله وأتى بالآية كما هي: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وكان من قبل قد قرأها والله غفور رحيم، فأنكر الأعرابي أن يكون ختم الآية بغفور رحيم أن يكون كلام الله، فقال الأصمعي للأعرابي: "تقرأ القرآن؟ " يعني تحفظه. "قال: لا، قال: كيف علمت؟ قال: هذا ليس موضع رحمة فيغفر، ولكنه موضع عزة فيحكم".


اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل القرآن، بارك لنا في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.


أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية:

الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأنزل الكتاب فيه آيات محكمات، وجمعه في صدر نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فلم ينس منه شيئاً.


أشهد أنه رسول الله، الرحمة المهداة البشير والنذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله، وصحبه، وذريته الطيبين، وأزواجه، وخلفائه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.


عباد الله: هذا القرآن ثروة عظيمة، هذا القرآن مائدة كبيرة، هذا القرآن ما قدره كثير من المسلمين حق قدره، فلا يزال مهجوراً بينهم، تارة هجر تلاوة، وتارة هجر تدبر، وتارة هجر عمل، وتارة حتى هجر استشفاء به، أهملوا ذلك.


لا بد من العودة للقرآن، لا بد من التلاوة بعناية، لا بد من معرفة التفسير للتدبر، فإنه والله فيه الأعاجيب!.


وأنت ترى هذه الكلمات وهذا التعبير (مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ) [النحل:66].


لبناً! الفرث والدم مستقذران، بقدرة الله ينشأ من بينهما لبن خالص من الشوائب، ليس فيه مثل الفرث شوائب، سائغ، ليس مثل الدم مقرف في شربه لا يستسيغه أهل الفطر السليمة.


تجد الترتيب في الكلمات، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [النحل:68]، تجد التدرج في النزول، فإن من النحل نحل جبلي يكون في الجبال في أعاليها يتخذ بيوتاً، (مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا)، ومنها ما هو شجري، (وَمِنَ الشَّجَرِ)، خلاياه تحت، (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) ما يصنعه الناس لها للنحل، وهذا أسفل من الشجر، فتأمل كيف تدرج في النزول: الجبال، الشجر، يعرشون، ورتب. ليس هناك عشوائية ولا فوضى، كل كلمة لها دلالة، وكل حرف له دلالة، وكل ترتيب في الكلمات له دلالة.


في معرض تقبيح الفاحشة، في تلك الكلمات التي ذكرها ربنا عن النسوة في امرأة العزيز، ماذا فعلت؟ (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ) [يوسف:30]، امرأة، أنثى، والزنا من الذكر قبيح ومن الأنثى أقبح؛ لأن فيها حياء أكثر مما في الذكر، ولذلك قال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) [النور:2]، فقدم الزانية، مع أن الزنا منهما جميعاً قبيح.


(امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) إذاً هي متزوجة، ليست عزباء، والزنا من المتزوجة أقبح، فقد كفاها الله وأغناها وأعفها بزوج، فلماذا تزني؟ لماذا تريد الفاحشة؟. (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ)، العزيز! إذاً هذا صاحب مرتبة اجتماعية عالية، فهذه ليست من سقط القوم والمفترض في أصحاب المراتب الاجتماعية العالية المحافظة على السمعة، ومع ذلك تريد الفاحشة.


(امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ)، العادة أن المرأة مطلوبة والرجل طالب، حتى في النكاح، لكن أن تكون هي الطالبة وهو المطلوب، إن عكس هذا يدل على قبح إضافي! تراود هي بنفسها، ثم تراود مَن؟

(فَتَاهَا)! إذاً؛ لم تراود رجلاً في مثل طبقتها الاجتماعية، من الذي راودت إذاً؟ عبدها! مملوكها! خادمها! هذا أقبح! (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا): تحوي هذه المعاني في هذه الكلمات القليلة نظما قرآنيا معجزا، ولكل حرف دلالة.

(فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) [الكهف:97]، لماذا أضيفت التاء في النقب وحذفت في الظهور على السد؟

لا بد لكل زيادة في المبنى من زيادة في المعنى، فما هي الزيادة في المعنى التي أضافتها إضافة التاء؟ أيهما أصعب: الظهور على السد والارتقاء من فوق أم النقب والخرق؟ وهذا سد من قطع من حديد؛ (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف:96]، جمعت بإرشادات وخطة ذي القرنين رحمه الله لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً، في غاية التخلف، علمهم الصناعة، وكيف يحمون أنفسهم، ووضع خطة العمل، (زُبَرَ الْحَدِيدِ)، ثم أججوا النيران، هاتوا المنافخ، انفخوا، فصارت النيرات تصهر قطع الحديد لتلتحم مع بعضها البعض في جسم واحد يملأ ما بين السدين، الجبلين، انفخوا.

(حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا)، طبقة واحدة منصهرة، قال: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) النحاس المذاب، نحاس مذاب يصب فوق هذا السد الحديدي، حديد ملبس بالنحاس، سبيكة في غاية المتانة والصلابة، اختراقها صعب جداً جداً، أصعب من الارتقاء عليه؛ ولذلك قال: (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)، والأمثلة كثيرة جداً.


يا عباد الله: ونحن نرى هذا الإعجاز العظيم في كلام الله -سبحانه وتعالى- نرى العجب العجاب فيه، حتى في التشبيه، لما وصف شجرة الزقوم قال: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ) [الصافات:62-65].


شجرة الزقوم من عالم الغيب في جهنم، ليست موجودة في الدنيا، ورؤوس الشياطين بالنسبة لنا من عالم الغيب؛ لأننا لا نراهم، ولم نر الشيطان، فشبه غيباً بغيب، (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ)، فكيف شبه غيباً بغيب ونحن لم نر هذا ولا هذا؟ الجواب: أنه أراد بيان قبحها، وقد استقر في النفوس أن الشياطين في غاية القبح شكلاً ومضموناً؛ ولذلك جرى في التشبيه على ما استقر في النفوس من قبح الشياطين، فقال عن شجرة الزقوم: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ)، قبيحة المنظر جداً.


للحرف الواحد دلالات، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5]، ما هو الفرق بين السين وسوف؟ ما هو الفرق بين سيعطيك وسوف يعطيك؟ الجواب: إن سوف تدل على مزيد من التنفيس ومزيد من طول الأمد، ولذلك سميت حرف تنفيس؛ لأن الزمن فيها أطول، فكأنه يقول له: سيعطيك الله فاصبر، وإذا ما جاءت العطية الآن لا تيأس وعليك بالصبر والعطية ستأتي ولا بد.


عباد الله: لا تنقضي عجائب القرآن، ومهما استغرق المستغرقون في دراسته والتأمل فيه والنظر والمقارنة والبحث والتدبر فلن تشبع النفوس، ولن تنقضي عجائب القرآن، لكن بلا تفسير، بلا معرفة المعاني، كيف ستتدبر؟ لا بد من معرفة المعاني، اقرأ ولو التفسير الميسر، ولو تفسيراً مختصراً، ثم تحيي سنة المدارسة في بيتك مع أهلك وأولادك على مائدة هذا القرآن العظيم.


اللهم اجعلنا من أهلك؛ أهل القرآن، علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آنا الليل وأطراف النهار، اللهم اجعلنا به عاملين، وعلى هديه سائرين، وبنوره مستبصرين يا أرحم الراحمين.


عباد الله: الله عز وجل ذكر الظلمات بالجمع والنور بالإفراد، وقال: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ وَلَا تتَّبعوا السُّبُلَ) [الأنعام:153]، الصراط المستقيم بالإفراد والسبل بالجمع؛ ليبين لنا أن طريق الحق واحد.


كتبت : أم رائد
-
أختي في الله
اللهم حرم وجهها عن النار بسعي إلى رضاك
واجتناب معصيتك وطهر قلبها بذكرك ويسر أمرها لنيل مغفرتك
واجمعها بمن تحب في مستقر رحمتك

وجميع المسلمين ..

اللهم آمين
كتبت : اموشي
-

التالي

الإسلام ونواقضه - الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

السابق

حسن الظن بالله - الشيخ محمد صالح المنجد

كلمات ذات علاقة
محمد , المنجد , الصحى , تأملات , شامي , قرآنية