قال ابن تيمية -رحمه الله-: " إن ما يأتي به الساحر والكاهن وأهل الطبائع والصناعات والحيل, وكل من ليس من أتباع الأنبياء لايكون إلا من مقدور الإنس والجن, فما يقدر عليه الإنس من ذلك هو وأنواعه, والحيل فيه كثير, وما يقدر عليه الجن هو من جنس مقدور مقدور الإنس وإنما يختلفون في الطريق, فإن الساحر قد يقدر على أن يقتل إنساناً بالسحر , أو يمرضه, أو يفسد عقله أو حسه وحركته وكلامه بحيث لا يجامع أو لا يمشي أو لا يتكلم ونحو ذلك, وهذا كله مما يقدر الإنس على مثله لكن بطريق أخرى "
إلى أن قال -رحمه الله-:
"وكذلك الجن كثيراً ما يأتون الناس بما يأخذونه من أموال الناس من طعام وشراب ونفقة وماء وغير ذلك وهو من جنس ما يسرقه الإنسي ويأتي به إلى الإنسي, لكن الجن تأتي بالطعام والشراب في مكان العدم, ولهذا لم يكن مثل هذا آية لنبي, وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده في الماء فينبع الماء من بين أصابعه وهذا لا يقدر عليه لا إنس ولا جن, وكذلك الطعام القليل يصير كثيراً, وهذا لا يقدر عليه لا الجن ولا الإنس , ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم قط بطعام من الغيب ولا شراب".
وقال -رحمه الله-:
"إن آيات الأنبياء مما يعلم العقلاء أنها مختصة بهم ليست مما تكون لغيرهم, فيعلمون أن الله لم يخلق مثلها لغير الأنبياء, وسواء في آياتهم التي كانت في حياة قومهم وآياتهم التي فرق الله بها بين أتباعهم وبين مكذبيهم بنجاة هؤلاء وهلاك هؤلاء, ليست من جنس ما يوجد في العادات المختلفة لغيرهم, وذلك مثل تغريق الله جميع أهل الأرض إلا لنوح ومن ركب معه في السفينة, فهذا لم يكن في العالم نظيره.
وكذلك إهلاك قوم عاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد مع كثرتهم وقوتهم وعظم عماراتهم التي لم يخلق مثلها في البلاد, ثم أهلكوا بريخ صرصرٍ عاتية مسخرة سبع ليال وثمانية أيام حسوماً, حتى صاروا كلهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ونجا هود ومن اتبعه, فهذا لا يوجد نظيره في العالم.
وكذلك قوم صالح أصحاب مدائن ومساكن في السهل والجبل وبساتين أهلكوا كلهم بصيحة واحدة, فهذا لم يوجد نظيره في العالم.
وكذلك قوم لوط أصحاب مدائن متعددة رفعت إلى السماء ثم قلبت بهم واتبعوا بحجارة من السماء تتبع شاذهم ونجا لوط وأهله إلا امرأته أصابها ما أصابهم, فهذا لا يوجد نظيره في العالم.
وكذلك قوم فرعون وموسى جمعان عظيمان ينفرق لهم البحر كل فرق كالطود العظيم, فيسلك هؤلاء ويخرجوا سالمين, فإذا سلك الآخرون انطبق عليهم الماء, فهذا لم يوجد نظيره في العالم". إلى أن قال -رحمه الله-: "والقرآن مما يعلم الناس عربهم وعجمهم أنه لم يوجد له نظير مع حرص العرب وغير العرب على معارضته, فلفظه آية, ونظمه آية, وإخباره بالغيوب آية, وأمره ونهيه آية, ووعده ووعيده آية, وجلالته وعظمته وسلطانه على القلوب آية, وإذا ترجم بغير العربي كانت معانيه آية, كل ذلك لا يوجد له نظير في العالم".
والحاصل أن جنس خوارق الأنبياء جنس خاص ليس من جنس سائر الخوارق المعلومة عند الناس المقدورة لبعضهم.
وهذا هو وجه الإعجاز فيها : عدم دخولها تحت قدرة العباد وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليها, وهي فعله سبحانه الذي لا يستطاع وكيف يشبه فعل المخلوق فعل الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له.
والأمر كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "دلائل النبوة من جنس دلائل الربوبية".
وعلى هذا جاء إعجاز القرآن, فإن سر إعجاز القرآن وحقيقته أنه كلام الله لا يقدر أحد من البشر أن يقول مثله وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الله.
وثمت مسألة, وهي: إذا كان إعجاز القرآن في كونه خارجاً عن مقدور البشر أصلاً لكونه كلام الخالق ولا يرد كلام مخلوق على مثاله تعالى الله, فما وجه التحدي به؟ فإن ما تسنحيل قدرة العباد على أعظم من أن يُتحدوا فيه, وظهور بينته وتمكن برهانه مغنٍ عن التحدي به.
الجواب عن هذا من وجهين:
الأول: أن القرآن نزل في أصل نزوله بينة ودلالة على النبوة ولم ينزل للتحدي, وإنما وقع التحدي به مع ورود الطعن فيه والشك منه والشغب عليه بالجدال والمماحكة, وعلى هذا تدل الآيات الوارد فيها التحدي.
فآية سورة البقرة قال الله فيها: "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ".
ورود التحدي به بعد ذكر ريبهم منه.
وآية سورة هود قال الله فيها: " أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "
ورد التحدي به فيها بعد ذكر طعنهم فيه.
وآية سورة يونس قال الله فيها: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين "
ورد التحدي به فيها بعد ذكر طعنهم فيه.
وآية سورة القصص قال الله فيها: "فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى, أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل, قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون, قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين "
ورد التحدي به فيها بعد ذكر جدالهم وطعنهم فيه.
وآية سورة الطور قال الله فيها: " أم يقولون تقوله, بل لا يؤمنون, فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين "ورد التحدي به فيها بعد ذكر طعنهم فيه.
وآية سورة الإسراء التي قال الله فيها: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " .
ورد التحدي به فيها في سياق ذكر جدالهم ومماحكتهم وشغبهم على القرآن باقتراح الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم فالآيات بعدها في بيان ذلك, قال سبحانه: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا, أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً, أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً, أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه, قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا } .
فذكر اقتراحهم الآيات بعد آية التحدي وارد على ذات المعنى الذي في قوله سبحانه: { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه, قل إنما الآيات عند الله ةإنما أنا نذير مبين, أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } . أي أن آية القرآن كافية والتحدي به مغن في قيام الحجة وانقطاع المعارض عن قرنه بآيات أخر.
الثاني: أن التحدي بالقرآن ورد من باب مجاراة الخصم لإلزامه بالحجة وإتمامها عليه وقطع المعذرة وسد الذرائع من جميع وجوهها , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف ربنا تبارك وتعالى أنه قال: "لا أحد أحب إليه العذر من الله, ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين".
ولذلك تمم الله الحجة عليهم وأكملها بعد تحديهم بالقرآن فجاء عقب آيات التحدي بيان إنقطاع المكذبين وتمام الحجة عليهم, وأن تكذيبهم بعد التحدي إنما هو جحد ومعاندة, وأنه ليس لهم بعد التحدي إلا الإذعان أو استحقاق العقوبة.
ففي سورة البقرة قال سبحانه في الآية بعد آية التحدي: " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ".
فأخبر عز وجلّ أنه لا سبيل لهم بعد التحدي وعجزهم إلا أن يتقوا النار بالتسليم لله ولكتابه ورسوله أو فإنها قد أعدت لهم.
وفي سورة هود قال سبحانه في الآية بعد آية التحدي: " فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون"
فأخبر سبحانه أنهم إن لم يأتوا بمعارض بعد التحدي فقد انتفى المعارض واستقر الدليل على أن لا إله إلا هو سبحانه وأن القرآن من عنده متضمن أمره وعلمه ولم يبق بعد ذلك إلا الإذعان والتسليم , فهل أنتم مسلمون؟
وفي سورة يونس قال سبحانه في الآية بعد آية التحدي: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله, كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين "
فأخبر سبحانه أن تكذيبهم بعد التحدي وعجزهم هو من جنس تكذيب من قبلهم, تكذيب ظلم وعناد وعلو وكفر, فلينظروا إلى عاقبة أولئك وليحذروها أن تصيبهم كما أصابتهم.
وفي سورة القصص قال سبحانه في الآية بعد آية التحدي: "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم, ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله, إن الله لا يهدي القوم الظالمين "
فأخبر سبحانه أن عدم إيمانهم بعد التحدي وعجزهم إنما هو إتباع للهوى لا دليل لهم ولا حجة يتبعونها سوى العناد والظلم.
وفي سورة الطور قال سبحانه: " أم يقولون تقوله, بل لا يؤمنون " فبين سبحانه أن كفرهم وجحدهم هو الحامل لهم على الطعن في القرآن وادعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم افتراه من عند نفسه ثم اتبع هذا التقرير بدليله وهو تحديهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في دعواهم فقال سبحانه: "فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ".
وفي سورة الإسراء قال سبحانه في الآية بعد آية التحدي: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً "
فأخبر أن كفر الناس ليس عن قصور البينة وعجز في الدليل وضعف في الحجة ولكنه جحود للحق ورد للحجة ومكابرة.
وهذاكما قال الله عز وجلّ في فرعون وقومه لما جاءهم موسى عليه السلام بالآيات المعجزات: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً " هذا بعد قوله سبحانه: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين " أي: أن الآيات المعجزات التي جاء بها موسى ظاهرة وأرادوا معارضتها فغلبوا فجحدوا بها في ظاهر الأمر واستيقنت أنفسهم العلم بأنها حق من عند الله ولكنهم أخذتهم المكابرة ظلماً وعلواً .
وقد أحكم الله حلقة إعجاز كتابه وأتمها من كل وجه فجعل إنزاله على رجل تحكم أحواله وصفاته حلقة الإعجاز وتمنع خدشه بأي شيء يرتاب به المبطلون,فأنزله على رجل أمي ما كان يتلو من كتاب ولا يخطه بيمينه كما قال سبحانه: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون, بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون }.
فهذا كتاب عجيب فيه تفاصيل أخبار الأولين وأحوال الأرض والسماء يأتي هذا النبي الذي عرفه قومه عرفوا صدقه وأمانته وعرفوا مدخله ومخرجه وسائر أحواله وهو لا يكتب بيده خطاً ولا يقرأ خطاً مكتوباً وهم يعرفون ذلك فقد لبث فيهم عمراً من قبله: " قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون "فهذا من أظهر البينات على إعجازه, ولو كان صلى الله عليه وسلم قارئاً أو كاتباً لكان للريب لا للتكذيب وجه فكيف وهو ليس كذلك فلا وجه لمجرد الريب فضلاً عن التكذيب فلا يكون التكذيب والحال هذه إلا جحد ظالم: " وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون"
ولمعرفة المشركين بأمية النبي صلى الله عليه وسلم سلكوا طريقاً آخر في الجدال فزعموا أنه صلى الله عليه وسلم تلقى القرآن عن معلم علمه إياه, وهذه دعوى لم تصدر عن جد وإنما هي دعوى عبثية هزلية, ولذلك لم يجدوا من ينسبون إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرآن إلا غلاماً قيناً رومياً لا يحسن العربية إلا بقدر ما لابد منه من جواب الخطاب, كان بين أظهرهم غلاماً لبعض بطونهم, ولذلك كان الجواب عن هزلهم هذا وكان نقض هذه الدعوى العبثية واضحاً سهلاً بسيطاً دالاً على أن هذه الدعوى خارجة عن وقار العقل لا يدعيها من له أدنى مسكة من عقل, قال تعالى: "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر, لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين "
هذا ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم غير أمي وكان قارئاً كاتباً لما خدش ذلك في إعجاز القرآن ومن وقعت في نفسه ريبة منه رده تدبر القرآن وتحقيق العلم به عن ريبه فكيف والحال ماذكر من شأنه صلى الله عليه وسلم.
فانعقدت أزمة الإعجاز من أطرافها ولم يبق لريب موضع بوجه من الوجوه إلا وجه العناد واللعب.
وقد جمع الله عز وجلّ في إقامة الحجة على المشركين بإعجاز القرآن بين دلالتي: القرآن وسيرة النبي المنزل عليه القرآن: "أفلم يدبروا القول, أم جاءهم مالم يأت آباءهم الأولين, أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون "
يتبع ................